إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

    تعلم عبادة التفكر في خلق الله






    تدبروا معي قول الله عز وجل


    (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5))

    الآيات تأخذني إلى عبادة أخرى أيّ عبادة؟

    عبادة النظر في خلق السماوات، هذا الخلق العظيم، هذا الخلق الذي يريدني الله عز وجل أن لا أمرّ عليه كما أفعل في كثير من الأحيان مرور الكرام، بمعنى آخر أن لا أكتفي فقط بنظرة عابرة مألوفة للسماء ثم أنبهر بجماله وأقول يا سبحان الله! وتنتهي القصة عن هذا الحد، لا، سورة الملك تريد مني أن أكرر النظر مرة بعد مرة ليست مجرد نظرة عابرة ولماذا تريد مني هذه النظرة؟ لما تريد مني سورة الملك أن أنظر وأتدبر وأتأمل في السماوات والأرض؟

    لأصل إلى حقيقة واحدة أن هذا الخلق العظيم ليس فيه تفاوت ليس فيه خلل ليس فيه قصور ليس فيه أي نقص هذا الخلق على سعته التي لا أستطيع أنا كإنسان أن أنظر كل السماوات بأطرافها هذا الخلق العظيم لا يمكن أن يقوم به إلا الله سبحانه وتعالى. خلقٌ يقودني إلى معرفة الله، خلق يقودني إلى القول بسبحان الله ولكن تسبيح يليق بجلاله عز وجل يليق بعظمته ينكسر فيه القلب إيماناً وخضوعاً وإذعاناً وتسليماً للخالق سبحانه وتعالى. بمعنى آخر أن أتحوّل من النظرة العابرة التي إعتدنا عليها في مثل هذه الأيام وربما قد لا ننظر مع وجود الحضارة المعاصرة ووجود الأسقف إلى آخره بدأنا للأسف الشديد نبتعد عن هذه العبادة العظيمة التي هي ليست لا تخص فقط الجانب الإيماني أو الروحي فينا بل تمس حتى الجوانب النفسية كبشر، أنا بحاجة أن أتوصل مع الطبيعة، أنا بحاجة إلى أن أنظر لهذا الخلق وكل الدراسات العلمية الحديثة تؤكد أهمية النظر في الطبيعة، أهمية أن تكون هناك صلة بيني كإنسان وبين هذا الخلق.

    سورة الملك جاءت بتحدي عظيم لتبثّ في نفسي من جديد عبادة غفل عنها الكثيرون عبادة التفكر من أعظم العبادات أن أتفكر في ملكوت السماوات والأرض. دعونا هنا كذلك نتوقف لحظة عند قول السيدة عائشة رضي الله عنها عن أعجب شيء رأته في حياتها مع النبي صلى الله عليه وسلم حين سُئلت عن ذلك فقالت: لما كان ليلة من الليالي قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي فقلت والله إني لأحب قربك وأُحب ما يسرك، قالت فقام النبي صلى الله عليه وسلم فتطهّر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بلّ حجره وكان جالساً ولم يزل يبكي حتى بلّ لحيته ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض فجاءه بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي أشفق عليه بلال وقال يا رسول الله لِمَ تبكي وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم أفلا أكون عبداً شكوراً؟
    لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها

    (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) آل عمران).

    عبادة التفكُّر المنسية في عالمنا المعاصِر، المنسية بما إصطنعناه من مشاغل موهومة، المشاغل موجودة دائماً، المشاغل كانت موجودة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة التي حمل فيها همّ أمة أمة كانت موجودة معه قد حمل الرسالة لها وأمة لم تأت، نحن. هذا النبي العظيم بمشاغله العظيمة الجمّة وجد وقتاً وزمناً كافياً ليقوم بهذه العبادة العظيمة عبادة التفكر في خلق السماوات والأرض وينبه أمته عليها وعلى أهميتها وأنها من الأهمية بمكان بحيث أني لا بد مهما كانت مشاغلي أن أخصص لها وقتاً من الزمن أقتطع وقتاً من زمني من عمري من حياتي لأنظر في هذا الخلق ليس مجرد نظرة عابرة كما ذكرنا، نظرة تقودني إلى عبادة التفكر تحيي وتجدد في قلبي الإيمان بالله تعرفني بموقعي على هذه الأرض


    <<<<<<<<<<



    نظرت في السماوات والأرض
    أين قادتني تلك المعرفة؟





    أنا مجرد إنسان عابر سبيل، أنا سائر، أنا مسافر، أنا إنسان أقوم برحلة لن أبقى على هذه الأرض، ماذا قدّمت؟ أين أنا من إحسان العمل؟ ماذا قدمت لله؟ هل أنا من الفائزين فأهنئ نفسي وأبارك؟ أم أنا من الخاسرين فأعزي نفسي وأسلّيها وأستدرك الأمر قبل
    فوات الأوان؟ أين أنا من خشيتي لله؟ أين معرفتي بهذا الخلق؟ نظرت في السماوات والأرض أين قادتني تلك المعرفة؟

    ولذا جاءت الآية كما ذكرنا
    (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء (28) فاطر)
    أنا أحتاج إلى معرفة وعلم ونظر يقربني إلى الله وليس أنه يباعدني عنه. العلم المعاصر الذي نعيش اليوم وقته وزمانه أين وصل بنا؟ هل قرّبنا إلى الله؟
    هل أوصلني فعلاً إلى درجة الإيمان بالله عز وجل؟ أم أين وصلت؟
    أحتاج أن أتفكّر ولذا جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم
    "ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكّر فيها"
    ويل، خسارة كبيرة، ليست مجرد الويل والوعيد.
    خسارة لي أنا كإنسان أن أمرّ مرور الكرام مرور عابر على كل الآيات التي يمكن لها إذا تفكرت فيها حق التفكر والتدبر أن تصل بي إلى التعرف على الله سبحانه وتعالى فإذا وصلت ربحت كل شيء، ربحت خيري الدنيا والآخرة.

    - لمَّا كان ليلةٌ من اللَّيالي قال عائشةُ ذريني أتعبَّدُ اللَّيلةَ لربِّي قلتُ واللهِ إنِّي أحبُّ قُربَك وأحبُّ ما يسُرُّك قالت فقام فتطهَّر ثمَّ قام يُصلِّي [قالت فلم يزلْ يبكي حتَّى بلَّ حجرَه قالت وكان جالسًا فلم يزلْ يبكي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى بلَّ لِحيتَه قالت ثمَّ بكَى حتَّى بلَّ الأرضَ فجاء بلالٌ يُؤذِنُه بالصَّلاةِ فلمَّا رآهُ يبكي قال يا رسولَ اللهِ تبكي وقد غفر اللهُ لك ما تقدَّم من ذنبِك وما تأخَّر قال أفلا أكونُ عبدًا شكورًا لقد نزلتْ عليَّ اللَّيلةَ آيةٌ
    ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكَّرْ فيها { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... }

    الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : المنذري | المصدر : الترغيب والترهيب
    الصفحة أو الرقم: 2/316 | خلاصة حكم المحدث : [إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما]


    ولذا جاءت الآيات التي تليها بعد أن قالت

    (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)) الملك
    بدأ الحديث مباشرة عن جزاء الكافرين لماذا؟
    لأن الكفر هو حجاب، هو حائل إصطنعه الإنسان بكفره فحال بينه وبين التعرف على خالقه سبحانه وتعالى بيديه، حال بينه وبين الوصول إلى خالق هذا الكون العظيم، كل شيء في السماء ينطق بأن الله واحد، كل شيء في الأرض، كل آيات سورة الملك التي سنأتي عليها تنطق بشيء واحد أن لا إله إلا الله، كل هذه الآيات أمام عيني ولم تصل بي لمرحلة الإيمان وأنا وصلت إلى مرحلة الكفر!
    أكيد هناك خلل وخلل عظيم.

    ولذلك جاءت الآيات

    (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8))الملك
    حتى النار، حتى نار جهنم تتميز من الغيظ على هذا الإنسان الكافر الذي رأى كل ما رأى أمام عينيه ولكنه لم يصغي إلى نداء قلبه وعقله وفطرته السليمة لتلبية نداء الحق سبحانه وتعالى.

    ولذا يأتي نوع من أنواع التوبيخ(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) القضية ليست قضية سؤال، القضية توبيخ، القضية زيادة في العذاب لهذا الإنسان الكافر المكذِّب.



    (قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ)
    وتدبروا معي الآية التي تليها يقول فيها

    (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10))
    إذن هي وسائل الإدراك التي وهبها الله لخلقه فعطّلها الكافر بكفره وغيّه
    يا تُرى هل كان هؤلاء الكفار صُمّ؟ عُمي؟ هل كانوا مجانين لا يمتلكون العقل؟
    لو كان بالفعل مجاني لما كانوا عُذّبوا أصلاً، كانوا يمتلكون العقل والقلب والسمع والبصر وكل شيء، كل وسائل الإدراك ولكنهم بكفرهم حجبوا تلك الوسائل عن أن تقودهم لمعرفة الله وخشيته فحال بينهم وبينه الكفر.


    وسائل الإدراك كما يأتي في آيات متعددة في القرآن الكريم
    (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا) الأعراف
    وقد يكون الإنسان له آذان ولكن لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون بها
    (َلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا)الاعراف
    ولذا شبهتهم الآية
    (أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ (179) الأعراف) لماذا؟
    الأنعام والحيوانات ترى الأشياء وتبصر الأمور والآيات الدالة على خلق الله عز وجل ولكن ليس مطالباً منها أن تحوّل هذه المعرفة إلى معرفة تقدم فيها أحسن العمل وأصوب العمل أما الإنسان وحده الإنسان مُطالَب ومُكلَّف أن تقوده هذه المعرفة وهذه الوسائل من الأعين والآذان أن تقوده لمعرفة الله وخشيته، وليست معرفة جامدة معرفة متحركة بمعنى آخر معرفة تدفع بي نحو القيام بأحسن العمل تقديم أحسن العمل بين يدي الله عز وجل عرّفت عليه، أدركت بأنه قادر على كل شيء أدركت بأنه عزيز غفور أدركت أن هذا الملك العظيم خلق السموات والأرض لا يمكن لأي أحد مهما بلغ من القوة أن يدّعيه لا يمكن.


    بعد أن توصلت إلى هذه المرحلة علي أن أتحرّك في إيماني لمرحلة أخرى،
    ما هي المرحلة؟
    خشية الله، هذه الخشية ليست خشية ساكنة وإنما خشية متحركة فاعلة في واقع الحياة تدفع بي نحو أحسن العمل وأخلص العمل، أني حين أقدم العمل لا أقدّمه إلا لله وحده، لا أقدِّمه إلا ابتغاء وجه الله المستحق وحده سبحانه للعبودية، المستحق لأن تقدَّم بين يديه الأعمال وتخلّص من كل شائبة.


    <<<<<<<<<<



    يا نفس احذري فعليك رقيب







    (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12))
    الخشية ليست مجرد خوف لا، هي خوف مع مهابة مع تعظيم مع حبّ وتعلق بالله عز وجل لا يدرك معانيها إلا من ذاقها. ولذا يقول الحسن" تفكُّر ساعة خير من قيام ليلة. تخيلوا معي كم قيام الله عبادة عظيمة جداً والأجر فيها عظيم ولكن أن أتفكر ساعة في الأمور التي تمر بي في حياتي في خلق السموات والأرض في الموت والحياة، في كل شيء، أيّ تفكر، حتى في النمل حتى في الطير حتى في الماء الذي أشرب، لما أتفكر، هذا التفكر خير من قيام ليلة ولكن متى يكون خير من قيام ليلة؟
    إذا أثمر في نفسي وأتت الثمرة ناضجة سويّة، أية ثمرة؟
    ثمرة خشية الله عز وجل. كل تفكر لا بد أن يقودني إلى الخشية من الله عز وجل وأكثر الناس خشية لله أحسنهم أعمالاً. هذه الخشية العظيمة هي التي جاءت وفسرت معناها في الآية التي تليها في سورة الملك

    (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13))
    خشية تجعل استشعار رقابة الله عز وجل الرقابة الذاتية حاضرة أمام عينيّ لا يعود هناك فرق بين السر والعلن حتى الخواطر شعوري وإيماني ومعرفتي بأن الله كان عليكم رقيبا يجعلني أراقب الله حتى في الخواطر التي تخطر ببالي، حتى الخواطر أراقب الله عز وجل، حتى السرّ، أراقب أن الله سبحانه وتعالى لا ينظر إلى قلبي أو سرّي فيجد فيه ما يغضبه سبحانه.

    نحن لا نُحاسب على هذه الخواطر ولكن ربي عز وجل في سورة الملك يريد أن يؤسس في مراقبتي في السِر لله سبحانه وتعالى، كيف أصل لهذه الرحلة؟
    حين أُدرك أن السر عنده علانية لأنه مطلع لأنه العالم اللطيف الخبير العليم ببواطن الأمور عليم بالخواطر فأراقبه حتى في الخواطر. ولنا أن نتساءل إذا وصلت إلى مرحلة أن أراقب الله في الخواطر التي تدور في خلدي بذات الصدور ولا يطلع عليها أحد سوى الله عز وجل يا ترى كيف سيكون عملي الذي أقدمه بين يدي الله؟
    أكيد سيكون من أحسن العمل.

    وأنا أقول والله لو أن كل كاميرات المراقبة التي في الأرض سُلِّطت على مجموعة من العمال يقومون بعمل معين وصاحب العمل يريد أن يتأكد هل يتقنون أعمالهم أو يضيعون أوقاتهم لا يمكن أن تصل ولا إلى أيّ مرحلة من مراحل استشعار الإنسان بالرقابة الذاتية من قِبل الله عز وجل، يتقن العمل ليس لأن عليه كاميرا مراقبة، لا، يتقن العمل لأنه قد أدرك أن الله يراقبه في العمل الذي يقوم به في كل شيء، في سكناته، في خواطره، في كلماته، في أقواله، في أفعاله. يا ترى كيف ستكون الدنيا حين تبلغ درجة مراقبة الإنسان لربه سبحانه وتعالى واستشعاره بهذه المراقبة في العمل الطي يقوم به كيف ستكون الدنيا؟ كيف يكون الإتقان؟ ستعود عبادة الإتقان والإحسان الغائبة في حياتنا في كثير من الأحيان. الله هو الرقيب، سورة الملك تؤسس في قلبي هذا النوع من العمل، تبين لي كيف أصل لمرحلة العمل أحسن العمل. أحسن العمل ليس بالضرورة أن يكون الأكثر أبداً، الكمّ في القرآن وفي ديننا ليس هو معيار الإحسان، معيار الإحسان في ديننا وفي كتاب الله عز وجل هو الإتقان، هو الجودة التي نتحدث عنها ليل نهار. آيات القرآن تربي فينا الجودة والإتقان. الإتقان في صلاتي، في عبادتي، في مخاطبتي للناس، في أعمالي سواء كنت طبيباً مهنساً عاملاً مراقباً منظِّفاً، كائناً من أكون أتقن عملي وأجعل العمل والوظيفة التي أقوم بها درجات ترتقي بي نحو رضى الله سبحانه وتعالى. ولأني قد بيّت النية أن كل ما أقوم به هو لله فوصلت إلى أخلص العمل يصبح العمل والوظيفة في تلك الأثناء عبادة ويصبح الكون محراباً أتعبد فيه الله سبحانه وتعالى. حين أثدرِّس بإتقان ولا أبتغي رضى أحد إلا رضى الله عز وجل يتساوى عندها من يقدِّر عملي من البشر ومن لا يقدِّر لأن العمل أنا لا أقدمه للبشر وإنما لربّ البشر، فإن غفل البشر وإن نسي البشر أن يقدروا ما أقوم به من عمل فليفعلوا لأن حظي بكل أكيد محفوظ عند رب البشر سبحانه وتعالى
    (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14))


    تعليق


    • رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

      الفرق بين المشي والسعي


      (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)) الملك

      (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)

      سِر في الأرض واطلب من رزق الله سبحانه وتعالى بإيمانك بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ولا تنسى أن المشي على الأرض، هذا المشي المطلوب منك والسير والرزق والوظيفة وتربية العيال والأهل والنفقات وما شابه أنك ستعود إلى الله عز وجل فيبقى القلب دائماً معلّقاً بالعودة والرجوع

      (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)



      ودعونا نتدبر في كلمة هنا من إعجاز القرن حين يقول الله سبحانه وتعالى


      (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)


      المشي مجرد السير حين أطلب الرزق أطلبه بالسير بالأخذ بالأسباب ولكن دون تشوّف وتشوّق وهمّة عالية شديدة وحرص شديد ولكن حين يأتي الحديث عن طلب الآخرة وعمل الآخرة القرآن يأتينا بلفظة السعي


      ولذا ربي في آيات عديدة في القرآن يقول


      (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا (19) الإسراء)

      (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ (9) الجمعة)



      وهكذا حين يكون الحديث عن عمل الآخرة ربي عز وجل يقول إسعوا وحين يكون الحديث عن طلب المعاش في الدنيا تأتي كلمة المشي، لماذا؟

      لأنك إذا أردت أن تطلب الرزق في الدنيا عليك أن تضع نصب عينيك قواعد: الرزق بيد الله ولذا جاءت الآية (وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) رزقك ليس بيد أحد من البشر إياك أن يختلج في نفسك أو صدرك لثانية واحدة أن رزقك بيد أحد من البشر مهما علا، ليس بيد رئيس عمل ولا بيد وزير ولا بيد أير ولا بيد أحد، رزقك بيد الله وحده لا شريك له إن كنت تؤمن بأن الله واحد. فالله وحده هو الرزاق ذو القوة المتين، هذا الاستشعار بأن رزقك بيد الله عز وجل يحررك من كل عبودية وتذلل واستكانة وضعف وخضوع لغير الله سبحانه وتعال وهو ما يريده القرآن وهو ما تريده سورة الملك تريد أن تبنيه في نفسي القاعدة الثانية علي أن أُجمِل في الطلب، رزقك لن يسوقه إليك الحرص الشديد، الحرص الذي تسترخص فيه الحقوق وتسترخص فيه الواجبات، بعض الناس يقول أنا ورائي عيال فلأجل أن وراءه عيال مستعد أن يتاجر وأن يبيع ويشتري بقيمه ومبادئه ومثله فتستحل الربا وتستحل الحرمات ويستهان بحقوق الله عز وجل، لماذا؟ لأجل أن ورائي عيال! أيّ إيمان هذاا؟


      أيّ إيمان بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين.

      <<<<<<<<<<<<<


      الرزق بيد الله وحده






      (وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ)

      الرزق من الله وليس من أيّ أحد،


      وإذا خطر ببالك للحظة أن رزقك بيد أحد من البشر هذه كارثة!

      عليك أن تجدد إيمانك وعليك أن تحيي التوحيد في قلبك وأن تتعرف على الله أكثر. هناك حلل، أنت تحتاج أن تصحح توحيدك، الرزاق هو الله وليس أحداً من البشر



      ولذا جاء في كلام لعبد الله بن مسعود



      "الرزق لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهية كاره".



      بمعنى آخر قد يأتيك الرزق لأن الرزق فعلاً بيد الله، قد يأتيك هذا الرزق على يد شخص يبغضك يكرهك ولكن الله سبحانه وتعالى برحمته وعدله وعلمه يسوق إليك هذا الرزق على يديه وحرصك الشديد الذي يقودك إلى الإلحاح وعدم الإجمال في الطلب هذا الحرص الذي يؤرقك مضجعك بالليل خوفاً على وظيفتك أو خشية على عملك لن يزيدك في رزقك أبداً



      ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم محذّراً أمته من هذا:



      " يا أيها الناس اتقوا الله وأجمِلوا في الطلب


      فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رقزها وإن أبطأ عنها"
      إتقوا الله أجملوا في الطلب، الرزق بيد الله ولا بيد أحد. وهذه المعارك المحمومة التي نراها في عصرنا على المال هذه معارك وهمية، هذه معارك رئيسها الشيطان وشياطين الإنس الذين يوحون للبشر أنهم يمتلكون أرزاقهم وأقواتهم ومن آمن للحظة بأن الرزق بيد أحد سوى الله سبحانه وتعالى عليه أن يصحح التوحيد.

      <<<<<<<<<<<<



      الخوف سيطرعلى عالمنا المعاصر



      (أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِير (17))

      رأيت الأرض أمام عينيك مستقرة وهادئة واعتقدت وتوهمت أن هذه الأرض لا يمكن أن تتحرك ونحن نرى أمام أعيننا كيف تحدث الزلازل والبراكين؟! من الذي أمّنك؟




      بقدر خشيتك من الله عز وجل تشعر بالأمان وبقدر خوفك من الله سبحانه وتعالى وتعظيمك ومهابتك لربك ولأوامره سبحانه يحدث عندك الاستقرار والشعور بالأمن والأمان، بالأمن حين أرى أقدار الله الكونية وأؤمن بأن الله رحمن رحيم لن يكتب لي إلا الخير وأن ما أراه أحياناً حتى من زلازل أو من براطين إن كنت أنا بلغت مرحلة الخشية من الله بالغيب وأحسنت العمل حتى هذه المصائب والنكبات ظاهرها شرّ وباطنها قد يكون الرحمة والخير لأن من يقوم على تقديرها هو الخالق الرحمن الذي تكرر في سورة الملك كثيراً، "الرحمن"، صحيح ملِك، صحيح قوي قادر، على كل شيء قدير لكنه رحمن رحيم، رحمته وسعت كل شيء، وسعتني وستسعني أنا فأطمئن وأهدأ



      ترون الخوف الذي يسيطر على عالمنا المعاصر اليوم؟!

      الخوف من كل شيء، الرزق كثير كما لم يكن ويحدث، والطعام كثير والأقوات كثيرة وكل شيء كثير والعالم أمام أعيننا مُنار بالأضواء وبكل شيء ليس هناك ظلمة ولكننا نعيش في خوف بل في الحقيقة رعب وليس خوفاً، خوف من كل شيء، خوف على المستقبل، خوف على الرزق خوف على الأولاد، خوف من كل شيء، خوف من البراكين خوف من الزلازل، خوف مما حدث ومما سيحدث ومما لم يحدث



      من أين جاء الخوف؟

      لأن القلوب قد فرغت من خشية ربها عز وجل، إذا امتلأت القلوب بخشية الله سبحانه وتعالى حينها فقط ستعرف كيف تذوق طعم الأمن والأمان.

      ولذا جاءت كلمة



      (أَأَمِنتُم)


      في أكثر من موضع في سورة الملك

      وكلمة الأمان حاضرة في معانيها في سورة الملك

      <<<<<<<<<<<<<<<



      أسئلة توقظ الحياة في قلوبنا




      (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ (19))



      أرأيتم هذا المنظر العجيب؟



      منظر الطائر الذي يحلّق بجناحيه مَنْ الذي يمسك ويقبض؟

      من الذي علّم الطائر قبل أن يعلِّم الإنسان ويتعلم الطائر منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى الأرض والطيور تحلّق في الفضاء، والإنسان الذي أوتي كل وسائل الإدراك العجيبة لم يدرك فكرة الطيران إلا بعد كم من القرون ومن الأزمان؟

      من الذي ألهم الطائر كيف يطير؟ الطائر الصغير الذي ليس لديه كل وسائل الإدراك التي وهبها الله للإنسان، من الذي علّم الطائر؟ من الذي يمسك بجناحيه فلا يقع؟ من الذي علّمه كيف يقبض جناحيه فتعلم منه الإنسان العاقل فلسفة الطيران؟ كم الذي علّم؟ من الذي جعل الطائر يعلم الإنسان كيف يطير؟ من الذي علّم؟



      الرحمن،

      (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ).


      (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ (20))

      تبدأ سورة الملك كلها بأستئلة استنكارية أسئلة توقظ الحياة في قلوبنا تجعلنا أمام الحقائق التي ألفناها ونتيجة أننا ألفناها أصحت عادية والله عز وجل لا يريد مني هذه النظرة يريد أن يوقظ في قلبي الإحساس



      (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ (20))



      إن كانت المعركة وإن أنت أيها الإنسان إخترت المعركة أن تكون بينك وبين الله عز وجل فأيّ جنود في الأرض يمكن أن تكون ناصرة لك أمام قوة الله عز وجل؟!



      إختار المعركة فرعون وكان هو رئيس المعركة وقائد المعركة كيف كانت النتيجة؟ أين جنود فرعون حين إلتهمه اليم فأصبح من المغرقين؟ من الذي نصر موسى عليه السلام وقومه؟ أليس هو الله سبحانه؟



      (إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ)


      هذا التيه والوهم يحدث للإنسان وواحدة من أسباب حدوثه النظرة العابرة المعتادة أن أألف الشيء فلا أتدبر في قدرة الله ولا أقف عندها ولا تقودني لمعرفة الله، كارثة! بمعنى الكارثة!.


      وتعود الآيات


      (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ (21))


      الرزق الذي أحياناً بعض الناس يتشدق به يعتقد أنه إذا امتلك خزائن دولة أو إذا امتلك شيئاً من متاع الدنيا إمتلك أرزاق الناس وأقواتهم، أبدا"، من الذي يملك الرزق؟ انظر إلى الآية


      (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ)



      من الذي يرزق سوى الله سبحانه؟.



      (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (22))


      أنا محتاجة ألا أعطّل وسائل الإبصار والإدراك الموجودة عندي كإنسان وهِبت إياها كأمانات وأبقى مكباً على وجهي لا أرى الحقيقة أمام عيني، هذه حال الإنسان حين لا تقوده النظرة ولا يقوده السماع لمعرفة الله عز وجل، حين يعطّل وسائل الإدراك كما فعل الكافرون بنفسه، بذاته، فيمشي مكباً على وجهه.

      <<<<<<<<<<<<<<


      مردنا إلى الله مهما طالت الرحلة



      (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)

      ولكن حتى حين ذرأكم ألستم إليه تحشرون؟ أنا أين سأذهب في رحلة الحياة؟



      أليس مردّي إلى الله عز وجل مهما طالت الرحلة بقيت ستين، سبعين، أربعين، ثلاثين، خمسين، زادت، طالت، قصرت، مردي إلى الله، الكافر يُهيأ له أن الرحلة طويلة ولذلك


      (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25)



      قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (26))



      الوقت غير محدد لكن يقيني وإيماني بأنه آتٍ لا محال يدفع بي للعمل يدفع بي لتقديم أحسن العمل يدفع بي لخشية الله عز وجل مهما تغيرت الأحوال من حولي، لا يهمني ماذا يقول الناس عن عملي لا يهمني ماذا يقول الناس عن قوتي – طبعاً بالإطار الصحيح نحن نتحدث عن إطار العمل على سبيل المثال - الذي يهم أن أحسن العمل لوجه الله عز وجل.



      ثم تأتي الآية وتوضح لي وتهز الإنسان هزة عنيفة وتبين له وكأنه يوم القيامة قد حدث أصلاً

      (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا (27))

      هذا اليوم الذي نفرّ منه جميعاً ولكن بطبيعة الحال المؤمن يفر من الله إليه لا يفرّ إلى غيره، لا ملجأ له من الله إلا إليه، أنا أخاف ولكن هناك فرق بين أن أخاف شيئاً فأهرب منه وبين أن أخافه فأهرب إليه. المؤمن يخشى الله عز وجل فيهرب إليه الكافر يخاف من اشياء مختلفة ولكن الخوف بدل أن ينمي ويربي عنده خشية ويولد الخشية من الله التي تقربه إلى الله يخاف فيبتعد ويجادل في غرور وفي عتو ويعتقد بأنه سيُحال بينه وبين الموت ولذلك كذب المشركون والكفار بالبعث

      (قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) المؤمنون)



      (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ (24) الجاثية)


      هذا النوع يقال لهم (وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ)

      <<<<<<<<<<<



      مايستفاد من سورة الملك



      أنا حين أكرر السورة كل ليلة أداوم عل قرآءتها وتلاوتها كيف تشفع لي؟

      هل التلاوة العابرة؟

      لا




      تلاوة متدبرة تلاوة توقظ في إحساسي في قلبي مشاعر الإيمان والخشية من الله عز وجل، أن أصحو في الصباح أنا نمت على خشية الله عز وجل إذن أستيقظ في الصباح وكلّي طاقة وأمل أني أمشي في الأرض أطلب الرزق ولا أطلب به وجه أحد سوى الله تعالى، ولا أنسى أن فترة بقائي على الأرض فترة محدودة ولا أنسى أن أقدم أحسن العمل بين يدي الله سواء رضي عني مسؤولي أو لم يرضى، لا يهمني، تصبح هذه المسائل لا شيء عندي، رضي، سخط، غير مهم، المهم أن يرضى الله عز وجل.



      (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا)

      وتدبروا التلازم بين المُلك والرحمة من يملك في الغالب من البشر في بعض الأحيان كفرعون وغير فرعون يستقوي بقوته الموهومة بالملك الذي يظن واهماً أنه ملك وهو ليس ملكاً، نقول ملك هكذا على سبيل التجوّز ولكن على سبيل الحقيقة هو ليس بملك ولكن هؤلاء من أمثال فرعون حين يستشعر بهذه القوة تغيب مفاهيم الرحمة ولله المل الأعلى، كل هذا الملك ولا يخرج أبداً عن رحمته سبحانه وتعالى قوة، عظمة، قدرة، عزة ولكن هناك مغفرة، رحمن رحيم



      (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)29 الملك

      الحوار بين المؤمن والكافر مسألة وقت، المؤمن يرى الإيمان ويرى اليوم الآخر ويرى الجزاء حاضراً أمام عينيه ليقينه بالله سبحانه.



      (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ (30))الملك

      إن غارت الأنهار ذهبت في الأرض ولم تعد هناك مياه ولا مسطحات مائية من الذي يأتيكم بالماء الظاهر المعين السلس الذي تشربون؟ من؟



      هذا الماء الذي تشربون من الذي أنزله؟ من الذي أخرجه من الأرض؟ أليس هو الله؟ إذن إذا كانت كل هذه الحقائق أمام عيني تنطق ليل نهار بقدرة الله عز وجل كيف أضع كل هذه الأغطية على عيني والحجب فلا أرى النور، كيف؟!



      سورة الملك تجيب بعد كل هذه الآيات العظيمة على الإشكالية الخطيرة في حياتنا اليوم التي ذكرت، إشكالية الشعور بالأمن والتحرر من الخوف، سورة الملك تحررني من كل المخاوف الموهومة رزقك بيد الله سبحانه وتعالى وليس بيد أحد، الأجل بيد الله سبحانه وتعالى، النصر بيد الله سبحانه وتعالى، الحماية بيد الله سبحانه وتعالى، إذم مم تخشى؟ لا تخشى شيئاً، لا تخشى إلا الله. ولذا الخشية من أعظم صفات المؤمنين الذين يخشون الله بالغيب
      (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) المؤمنون)
      ربي في آيات عديدة في القرآن ذكر الخشية وجعل لها أعظم الجزاء هذه الخشية لا يمكن أن تبنى فقط من القرآءة العابرة، سورة الملك أوضحت لي السبل والطرق وما علي سوى التطبيق.

      وكون أن السورة يداوم الإنسان على تلاوتها كل ليلة تجعل القضية حاضرة في ذهني، التفكر، التفكر في ملكوت السموات والأرض، التفكر في آيات الله سبحانه وتعالى، التفكر في الخلق، التفكر في السماء، التفكر في الرزق، التفكر في الماء، التفكر في الأرض التي أمشي عليها، التفكر في كل شيء، ليصبح التفكر عبادة ملازمة لي منذ أن أستيقظ في الصباح إلى أن أنام وأختم اليوم بتلاوة السورة العظيمة.
      ودعونا نقول أن التفكر لا يكلفني الكثير، التفكر عبادة أستطيع أن أقوم بها طوال الوقت لا تحتاج حتى إلى وضوء ولا إلى طهارة ولكنها قطعاً تحتاج إلى طهارة قلب

      تعليق


      • رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

        • سورة البروج

          هدف السورة


          حين يطفو زبد الباطل على سطح الحياة ويغري الشيطان أهل الباطل بالظلم والعدوان، بسفك الدماء والقتل والتشريد والتعذيب والطغيان، ويُهيأ لكثيرين حينها أن زوال هذا الباطل ضربٌ من الخيال وأن الأمر أقرب إلى المحال فالباطل قوي والحق ضعيف!
          ومن ينصر الحق وينتفض لهذا الحق إنما هم فئة من المستضعفين لا حول لهم ولا قوة لا سند لهم ولا ناصر ولا ظهر لهم ولا قوة عظمى تساندهم، عندها ينتفض هؤلاء القلة، هؤلاء الفئة من المستضعفين، ينتفضون نفضة رجل واحد للحق الذي يحملونه في صدورهم وفي قلوبهم، هم ضعفاء في تصور الآخرين لكنهم أحرار، هم سادةٌ أحرار لأن هذه القلوب المؤمنة استطاعت أن تتحرر من كل أنواع العبودية إلا تلك العبودية التي تعتبر شرفاً لكل من يحملها، العبودية لله وحده الديّان.

          هذه الفئة من المستضعفين عبر الأزمنة وعبر التاريخ وعبر الأجيال هي تلك الفئة التي استطاعت أن تدمغ الباطل والطغيان، هي تلك الفئة التي استطاعت أن تقف أمام جحافل الطغيان والعدوان، استطاعت أن توقف مدّ تلك الجنود الظالمة بكل ما جاءت به من أسلحة وما جاءت به من تصورات واهمة وزائفة بأنها تستطيع أن توقف مدّ ذلك الحق ومدّ ذلك العدل.

          اختلت موازين القوى حين يصبح الحق والعدل في أيدي الفئة التي يعتقد الناس بأنها من المستضعفين وأن لا ناصر لهم وأن الباطل الذي قد استفحل شره في كل مكان وزادت سطوته وجبروته وطغيانه هو الذي يمكن له أن ينتصر، تنقلب الموازين. ولكن السورة التي بين أيدينا اليوم تعيد هذه الموازين إلى الميزان الحق العدل، تعيد الأمور إلى نصابها تبين لكل مؤمن يقرأ هذا الكتاب بقلبه قبل أن تتحرك به شفاه الإنسان وهو يقرأ تعيد له هذه الحقيقة الساطعة أن الحق سينتصر وأن هذه الفئة التي يظن البعض أنها فئة مستضعفين هي التي على على أكتافها وأعناقها سترتفع رايات الحق. ليس فقط في الزمن الذي عاشوا فيه وإنما لكل زمان ولكل مكان، راية الحق لا ترتفع على أكتاف أناس لم تمكنوا من أن يحرروا أنفسهم من الذل للحياة في ظل العبودية للبشر. راية الحق ترتفع على أكتاف أناس عشقوا الحياة ولكن حياة من نوع خاص، حياة في ظل إيمان وتوحيد برب واحد أحد، فردٍ صمد، اتخذوا دينه منهجاً في حياتهم فأعطاهم القوة، أعطاهم المنعة، أعطاهم النصر بلا جيوش ولا سلاح ولا جنود، لا سلاح لهم ولا دبابات ولا معدات ثقيلة ولا مؤسسات ولا منظّمات دولية ولكن لديهم الواحد القهّار، لديهم سبحانه الذي هو الفعّال لما يريد.

          تأتي سورة البروج المكيّة التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم في مكة وقد تفنن المشركون بأنواع من العذاب!
          فبلال يسومُه سيده أمية بن خلف فيضع الصخرة تلو الصخرة على صدره فما تزيده تلك الصخرة إلا إيماناً وتوحيداً فيردد بأعلى صوته، ذلك الصوت الذي ترتعد له كل مشاعر وعواطف أطراف أمية بن خلف السيد المُطاع وبلال العبد في ميزان أمية بن خلف يردد أحدٌ أحد، كلمة التوحيد، الإيمان، قوة التوحيد التي لا تانيها قوة على وجه الأرض مهما بلغت.
          لا تدانيها أي نوع من أنواع القوى الموهومة التي اصطنعها الطغاة الظَلَمة في كل زمان ومكان.



          أصحاب الأخدود




          نزلت سورة البروج لتقول للنبي صلوات الله وسلامه عليه ولكل الضعفاء من أهل الحق الذين يُهأ للناس أنهم ضعفاء وأن لا سند لهم ولا معين،
          لكل هؤلاء نزلت سورة البروج.

          سورة البروج التي جاءت تحكي قصة قوم، فئة من المستضعفين فئة آمنوا بالعزيز الحميد، فئة ارتضوا منهج التوحيد منهجاً لحياتهم، فئة وقفوا في وجه الطاغية، وقفوا في وجه ذلك الظالِم المستَبد الذي عاث في الأرض فساداً وتعذيباً وسفكاً وإهداراً للحقوق وقفوا في وجه ذلك الطاغية فإذا بالطاغية وحاشيته وجنده الأقوياء الذين من حوله، هؤلاء الأقزام حفروا الأخاديد وشقُّوا الحُفَر وأضرموا فيها النيران وأوعزوا لكل الحاشية من حولهم أن يزجوا بالأطفال والنساء والشيبان والشباب في بطون تلك الأخاديد علّهم يحرقون نور الإيمان الذي قد شعّ وسطع في قلوب وصدور هؤلاء الفئة فما زادتهم تلك النار التي يُهيأ لمن ينظر إليا أنها تحرق الأجساد، ما زادتهم تلك النيران إلا برداً ويقيناً وسلاماً واطمئناناً ليرددوا بلسان حالهم:
          هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، المحنة، الابتلاء، الشد، النار، التعذيب، التنكيل، التشريد، القتل، لا يزيد المؤمن الموحِّد إلا ثباتاً ويقيناً.

          الحق لا يرتفع على قلوب ضعيفة أو واهية، يرتفع بالقلوب الثابتة المستقيمة على طريق الحق التي لا يهمها نيران من يضرم النيران ولا يهمها هذ الطاغية أو ذاك وإن تبدلت واختلفت الصور.



          الصدع بكلمة الحق مسئولية وأمانة






          (النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ )
          ولنا أن نتوقف عند كلمة (شهود) التي تتردد في هذه السورة العظيمة
          (شهود) والشاهد يُسأل، أنا سأُسأل وأنتم ستُسألون وكلنا سيُسأل ونحن نقف بين يدي العزيز الجبار سنُسأل عما فعلناه لأجل المؤمنين، عما فعلناه لأجل الحق وأهل الحق، هل ناصرناهم؟ هل وقفنا إلى جانبهم؟
          هل وقفنا إلى جانب الحق الذي آمنوا ونؤمن به؟ أم كنا ضعفاء؟!

          الحق لا يُنصر بالضعفاء، الحق يُنصر بالأقوياء. ومن يبذل الروح والنفس والوطن في سبيل الحق الذي يؤمن به ليس بالضعيف، ليس بالعبد وإنما هو حرٌ سيّد مُطاع من سادات الجنة، هذا السيّد الذي استطاع أن يتعالى على الرغبة في الحياة الذليلة في ظل طاغية أو ظالم لم يعرف الله يوماً لم يعرف منهج الحق يوماً ولم يتخذه دستوراً هؤىء هم من يرفعون الحق ويرتفع بهم الحق.

          هؤلاء اختارهم الله عز وجل في كل أمة من الأمم عبر التاريخ لترتفع على أعناقهم رايات الحقّ خفّاقة في كل الأرجاء ولتسطّر الأسماء بماء ليس من ماء الذهب بل بالدماء تلك الدماء التي ستشهد يوم القيامة بروعتها بعبقها هذه الدماء الزكية الطاهرة التي ستشهد للحق وأصحاب الحق وأنها ما سُفكت لأجل باطل، ما سُفكت لأجل كرسي أو منصب أو جاه، ما سُفكت لأجل مال، ما سُفكت لأجل حفنة من السنوات يجلسها الطاغية تمدّ في عمر زمانه أو وقته وإنما سُفكت لأجل التوحيد ولأجل كلة “لا إله إلا الله”.

          سُئل بلال ذلك العبد الضعيف في نظر أمية بن خلف:
          كيف كنت تتحمل ألم الصخرة وهي توضع على صدرك في حر الشمس في صحراء مكة؟
          فكان يقول:
          مزجت مرارة العذاب بحلاوة الإيمان.


          ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,



          الحق يعلو ولا يعلى عليه

          أصحاب الأخدود في كل زمان ومكان يمزجون مرارة النار المتّقدة بشعلة الإيمان في قلوبهم، ببرودة وبرد اليقين الذي آمنوا بالله سبحانه وتعالى به رباً وعرفوه به رباً.

          ولذا جاءت الآية العظيمة
          (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ )

          لم تكن تهمة هؤلاء سوى أنهم آمنوا بالله وهل هذه تهمة أو أنها شرف وتاجٌ يوضع على رأس المؤمن يرتفع ويرتقي به في سُلّم الفردوس الأعلى. هذه التهمة التي بها ساق الطُغاة والظَلمة في كل زمان عبادَ الله من المؤمنين لأنهم رأوا في الإيمان والتوحيد تهديداً لعروشهم، تهديداً لمُلكهم، تهديداً لجبروتهم وطغيانهم وسطوتهم وحُقّ لهم أن يروا ذلك التهديد لأنهم أقاموا عروش ممالكهم على الكذب والطغيان والعدوان، أقاموها على قواعد واهية لم يقيموها على الحق والعدل والتوحيد الذي آمن به هؤلاء.

          لأن الحق يحتاج إلى أهلٍ يرفعون راياته والله سبحانه وتعالى يصطفي من عباده في كل جيل من يحملون راية الحق، فهنيئاً لكل من أصيب بمصابٍ في سبيل حقّ يؤمن به. هنيئاً لبلال، هنياً لذلك السيّد الذي بات سيداً في التاريخ حين تحرر من عبودية أمية بن خلف. هنيئاً لبلال وهنيئاً لكل أصحاب الحق من أمثال بلال وغير بلال عبر التاريخ في زماننا في وقتنا ممن جهروا بالحق، من رفعوها عالية خفاقة يقولون لا إله إلا الله في وجه كل طاغية ليوقفوا هذا الطاغية مهما تعددت الجيوش من حوله ومهما تعددت كل وسائل التدمير من حوله أن مُلكك إلى زوال، كيف لا يقتلهم؟ كيف لا يحرقهم بالنيران؟ كيف لا وهو يراهم بأُم عينه يهزّون عرشه وملكه ويقوّضون مملكته من تحت قدميه، كيف لا؟!

          الله سبحانه وتعالى الحميد أراد للحق أن يظهر على أكتاف هؤلاء ولذا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جاؤوا يشكون إليه ذات يوم وهو متوسّد بردة له في ظل الكعبة يشكون إليه ما وصل إليه حالهم من تعذيب وتشريد وقع عليهم من المشركين وهكذا حال المؤمنين في كل زمان ومكان، فقالوا له: يا رسول الله ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟
          فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم، النبي الذي يحمل في قلبه وبين خافقيه ذلك الحنان الفيّاض، تلك الرأفة العجيبة التي ملأت الأرض عدلاً ورحمة ونوراً إذا بهذا النبي الكريم يقول لهم معلِّماً وموقظاً: كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيه فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُشقّ باثنتين فما يصده ذلك عن دينه ويُمشط بأمشاط الحديد دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون. يا لها من عِبرة!
          يا لها من عِظة أحتاج أن أعبر إليها إلى واقعي الذي أنا أعيش فيه.
          إذن هي المحنة، هي الابتلاء، وإنما الحق قد سُطِر أنه هو الأعلى وأنه هو المنتصر.




          المعركة بين الحق والباطل معركة محسومة


          المعركة بين الحق والباطل معركة محسومة لصالح من؟
          لصالح أهل الحقّ، أهل الحق سواء انتصروا في الدنيا وظهر انتصارهم وأتاهم الفتح من عند الله سبحانه أو لم يأذن به، سواء أضرمت فيهم النيران أم قُتّلوا أم سُفكت دماؤهم أو هُدّمت عليهم بيوتهم الله ناصرهم، الفوز قد كُتب لهم، فازوا الفوز الكبير ولذلك ربي عز وجل في هذه السورة قال
          (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)
          الفوز قد تحقق، متى تحقق يا رب؟ الفوز في ميزان الله سبحانه وتعالى قد تحقق حين قام هؤلاء قاموا بالحق الذي آمنوا به، قاموا في وجه الظلم والطاغوت والعدوان وقالوا له توقف إن ربك لبالمرصاد، الحق والنصر قد تحقق، الفوز قد حدث، لا يهم المعركة التي كانت.

          أصحاب الأخدود لم تذكر سورة البروج لهم كيف كانت نهاية الطاغية والحاشية التي كانت معه، لم تذكر أنهم قد أُهلكوا بالغرق كما في فرعون أو كما في ثمود بالريح لم تذكر لهم عقاباً دنيوياً، لم تذكر لهم نهاية مأساوية كما يُخيّل أو يظن البعض أو يتوقع دائماً.

          ولكن الظالم سواء أكانت النهاية المحسومة المحتومة قد وقعت له بشكل يشفي غليل المؤمنين ويشفي صدور المؤمنين أم لم تقع فالخسارة في حقه قد حدثت، له نار جهنم يخسا فيها أبد الآبدين!

          ما قيمة أن يعيش حفنة من الأزمنة أو من السنوات؟!
          ما قيمة أن يعيش الدنيا طولاً وعرضاً ويزهو بها والنهاية الحتمية خلود إلى النار إلى جهنم وبئس المصير؟! المعركة محسومة.
          نحن اليوم كبشر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه
          “ولكنكم تستعجلون” أما اليوم الموعود فالجزاء فيه محسوم.


          يتبع





          اسلاميات

        تعليق


        • رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

          (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ )8
          (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )9
          سورة البروج

          من هو الملك؟ من الذي بيده مفاتيح السموات والأرض؟ من الذي يُصرِّف الأمور؟ من الذي يغير الأحوال؟ من الذي يقول للشيء كن فيكون؟ من الذي إذا أراد نصراً تحقق؟ من الذي إذا أراد فتحاً فتح به على المؤمنين؟ من الذي إذا أراد أن يرفع البلاء رفع؟


          الله سبحانه!


          ولكنه سبحانه كل شيء عنده بمقدار والله على كل شيء شهيد.

          لا تخشى شيئاً، أنت لست بحاجة إلى شهادة مراقبين، أنت لست بحاجة إلى شهادة موثّقة من مؤسسات أو منظمات دولية فالله شاهد وشهيد عليك.


          الله قد شهد على كل شيء فهو الشهيد، هو العالم الذي يعلم بكل شيء يحدث في مملكته سبحانه وهو الحامد الحميد في أفعاله سبحانه، له في كل شيء حكمة.

          ما يمر بك من محنة أو ابتلاء أو تجويع أو حصار أو تدمير أو هدم أو برد أو قسوة أو سطوة إنما هو ترقّي لك في سلّم الإيمان والتوحيد والنجاح فاصبر إن العاقبة للمحسنين الصابرين المرتقين في سُلّم التوحيد والإيمان الصادقين الثابتين على الحق.
          ولذا جاءت الآية التي تليها
          (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا)


          وتأملوا معي رحمة رب العالمين، باب التوبة المفتوح لكل الناس لكل إنسان مهما طغى مهما تجبر إن رجعتَ عن الباطل والغيّ الذي أنت فيه فإن باب التوبة مفتوح ولكن عليك أن تُصحِّح، عليك أن تؤوب، عليك أن تتوب، عليك أن تعود إلى خالقك، تعود إلى نفسك، تعود إلى الروح التي خلقها الله عز وجل لتتأمل فيها لتتدبر في نفسك وأحوالك لترى ما أنت صانع في نفسك؟


          (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)
          هو الحريق ولكن الحريق يختلف بين حريق الدنيا والنار التي أُضرمت في أصحاب الأخدود في أيّ زمن وفي أيّ وقت وبين ذاك الحريق الذي ينتظر المجرمين والطغاة والظالمين ممن لم يتوبوا ولم يعودوا إلى خالقهم أبد الآبدين.


          <<<<<<<<<<<<

          كيف مكّن أهل الحق أهل الباطل من أن يسلطوا عليهم؟

          معركة أصحاب الأخدود معركة محسومة، معركة طالما تكررت عبر التاريخ معركة الباطل والحق، معركة أهل الحق وأهل الباطل، النتيجة فيها محسومة
          (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)
          إنه الفوز، النتيجة محسومة لا تنتظر دائماً فقط العواقب أو النتائج التي نحن كبشر نرسمها لأنفسنا، النصر الذي نحاول نحن أن نخطط لهذا النصر، النصر والفوز إنما قد حُسِم لأهل الإيمان، لأهل الصدق، لأهل الحق.

          الدنيا ساعة لا يهم فيها من ارتفع ومن كانت له الكلمة في نهاية الأمر ولكن الآخرة هي دار القرار اليوم الموعود يوم الفصل
          هو ذلك اليوم الذي ستظهر فيه الحقائق
          (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ).

          ولكي يبقى دائماً الطغاة في كل زمان وفي كل مكان على علم ويقين بأن الله سبحانه وتعالى لن يفلت أحدٌ منه تأتي الآية العظيمة
          (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ *وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ )

          كيف مكنا لأهل الباطل أن يعلوا علينا ويسلّطوا علينا؟
          ولنكن صُرَحاء ولنكن في لحظة صدق مع أنفسنا ولحظة مراجعة وتوبة، قبل أن نتساءل ونقول لِمَ يُسلِّط الله سبحانه وتعالى أهل الباطل على أهل الحق؟
          دعونا نعيد الكرة ونتساءل بطريقة مختلفة كيف مكّن أهل الحق أهل الباطل من أن يسلطوا عليهم؟!
          هذا هو السؤال المشروع أما السؤال فهو سؤال غير مشروع!
          نحن أهل الحق حين ضعفنا وتضاعفنا وانتكسنا وعجزنا عن نصرة الحق الذي نؤمن به، عن الدفاع عن القرآن الذي نحفظه في صدورنا، عن اتباع أوامره في جزئيات حياتنا اليومية مكّنا بذلك البعد عن منهج الله لأهل الباطل أن يرتفعوا فوق رؤوسنا! نحن الذي رفعنا بتقصيرنا في جنب الله وتفريطنا في جنبه وفي أوامره نحن من رفعنا على أعناقنا أهل الباطل.

          ولذا ربي عز وجل في آيات أخر قال عن فرعون
          (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ (54) الزخرف)
          استخفّ أهل الباطل بأهل الحق رأوا فيهم ضعفاً، رأوا فيهم بُعْداً عن منهج الحق، رأوا فيهم عدم الثبات على القرآن، رأوا فيهم عجزاً وضعفاً وانتكاساً ورخوة ما كان لها أن تكون، تراخياً عن الحق والإيمان فتمكنوا منا فمُكِّنوا منّا!
          ليس لنا إلا الرجوع والتوبة
          ولذا يقول الله سبحانه وتعالى
          (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ)
          غفورٌ لتفريطنا في جنبه فقد فرّطنا، غفورٌ لإسرافنا في جنبه وأوامره فقد أسرفنا على أنفسنا، ربنا إننا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا وارحمنا.
          ولذا من أعظم اسلحة من وقع في محنة وابتلاء وكل المؤمنين اليوم في محنة وابتلاء أن يعودوا إلى خالقهم بالتوبة، التوبة النصوح أن يعودوا بقلب مؤمن صادق مخبت لله أن يا رب قد ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

          ربي سبحانه يحبنا يتودد إلينا بالنعم، يتودد بالعطايا، بل يتودد إلينا حتى بالابتلاءات التي ينزلها بنا، لماذا؟
          ليميز الخبيث من الطيبن ليميز القلوب المؤمنة الصادقة -وهو بها أعلم- من القلوب المنافقة الخبيثة الذليلة الضعيفة. هكذا نحن بالابتلاء.
          ربي سبحانه وتعالى حتى في ابتلاءاته يتودد إلينا، لا يخرج الأمر عن ودّه، فهنيئاً لتلك القلوب التي استطعمت معنى الابتلاء ليس لأنها تريد الابتلاء ولكن لأنها تريد رضى الرحمن في سبيل تقديم هذه التضحية وذاك الابتلاء.


          <<<<<<<<



          سنة الله في الطغاة

          تأتي الآيات في سياق الحديث عن الطغاة والظَلَمة، عن فرعون وثمود، فرعون أُغرِق في اليمّ فكان عبرة لمن يعتبر حتى لطغاة أهل هذا الزمان الذين لم يعتبروا! وثمود الذين أُهلِكوا بالريح، من الذي أهلكهم؟
          من الذي أخذ فرعون أخذ عزيز مقتدر سوى الله سبحانه وتعالى؟!
          من الذي أغرقه باليم هو والجنود الذين كانوا معه؟
          خرج في جنوده، خرج في زينته، خرج في سلطانه، خرج طغيانه وجبروته فمن الذي اقتدر عليه غير القادر سبحانه وتعالى الفعّال لما يريد؟!.

          ولكن سواء أكانت نهاية الطغاة والظالمين مرئية مشهودة أما أعيننا
          كنهاية فرعون أو كنهاية قوم ثمود أو غيرهم من الأقوام التي كذبت وطغت وأفسدت في الأرض أو لم تكن كنهاية أصحاب الأخدود الذين لم يذكر لهم القرآن نهاية مخزية أو معينة في الدنيا مذكورة كنهاية فرعون أو غيره ولكنهم في نهاية الأمر لن يفلتوا من الله سبحانه وتعالى وانظر إلى الآية
          (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ )

          أحاط بكل أعمالهم علماً، أحاط بكل طغيانهم، أحاط بكل ظلمهم وجبروتهم، أحضاها عليهم، أحصى عليهم عدد النفوس التي أُزهقت، أحصى عليهم عدد البيوت التي هُدّمت، أحصى عليهم عدد الأعراض التي انتهكت، أحصى عليهم عدد أنفاس الحياة التي أخذوها وانتهبوها، أحصى عليهم كل شيء سبحانه وتعالى إنما يمهلهم ليوم خسر فيه الخاسرون خسر فيه الطغاة، خسر في الظالمين.


          <<<<<<<<

          التوبة والرجوع إلى الله سبب انتصار المسلمين


          ثم ختم الآيات بقول الله عز وجل
          (بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ *مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ )
          المجد للقرآن، المجد لحملة القرآن، المجد دوماً لأهل القرآن ومن يحمله والحلّ الوحيد أمام الطغيان، الحل الوحيد للوقوف في وجه كل طاغية وظالم هو هذا القرآن المحفوظ، هو هذا القرآن المجيد.

          من أراد أن يقف في وجه أيّ طاغية في أيّ زمان في أيّ مكان لا يمكن أن يقف في وجه الطاغية وهو بعيد عن القرآن وعن تعاليمه.
          إحفظ القرآن في قلبك، إحفظ القرآن في صدرك، إحفظ القرآن في سلوكك وأفعالك وتصرفاتك، لا عليك أمام من ستقف، لا عليك أمام أيّ طاغية ستقف، لا عليك، بأي جنود وبأي أدوات ولا باي أسلحة سيهاجم أو سيقف
          لماذا؟
          لأن عظمة القرآن الذي تحمله بين جنبيك، عظمة هذا القرآن سيخرّ لها هذا الطاغية مهما استقوى ومهما تصوّر واهماً أن له من القوة والمنعة ما يصده عن هذا القرآن. التمسك بالقرآن إيماناً وتصديقاً، علماً وعملاً هو مفتاح النجاة من كل طاغية من كل ظلم من كل عدوان. لا نجاة بدون القرآن، لا أمل في النجاة ووقف الطغيان والظلم والعدوان دون القرآن. وما طغى الطغاة في أي زمان ولا في أي مكان إلا ببُعد أهل الحق عن هذا الحق وهو القرآن. لا نظن في أي وقت أو في أي زمن أن هؤلاء الطغاة في أي مكان في أي زمان كان في أي جيل عبر العصور أنهم كان لهم أن يخرجوا ويُسلَّطوا على رقاب المؤمنين وأصحاب الحقّ ويعيثوا في الأرض فساداً لولا أننا بعدنا عن القرآن العظيم.

          السبب من عند أنفسنا، ما أصابنا من مصيبة وما يصيبنا اليوم يحتاج إلى التوبة، يحتاج إلى الإنابة، يحتاج إلى الرجوع لله وللقرآن وحده دون سواه.


          <<<<<<<<<<<<<


          ختاماً لكل ملوك الأرض



          إن أردتم استقراراً في ملككم، إن أردتم أن تبنوا لكم عزّاً أو مجداً فلا تظنوا أبداً ولا تتوهموا أن المجد يُصنع إلا بهذا القرآن العظيم.
          إن أردت أن يستقر لك الحكم وأن يستقر لك المُلك فاحكم بهذا القرآن العظيم علماً وتعلماً وتعليماً وإيماناً واحتساباً واجعل النية خالصة لله وحده لا شريك له، لا تجعل النية الحفاظ على ملكك أو عرشك فالملك يزول وإن طالت به الأيام والعرش يذهب وإن عَلَوْتَ به ولا كبير إلا الله ولا عالي إلا الله سبحانه وتعالى ولا ملك باقٍ على وجه الحقيقة سوى ملك الله الواحد الديّان.

          أقبِل على القرآن واجعل قرّة عينك في القرآن لا تتحير ولا تستشر من هم في اليمين أو في اليسار، استشر القرآن، أقبِل عليه بقلب صادق، عُد إلى الله سبحانه وتعالى ستجد عنده الإجابة، ستجد عنده الدواء، ستجد عنده الشفاء لكل ما فينا وفي قلوبنا وفي واقعنا وفي مجتمعاتنا من أمراض وأزمات مستعصية.

          أسأل الله العظيم رب العرش العظيم الذي أنزل القرآن المجيد أن يعيدنا إليه عودة صادقة، أن يردّنا إليه ردّاً جميلاً، أن يرفع عنا البلاء، أن يعيدنا إلى كتابه، أن يردّ الحق إلى أصحابه، أن يثبِّتنا على الحق الذي نؤمن به، أن يردّنا إلى كتابه ردّاً جميلاً غير مُخزٍ ولا فاضح، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

          تعليق


          • رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني


            تدبر سورة الفجر/ رقية العلواني


            مقدمه








            في حديثنا عن الأيام العشر لا نستطيع إلا أن نقف عند سورة الفجر


            (وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ).


            هذه السورة المكية العظيمة المكونة من ثلاثين آية العظيمة في معانيها التي ابتدأها الله سبحانه وتعالى بالقسم والله لا يقسم إلا بعظيم بهذه الأوقات والأزمنة (والفجر) والأيام التي ذكر أكثر المفسرين على أنها هي هذه الأيام العشر العشر من ذي الحجة ويوم عرفة ويوم النحر، هذه الأيام العظيمة التي أقسم الله عز وجلّ بها هي ايام عظيمة كان لا بد أن تحرك في نفس العاقل صاحب الحجر أي الإنسان الذي يمنعه عقله ويضبطه عن الوقوع في الغفلة والتهافت فيما لا ينبغي أن يتهافت فيه ويتراكض ويتسارع إليه.



            هذه الآيات لا بد لها أن توقظ في نفوس البشر الرجوع والعودة لله سبحانه وتعالى


            والحقيقة أن محور سورة الفجر التي هي في واقع الأمر


            هي حديث عن الأيام العشر هي النفس المطمئنة عودة النفس المطمئنة إلى خالقها.


            تلك النفس التي إن لم يتمكن الإنسان من الرقي بها والوصول إليها في الدنيا


            لا يمكن أبدًا أن تنتهي رحلة هذه النفس بقوله


            (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً )


            العبد لا يعود إلى ربه في الدنيا مطمئنا في الدنيا راضيا مطمئنا قانعا لن تقال له هذه الكلمة في وقت أحوج ما يكون أن تقال له وأن يسمع البشارة بها.

            ,,,,,,,,,,,,



            يهمل ولا يهمل






            هذه السورة العظيمة بدأت منذ البداية بالقسم بالأزمنة ثم انتقلت بعد ذلك للحديث عن أكثر الأقوام منعة وعزة مادية وعطاء من العطاء الرباني من العطاء الذي أعطاهم الله وأغدق عليهم من النعم


            (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ *وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ *وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ )


            أقوام كانت لهم منعة وفتحت عليهم الأموال والسلطة والجاه ولكنهم ماذا فعلوا بها؟!



            لأنهم غفلوا عن تلك الآيات والأزمنة والآيات المبثوثة في الكون والنفس طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد


            (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ )



            وهكذا كل البشر أمم مجتمعات أفراد إن غفل الإنسان عن حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة وأن الآخرة هي الحياة الحقيقية وغفل عن تعاقب الأزمنة فيه وتداور الأيام وصل إلى تلك الحالة من الطغيان والفساد لأنه تنكص ببساطة شديدة عن الغاية التي لأجلها خُلِق ولكنه حتى وإن فعل ذلك فعليه أن يدرك أن الله له بالمرصاد


            وإنه يهمل ولا يهمل

            (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ *إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ )

            ,,,,,,,,,,,,,



            العطاء ابتلاء


            انتقلت الآيات بانسيابية رائعة تتكلم عن حالة الإنسان الغافل التي لا تحركه الآيات الزمنية والكونية والأحداث التاريخية فيعتبر بما حلّ بالأقوام السابقة فينظر نظرة سطحية إلى المال


            (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ )


            يعتبرها قضية إكرام له أن تُفتح عليه الدنيا ويُغدق عليه الرزق المادي والمال في حين أن السورة قالت (ابتلاه) العطاء ابتلاء الغنى ابتلاء، أن تفتح عليك الدنيا اختبار امتحان فإياك أن تغفل عن هذه الحقيقية!!


            (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ )


            وفي واقع الأمر أن العطاء أو المنع، السعة في المال أو الضيق في الرزق كلاهما اختبار وامتحان، القيمة الحقيقية للمال في كيفية تصرفنا فيه قد يعطيك الله ملايين من الدنانير لكن يغفل الإنسان فإذا به لا ينفق فيها لا يجعل لها حظا من أعمال الخير والنفع لنفسه، لأسرته، لمجتمعه، لا يشعر بالآخرين!


            وإنما يوظف ذلك المال في التفاخر والتكاثر وتلبية شهواته ونزواته والإسراف والمغالاة فيها والبطر والطغيان وتجاوز الحدود التي وضعها الله سبحانه وتعالى له.



            يا ترى ماذا ستكون النتيجة؟!


            هذا المال سيكون وبالًا عليه كما حدث مع تلك الأمم، فرعون وغيره لما ذكر الله سبحانه وتعالى على سبيل المثال


            (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ *الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ )


            قوة، تقدّم، تحضّر، مدن، نحت جبال وبيوت وقصور فارهة!!


            ماذا أغنت عنهم تلك القصور؟!

            تركوها خاوية بالأعمال والتصرفات السيئة التي لم يدركوا من خلالها وغفلوا أن هذا المال وذاك العطاء والقوة والمنعة إنما هو امتحان عليك أن تفهم السؤال كي تجيب عنه إجابة حقيقية تنفعك في حياتك الآخرة.

            ,,,,,,,,,,,,,,,,,,



            افضل الأعمال فى العشر الأوائل من ذي الحجة








            كلنا يتكلم عن الأيام العشر وفضل الأيام العشر وكلنا يستشهد بالحديث:


            (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر فأكثروا فيها من التهليل من التحميد من التسبيح من الصيام من الصدقة من الصلاة)



            تدبروا قول الله عز وجلّ في هذه السورة


            (كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ )


            أعظم الأعمال التي تقوم بها في مثل هذه الأيام إكرام اليتيم وتدبروا ما قال تعطي وإنما قال تكرم لأن الإكرام لليتيم والإحسان إليه لا ينحصر في جانب العطاء المادي فقط، العطاء النفسي العطاء المعنوي اليتيم لا يحتاج فقط إلى دراهمك ودنانيرك اليتيم يحتاج إلى حنان يحتاج إلى عطف، إلى محبة، يحتاج إلى أسرة تحتويه وتضمه، يحتاج إلى أب بدل ذلك الأب الذي فقده، يحتاج أمومة يحتاج حنان هذه العواطف هي التي يعبر عنها القرآن أجمل تعبير


            (َلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ).


            ما قيمة أن تمتلك الملايين ولكنك لم تجرب حلاوة أن تمسح على رأس يتيم ما قيمة تلك الملايين؟!! المال ليس له قيمة في ذاته، قيمته فيما تفعل به وتتصرف فيه!!

            (وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)

            يحضّ بعضكم البعض، التواصي بالحق التواصي بالصبر قد لا تمتلك الكثير من المال ولكنك تستطيع أن ترسل رسالة تذكّر أحدًأ من الناس بالإطعام، بالشعور، بأن تكون إنسانًا تشعر بغيرك، تشعر بالآخرين من حولك تداوي وتواسي وتخفف من آلآمهم وأوجاعهم.

            ,,,,,,,,,,,,,,,,,



            سارع بالتقديم لحياتك الحقيقية





            ما قيمة المال حين يأكله الإنسان وتدبروا في الكلمة


            (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا )


            ليس تأخذون الميراث فقط، تأكلوه من شدة الحرص عليهّ تدبروا في تلك الحالة الإنسانية التي يصورها القرآن أعظم تصوير!


            يتمسك الإنسان بذلك المال تمسكًأ يدفعه إلى أن يأكله أكلًأ وكأنه يأكل أكلا لمّا لا يهمه يخلط حلال مع حرام ولكنه يأكله أكلا لشدة حرصه عليه علمًا بأنه سيتركه


            ولذلك قال القرآن مباشرة


            (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا )


            جاء بيوم القيامة مباشرة، انتهت الرحلة


            ولكن في تلك الرحلة القصيرة مهما طالت لم أتزود بخير زاد:


            التقوى

            (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى )


            عندها فقط يتذكر الإنسان، المفروض أنه كان يتذكر في الدنيا، المفروض أن الايام العشر التي أطلتنا تذكرنا بالله، تذكرنا بالرحلة تذكرنا بفترة بقائنا القصيرة على هذه الأرض، تدبروا في الآية


            (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)


            ماذا تنفع؟!



            فات الأوان فات!


            فات وقت العمل!


            فات وقت التزود بالزاد والمتاع الباقي


            فماذا يقول؟


            (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي )


            أمنية لا قيمة لها لأنه فات أوان تحققها فات أوان تمكنك من أن تجعلها واقعًأ في حياتك.




            (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي )


            أدرك هنا ذلك الإنسان المفرّط أن الحياة الحقيقية هي الآخرة وليست هي هذه الرحلة الفانية الدار الفانية التي إلى زوال سرعان ما تنقضي أخذت منها كثيرًا أو أخذت منها قليلا، لن تأخذ معك إلا ما قدمت

            لأن الدنيا هنا هي دار التقديم، الآخرة ليس فيها تقديم، فيها جزاء، ولكن الدنيا هي التي ينبغي أن تقدم لها فسارع بالتقديم لحياتك الحقيقية.

            ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,



            (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ *وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ )


            أكيد، الإنسان الغافل الإنسان الذي لم يتيقظ للحكمة من الحياة، هذا الإنسان ربي عز وجلّ لن يغفل أبدًا عن عذابه، تدبروا في الكلمات كلمات قوية جدًا!!


            ولكن هناك صنف من الناس صنف أدرك فعلًأ قيمة الحياة الحقيقية،


            قيمة الأيام العشر فبادروا بالصالحات



            (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً *فَادْخُلِي فِي عِبَادِي *وَادْخُلِي جَنَّتِي ).
            وتأملوا في هذه الآيات الأيام العشر على عظمة ما فيها من أعمال لا ينبغي أبدًا أن تشتغل بالأعمال والهيئات وأشكالها وصورها عن المقصد والغاية من العمل الصالح ما هو قصدك؟ لماذا تصلي؟ تصوم؟ لماذا تتصدق؟ لماذا تكرم اليتيم؟ لماذا تفعل كل ما تفعله؟


            تفعل كل ذلك لأجل أن ترجع إلى ربك تدبروا في الربط: في البداية قال


            (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ )


            هذه الأيام العشر هي التي تسهل لك طريق العودة إلى خالقك سبحانه وتعالى كلنا سنعود إليه لا مفر أبدا


            (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)



            ولكن هناك فرق شاسع بين عودة العبد الآبق العاصي الذي فرط في نفسه وفرط في دنياه وفرط في حياته وآخرته فعاد إلى ربه منكسرًا مقيدًأ بالقيود تسوقه ملائكة العذاب وبين تكل النفس التي تفد على الرحمن وفدا وتستقبلها الملائكة بالبشائر حال مفارقتها الدنيا


            (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً )


            الرضا الذي لا يتحقق أبدًا إلا بالاطمئنان الذي يعانيه المؤمن، الاطمئنان الذي ستخلفه علينا هذه الأيام العشر إذا ما أحسنا التعامل معها وفيها، الاطمئنان الذي بمعنى السكون بعد الانزعاج، طمأنينتك بما قسم الله لك، اطمئن واقنع بما قسمه الله لك ليس من باب التخاذل أو الكسل وإنما من باب إدراك حقائق الأشياء لا تجزع، اصبر، إن ضيق عليك في رزقك فاصبر، اعمل العمل بالجوارح والاطمئنان بالقلب والسكينة في النفس. اِرض، لأن الرضى بالنفس قضية لا تتعارض، ليس هناك تعارض مع العمل والنشاط افعل وخذ بالأسباب ولكن لا تجعل تلك الأسباب تأخذ أجمل منك ما فيك: القناعة والطمأنينة والرضى عن الله عز وجلّ، الرضى عن حكمه وهذا معنى رضيت بالله ربًا، اِرض عن الله ليرضيك، اِرض عنه واطمئن بما أعطاك وعليك أن تدرك دومًا أن المنع والعطاء كلاهما امتحان، اعرف ما هو السؤال لكي تنجح فيه.


            اجعل هذه الأيام العشر عودة حقيقية لله لأن المقصد الأساسي من هذه الأيام العشر العظيمة، عظيمة الفضائل التي جاءت بصيغة التنكير


            (وَلَيَالٍ عَشْرٍ)

            لعظيم ما جاء فيها من فضل في المكانة في المنزلة في الأجر في الثواب في كل شيء. هذه الفرصة العظيمة التي بلغنا الله سبحانه وتعالى إياها علينا أن نفهم ما المعنى وما الغرض فيها، علينا أن نعود وأن نحسن الأوبة والعودة لله سبحانه وتعالى، نرجع إليه قانعين مطمئنين فينا من اليقين ما يوصلنا إلى درجة الطمأنينة والرضا بما قسمه الله لنا ولذلك نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا نفوسًا راضية مطمئنة قانعة بعطائه سبحانه وتعالى، عائدة راجعة إليه تأخذ من الخير وييسر لها الخير، ونسأله من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، تقبّل الله منا ومنكم صالح العمل.

            اسلاميات

            تعليق


            • رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني




              • تدبر آية:

                حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله

                القرآن الكريم على عكس ما قد يظنه البعض كتاب يعلم الإنسان أن يعيش متفائلًا، أن يعيش مقبلًا على الحياة بكل الأمل متيقنًا أن الغد يحمل أخبارًا سارة وأن العيش سيكون أفضل وأن اليوم ينبغي أن يكون أفضل من الأمس وأن الغد يحمل معه تباشير الأمل.

                هذه النظرة المتفائلة للحياة تجعل الإنسان يستقبل أحداث الحياة التي قد تعلوها في بعض الأحيان أشياء من الصعوبات والشدائد والمحن المعتادة التي هي لا تخرج عن طبيعة الحياة، الحياة لا يمكن أن تصفو بدون كدر لا يمكن أن تبقى على طبيعة واحدة، الحياة من طبيعتها إذا أردنا بالفعل أن نفهم طبيعتها، من طبيعتها أنها تحمل الكدر في ثنايا الصفاء والنقاء، أنها قد يعرض فيها للإنسان المرض وهو في كامل صحته وعافيته وقوته.

                السؤال كيف أستقبل تلك الأحداث بنفس متشائمة؟ بنفس مليئة بالإحباطات؟ بنفس لا ترى الغد إلا أنه يحمل الأسوأ؟ أم بنفس مطمئنة بنفس راغبة بالله سبحانه وتعالى متفائلة مقبلة عليه متيقنة أن الله سيكشف الضر والله سبحانه وتعالى منجز وعده للمؤمنين.

                تأملوا قول الله عز وجل في سورة التوبة
                (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ( التوبة))

                صحيح الآيات في سياق الحديث عن المنافقين في أثناء تقسيم الصدقات
                لكن العبرة في القرآن

                قاعدة:
                العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

                الآية في آخر كلماتها
                (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ)
                وبداية الآية
                (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)
                أن أعيش الرضا أن أستشعر معنى الرضا عن قضاء الله سبحانه وتعالى وقدره هناك أحداث تمر بي كإنسان لا أملك حيالها شيئًا، لا أستطيع أن أغيّر مجرى الأحداث فيها، ليس لي فيها كسب. ما يتعلق بكسبي وعملي وأخذي بالأسباب هذا أمر لا غبار عليه ولكن لا ينبغي أن يتعارض مع حالة الرضا النفسي التي ينبغي أن تبقى في أعماق القلب مستقرة الرضا والتقبل لما يأتي به القضاء والقدر
                يكفينا الله سبحانه وتعالى.


                واستشعار المؤمن بكفاية الله عز وجل له يعني الوثوق بما سيأتي به الله سبحانه وتعالى الوثوق بوعده، الوثوق بعطائه، الشعور أن ما أنا فيه الآن من نعم، نعم الله سبحانه وتعالى تكفيني وتدفع بي نحو الأمل وتستمطر رحمة الله عز وجل وتستجلب ذلك الرضا. الرضا عن الله سبحانه وتعالى في قضائه وقدره من أعظم ما تستجلب به الرحمة، من أعظم ما تستجلب به المغفرة من أعظم ما يستجلب به التفريج عن الكروب ورفع الضر عن الإنسان.

                هذه المعاني العظيمة تأملوها ونحن نقرأ هذه الآية
                (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)
                تأملوا معي هنا (السين) في المستقبل القريب، تأملوا في ثقة الإنسان المؤمن لو أن هؤلاء المنافقين قالوا واستشعروا حالة الرضا التي ينبغي أن يكون عليها قلب المؤمن وهو مستقبل لما عند الله سبحانه وتعالى واثق يأن الله سيؤتيه من فضله، بأن الله سيعطيه أحسن، بأن الأيام القادمة ستكون أفضل.

                هذه النظرة التفاؤلية التي تصنعها في نفسي هذه الآية العظيمة وتأملوا في قوله
                (إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ)
                ولذلك في تفسير هذه الآية يقول بعض المفسرين من المعاصرين كذلك:
                لو أن العبد إذا أصابته ضائقة في رزق، في مرض، في همّ، نزل به غم من أكدار الحياة المعتادة قال
                (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ)
                فإن الله سبحانه وتعالى يكشف عنه ما قد نزل به من ضرّ.
                وعلى قدر يقين الإنسان وإيمان الإنسان وثقة المؤمن بعطاء الله ورحمته على قدر ما يعطيه الله سبحانه وتعالى، إحسان الظن بالله، استشعار تلك النظرة التي تحمل الأمل، تحمل الطمع والرغبة بما عنده سبحانه فالرب عز وجل خزائنه ملأى عطاياه لا تنفد عطاياه مستمرة علينا، نعمه سبحانه وتعالى تنزل علينا بالليل والنهار إن أخذ شيئًا فلربما أراد أن يعطينا ما هو أفضل ولربما أراد بحكمته سبحانه وتعالى أن يشعرنا بعظمة النعم التي نمتلك حتى يتجدد الإحساس بتلك النعم. بعض النعم حين يبدأ الإنسان يعتاد عليها وتصبح وكأنها شيء مألوف في حياته تفقد الطعم العجيب الذي يجعل فعلًا النعمة تُستقبل بالرضى، تُستقبل بالراحة، بالسعادة، بالحمد والشكر للمنعم الواهب سبحانه وتعالى. هذه النعم ربي سبحانه وتعالى يعالج عباده بين الحين والآخر يعالج عباده لكي يدعوهم إليه من جديد لتتجدد معاني الرضا والرحمة في قلوبهم وفي نفوسهم من جديد ولذلك في كل ما ينزل بنا من حوادث الدهر حكمة لله سبحانه وتعالى. هذه المعاني العظيمة إذا استشعرها المؤمن عاش حالة الرضا، عاش حالة الرضا غير المشروط، لأن رضاي عن الله سبحانه وتعالى رضاي عن قضائه وقدره لا ينبغي أن يكون مشروطا بالنعم فإن أخذ سبحانه لسبب أو لآخر وهو مالك الملك وهو الملك وأنا العبد وهو الرب الخالق الرزاق الوهاب المنعم وأنا عبد لا أملك لأمر نفسي من شيء، هذه المعاني إذا حدثت ينبغي أن يكون الرضى عن الله سبحانه وتعالى متواصل في الرخاء وفي الشدة، في المرض وفي الصحة، في إقبال الدنيا وفي إدبارها، في الأخذ وفي العطاء، هذه المعاني تتجدد معي وأنا أقول وأدعو الله سبحانه وتعالى بهذا الدعاء العظيم
                (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ)









              تعليق


              • رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني


                عن دار الفكر بدمشق صدرت سنة 1424هـ 2003م الطبعة الأولى من كتاب:
                “أثر العرف في فهم النصوص- قضايا المرأة أنموذجا” للكاتبة المتميزة رقية طه جابر العلواني، وهو كتاب من شأنه أن يضيف إلى المكتبة الإسلامية دراسة قيمة لا بد أن يكون لها قطوف دانية للباحثين في مجال الدراسات الإسلامية والبحوث المتعلقة بالمرأة على حد سواء.

                في هذا الكتاب سعت العلواني إلى الكشف عن أثر العرف في طريقة تناول المجتهدين لنصوص الأحكام ذات الصلة بالمرأة وعلاقته بالتأويلات من خلال تتبعها للظروف الاجتماعية والتاريخية التي وقع فيها التأويل والاجتهاد. فكان جهدها مباركا، قدمت فيه على مدى 327 صفحة عصارة بحث جِدّي، أخرجته في حلة جميلة وسبك رفيع عكس رفعة المحتوى وقوة الفكرة وسعة المضمون.

                فكرة الكتاب لا تخلو من جدة، ذلك أن وضع المرأة في العالم العربي والإسلامي محكوم بفهم الفقهاء للنصوص ونظرتهم التي لم تُهمِل عادات الناس وطبائعهم المختلفة طيلة عصور خلت كانت لها خصوصياتها السياسية والاجتماعية، وظروفها التي وجّهت الفتاوى والأحكام ذات الصلة بمسائل المرأة، مرة إلى الصواب وأخرى إلى الخطأ.
                وهذه الدراسة التي قدّمتها الدكتورة رقية العلواني تفيد في الرفع من مستوى التعاطي مع القضية النسائية، والانتقال ببحث وضع المرأة من التهافت والسطحية التي طبعت غالب الكتابات المعاصرة ذات الصلة، إلى العلمية اللازمة التي لا يمكن أن تتحقق بدون ربط النتائج بالمقدمات، ووضع صورة المرأة في السياقات التي تشكّلت فيها ملامحها، حتى صارت على النمطية التي هي عليها اليوم.

                إن الانحراف عن الصواب الذي صدر عن بعض الفقهاء عند استصدارهم الأحكام أمر لا يمكن تجاهله ولا تجاهل آثاره على وضعية المرأة، ومن تم لا مجال للقطع بقطعية هذه الأحكام عند الاستدلال قبل أن تُنظر في مظانها، وتُبحث العلل وكيف حُكّمت، والمناطات وكيف حُقّقت، وهذا لا يتأتى إلا لمن تدرّب في ميدان علم الأصول، وخبِر طرائق المجتهدين الفحول.
                والكاتبة أظهرت عن كفاءة وجرأة في سبر أصول الخلل في أقوال بعض المتقدمين، وأبانت عن قوة علمية فريدة في تصحيح بعض آرائهم المتعلقة بالمرأة، ومنهج دقيق في بلوغ المرام، فاستطاعت لفت القارئ إلى جوهر الإشكال في قضيتها، وقدّمت للمستفهم فصل المقال والجواب عن السؤال، وهي حين خاضت تجربتها هاته انطلقت مما لمسته من تعلق لكثير من الأحكام ذات الصلة بالمرأة بأحد أصول الفقه الذي بولغ في إعماله عند طلب الحكم الشرعي، حيث اعتبرت أن بعض الأحكام عكست بشكل واضح خضوع طائفة من الفقهاء لسلطان العرف، وأكّدت أن العرف لم يكن إلى جانب المرأة على الجملة، وذلك لما اعتراه من جور وإقصاء، كانت المرأة ضحيته وعلى مرماه.

                ثم إن الكاتبة كانت تعلم عُسر اختيارها وصعوبة ما هي مقبلة عليه، لما يحتاجه البحث من مقاربة تاريخية إلى جانب الدراسة الأصولية، وكانت ترى أن العلمية تقتضي معالجة الموضوع من خلال هذا المسلك، فهو سبيلها للبيان وسندها للاحتجاج والاستدلال على ما ذهبت إليه.


                مباحث الكتاب:

                لقد وُفِّقت المؤلفة فعلا في سعيها خلال الأبواب الأربعة التي ألفت موضوع الكتاب، والتي عرضتها كما يلي:

                1- الباب الأول، وخصصته للحديث عن العرف في الدراسات الأصولية والاجتماعية، وفيه سجّلت ضعف الاهتمام بدور العرف في فهم النصوص لدى الدارسين بشكل عام، وبالأخص أولئك المهتمين بموضوع المرأة.

                2- الباب الثاني، قدّمت له الكاتبة بتمهيد قبل التفصيل، فأفردته لتوصيف الحالة الاجتماعية والأعراف المتعلقة بالمرأة في العصور الإسلامية المختلفة، والتي حدّدتها في ستة عصور، جعلت لكل عصر منها فصلا خاصا، فبعدما قدّمت نظرة عامة عما جرت عليه عوائد الجاهلية في التعامل مع المرأة في الفصل الأول، تحدثت في الفصول الأخرى عن عصر الرسالة والتشريع، ثم العصر الراشدي، وبعده عصر الأئمة المجتهدين ومرحلة بروز المذاهب الفقهية، إلى أن أنهت المبحث بالحديث عن عصور التقليد المتأخرة، فكان تحليلها غاية في الدقة وآية في البيان، وكان لها المراد من تقريب الصورة التي تعبّر عن أحوال المرأة في تلك العصور.

                3- الباب الثالث، قدمت فيه الكاتبة نماذج من التراث الفقهي، سعت من خلالها إلى كشف بعض المجالات التي أثّر فيها العرف على توجيه الأحكام والأفهام وطرائق معالجة النصوص المتعلقة بقضايا المرأة، ولبلوغ الغاية المرسومة، قسمت العلواني هذا الباب إلى فصول ثلاثة، رتّبتها بما يُحقق التكامل بين المباحث ويُبلّغ المقصود، وقدّمت نماذج وأمثلة للتوضيح، كان أولها بسط القول في قضية ميراث المرأة في الإسلام، حيث جعلت هذه القضية عنوانا للفصل الأول، وصدّرته بتقديم لمحة عن نظام الميراث ومفهوم الإرث عند العرب قبل الإسلام، قبل أن تعرّج على الحديث عن فلسفة الميراث في الشريعة الإسلامية، ورتّبت على هذه المقدمات مبحثا كشفت فيه عن أثر الأعراف والظروف الزمانية في تأويل النصوص المتعلقة بميراث المرأة.
                أما في الفصل الثاني من هذا الباب، فدرست الكاتبة نموذج شهادة المرأة في الإسلام، حيث عرّفت مفهوم الشهادة وشروطها، ثم بيّنت أثر العرف في فهم النصوص الواردة في شهادة المرأة، وحين استقام لها الدليل وضّحت ما طرأ على الحكم المنصف الأصيل، وكيف أغفلته الأعراف فحكمت بذلك على نقصان المرأة ودونيتها، ولقد كان هذا التوضيح مَعْبرا مهّد لها السبيل في الفصل الثالث للحديث عن ولاية المرأة القضاء، وكعادتها سلكت منهجا علميا دقيقا لمقاربة هذا الموضوع، حيث قسّمته إلى مباحث ثلاثة: خصصت الأول لمفهوم ولاية القضاء، وخصّصت الثاني للبحث في حكم تولي القضاء، وبيّنت في المبحث الثالث أثر العرف والظروف الاجتماعية في طريقة طرح المجتهدين قديماً وحديثاً لمسألة قضاء المرأة.

                4-الباب الرابع، هذا الباب هو الأخير، اختارت فيه الكاتبة أن تضع معالم وضوابط تراها أساسية لفهم النصوص، وذلك من خلال تقسيمه إلى ثلاثة فصول، خصّصت أولها لتاريخ التأويل في الأديان، كان بمثابة توطئة وضعت خلالها القارئ في عمق الإشكال وقرّبته إلى جذوره، فأبرزت مراحل ظهور وتطور علم الهرمينطيقيا، قبل أن تعود للحديث عن إشكالية التأويل التي يرجع أصلها –حسب قولها- إلى قضية تحديد الصلة بين العقل والنقل، هذه الصلة التي عرفتها الأديان الثابتة بالوحي على وجه الخصوص.

                الكاتبة في هذا الفصل كانت تتجه بتحليلها لتعليق هذه الصلة بالأديان السابقة، وكانت كمن يوحي بتعلق هذا المنهج بنصوص سماوية أخرى لها أيضا ظروف وحيثيات، وهذا ما حاولت تفصيله في الفصل الثاني حين عرضت لإشكالية التأويل في الفكر الديني في الإسلام، حيث أكّدت صاحبة الكتاب على أن إشكالية التأويل في الفكر الديني في الإسلام تقوم أيضا على تحديد الصلة بين النقل والعقل، إلا أن المشكلة كون النظريات الغربية -بكل ما تحمله من جذور- نفذت إلى فلسفة التأويل في المجتمعات المسلمة، وسرى تأثيرها فيها، مما يحتم على المهتمين ضرورة وضع قانون للتأويل، يضبط حركته ويحدّد سيره، خاصة فيما يتعلق بقضايا المرأة في عصرنا الحاضر.

                وأما الفصل الثالث، فقد خصصته الدكتورة رقية العلواني للبحث في ضوابط مهمّة في فهم النصوص، ذكرت منها ثلاثة ضوابط. الضابط الأول: شهادة المركز أو المرجعية المركزية، إذ إن فهم النصوص وتأويلها عبر المراحل التاريخية المختلفة –تقول الكاتبة- جهد بشري تحكمه شهادة المركز وليس العكس، “وعلى هذا بدت الأحكام المتعلقة بالمرأة في مختلف العصور وكأنها خطاب ديني بحت فالأحكام في غالبها تُحال على النصوص من قرآن وسنة، للتدعيم والتثبيت وبهذا بدت تلك التأويلات والأفهام للنصوص على أنها الدين ذاته وإن خرج بعضها عن غائية الخطاب ونازعها” (ص 253). وقد ذكرت الكاتبة أن تحقيق ضابط شهادة المركز يتم من خلال فهم النصوص وفق قواعد اللغة العربية والاستعانة بعلم قواعد اللسانيات الحديث، ودلالة السياق، ورد المتشابه من النصوص إلى المحكم.

                أما الضابط الثاني، فيتمثل في مراعاة مقاصد النصوص وضبطها، إذ إن التوسع في الاجتهاد المقاصدي دون ضوابط منهجية وثوابت شرعية، يمكن أن يشكل منزلقا خطيرا، ينتهي إلى التحلل من أحكام الشرع أو تعطيلها باسم المصالح والمقاصد، وفي هذا الإطار نبّهت الكاتبة إلى أن استدعاء الضوابط والمعايير في التوجه المقاصدي يمكن أن يساهم في إحداث نقلة منهجية، يتم من خلالها التحول من مرحلة التأصيل والتركيز على أهمية المقاصد ودورها في الاجتهاد إلى مرحلة البناء وتكوين ضوابط القبول والرفض لأي تأويل أو جهد يروم استحضار النهج المقاصدي، وأكّدت بالمناسبة أن ضبط الفقه المقاصدي يتم عبر مراعاة ضبط مفهومَي التعبد والتعليل، والاهتمام بتقعيد المقاصد وتحديد الوسائل.

                أما الضابط الثالث فنبّهت فيه الكاتبة إلى ضرورة مراعاة ضبط موقع العقل من النص، وأكدت على أن الغلو وعدم الانضباط في إعطاء الحرية للعقل في الاجتهاد، يمكن أن يسوق إلى إهدار الرسم الثابت للدين، وإحلال شريعة عقلية خالصة محله.


                هذا وقد ختمت الدكتورة رقية طه جابر العلواني دراستها المتميزة بخاتمة ونتائج مهمة نسوق منها:

                – أهمية توظيف التحليل المقارن في الفكر الديني في الإسلام، والمساهمة في حل العديد من الإشكاليات الناجمة عن عدم الإفادة من عثرات الآخر، مع استحضار الضوابط والمعالم لأي مشروع اجتهادي.
                – أهمية احترام الموروث الفقهي والوقوف منه موقف التقدير للجهود الهائلة التي بذلها العلماء السابقون رحمهم الله، مع الإيمان بإنسانية تلك الجهود، وإمكانية جريان الصواب والخطأ عليها، فالعصمة والإطلاقية للنصوص المطلقة المفارقة للمكان والزمان.
                – أهمية آليات الفهم والتأويل للنصوص من خلال الإفادة مما توصل إليه العلم الحديث من منجزات وتقنيات مع استذكار نسبية التأويلات البشرية مهما علت منزلة أصحابها.
                – أهمية مراجعة وتصحيح المواقف الاجتهادية القائمة على منهجيات التبرير والتعليل، ومحاولة تجاوز تحديدات الفكر الغربي في قضايا المرأة على وجه الخصوص، وضرورة مراجعة طرائق التعامل مع قضاياه المطروحة، والتي باتت أقلام كثير من المفكرين المسلمين وقفاً عليها في العصور الراهنة، بالأخص تلك القضايا التي أنجبتها فلسفة عصر الحداثة السالفة.
                الكتاب لبنة مهمة من لبنات التأسيس السليم لفهم جديد للدين يناسب العصر ولا يبتعد عن جوهر الشريعة، فهو نبش فيما تهيّب منه الكثيرون ممن باشروا كتب التراث وظهر لهم فيه نظر مخالف، إلا أنه على خلاف بحوث أخرى لم يخرج عن ضوابط المعرفة كما أقرّها العلماء وقواعد الاستنباط كما سار عليها الفقهاء، كما أن الكتاب وضع حجرة في أساس منهج التجديد وقواعد الإصلاح، وأرسى ركيزة مهمة من شأنها أن تدعم الطرح السوي لقضية المرأة في الإسلام، إذ لا بد لبناء الفكر الإسلامي ولتأسيس وعي جديد بالمسألة النسائية من حملة مستنيرين علماء يرفعون القواعد ليشهدوا التصور الإسلامي نقيا كما شهدوه أول مرة.
                والله المستعان وهو يهدي السبيل.


                مونية الطراز

                الرابطة المحمدية للعلماء

                تعليق


                • رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

                  تمهيد:


                  اضطلع الفقه الإسلامي بدور بارز في سبيل إيصال الحقوق إلى أصحابها، وضمان تحقيق العدالة في المجتمع، التي اعتبرها الشارع مقصداً من مقاصده الهامة وغاياته الكبرى. وعلى هذا أنشأ مؤسسة القضاء، وأرسى قواعدها المحققة لتلك الغايات المستمدة من نصوص الكتاب والسنة. قال تعالى: ‹وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ› (سورة النساء، الآية: 58)، وقال في موضع آخر: ‹إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى› (سورة النحل، الآية: 90)(1).
                  وتعد وسيلة الشهادة واحدة من أهم الوسائل الموظفة لتحقيق غرض إيصال الحقوق إلى أصحابها. وعلى هذا اهتم العلماء في القديم والحديث، بالبحث في شروط الشهادة والشهود ومن ذلك جنس الشاهد.
                  وقد احتل هذا الشرط قطباً ومحوراً هاماً من محاور الحوار في دوائر الفكر الإسلامي، خاصة في العصر الراهن، حتى أصبح حديث الساعة في قضايا المرأة وحقوقها وحرياتها في أحكام الشريعة الإسلاميّة.




                  أثر العرف في فهم النصوص الواردة في شهادة المرأة:


                  وردت لفظة الشهادة في معناها الاصطلاحي في القرآن الكريم في مواضع متعددة، منها قوله تعالى: ‹وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ› (سورة البقرة، الآية: 283) وقوله تعالى: ‹وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ› (سورة البقرة، الآية: 282)، وقوله تعالى: ‹وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ› (سورة البقرة، الآية: 282)، وقال تعالى في الآية المعروفة بآية الدين: ‹وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى› (سورة البقرة، الآية: 282).
                  والمتأمل في النصوص الواردة في القرآن الكريم حول الشهادة، وكذا في السنة النبويّة، يلحظ أنها لم تفرق بين شهادة المرأة أو الرجل إلا ما جاء في آية الدين. قال تعالى: ‹يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى› (سورة البقرة، الآية: 282).
                  وهنا تباينت آراء العلماء في تأويل هذا النص، وطريقة استنباطهم من الأحكام منه، ولم تخل تلك التوجهات من ملامح التأثر بالأعراف والنظرات المتزامنة لتلك التأويلات والاجتهادات.



                  ويبرز هنا دور الظرفيّة الاجتماعيّة، والبيئة التي يعيش فيها المجتهد أو الكاتب؛ وأثرها في طريقة طرحه وعرضه، وتناوله للمسائل المختلفة. فقد انبرت العديد من الأقلام المسلمة المعاصرة إلى الانسياق في أدبيات الدفاع والتبرير أو الانكفاء على الذات، والانغلاق على الاجتهادات المأثورة، بغية الحفاظ على الهوية الإسلاميّة المهددة، أو الذوبان في الآخر الخارجي، والترديد لما يفرضه من مقولات وادعاءات قائمة على دعوى المساواة.
                  وعلى هذا احتلت مسألة شهادة المرأة مكانة واسعة في أدبيات الفكر الإسلامي في الآونة الأخيرة، بناءً على التأثر الحاصل بالبيئة والأعراف الاجتماعية المقارنة لها.
                  ولا تروم الدراسة في هذا المجال، خوض غمار التبرير والتعليل وإسقاطات التلفيق والتقريب، والموازنة والترجيح بين الآراء المختلفة، بقدر ما تروم التوصل إلى بيان كيفية تأثير العرف والظروف الاجتماعيّة في فهم المجتهدين، للنصوص الواردة في المسألة، وتعليلهم لها عند ترجيحهم لهذا الرأي أو ذاك.
                  فذهب العلماء في مسألة شهادة المرأة في الحدود والقصاص إلى اتجاهين: الأول يقول بجواز شهادتها فيهما قياساً على جواز شهادتها في الأموال، والثاني ذهب إلى عدم جواز شهادتها في الحدود والقصاص، بناءً على رأيهم في نقص شهادة المرأة على وجه العموم لارتباط ذلك عندهم بنقص دينها وعقلها.



                  واعتبر أصحاب الاتجاه الأخير أنّ شهادة المرأة حالة استثنائيّة لا تثبت إلا في مورد النص، وطالما أنّ النص لم يرد بجواز شهادتها إلا في حالة الأموال وما يقصد بها، فلا تقبل شهادة المرأة إلا في الأموال للنص عليها بآية الدين. حيث قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى» (سورة البقرة، الآية: 282).


                  وذهب العلماء بناءً على ورود النص، إلى جواز شهادة النساء في الأموال، كالبيع والإجارة ونحوهما إلا أنهم اختلفوا في قبول شهادتين منفردات، فمنع ذلك الجمهور.


                  وقد تباينت أقوال العلماء في تأويل آية الدين تبايناً هائلاً، كما اختلفوا في تعليل سبب تنصيف شهادة المرأة في الأموال، أو ما يقصد به المال. فذهب الجمع الأغلب منهم إلى أن مردّ تنصيف شهادتها دليل واضح على نقصان عقلها عن الرجل بإطلاق.
                  وأيدوا هذا الرأي بالحديث الوارد ذكره آنفاً: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن، قلن: وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟، قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟، قلن: بلى يا رسول الله، قال: فذلك من نقصان دينها"(2).
                  لقد ذهب عدد من المجتهدين في تأويلهم للنص، على أنه جاء ليؤكد حقيقة ثابتة مطردة ألا وهي نقصان عقل المرأة ودينها. وعلى هذا ابتنى العديد منهم جملة من الأحكام والفتاوى على هذا الاعتبار المطلق، ومن ذلك ما ذكره البكري في حاشية إعانة الطالبين حيث يقول:
                  ".. ربما تكذب –أي المرأة- في انقضاء العدة إذا تحققت من رغبته فيها لما عهد على النساء من قلة الديانة وتضييع الأمانة، فإنهن ناقصات عقل ودين"(3).
                  وهكذا أصبح الحديث الشريف لدى البعض، دليلاً قطعيّاً على شيوع مختلف السلوكيّات البعيدة عن تعاليم الشرع بين النساء بما فيها قلة الديانة وتضييع الأمانة.
                  وعلّل العلماء نقصان الشهادة وتنصيفها في الآية بما يعتري المرأة من ضلال أي نسيان. والنسيان حالة تصيب العقل تمنعه من تذكر الشيء وقت الحاجة إليه، فهو ترك الإنسان ضبط ما استودع، إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة، أو عن قصد حتى ينحذف عن القلب ذكره بعض علماء الأصول، والنسيان عند الأطباء نقصان أو بطلان لقوة الذكاء(4). فالضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء، والعلة في الحقيقة في اشتراط وجود امرأتين هي التذكير، ولكن الضلال لما كان سبباً له نزل منزلته. فالمعنى إن ضلّت هذه، ذكرتها هذه، وإن ضلّت هذه، ذكرتها هذه لا على التعيين(5).



                  والمتأمل في تأويلات العلماء السابقين رحمهم الله للتصنيف الوارد في الآية الكريمة، يلحظ تأكيدهم على تعليل ذلك، وتأويله بنقصان عقل المرأة ونسيانها، وقلة ضبطها وغفلتها(6). وحرصهم على تنزيل النص النبوي، وتبيان إفادة الصدق في الخبر بأن النساء ناقصات عقل ودين، من خلال القول بتخصيص طبيعة النساء بالغفلة والذهول، ونقصان العقل(7)، وبالتالي نقصان أهليتها لأداء الشهادة بمفردها.


                  وواقع الأمر أنّ الإنسان -رجلاً كان أو امرأة- لا تصح تصرفاته في نظر الشرع والقانون إلا باتصافه بصفات تجعله أهلاً لقبول الأحكام الشرعيّة وتحمل المسؤوليات والآثار المترتبة على تصرفاته، وهذا ما يعبر عنه العلماء بالأهلية. فالأهلية صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له أو عليه. والأهلية بهذا المعنى نوعان: أهلية وجوب، وأهلية أداء(8).
                  فأهلية الوجوب هي صلاحية الإنسان لأن تثبت حقوق له أو عليه، سواء أكان صبياً أو بالغاً عاقلاً أو مجنوناً، والحياة مناط هذه الأهلية التي تبدأ بالولادة وتنتهي بالموت. وهذه على نوعين: أهلية ناقصة تجعل صاحبها أهلاً لثبوت الحق له، لا عليه كما في أهلية الجنين تثبت له الحقوق التي تنفعه وتنتفي عنه الحقوق التي تضره. أما أهلية الوجوب الكاملة، فهي حقوق الإنسان وواجباته، فيصبح الإنسان الذي اكتملت أهلية وجوبه أهلاً لثبوت الحق له أو عليه، وتثبت للشخص بميلاده إلى موته.



                  أما أهلية الأداء فهي أهلية التصرفات، وبها يكون الشخص أهلاً لاكتساب حقوق بتصرفاته القولية، وإنشاء حقوق لغيره بتصرفاته. ومناط هذه الأهلية العقل والإدراك. وهي على نوعين: أهلية أداء قاصرة: تصح من صاحبها بعض التصرفات دون بعض كما في حالة الصبي المميز، فتصح منه التصرفات النافعة له نفعاً محضاً، ويتوقف الاعتداد ببعض تصرفاته على رأي من هو أكمل منه عقلاً. وأهلية أداء كاملة، وهي صلاحية الإنسان لصدور التصرفات منه على وجه الاعتداد بها شرعاً، وعدم توقفها على رأي غيره، وهي مناط التكليف الشرعي(9). بيد أنّ هذه الأهلية الثابتة للإنسان يعتريها عوامل وعوارض تؤثر في الأحكام المتعلقة بها سواء بالتغيير أو الانعدام، والعوارض منها ما هو كسبي اختياري، ومنها ما هو حتمي سماوي.
                  ونقص العقل الفطري من عوارض الأهلية، وهو على درجات منها، الجنون المطبق وأقوال المجنون وتصرفاته مهدرة بناءً على ذلك. ومنها الجنون الوقتي فحكمه حكم العاقل وقت إفاقته، وحكم المجنون وقت جنونه.
                  ومنها العته، وهو اختلاط القول والفعل، وحكم المعتوه حكم الصبي المميز. والمتأمل في هذا النقص الفطري، يجد أنّ المرأة لا تدخل فيه، فقد جاز في حقها التكليف والمسؤولية وأهلية التحمل ونحو ذلك(10)، فلو أنّ المرأة كانت ناقصة عقل من هذا القبيل أي النقص الفطري لما كُلفت أصلاً بما يكلف به العقلاء!



                  ومن أنواع النقص الفطري المحتملة، النقص في معدل الذكاء فهو نقص فطري عام. وهناك نقص فطري نوعي في بعض القدرات العقلية الخاصة، كالاستدلال الحسابي والتخيل والإدراك ونحو ذلك. كما أن هناك النقص العرضي النوعي، وهذا يطرأ على المرأة لعارض كفترات الحيض والنفاس التي تطرأ عليها في أثنائها جملة تغيرات هرمونية وعصبية، تختلف تأثيراتها من امرأة لأخرى قوة وضعفاً(11)، وهذه العوارض لا تنافي أهلية الوجوب ولا الأداء(12).
                  وثمة نوع آخر من النقص النوعي العرضي الطارئ على بعض النساء لظروف بيئيّة، وأساليب معيشيّة معينة، كعزلة المرأة عن المجتمع، وضعف أو عدم مشاركتها في مجالات الحياة المختلفة، ونحو ذلك من عوامل يصعب حصرها(13).
                  وإذا تأملنا في عبارات العلماء السابقين من خلال طرحهم، وتبريرهم لمسألة نقص العقل لدى المرأة، يتضح لنا أنّ المراد بالنقص عندهم النقص النوعي الفطري، الذي يتفاوت فيه الناس عادة، أو العرضي لأسباب عضوية أو اجتماعيّة وثقافيّة ونفسيّة، حسب الأحوال والظروف التي تعيشها المرأة ذاتها.



                  يشهد لذلك رأي الإمام الشافعي في هذا النوع من النقص، حيث يقول في سياق تأويل مسألة شهادتها:
                  "مذهب الشافعي أنّ شهادة النساء شهادة ضروريّة غير أصليّة، واحتج بأمرين:
                  أحدهما أنّ الشهادة ولاية دينيّة وأمانة شرعيّة، لا تنال إلا بكمال الحال لما فيها من تنفيذ قول الغير على الغير، وتنزيل قول المعصوم في إفادة الصدق في الخبر النساء ناقصات عقل ودين، ولهذا لم تقبل شهادتين في كثير من القضايا، لما خصصن به من الغفلة والذهول ونقصان العقل وحيث قبلت أقيمت شهادة اثنتين مقام رجل واحد.
                  الثاني أن الشهادة تقام في منصب القضاء على رؤوس الأشهاد، ويتصل الأمر فيها بالتزكيّة والتعديل، والبحث عن البواطن، وذلك نهاية في التبرج والتكشف المنافي لحالهن، فأصل قبول الشهادة من النساء مشكل، فإنّ النقص الذي يمنع قبول الشهادة في موضع يجب في حكم القيام أن يمنع في كل موضع كالرق، فكان أصل قبول الشهادة من النساء خارجاً عن القياس، وما هذا شأنه يجب الاقتصار فيه على مورد النص، والنص لم يرد إلا في المال وما يقصد به المال من بيع أو رهن وما في معناهما"(14).



                  وقد أكد ابن نجيم الحنفي رحمه الله في (البحر الرائق) على أن هذا النوع من النقص بقوله:
                  "فلا نقصان في عقلهن فيما هو مناط التكليف، فللنفس الإنسانية أربع مراتب:
                  الأولى: استعداد العقل، وهو حاصل لجميع أفراد الإنسان من مبدأ فطرتهم.
                  والثانية: أن يحصل البديهيات باستعمال الحواس في الجزئيات، فتتهيأ لاكتساب الفكريات، ويسمى العقل بالملكة وهو مناط التكليف.
                  والثالثة: أن تحصل النظريات المفروغ عنها متى شاء من غير افتقار إلى اكتساب بالفكرة، ويسمى العقل بالفعل.
                  والرابعة: هو أن يستحضرها ويلتفت إليها مشاهدة، ويسمى العقل المستفاد، وليس فيما هو مناط التكليف منها، وهو العقل بالملكة، ففيهن نقصان بمشاهدة حالهن في تحصيل البديهيات، باستعمال الحواس في الجزئيات، وبالنسبة إن ثبتت، فإنه لو كان في ذلك نقصان، لكان تكليفهن دون تكليف الرجال في الأركان وليس كذلك، فالمراد بنقص العقل في الحديث، العقل بالفعل، ولذلك لم يصلحن للولاية"(15).
                  وعبارة ابن نجيم رحمه الله فيها إشارة إلى أن النقص الواقع في عموم النساء (بمشاهدة حالهن) فهو لا يتعلق بأمر فطري بقدر ما يتعلق بأمور عارضة لهن، قد يتضح بعضها وقد لا يتضح. بيد أنّ وجود هذا النقص العرضي بين عامة النساء، لا يلغي وجود البعض ممن وهبهن الله سبحانه قدرات عالية ارتضين بها على عامة النساء.



                  وفي تلك الأقوال إشارة صريحة إلى طبيعة الظروف الاجتماعيّة التي كانت تحياها المرأة من الغفلة والذهول. وهو وضع يتلاءم مع ما كشفت الدراسة عنه في باب الأعراف والأوضاع الاجتماعيّة المتعلقة بالمرأة في تلك العصور. فالمرأة في تلك الأثناء غلي عليها البعد عن المجتمع، نظراً للظروف الاجتماعيّة والسياسيّة التي أشرنا إليها، فكان من الطبيعي أن تكون بعيدة عن هموم المجتمع وملابسات ظروفه المختلفة. فتأويلات العلماء في تلك العصور وفهمهم للنصوص بما فيها النص على الشهادة، يتوافق تماماً مع واقع تلك الاجتهادات وظرفيتها الاجتماعيّة والعرفيّة.


                  بيد أنّ نقصان عقل المرأة المشار إليه في الحديث الصحيح هو من القضايا المتشابهة، أي التي لم يرد النص بتحديد المراد بها على سبيل القطع، كما هو الحال في الآيات والنصوص المحكمة. وعلى هذا فسبيل تأويله والوصول إلى معرفة المراد منه، تتأتى بالنظر والتأمل النسبي الذي يقوم به أهل العلم، كلّ في مجاله. ويمكن الاستعانة في فهمه بالأطباء والباحثين في المجالات الخاصة به، لتتكشف لهذا الجيل وغيره، حقائق لم تظهر لغيره من أجيال سابقة. فالفهم والتأويل على يوصل إلى معرفة الغامض والمجهول على مرّ الأجيال والعصور، وتطور المعارف وتقدمها(16).
                  ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق أنّ النص القرآني يحمل في ذاته الردّ على أن مسألة النقص والنسيان في عقل المرأة ليست من باب ما فطرت عليه وجبلت عليه طبيعتها. حيث يقول تعالى: «أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى» فلو كان الضلال أي النسيان ملازماً لكل النساء، لما جاء النص بقول إحداهما، ولكان لا معنى لوجود امرأتين أو عشرة لأن النسيان طبيعة غالبة عليهن بالفطرة.
                  والشارع الحكيم حين أمر بالتصنيف، قد يكون من باب حصانة الشاهد. بمعنى حمايته من احتمالات التعرض له ولأسرته من قبل المتهم أو المدعي عليهم، وحمايته من إلحاق الضرر به على أي شكل. وهذا ما يعرف بالامتيازات Privileges التی تعطي الحق للشاهد في بعض الأحیان، الامتناع عن أداء الشهادة کلیاً، وهذا ما تعرفه مختلف الأنظمة القانونیة حتى الغربيّة منها(17). فتنصيف شهادتها في الأموال والقول بعدم جواز شهادتها في الحدود، قد يكون من باب الحصانة لها، والامتياز الممنوع لها ولأسرتها، فلماذا يتم طرحه اليوم على اعتباره محض إهدار لكرامتها وحقوقها!!.
                  فالشاهد -رجلاً كان أو امرأة- يخيّر في الحدود بين الستر والإظهار، لأنه بين حسبتين إقامة الحدّ والتوقي عن الهتك، والستر أفضل، لقوله عليه الصلاة والسلام للذي شهد عنده: "ولو سترته بثوبك لكان خيراً لك مما صنعت"(18). وقوله تعالى: «وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ»(سورة البقرة، الآية: 283)، محمولة على الشهادة في حقوق العباد بدليل سياق الآية، فإن الستر والكتمان إنما يحرم لخوف فوت حق المدعي المحتاج إلى إحياء حقه من الأموال، وذلك في حق العباد. أما الحدود فحق الله تعالى، وهو موصوف بالغنى والكرم، وليس فيه خوف فوت حقه، فجاز لذلك أن يختار الشاهد جانب الستر(19).
                  والمتتبع للنصوص الواردة في الحدود والشهادات عليها، يلحظ نزع الشريعة إلى ترسيخ مبدأ الستر على الناس، وعدم إشاعة الحديث في الفواحش والمعاصي. فإعفاء المرأة من الشهادة في هذا المجال يمكن اعتباره من الامتيازات التي يحظى بها بعض الأشخاص، كالتي تمنح لبعض الأفراد في القوانين الوضعيّة المتعارف عليها حديثاً لاعتبارات تتعلق غالباً بحماية الشاهد وحصانته.



                  وقد ذهب بعض العلماء من أمثال ابن قيم الجوزيّة رحمه الله إلى القول بجواز شهادتها في الحدود والقصاص، إلّا حد الزنا، على اعتبار عدم جواز نظرها إلى ذلك(20). إلا أنّ أئمة المذاهب الأربعة لم يفرقوا بين حدّ الزنا وغيره، فلا تجوز شهادة المرأة في كافة الحدود والقصاص(21). هو رأي يتلاءم مع فلسفة العقوبة في الإسلام، ومبدأ حصانة الشاهد ومقصد الستر في الشريعة الإسلاميّة.


                  فالحديث المهول عن تنصيف شهادة المرأة في المجتمعات المسلمة، لا يرجع الاهتمام به إلى النص ذاته، بقدر ما أثير حوله من تأويلات وأقوال، قد تمّ طرحها في العصور الحديثة في سياق اجتماعي وثقافي داعٍ إلى تعميم فكر المساواة بين الرجل والمرأة على كافة الأصعدة.
                  فقد رأت بعض الأقلام المعاصرة في النصوص الشرعيّة الخاصة بالشهادة، مناهضة صريحة للمساواة بين الرجل والمرأة التي باتت تياراً وظرفاً اجتماعيّاً سائداً يصعب التغافل عنه. وازدادت حدة النقاش حول هذه القضية في الآونة الأخيرة، كما تزايدت ردود الفعل المختلفة حولها بناءً على تزايد شدة التيارات والظروف الاجتماعيّة المعاصرة الداعية إلى المساواة بين الرجل والمرأة في كافة المجالات ومنها شهادة المرأة.
                  وحاول بعض المستشرقين وغيرهم عرض المسألة على الفكر الإسلامي، وكأنها دليل على إهدار الإسلام لكرامة المرأة وآدميتها"، وصورة واضحة للتمييز والتفرقة بين الرجل والمرأة في الشريعة الإسلاميّة.
                  فذهبت تلك الأقلام إلى محاولة حسر أبعاد النصوص الشرعيّة، ومن ثمّ القول بتاريخيتها ومحدوديتها في بيئة التنزيل والخطاب، وتناولت تلك الدراسات قضية الشهادة وغيرها من قضايا تتعلق بالمرأة من خلال تلك النظرة التاريخيّة المحددة للنصوص.
                  فالشهادة حكم عام لا ينطبق على الخصوص. قد تميل شهادة الرجل أكثر مما تميل شهادة المرأة، فكلاهما بشر. وقد تصدق شهادة المرأة الشجاعة أكثر مما تصدق شهادة الرجل الخائف الوجل، وقد ارتبط ذلك بوضع المرأة في المجتمع العربي القديم، الذي كانت توأد فيه البنت. كانت المرأة فيه حرمة، فجعلها نصف شاهدة خطوة على طريق شهادتها الكاملة(22).
                  وهنا دخل الفكر الإسلامي –في هذه المسألة على وجه الخصوص- في دائرة الدفاع والتبرير، وتمّ النظر إلى حكم تنصيف الشهادة، باعتباره اتهاماً لتعاليم الشرع وأحكامه.
                  ولعبت الأعراف والظروف الاجتماعيّة دورها في إقحام تلك الأقلام للانسياق وراء تبريرات وتأويلات مختلفة، فقد طُرحت مسألة الشهادة على دوائر الفكر الديني في الإسلام، باعتبارها دليلاً واضحاً على امتهان النصوص الشرعية للمرأة وانتقاص حقوقها، ومزاحمة أهليتها وكفاءتها. ولم تخرج آراء المعاصرين عن واحد من اتجاهين:
                  اتجاه يؤكّد تغيّر وضع المرأة وظرفيّة النص باعتبار تصريحه ودلالته على عليّة التنصيف، ومن ثمّ القول بإمكانيّة وقوع المساواة في الشهادة، فقد أثبتت المرأة تقدمها العلمي والثقافي، الذي لا بدّ أن يؤخذ بعين الاعتبار في أثناء تطبيق الحكم بالتنصيف(23).
                  فذهبوا إلى القول بجواز شهادتها مطلقاً في الحدود والقصاص، وعلّلوا اجتهادات العلماء السابقين القائلين بعدم الجواز بوضعية المرأة في المجتمع آنذاك، وضآلة معرفتها بالأمور، ومن ثمّ الخروج بأن تلك الآراء للسابقين رحمهم الله، لا تستند إلى دليل أو نص شرعي صريح يؤيدها، فوضعيّة المرأة اليوم تختلف تمامً عن وضعيتها في عصورهم وبيئاتهم(24).
                  فطرح المسألة لدى أصحاب هذا الاتجاه، راجع للتغير الكبير في وضع المرأة الاجتماعي والثقافي والاقتصادي في المقام الأول. وأيدوا اتجاههم هذا بالقول بأن النص لم يرد بالتنصيف إلا في آية الدين الخاصة بالشهادة في الأموال، وعليه فلا يتم سحب الدليل على ما عداه(25).
                  واتجاه رأى أنّ الخير في التمسك بما ذهب إليه جمهور العلماء السابقين رحمهم الله مطلقاً، وانبرى أصحاب هذا الاتجاه للتبرير والتعليل، وكانت السمة الغالبة على أطروحاتهم التركيز على نقصان المرأة وعدم كفاءتها، وقدرتها على الإدلاء بتفاصيل الشهادة بدقة ووضوح، ومحاولة الإفادة من مختلف الأدلة للتأكيد على نقصان عقل المرأة(26).




                  والمتأمل في هذه الاتجاهات على اختلافها، يلحظ غياب رجوع المجتهد المعاصر إلى النص ذاته، ومحاولة إدارة دفة الحوار معه، بعيداً عن سلبيات التقليد المطلق، والجري وراء فتنة روح العصر وتيارات التغير الهائلة. فالنصوص جاءت لتكون حاكمة على الأعراف المختلفة والظروف المتباينة للأمم والمجتمعات، وليس العكس. وما يجري من تغير في المجتمع، لا ينبغي له أن يحيد بالمجتهد، عن طريق الموضوعية والحيدة في تناول النص، لتبقى للنصوص حاكميتها كما تبقى للأعراف نسبيتها.


                  الهوامش:
                  1- راجع النصوص الآمرة بالعدل على سبيل المثال: القرآن الكريم، سور [الشورى، الآية: 15]، [النساء، الآية: 135]، [المائدة، الآية: 8]، [الأنعام، الآية: 152]، [الحجرات، الآية: 9]
                  2- رواه البخاري في صحيحه: 1/ 116. أخرجه مسلم، انظره في: شرح النووي 2/ 66. ابن ماجه 2/ 1326. سنن أبي داود 4/ 219. أحمد بن حنبل، (مسند أحمد) 2/ 66، 862، المطبعة الميمنيّة، مصر، بلا تاريخ. انظر في تفسير الآية على هذا النحو: ابن كثير، مرجع سابق، 1/ 336. الشيرازي، (المهذب)، مرجع سابق، 2/ 334.
                  3- انظر: البكري، مرجع سابق، 3/ 268.
                  4- المناوي، مرجع سابق، 2/ 69.
                  5- ابن الجوزي، (زاد المسير)، مرجع سابق، 6/ 119. محمد بن علي الشوكاني، (فتح القدير)، مرجع سابق، 1/ 302، دار الفكر، بيروت، بلا تاريخ.
                  6- لا تروم الدراسة –كما أوضحت في منهجها- التفصيل في آراء العلماء في القول بهذا الحكم أو ذاك، بقدر ما تروم الوقوف عند تأويلاته للنصوص، تلك التأويلات التي تعكس كيفية فهمهم للنص وتأويلهم له من خلال التصورات السائدة حول المرأة ووضعها في المجتمع بشكل عام.
                  7- راجع ما نقله الزنجاني رحمه الله عن مذهب الشافعي، مرجع سابق، 267.
                  8- الجرجاني، مرجع سابق، 2/ 58. وانظر المناوي، مرجع سابق، 2/ 104.
                  9- أنظر في ذلك: محمد كمال الدين إمام، (مقدمة لدراسة الفقه الإسلامي) 339 وما بعدها، المؤسسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1416هـ/ 1996م.
                  10- علي حسب الله، (أصول التشريع الإسلامي) 403 وما بعدها، دار الفكر العربي، الكويت، ط6، 1982م.
                  11- Britanica Cd, Menstrual Period.
                  12- علي حسب الله، المرجع السابق، 408، ومحمد كمال الدين إمام، مرجع سابق، 346.
                  13- أنظر في ذلك: عبد الحليم أبو شقة، مرجع سابق، 1/ 275 وما بعدها. وقد تنبه العديد من المعاصرين إلى هذا المعنى والتمييز الدقيق للنقص أسوة بما كتبه الأستاذ علي حسب الله، والأستاذ أبو شقة رحمه الله، ومنهم على سبيل المثال: هبة رؤوف، مرجع سابق، 102.
                  عارف علي عارف، (تولي المرأة منصب القضاء بين تراثنا الفقهي والواقع المعاصر) 41 وما بعدها، دار الفجر، ماليزيا، 1420هـ/ 1999م.
                  14- محمود بن أحمد الزنجاني، (تخريج الفروع على الأصول) 266، ت: محمد أديب صالح، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1398هـ. قد نقل صاحب الهداية هذا القول عن الشافعي حيث يقول: "وقال الشافعي لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إلا في الأموال وتوابعها، لأن الأصل فيها عدم القبول لنقصان العقل، واختلال الضبط، وقصور الولاية، فإنها لا تصلح للإمارة ولهذا لا تقبل في الحدود ولا تقبل شهادة الأربع منهن وحدهن، إلا أنها قبلت في الأموال ضرورة، والنكاح أعظم خطراً وأقل وقوعاً فلا يلحق بما هو أدنى خطراً وأكثر وجوداً". انظر: أبو الحسين علي بن أبي بكر المرغياني (593هـ)، (الهداية شرح بداية المبتدي) 3/ 117، المكتبة الإسلاميّة، بيروت. وذهب بعض العلماء إلى القول بردّ شهادة النساء منفردات إلى عدم مشروعية كثرة خروجهن. انظر: ابن نجيم، (البحر الرائق)، مرجع سابق، 7/ 62.
                  15- ابن نجيم، (البحر الرائق)، مرجع سابق، 7/ 62.
                  16- أنظر أحمد الكبيسي، 1997م، (نحو منهجيّة جديدة في فهم القرآن الكريم) 10 وما بعدها، الجامعة الإسلاميّة العالميّة، ماليزيا، غير منشور.
                  17- Britanica Cd, Witnesses.
                  18- راجعه في: ابن حجر، (فتح الباري)، مرجع سابق، 12/ 125. النووي، (شرح صحيح مسلم)، مرجع سابق، 11/ 197. البيهقي، مرجع سابق، 8/ 331. أبو داود، (سنن أبي داود)، باب الستر على أهل الحدود، 4/ 134. الحاكم النيسابوري، مرجع سابق، 4/ 403. النسائي، (السنن الكبرى)، مرجع سابق، باب الستر على الزاني، 4/ 305. ابن أبي شيبة، مرجع سابق، 5/ 540. ويقول السرخسي رحمه الله: "القاضي مندوب إلى الاحتيال لدرء الحد، كما قال: (ادرؤوا الحدود بالشبهات". السرخسي، (المبسوط) 9/ 38، دار المعرفة، بيروت، 1406هـ. فإن صحّ ذلك في حق القاضي الذي رفعت إليه الدعوى، فهو في حق الشاهد أولى وأعظم.
                  19- القونوي، قاسم بن عبدالله، (أنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء) 2/ 236، تحقيق: أحمد بن عبدالرزاق الكبيسي، دار الوفاء، جدة، 1406هـ.
                  20- ابن قيم الجوزيّة، (الطرق الحكميّة)، مرجع سابق، 224. ونقل الماوردي عن الحسن البصري رحمه الله إجازته شهادتها في الزنا كذلك. الماوردي، (الحاوي الكبير) 13/ 226، دار الكتب العلميّة، بيروت.
                  21- تناقل العلماء الاتفاق على اشتراط الذكورة في الشهادة على الزنا وكذا غيره من الحدود، انظر: ابن قدامة، (المغني) 10/ 156، مرجع سابق. وفيه دلالة ظاهرة على أفضلية الستر وإن إدراك هذا الفهم للشهادة في حدّ الزنا، واستحضار مواقف النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته من بعده في البعد بالمجتمع وأفراده عن الخوض في مثل تلك الأمور، بل ومحاولة صرف المتهم حتى بعد إقراره على نفسه بالزنا، يمكن أن يساهم في إعطاء صورة متكاملة واضحة لموقف العلماء من شهادة المرأة على هذه الجريمة، وبالتالي لا يمكن القول بأن قبول شهادة المرأة على جريمة كهذه هو نوع من الامتياز والحظوة لها، فالمسألة لا تتعلق بضلال المرأة ونقصانها، كما فسره الأغلبية من العلماء بقدر ما تتعلق بفلسفة العقوبة في الإسلام في هذه الجريمة على وجه الخصوص.
                  22- حسن حنفي، (ثنائية الجنس أم ثنائية الفكر)، مرجع سابق، 40.
                  23- انظر فيمن قال بمساواة المرأة للرجل في الشهادة، بناءً على تغير أوضاع المرأة والبيئة التي نزل فيها الخطاب: حنان اللحام، (تأملات في منزلة المرأة في القرآن الكريم) 90 وما بعدها، مطبعة الكواكب، دمشق، 1416هـ/ 1996م.
                  24- محمد عطا السيد، (الحدود) 147 وما بعدها، Eagle Trading، ماليزيا. وانظر في الرد على ما ذكره في الجرائم التي يمكن وقوعها في داخليات البنات، ولا تقبل شهادتين عليها: علي بن سليمان المرداوي (885هـ)، (الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل) 12/ 41، تحقيق: محمد الفقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بلا تاريخ.
                  25- من أمثلة هذه الدراسات: السيد، المرجع السابق، الصفحات نفسها. هبة رؤوف. مرجع سابق، 103.
                  26- من الأمثلة على تلك الدراسات: شهادة هابيل البرشاوي، (الشهادة الزور من الناحيتين القانونيّة والعلميّة) 404 وما بعدها في شهادة المرأة، دار الفكر العربي، مصر، 1982م. محمد سلامة جبر، (هل هن ناقصات عقل ودين؟)، دار السلام، مصر، بلا تاريخ. وستقف الدراسة على مفهوم النقص في الصفحات اللاحقة بإذن الله.




                  د. رقية طه جابر العلواني:

                  أثر العرف في فهم النصوص (قضايا المرأة نموذجاً)،
                  دار الفكر، ط1، سوريا، دمشق



                  تعليق

                  جاري التحميل ..
                  X