إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #31
    رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة



    نكمل ما كنا بدأناه من تفسير قوله تعالى ((إياك نعبد وإياك نستعين))، فنقول:
    3 - استعمال الفعل المضارع:
    استعمال الفعل المضارع في الموطنين ((نَعْبُد))، و((نَسْتَعِينُ)) يفيد استحضار الصورة، وكذلك الاستمرار والدوام.
    4- استعمال صيغة الجمع ((نَعْبُد))، و((نَسْتَعِينُ)):
    النُّون في قوله تعالى: ((نَعْبُدُ)) وقوله: ((نَسْتَعِينُ)) إما أن تكون نونَ الجمع، أو نونَ العظمةِ، والأول باطِلٌ، لأنَّ الشخصَ الواحدَ لا يكون جَمعَاً، والثاني باطل أيضاً؛ لأنَّه عند أداء العبوديةِ؛ اللَّائق بالإنسان أن يذكر نفسه بالعَجزِ والذّلة لا بالعَظَمَةِ.
    وقد عبَّر سبحانه عن الاستعانة والعبادة بلفظ ضمير الجمع ((نَعْبُد)) ((نَسْتَعِينُ))، وليس بالتعبير المفرد أعبد وأستعين لفوائد عدة؛ منها:
    1- أنَّ المُؤمِنين إخوةٌ، فلو قال: "إياك أعبدُ" كان قد ذكر عبادَةَ نفسِه، ولم يذكر عبادَةَ غَيرِه، أما إذا قال: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) كان قد ذكر عبادَة نفسِه، وعبادة جميع المؤمنين شرقاً وغرباً.
    2- الإشارة إلى حال العبد؛ كأنه يقول إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث أذكرها وحدها؛ لأنها ممزوجة بالتقصير، ولكن أخلطها بعبادة جميع العابدين وأذكر الكل بعبارة واحدة حتى لا يلزم تفريق الصفقة.
    3- التحرز من الوقوع في الكذب، فإنا لم نزل خاضعين لأهل الدنيا متذللين لهم مستعينين في حوائجنا بمن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا حياتاً ولا موتاً ولا نشوراً...، ويمكن في الجمع أن يقصد تغليب الأصفياء المتقين من الأولياء والمقربين.
    4- لو قال: (إياك أعبد) لكان ذلك بمعنى أنا العابد، ولما قال: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) كان المعنى أني واحد من عبيدك، وفرق بين الأمرين؛ كما يرشدك إليه قوله تعالى حكاية عن الذبيح: ((قَالَ يَا أَبَتِ افعَل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ))[سورة الصافات:102]، وقوله تعالى حكاية عن موسى: ((قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعصِي لَكَ أَمرًا))[سورة الكهف:69]، فصبر الذبيح لتواضعه بعَدَّ نفسِهِ واحداً من جمعٍ، ولم يصبر الكليم لإفراده نفسه مع أن كلاً منهما -عليهما السلام- قال: إن شاء الله. فهذا التعبير دلالة ذلة وتواضع من العبد نحو ربه، استقلالاً بعبدته.
    5- إشارة إلى أهمية الجماعة في الإسلام؛ لذا تلزم قراءة هذه السورة في الصلاة وتلزم أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين مرة وفيها دليل على أهمية الجماعة عامة في الإسلام مثل الحج وصلاة الجماعة، الزكاة، الجهاد، الأعياد والصيام، والحث على تحمل المسؤولية الجماعية في الأمة.
    6- أنه أبلغ في الثناء من أعبد وأستعين لئلا تخلو المنجاة من الثناء أيضاً بأن المحمود المعبود المستعان قد شهدت له الجماعات وعرفوا فضله.

    تعليق


    • #32
      رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة

      نكمل ما كنا بدأناه من تفسير قوله تعالى ((إياك نعبد وإياك نستعين))، فنقول:
      خامساً- ((وَإِيَّاكَ))
      أ- الواو:
      عاطِفَةٌ، وهي من المشتركةِ في الإعرابِ والمعنَى، ولا تقتضي تَرتِيباً على قول الجمهور.
      ب- الوصل وترك الفصل:
      قال الطاهر -رحمه الله-: "((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) جملة معطوفة على جملة ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))، وإنما لم تفصل عن جملة ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) بطريقة تعداد الجمل مقام التضرع ونحوه من مقامات التعداد والتكرير كلاً أو بعضاً للإشارة إلى خطور الفعلين جميعاً في إرادة المتكلمين بهذا التخصيص، أي نخصك بالاستعانة أيضاً مع تخصيصك بالعبادة".
      جـ- تكرار ((إياك)):
      قال المفسرون إن هناك عدة أغراض من تكرير ((إِيَّاكَ)) في الآية؛ منها:
      1- التنصيص على طلب العون منه تعالى، فإنه لو قال: (إياك نعبد ونستعين) لاحتمل أن يكون إخباراً بطلب المعونة من غير أن يعين ممن يطلب، فالتكرار يفيد التنصيص على حصر المستعان به.
      2- التكرار توكيد في اللغة، ففي التكرار من القوة والتوكيد للاستعانة ما ليس في الحذف.
      3- لو اقتصر على واحد ربما توهم أنَّه لا يُتقرب إلى الله تعالى إلا بالجمع بينهما والواقع خلافه.
      4- تعليم لنا في تجديد ذكره تعالى عند كل حاجة وعندي.
      5- أنَّ التكرار للإشعار أنَّ حيثية تعلق العبادة به تعالى غير حيثية تعلق طلب الاستعانة منه، ولو قال: (إيَّاك نعبد ونستعين) لتوهم أنَّ الحيثية واحدة، والشأن ليس كذلك؛ إذ لا بُدَّ في طلب الإعانة من توسط صفة، ولا كذلك في العبادة، فلاختلاف التعلق أعاد المفعول ليشير بها إليه.
      6- التلذذ بالمناجاة والخطاب.
      7- قال الطاهر: "وأعيد لفظ ((إِيَّاكَ)) في الاستعانة دون أن يعطف فعل ((نَسْتَعِينُ)) على ((نَعْبُدُ)) مع أنهما مقصودان جميعاً؛ كما أنبأ عنه عطف الجملة على الجملة؛ لأن بين الحصرين فرقاً، فالحصر في ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) حقيقي، والقصر في ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) ادعائي، فإن المسلم قد يستعين بغير الله تعالى؛ كيف وقد قال تعالى: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى))[سورة المائدة:2]، ولكنه لا يستعين في عظائم الأمور إلا بالله ولا يعد الاستعانة حقيقة إلا الاستعانة بالله تعالى".
      د- تقديم((إِيَّاكَ)) مرة أخرى:
      يضاف إلى ما تقدم من قبل عند قوله: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)): مراعاة الفاصلة.



      سادساً- ((نَسْتَعِينُ))
      أ- أصل ((نَسْتَعِينُ)):
      أصل ((نَسْتَعِينُ)) نَستَعوِنُ؛ لأنَّه من العَونِ، فاستُثقِلَتِ الكَسرةُ على الوَاوِ، فنقلت إلى السّاكنِ قَبلَها، فسكنت الواوُ بعد النَّقلِ وانكَسَر ما قبلها؛ فَقُلِبَت ياءً.
      وهذه قاَعِدةٌ مطّردَةٌ؛ نَحوَ: مِيزَان، وميِقَات، وهما من الوَزنِ، والوَقتِ.
      ب- معنى الاستعانة:
      قال الراغب -رحمه الله-: "العون: المعاونة والمظاهرة، يقال: فلان عوني، أي: معيني، وقد أعنته. قال تعالى: ((فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ))[سورة الكهف:95]، ((وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ))[سورة الفرقان:4]. والتعاون: التظاهر؛ قال تعالى: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ))[سورة المائدة:2]. والاستعانة: طلب العون".
      وقال الطاهر -رحمه الله-: "والاستعانة طلب العون. والعون والإعانة تسهيل فعل شيء يشق ويعسر على المستعين وحده، فهي تحصل بإعداد طريق تحصيله من إعارة آلة، أو مشاركة بعمل البدن كالحمل والقود، أو بقول كالإرشاد والتعليم، أو برأي كالنصيحة".
      جـ- معنى السِّينُ فيه:
      معنى السِّينُ هنا الطلبُ، أَي نَطلُبُ منك العونَ على العِبَادَةِ، وهو أحد المعاني التي لصيغة "استفعل".
      د- معنى الاستعانة المنحصر طلبها من الله :
      الحصر هنا ادعائي وليس حقيقياً، جئ به للمبالغة لعدم الاعتداد بالاستعانات المتعارفة بين الناس.
      فمعنى الاستعانة المنحصر طلبها من الله هي ما لا يقدر عليه أحد إلا الله، أي لا نستعين على عظائم الأمور التي لا يستعان فيها بالناس إلا بالله، أو المقصود التنبيه على غاية التجرد لله .
      قال الطاهر -رحمه الله-: "الاستعانة بالله هي طلب المعونة على ما لا قِبل للبشر بالإعانة عليه، ولا قِبل للمستعين بتحصيله بمفرده، ولذلك فهي مشعرة بأنَّ المستعين يصرف مقدرته لتحصيل الفعل ويطلب من الله العون عليه بتيسير ما لا قبل لقدرة المستعين على تحصيله بمفرده، فهذه هي المعونة شرعاً".
      هـ- إطلاق الاستعانة:
      حذف متعلق ((نَسْتَعِينُ))، والذي حقه أن يذكر مجروراً بعلى، مما أفاد عموم الاستعانة المقصورة على الطلب من الله تأدباً معه تعالى. فأطلق الاستعانة لتشمل كل شيء، وليست محددة بأمر واحد من أمور الدنيا.

      و- اقتران الاستعانة بالعبادة:
      قُرنت الاستعانة بالعبادة لحكم عدة منها:
      1- الجمع بين ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى، وبين ما يطلبه من جهته.
      2- للدلالة على أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يقوم بعبادة الله إلا بإعانة الله له وتوفيقه، فهو إذاً شعار وإعلان أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يعمل شيئاً إلا بعون الله ، وهو إقرار بعجز الإنسان عن القيام بالعبادات وعن حمل الأمانة الثقيلة إذالم يعنه الله تعالى على ذلك.
      3- والاستعانة بالله علاج لغرور الإنسان وكبريائه عن الاستعانة بالله، واعتراف الإنسان بضعفه.
      ح- تقديم العبادة على الاستعانة:
      لفت انتباه المفسرين تقديم العبادة على الاستعانة، فالتمسوا الحكمة من ذلك، فقالوا:
      1- إنَّ العبادة أمانة؛ كما قال تعالى: ((إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا))[سورة الأحزاب:72]، فاهتم للأداء فقدم.
      2- إنَّ العبادة مما يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، والاستعانة ليست كذلك فالأول أهم.
      3-إنَّ العبادة وسيلة فتقدم على طلب الحاجة لأنه أدعى للإجابة.
      4- إنَّ العبادة مطلوبة لله تعالى من عباده، والاستعانة مطلوبهم منه سبحانه، فتقديم العبد ما يريده مولاه منه أدل على صدق العبودية من تقديم ما يريده من مولاه.
      5- إنَّ العبادة واجبة حتماً لا مناص للعباد عن الإتيان بها حتى جعلت علة لخلق الإنس والجن لذاك قدمت.
      6- العبادة أشد مناسبة بذكر الجزاء، والاستعانة أقوى إلتئاماً بطلب الهداية.
      7- إنَّ في تأخير فعل الاستعانة توافق رؤوس الآي.
      8- العبادة هي علة خلق الإنس والجن ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ))[سورة الذاريات: 56]، والاستعانة إنما هي وسيلة للعبادة فالعبادة أولى بالتقديم.
      9- إن قوله: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) يقتضي حصول رتبة عظيمة للنفس بعبادة الله تعالى، وذلك يورث العجب فأردف بقوله: ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) ليدل ذلك على أن تلك الرتبة الحاصلة بسبب العبادة ما حصلت من قوة العبد؛ بل إنما حصلت بإعانة الله ، فالمقصود من ذكر قوله: ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) إزالة العجب وإفناء تلك النخوة والكبر".

      تعليق


      • #33
        رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة

        نشرع اليوم في تفسير قوله تعالى: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ )) ونكتفي بذكر مناسبة وعلاقة الاية بما قبلها، فنقول:
        أولاً- المناسبة
        قال البيضاوي -رحمه الله-: "بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال: كيف أعينكم فقالوا: ((اهْدِنَا))، أو إفراد لما هو المقصود الأعظم".
        وهو بهذا يقصد أنَّ الجملة استئنافية وقعت جواباً عن سؤال نشأ عن قراءة قوله: ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) في ذهن القارئ، فأجيب بأن يقال أرشدنا طريق المؤمنين في ذلك.
        قال ابن عاشور -رحمه الله-: "تهيأ لأصحاب هذه المناجاة أن يسعوا إلى طلب حظوظهم الشريفة من الهداية بعد أن حمدوا الله ووصفوه بصفات الجلالة، ثم أتبعوا ذلك بقولهم: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) الذي هو واسطة جامع بين تمجيد الله تعالى وبين إظهار العبودية، وهي حظ العبد بأنه عابد ومستعين وأنه قاصر ذلك على الله تعالى، فكان ذلك واسطة بين الثناء وبين الطلب، حتى إذا ظنوا بربهم الإقبال عليهم ورجوا من فضله، أفضوا إلى سؤل حظهم فقالوا: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) فهو حظ الطالبين خاصة لما ينفعهم في عاجلهم وآجلهم، فهذا هو التوجيه المناسب لكون الفاتحة بمنزلة الديباجة للكتاب الذي أنزل هدى للناس ورحمة فتتنزل هاته الجملة مما قبلها منزلة المقصد من الديباجة، أو الموضوع من الخطبة، أو التخلص من القصيدة...، وهذا أولى في التوجيه من جعلها جواباً لسؤال مقدر".

        تعليق


        • #34
          رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة



          ثانياً- ((اهْدِنَا))
          أ- معنى الهـداية:
          1- لغة:
          قال ابن فارس -رحمه الله-: "الهاء والدال والحرف المعتلّ: أصلانِ أحدهما التقدُّمُ للإرشاد، والآخر بَعثة لَطَفٍ.
          فالأوَّل قولُهم: هدَيتُه الطَّريق هِدايةً، أي تقدّمتُه لأرشدَه. وكلُّ متقدِّمٍ لذلك هادٍ. وينشعب هذا فيقال: الهُدَى: خِلافُ الضَّلالة. تقول: هَدَيته هُدىً...
          والأصل الآخر الهَدِيّة: ما أهدَيتَ من لَطَف إلى ذي مَودَّة. يقال: أهدَيتُ أُهدِي إهداءً".
          قال الراغب -رحمه الله-: "الهداية دلالة بلطف، ومنه: الهدية، وهوادي الوحش؛ أي: متقدماتها الهادية لغيرها، وخص ما كان دلالة بهديت، وما كان إعطاء بأهديت. نحو: أهديت الهدية، وهديت إلى البيت. إن قيل: كيف جعلت الهداية دلالة بلطف وقد قال الله تعالى: ((فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ))[سورة الصافات:23]، ((وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ))[سورة الحج:4]. قيل: ذلك استعمل فيه استعمال اللفظ على التهكم مبالغة في المعنى كقوله: ((فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ))[سورة آل عمران:21].
          2- الهداية في اصطلاح الشرع:
          الهداية في اصطلاح الشرع؛ حين تسند إلى الله تعالى هي: الدلالة على ما يرضي الله من فعل الخير، ويقابلها الضلالة، وهي التغرير.

          تعليق


          • #35
            رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة



            ب- عدم تعدية فعل الهداية إلى مفعوله الثاني بحرف الجر:
            عدَّ النحويون أنَّ الأصل في فعل "هَدَى" أن يتعدّى إلى المفعول الأول بنفسه، وإلى الثاني بحرف الجَرِّ، وهو إما: "إلى" أو "اللام"...، ثم يتوسع فيه فيحذف الحرف ويتعدى بنفسه.
            وفي القرآن الكريم عدي فعل الهداية في بعض المواضع بنفسه، وفي مواضع أخرى باللام، وفي أخرى بـ(إلى).
            فمن المعدى بـ(إلى) قوله تعالى(وَإِنَّكَ لَتَهدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّستَقِيمٍ))[سورة الشورى:52]، وقوله تعالى: ((قُل إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشرِكِينَ))[سورة الأنعام:161]. وقوله: ((وَمِن آَبَائِهِم وَذُرِّيَّاتِهِم وَإِخوَانِهِم وَاجتَبَينَاهُم وَهَدَينَاهُم إِلَى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ))[سورة الأنعام:87].
            ومن المعدى باللام قوله في قول أهل الجنة: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا))[سورة الأعراف:43]، وقوله تعالى(إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ))[سورة الإسراء: 9].
            ومن المعدى بنفسه كقوله: ((وَيَهدِيَكَ صِرَاطًا مُستَقِيمًا))[سورة الفتح:2] ونحو: ((وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا))[سورة النساء:68]، ((وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))[سورة الصافات: 118]، ((أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ))[سورة النساء:88]، ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا))[سورة النساء:168].
            ولا شك أنَّ هناك فرقاً معنوياً بين الأساليب الثلاثة؛ وقد حاول العلماء استجلاءها، ومن ذلك ما جاء في كتاب بدائع الفوائد؛ حيث قال صاحبه -رحمه الله-: "فعل الهداية يتعدى بنفسه تارة وبحرف إلى تارة وباللام تارة، والثلاثة في القرآن...، والفروق لهذه المواضع تدق جداً عن أفهام العلماء، ولكن نذكر قاعدة تشير إلى الفرق، وهي: أنَّ الفعل المعدى بالحروف المتعددة لا بد أن لا يكون له مع كل حرف معنى زائد على معنى الحرف الآخر، وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف، فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق؛ نحو: رغبت عنه ورغبت فيه، وعدلت إليه وعدلت عنه، وملت إليه وملت عنه، وسعيت إليه وسعيت به، وإن تفاوت معنى الأدوات عسر الفرق؛ نحو: قصدت إليه وقصدت له، وهديته إلى كذا وهديته لكذا.
            وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة؛ بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال فيشربون الفعل المتعدى به معناه، وهذه طريقة إمام الصناعة سيبويه -رحمه الله-، وطريقة حذاق أصحابه يضمنون الفعل معنى الفعل لا يقيمون الحرف مقام الحرف، وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذهن، وهذا نحو قوله تعالى: ((عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا))[سورة الإنسان:6]، فإنهم يضمنون ((يَشْرَبُ)) معنى يروي، فيعدونه بالباء التي تطلبها فيكون في ذلك دليل على الفعلين؛ أحدهما: بالتصريح به، والثاني: بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الاختصار.
            وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها، ومنه قوله تعالى: ((وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ))[سورة الحج:25]، وفعل الإرادة لا يتعدى بالباء، ولكن ضمن معنى يهم فيه بكذا، وهو أبلغ من الإرادة فكان في ذكر الباء إشارة إلى استحقاق العذاب عند الإرادة وإن لم تكن جازمة.
            فإذا عرفت هذا ففعل الهداية متى عُدي بـ(إلى) تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة فأتى بحرف الغاية.
            ومتى عُدي باللام تضمن التخصيص بالشيء المطلوب، فأتى باللام الدالة على الاختصاص والتعيين، فإذا قلت: "هديته لكذا" فهم معنى ذكرته له، وجعلته له، وهيأته، ونحو هذا.
            وإذا تعدى بنفسه تضمن المعنى الجامع لذلك كله، وهو التعرف والبيان والإلهام. فالقائل إذا قال: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) هو طالب من الله عز وجل أن يعرفه إياه ويبينه له ويلهمه إياه ويقدره عليه، فيجعل في قلبه علمه وإرادته والقدرة عليه، فجرد الفعل من الحرف وأتى به مجرداً معدىً بنفسه ليتضمن هذه المراتب كلها، ولو عدي بحرف تعين معناه وتخصص بحسب معنى الحرف".
            ويرى الدكتور فاضل السامرائي أنَّ الفرق بين التعدية بالحرف والتعدية بالفعل نفسه؛ أنَّ التعدية بدون حرف تقال لمن يكون في (الصراط)، ولمن لا يكون فيه؛ كقولنا: هديته الطريق، قد يكون هو في الطريق فنعرفه به، وقد لا يكون في الطريق فنوصله إليه، وقوله تعالى: ((فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا))[سورة مريم: 43] فأبو سيدنا إبراهيم عليه السلام لم يكن في الطريق، وقوله عز وجل: ((وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا))[سورة النساء:68] والمنافقون ليسوا في الطريق.
            واستعملت لمن هم في الصراط ((وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا))[سورة إبراهيم: 12] قيلت على لسان رسل الله تعالى، وقال تعالى مخاطباً رسوله: ((وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا))[سورة الفتح:2]، والرسول مالك للصراط، فاستعمل الفعل المعدى بنفسه في الحالتين.
            والتعدية بالحرف تستعمل عندما لا تكون الهداية فيه؛ بمعنى أن المهدي كان خارج الصراط فهداه الله له فيصل بالهداية إليه.
            فالتعدية باللام وإلى لمن لم يكن في الصراط، وذلك نحو قوله تعالى على لسان الخصمين اللذين جاءا داود عليه السلام ليحكم بينهم: ((فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ))[سورة ص:22] وقوله تعالى: ((قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ))[سورة يونس:35]؛ أي يوصل إليه.
            ويبدو أنَّ الهداية على مراتب، وليست هداية واحدة، فالبعيد الضال عن الطريق يحتاج إلى هادٍ يدله على الطريق ويوصله إليه ويدله عليه، فهنا نستعمل (يهدي إلى)؛ أي يوصل إلى ويرشد إلى.
            والذي يصل إلى الطريق يحتاج إلى هاد يعرفه بأحوال الطريق ومراحلها، وأماكن الأمن والنجاة والهلاك، فهنا لا نستعمل الحرف.
            ثم إذا سلك الطريق في الأخير يحتاج إلى من يريه غايته، ولكون اللام تستعمل للغاية، استعملت مع من كان هذا شأنه اللام؛ كما في قوله عن أصحاب الجنة بعد أن بلغوا الغاية: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ))[سورة الأعراف:43]، وهذه خاتمة الهدايات؛ لذا لم نجد استعمال فعل الهداية مع اللام مع السبيل أو الصراط أبداً في القرآن؛ لأن الصراط ليست غاية إنما هو وسيلة توصل للغاية واللام إنما تستعمل عند الغاية.
            وقد اختص الله في القرآن الكريم الهداية باللام به وحده تعالى أو بالقرآن؛ لأنها خاتمة الهدايات؛ كقوله: ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ))[سورة الإسراء:9] وقوله: ((يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ))[سورة النور:35].
            نعود إلى قوله تعالى: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))، فقد عدي الفعل بنفسه، ولم يعد بالحرف ليجمع عدة معاني؛ ذلك أنَّ التعدية بدون حرف تقال لمن يكون فيه (الصراط)، ولمن لا يكون فيه، فهنا نطلب الهداية لمن انحرف عن الطريق بأن يوصله الله تعالى إليه، والذي في الطريق نطلب من الله تعالى أن يبصره بأحوال الطريق والثبات والتثبيت على الطريق، فهو بذلك قد شمل القسمين.

            تعليق


            • #36
              رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة

              ج- أنواع الهداية الإلهية:
              الهداية على أربعة أنواع:
              أحدها: الهداية العامة المشتركة بين الخلق، وهي المذكورة في قوله تعالى: ((قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى))[سورة طه:50] أي أعطى كل شيء صورته التي لا يشتبه فيها بغيره، وأعطى كل عضو شكله وهيئته، وأعطى كل موجود خلقه المختص به ثم هداه إلى ما خلقه له من الأعمال، وهذه هداية الحيوان المتحرك بإرادته إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، وهداية الجمال المسخر لما خلق له فله هداية تليق به كما أن لكل نوع من الحيوان هداية تليق به وإن اختلفت أنواعها وصورها.
              النوع الثاني: هداية البيان والدلالة والتعريف لنجدي الخير والشر وطريقي النجاة والهلاك، وهذه الهداية لا تستلزم الهدى التام، فإنها سبب وشرط لا موجب، ولهذا ينبغي الهدى معها؛ كقوله تعالى: ((وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ))[سورة فصلت: 17]؛ أي بينا لهم وأرشدناهم ودللناهم فلم يهتدوا، ومنها قوله: ((وَإِنَّكَ لَتَهدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّستَقِيمٍ))[سورة الشورى: 52].
              النوع الثالث: هداية التوفيق والإلهام، وهي الهداية المستلزمة للاهتداء، فلا يتخلف عنها، وهي المذكورة في قوله: ((يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))[سورة فاطر: 8]، وفي قوله: ((إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ))[سورة النحل:37]، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن يَهدهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَن يُضْلِل فَلا هَادِيَ لَهُ)). وفي قوله تعالى: ((إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))[سورة القصص:56]، فنفى عنه هذه الهداية وأثبت له هداية الدعوة والبيان في قوله: ((وَإِنَّكَ لَتَهدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّستَقِيمٍ[.
              النوع الرابع: غاية هذه الهداية، وهي الهداية إلى الجنة والنار إذا سيق أهلهما إليهما؛ قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ))[سورة يونس: 9]. وقال أهل الجنة فيها: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا))[سورة الأعراف:43]، وقال تعالى عن أهل النار: ((احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ))[سورة الصافات:22-23].

              تعليق


              • #37
                رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة

                د- المطلوب في دعاء الهداية:
                المطلوب في هذا الدعاء أحد وجوه أربعة:
                أحدها: أن معناه ثبتنا على الدين كي لا تزلزلنا الشبه، وفي القرآن ((رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا))[سورة آل عمران:8]، وفي الحديث: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ)).
                ثانيها: أعطنا زيادة الهدى؛ كما قال تعالى: ((وَالَّذِينَ اهتَدَوا زَادَهُم هُدًى وَآَتَاهُم تَقوَاهُم))[سورة محمد:17].
                ثالثها: أن الهداية الثواب؛ كقوله تعالى: ((يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ))[سورة يونس: 9]، فالمعنى اهدنا طريق الجنة ثواباً لنا وأيد بقوله تعالى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا))[سورة الأعراف:43].
                رابعها: أن المراد دلنا على الحق في مستقبل عمرنا؛ كما دللتنا عليه في ماضيه".
                وبهذا دفع العلماء ما يوشك أن يُسأل عنه من أنَّ المؤمن مهتد فالدعاء طلب لتحصيل الحاصل.

                و- إيراد كلمة الصراط في القرآن دائماً مفردة:
                وردت كلمة الصراط في القرآن مفردة، ولم ترد مجتمعة أبداً بخلاف السبيل التي وردت مفردة ووردت جمعاً (سبل)؛ لأنَّ الصراط هو الأوسع، وهو الذي تفضي إليه كل السبل؛ قال تعالى: ((وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ))[سورة الأنعام:153]، ]يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ))[سورة المائدة:16]، ]وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا))[سورة العنكبوت:69]، ]قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي))[سورة يوسف:108].
                فالصراط هو صراط واحد مفرد؛ لأنه هو طريق الإسلام الرحب الواسع الذي تفضي إليه كل السبل واتباع غير هذا الصراط ينأى بنا عن المقصود.
                قال الزركشي -رحمه الله-: "ومن ذلك جمع الظلمات والنور ]اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ))[سورة البقرة:257]، ولذلك جمع سبيل الباطل وأفرد سبيل الحق كقوله: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))[سورة الأنعام:153].
                والجواب في ذلك كله أنَّ طريق الحق واحد، وأما الباطل فطرقه متشعبة متعددة، ولما كانت الظلم بمنزلة طريق الباطل والنور بمنزلة طريق الجنة؛ بل هما هما أفرد النور وجمع الظلمات، ولهذا وحد الولى فقال: ((اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا))[سورة البقرة:257]؛ لأنه الواحد الأحد، وجمع أولياء الكفار لتعددهم، وجمع الظلمات وهي طرق الضلال والغي لكثرتها واختلافها، ووحد النور وهو دين الحق".

                رابعاً- ((المُستَقيمَ))
                - معنى المستقيم في اللغة:
                الذي لا عوج فيه ولا تعاريج.
                - معنى المستقيم في الآية:
                هو مستعار للحق البين الذي لا تخلطة شبهة باطل، فهو كالطريق الذي لا تتخلله بنيات.
                - وصف الصراط بالاستقامة:
                ذكر المفسرون أنَّ الصراط وصف بالمستقيم لحكم منها:
                1- "في ذلك إيماءٌ إلى أنَّ الإسلام واضح الحجة قويم المحجة لا يهوي أهله إلى هوة الضلالة؛ كما قال تعالى: ((قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا))[سورة الأنعام: 161]، وقال: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ))[سورة الأنعام:153] على تفاوت في مراتب إصابة مراد الله تعالى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ))، ولم يترك بيان الشريعة مجاري اشتباه بين الخلاف الذي تحيط به دائرة الإسلام والخلاف الذي يخرج بصاحبه عن محيط الإسلام قال تعالى: ((إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ))[سورة النمل: 79]".
                2- الخط المستقيم هو أقصر خط يصل بين نقطتين، وهو أقصر من جميع الخطوط المعوجة، فكأن العبد يقول أنا عاجز فلا يليق بضعفي إلا الطريق المستقيم.
                3- الصراط المستقيم واحد وما عداه معوج وبعضها يشبه بعضاً في الاعوجاج فيشتبه الطريق على سالكه؛ أما المستقيم فلا يشابهه غيره، فكان أبعد عن الخوف والآفات وأقرب إلى الأمان.
                4- الطريق المستقيم يوصل إلى المقصود والمعوج لا يوصل إليه.
                5- المستقيم لا يتغير والمعوج يتغير.
                فلهذه الأسباب سُئل تعالى الصراط المستقيم.

                تعليق


                • #38
                  رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة

                  أ- اختلاف المفسرين في المراد بــ((الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)):
                  اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير الصراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد وهو المتابعة لله وللرسول.
                  من أجل ذلك رأى الباحث أن يورد بعض أقوال السلف ليكون القاريء الكريم مطلعاً على مثال فيما تعددت فيه أقوال السلف من حيث اللفظ واتفقت من حيث المعنى العام؛ ليعلم أنَّ ما يراه من اختلاف بين السلف في تفسير كتاب الله عز وجل إنما هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد؛ كما نبه على ذلك أهل العلم؛ لذلك وجدنا شيخ المفسرين الإمام ابن جرير -رحمه الله- يقول: "أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أنَّ الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وكذلك ذلك في لغة جميع العرب...، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر...، ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول وعمل وصف باستقامة أو اعوجاج فتصف المستقيم باستقامته والمعوج باعوجاجه".

                  ب- بعض الروايات الواردة في تفسير ((الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)):
                  ونورد ما ذكره السيوطي في تفسيره (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) من أقوال وروايات عن السلف لشموله؛ إذ يقول -رحمه الله-: "عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنهُما- في قوله: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) يقول: ألهمنا دينك الحق.
                  وعنه رضي الله عنه في قوله: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) قال: ألهمنا الطريق الهادي وهو دين الله الذي لا عوج له.
                  وعن جابر بن عبد الله -رَضِيَ اللهُ عَنهُما- في قوله عز وجل: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) قال: هو الإسلام وهو أوسع مما بين السماء والأرض.
                  وعن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنهُما- قال: ((الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)): الإسلام.
                  وعن ابن مسعود وناس من الصحابة: ((الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)): الإسلام
                  وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُستَقِيمًا وَعَلَى جَنبَتَي الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الأَبوَابِ سُتُورٌ مُرخَاةٌ وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ ادخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلَا تَتَفَرَّجُوا، وَدَاعٍ يَدعُو مِن جَوفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ يَفتَحُ شَيئًا مِن تِلكَ الأَبوَابِ قَالَ: وَيحَكَ لَا تَفتَحهُ فَإِنَّكَ إِن تَفتَحهُ تَلِجهُ، وَالصِّرَاطُ الإِسلَامُ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ الله تَعَالَى، وَالأَبوَابُ المُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ الله تَعَالَى، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ الله عز وجل، وَالدَّاعِي فَوقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ الله فِي قَلبِ كُلِّ مُسلِمٍ)).
                  وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) قال: هو كتاب الله.
                  وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (إن هذا الصراط محتضر تحضره الشياطين؛ يا عباد الله هذا الصراط فاتبعوه والصراط المستقيم كتاب الله فتمسكوا به).
                  وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أَلا إِنَّهَا سَتَكُونُ)). قلت: وما المخرج منها؟ قال: ((كِتَابُ الله فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبلَكُم، وَخَبَرُ مَا بَعدَكُم، وَحُكمُ مَا بَينَكُم، وَهُوَ الفَصلُ لَيسَ بِالهَزلِ، مَن تَرَكَهُ مِن جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَن ابتَغَى الهُدَى فِي غَيرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبلُ الله المَتِينُ، وَهُوَ الذِّكرُ الحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ المُستَقِيمُ)).
                  وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على طرفه والطرف الآخر في الجنة.
                  وعن أبي العالية في قوله عز وجل: ((الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) قال: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده. قال: فذكرنا ذلك للحسن فقال: صدق أبو العالية ونصح.
                  وعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: ((الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) قال: هو رسول الله وصاحباه.
                  وعن أبي العالية الرياحي قال: تعلموا الإسلام فإذا علمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم، فإن الصراط المستقيم الإسلام ولا تحرفوا يميناً وشمالاً.
                  وعن سفيان قال: ليس في تفسير القرآن اختلاف إنما هو كلام جامع يراد به هذا وهذا.
                  وعن أبي قلابة قال: قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إنك لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوها".

                  تعليق


                  • #39
                    رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة



                    ننهي ما بدأناه من تفسير قوله تعالى: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))؛ فنقول:
                    جـ- قول جامع لصاحب البدائع في تفسير ((الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)):
                    قال صاحب البدائع -رحمه الله-: "ما هو ((الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) فنذكر فيه قولاً وجيزاً، فإنَّ النَّاس قد تنوعت عباراتهم فيه وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شيء واحد، وهو طريق الله الذي نصه لعباده على ألسن رسله، وجعله موصلاً لعباده إليه، ولا طريق لهم إليه سواه؛ بل الطرق كلها مسدودة إلا هذا، وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة، فلا يشرك به أحداً في عبوديته ولا يشرك برسوله أحداً في طاعته، فيجرد التوحيد ويجرد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
                    وهذا معنى قول بعض العارفين: "إنَّ السعادة والفلاح كله مجموع في شيئين: صدق محبته وحسن معاملته"، وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، فأي شيء فُسر به الصراط فهو داخل في هذين الأصلين.
                    ونكتة ذلك وعقده أن تحبه بقلبك كله وترضيه بجهدك كله، فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه، ولا تكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته؛ الأول يحصل بالتحقيق بشهادة أن لا إله إلا الله، والثاني يحصل بالتحقيق بشهادة أن محمداً رسول الله.
                    وهذا هو الهادي ودين الحق وهو معرفة الحق والعمل له، وهو معرفة ما بعث الله به رسله والقيام به، فقل ما شئت من العبارات التي هذا أحسنها وقطب رحاها، وهي معنى قول من قال: علوم وأعمال ظاهرة وباطنة مستفادة من مشكاة النبوة، ومعنى قول من قال: متابعة رسول الله ظاهراً وباطناً علماً وعملاً، ومعنى قول من قال: الإقرار لله بالوحدانية والاستقامة على أمره.
                    وأما ما عدا هذا من الأقوال؛ كقول من قال: الصلوات الخمس، وقول من قال: حب أبي بكر وعمر، وقول من قال: هو أركان الإسلام الخمس التي بني عليها. فكل هذه الأقوال تمثيل وتنويع لا تفسير مطابق له؛ بل هي جزء من أجزائه وحقيقته الجامعة ما تقدم والله أعلم".
                    ويرى الطاهر بن عاشور -رحمه الله- أنَّ الأظهر في المراد بالصراط المستقيم "المعارف الصالحات كلها من اعتقاد وعمل بأن يوفقهم إلى الحق والتمييز بينه وبين الضلال على مقادير استعداد النفوس وسعة مجال العقول النيرة، والأفعال الصالحة بحيث لا يعتريهم زيغ وشبهات في دينهم، وهذا أولى ليكون الدعاء طلب تحصيل ما ليس بحاصل وقت الطلب، وإن المراد بحاجة إلى هذه الهداية في جميع شؤونه كلها حتى في الدوام على ما هو متلبس به من الخير للوقاية من التقصير فيه أو الزيغ عنه. والهداية إلى الإسلام لا تقصر على ابتداء اتباعه وتقلده؛ بل هي مستمرة باستمرار تشريعاته وأحكامه بالنص أو الاستنباط، وبه يظهر موقع قوله: ((غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)) مصادفاً المحز".

                    تعليق


                    • #40
                      رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة

                      نبدأ بتفسير قوله عز وجل: ((صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم))
                      أولاً- ((صِرَاطَ))
                      أ- المناسبة
                      هذه الآية مفسرة للصراط المستقيم.
                      ب- الإعراب:
                      تعرب كلمة ((صِرَاطَ)) هنا بدل من ((الصِّراط)) في الآية السابقة، ويجوز أن تكون عطف بيان منه.
                      جـ- فائدة استعمال أسلوب البدل
                      فائدة استعمال أسلوب البدل أو عطف البيان بشكل عام: الإيضاحُ بعد الإبهام، ولأنه يُفيد تأكيداً من حيث المعنى؛ إذ هو على نيَّةِ تكرارِ العاملِ.
                      والإشعار بأنَّ الصراط المستقيم بيانه وتفسيره صراط المسلمين، فيكون ذلك شهادة لاستقامة صراطهم على أبلغ وجه وآكده.
                      د- فائدة استعمال هذا الأسلوب هنا:
                      جاء نظم الآية بأسلوب الإبدال أو البيان دون أن يقال: (اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم المستقيم)، لفوائد نذكر منها:
                      1- أنَّ المقصود من الطلب ابتداء هو كون المهدى إليه وسيلة للنجاة واضحة سمحة سهلة، وأما كونها سبيل الذين أنعم الله عليهم فأمر زائد لبيان فضله.
                      2- ما في أسلوب الإبدال من الإجمال المعقب بالتفصيل ليتمكن معنى الصراط للمطلوب فضل تمكن في نفوس المؤمنين الذين لقنوا هذا الدعاء، فيكون له من الفائدة مثل ما للتوكيد المعنوي، وأيضاً لما في هذا الأسلوب من تقرير حقيقة هذا الصراط وتحقيق مفهومه في نفوسهم، فيحصل مفهومه مرتين، فيحصل له من الفائدة ما يحصل بالتوكيد اللفظي، واعتبار البدلية مساو لاعتباره عطف بيان لا مزية لأحدهما على الآخر.
                      3- التوكيد والتنصيص على أنّ طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة على آكد وجه وأبلغه؛ لأنه جعل كالتفسير والبيان له، فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه إنّ الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين.


                      ثانياً- ((الذين)):
                      أ- أصله:
                      هو اسمُ موصولٍ، لافتقاره إلى صلةٍ وعائدٍ، وهو جمع "الذي" في المعنى، والمشهورُ فيه أن يكونَ بالياءِ، رفعاً، ونصباً، وجرَّاً؛ وبعضُهم يرفعُه بالواوِ؛ جَرياً له مَجرَى جَمعِ المذكَّر السَّالم؛ ومنه:
                      نَحنُ الَّذُونَ صَبَّحُوا الصَّبَاحا يَومَ الفَسَـادِ غَـارَةً مِلحَاحَا
                      وقد تُحذَفُ نُونُه استِطَالةً بصلته؛ كقوله:
                      وَإِنَّ الَّذِي حَانَت بِفَلجٍ دمَاؤُهُم هُمُ القَومَ كُلُّ القَومِ يَا أُمِّ خَالِدِ
                      ولا يقع إلاّ على أولي العلم، ولا يقع مجرى جمع المذكر السَّالم، بخلاف مجرده فإنه يقع على أولي العلم وغيرهم.
                      ب- إضافة الصراط إلى الموصول المبهم:
                      أضاف تعالى الصراط إلى الموصول المبهم دون أن يقول: صراط النبيين والمرسلين، له فوائد ثلاث:
                      الأولى- إحضار العلم وإشعار الذهن عند سماع هذا، فإن استحقاق كونهم من المنعم عليهم هو بهدايتهم إلى هذا الصراط، فبه صاروا من أهل النعمة، وهذا كما يعلق الحكم بالصلة دون الاسم الجامد لما فيه من الإنعام باستحقاق ما علق عليها من الحكم بها، وهذا كقوله تعالى: ((الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ))[سورة البقرة:274]، وقوله: ((وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ))[سورة الزمر:33]، وقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ))[سورة الأحقاف:13]، وهذا الباب مطرد، فالإتيان بالاسم موصولاً على هذا المعنى من ذكر الاسم الخاص.
                      الثانية- إشارة إلى أن نفي التقليد عن القلب واستشعار العلم بأنَّ مَن هُديَ إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه، فالسائل مستشعر سؤاله الهداية، وطلب الإنعام من الله عليه.
                      والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أنَّ الأول يتضمن الإخبار بأنَّ أهل النعمة هم أهل الهداية إليه والثاني يتضمن الطلب والإرادة وأن تكون منه.
                      الثالثة- أنَّ الآية عامة في جميع طبقات المنعم عليهم، ولو أتى باسم خاص لكان لم يكن فيه سؤال الهداية إلى صراط جميع المنعم عليهم، فكان في الإتيان بالاسم العام من الفائدة أنَّ المسؤول الهدى إلى جميع تفاصيل الطريق التي سلكها كل من أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا أجَلُّ مطلوب وأعظم مسؤول، ولو عرف الداعي قدر هذا السؤال لجعله هجيرا وقرنه بأنفاسه فإنه لم يدع شيئا من خير الدنيا والآخرة إلا تضمنه، ولما كان بهذه المثابة فرضه الله عز وجل على جميع عباده فرضاً متكرراً في اليوم والليلة لا يقوم غيره مقامه، ومن ثم يعلم تعين الفاتحة في الصلاة، وأنها ليس منها عوض يقوم مقامها.

                      جـ - اختيار وصف ((الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) بأنه ((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)):
                      وفي اختيار وصف الصراط المستقيم بأنه ((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) دون بقية أوصافه تمهيد لبساطة الإجابة، فإنَّ الكريم إذا قلت له: "أعطني كما أعطيتَ فلاناً" كان ذلك أَنشَطَ لكرمه...، فيقول السائلون: اهدنا الصراط المستقيم الصراط الذين هديت إليه أولي الفضل من عبادك؛ مع ما في ذلك من التعريض بطلب أن يكونوا لاحقين في مرتبة الهدى بأولئك المنعم عليهم، وتهمماً بالاقتداء بهم في الأخذ بالأسباب التي ارتقوا بها إلى تلك الدرجات، وتوطئةً لما سيأتي بعد من التبرىء من أحوال المغضوب عليهم والضالين فتضمن ذلك تفاؤلاً وتعوذاً.

                      تعليق


                      • #41
                        رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة



                        ثالثاً- ((أنعمت))
                        أ- الإنعام:
                        هو إيصال الإحسان إلى الغير من العقلاء؛ كما قاله الراغب -رحمه الله-، فلا يقال إلا إذا كان الموصل إليه الإحسَان من العُقَلاء، فلا يقال: أنعم فلان على فَرَسِهِ، ولا حماره، ولذا قيل: إن النعمة نفع الإنسان من دونه لغير عرض.
                        وأصل النعمة المبالغة والزيادة؛ يقال: دققت الدواء فأنعمت دقة؛ أي بالغت في دقة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَإِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ الْغُرْفَةَ مِنْهَا كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الشَّرْقِيَّ أَوِ الْغَرَبِيّ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْر وَعُمَرَ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا))، أي زادا عليه. وبالغا في الخير.
                        وقال الطاهر -رحمه الله-: "النعمة بالكسر وبالفتح مشتقة من النعيم، وهو راحة العيش وملائم الإنسان والترفه...، والنعمة الحالة الحسنة؛ لأنَّ بناء الفعلة بالكسر للهيئات. ومتعلق النعمة اللذات الحسية، ثم استعملت في اللذات المعنوية العائدة بالنفع ولو لم يحس بها صاحبها. فالمراد من النعمة في قوله: ((الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) النعمة التي لم يشبها ما يكدرها ولا تكون عاقبتها سوأى، فهي شاملة لخيرات الدنيا الخالصة من العواقب السيئة ولخيرات الآخرة، وهي الأهم...".
                        ب- استحضار المنعم عليهم بطريق الموصول، وإسناد فعل الإنعام إلى ضمير الجلالة:
                        استحضار المنعم عليهم بطريق الموصول، وإسناد فعل الإنعام عليهم إلى ضمير الجلالة، للتنويه بشأنهم خلافاً لغيرهم من المغضوب عليهم والضالين
                        .





                        جـ- الإتيان بصلة ((الذين)) فعلاً ماضياً:
                        الإتيان بصلة ((الذين)) فعلاً ماضياً ولم يأتِ به مضارعاً ليتعين زمانه، وليبين أنَّ المقصود صراط الذين ثبت إنعام الله عليهم وتحقق: ((وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا))[سورة النساء:69]، فـ((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) يدخل في هؤلاء.
                        ولو قال: صراط الذين تنعم عليهم لأغفل كل من أنعم عليهم سابقاً من رسل الله والصالحين؛ لأنَّ الفعل المضارع يدل على الحال؛ بل لم يدل على أنه تعالى أنعم على أحد، ولاحتمل أن يكون صراط الأولين غير الآخرين، ولا يفيد التواصل بين زمر المؤمنين من آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة.
                        ولو قال: تنعم عليهم؛ لكان صراط هؤلاء أقل شأناً من صراط الذين أنعم عليهم، فصراط الذين أنعم عليهم من أولي العزم من الرسل والأنبياء والصديقين أما الذين تنعم عليهم لا تشمل هؤلاء.
                        فالإتيان بالفعل الماضي يدل على أنه بمرور الزمن يكثر عدد الذين أنعم الله عليهم، فمن ينعم عليهم الآن يلتحق بالسابقين من الذين أنعم الله عليهم، فيشمل كل من سبق وأنعم الله عليهم فهم زمرة كبيرة من أولي العزم والرسل وأتباعهم والصديقين وغيرهم، وهكذا تتسع دائرة المنعم عليهم.
                        أما الذين تنعم عليهم تختص بوقت دون وقت، ويكون عدد المنعم عليهم قليل؛ لذا كان قوله تعالى: ((أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) أوسع واشمل وأعم من الذين تنعم عليهم.
                        وهو أيضاً يدلّ على ثبوت إنعام الله تعالى عليهم وتحقيقه لهم.

                        تعليق


                        • #42
                          رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة

                          رابعاً- ((عَلَيْهِمْ)):
                          أ- (على):
                          حرف استعلاء حقيقةً أو مجازاً؛ نحو: عليه دَينٌ: ولها معانٍ أُخَرُ نجدها في مظانها.
                          ب- هاء الكِناية:
                          الأصلُ في هاء الكِناية الضَّمُّ، فإن تقدمها ياءٌ ساكنة أو كسرةٌ كسرَها غيرُ الحجازيين؛ نحو: عَلَيهِم وفِيهِم وبِهِم.
                          والمشهورُ في مِيمِها السكونُ قبل متحرك، والكسرُ قبل ساكن، هذا إذا كَسَرتَ الهاء، أما إذا ضممتَ فالكَسرُ ممتنع إلاّ في ضَرُورة؛ كقوله: (وفِيهُمِ الحكام) بِكَسرِ المِيمِ".
                          جـ- موضع ((عَلَيْهِمْ)):
                          موضع ((عليهم)) نصب، وكذا كل حرف جر تعلق بفعل، أو ما جرى مجراه، غير مبني للمفعول.
                          د- القراءات في ((عَلَيْهِمْ)):
                          قرأت: ((عَلَيْهِمْ)):
                          1- بضم الهاء وإسكان الميم، وهي قراءة حمزة (عَلَيهُم)، و(إلَيهُم)، و"لَدَيهُم" بضم الهاء. ويضم يَعقوب كُلّ هاءٍ قبلها ياءٌ ساكنة تثنيةً وجمعاً إلاّ قوله تعالى: ((بَينَ أَيدِيهِنَّ وَأَرجُلِهِنَّ))[سورة الممتحنة: 12].
                          2- بكسر الهاء، وهي قراءة الجمهور.
                          فَمَن ضَمَّها ردّها إلى الأصل؛ لأنها مضمومة عند الإنفراد، ومَن كسرها، فالأصل الياءُ السَّاكنة، والياءُ أختُ الكسرة.


                          هـ- من هم المقصودون بقوله: ((الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ))
                          اختلف في هؤلاء المنعم عليهم على أقوال:
                          فقيل: المؤمنون مطلقاً.
                          وقيل: الأنبياء.
                          وقيل: أصحاب موسى وعيسى -عليهما السلام- قبل التحريف والنسخ.
                          وقيل: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
                          وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما-.
                          وقيل: الأولى ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّ المراد بـ((الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)): الأنبياء والملائكة والشهداء والصديقون ومن أطاع الله تعالى وعبده، وإليه يشير قوله تعالى: ((وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا))[سورة النساء:69]، فما في هاتيك الأقوال اقتصار على بعض الأفراد.
                          وهو ما استظهره أبو السعود، وقدمه ابن كثير على غيره من الأقوال، ونص عليه العلامة صديق خان.
                          وأيده ابن عاشور -رحمه الله- بقوله: "الذين أنعم الله عليهم: هم خيار الأمم السابقة من الرسل والأنبياء الذين حصلت لهم النعمة الكاملة، وإنما يلتئم كون المسؤول طريق المنعم عليهم فيما مضى، وكونه هو دين الإسلام الذي جاء من بعد باعتبار أن الصراط المستقيم جار على سنن الشرائع الحقة في أصول الديانة وفروع الهداية والتقوى، فسألوا ديناً قويماً يكون في استقامته كصراط المنعم عليهم فأجيبوا بدين الإسلام، وقد جمع استقامة الأديان الماضية وزاد عليها.
                          أو المراد من المنعم عليهم الأنبياء والرسل، فإنَّهم كانوا على حالة أكمل مما كان عليه أممهم، ولذلك وصف الله كثيراً من الرسل الماضين بوصف الإسلام، وقد قال يعقوب عليه السلام لأبنائه: ((فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُسلِمُونَ))[سورة آل عمران:132]؛ ذلك أنَّ اللهَ تعالى رفق بالأمم فلم يبلغ بهم غاية المراد من الناس لعدم تأهلهم للاضطلاع بذلك، ولكنه أمر المرسلين بأكمل الحالات، وهي مراده تعالى من الخلق في الغاية...
                          فسواءً فسَّرنا المنعم عليهم بالأنبياء أو بأفضل أتباعهم أو بالمسلمين السابقين، فالمقصد الهداية إلى صراط كامل، ويكون هذا الدعاء محمولاً في كل زمان على ما يناسب طرق الهداية التي سبقت زمانه، والتي لم يبلغ إلى نهايتها".

                          تعليق


                          • #43
                            رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة

                            و- عدم تقييد الإنعام:
                            لم يقيد الإنعام تعالى وإنما أطلقه ليعم وليشمل كل إنعام؛ لأنّ من أنعم الله عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه؛ قال عز وجل: ((وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ))[سورة النحل:18].

                            ز- بناء ((أنعمت)) للمعلوم:
                            وفي أنه تعالى قال: ((الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ))، ولم يقل: (المنعم عليهم)؛ كما قال: ((المَغضُوبِ عَلَيهِم((، فوائد عديدة منها:
                            1- إنَّ هذا جاء على الطريقة المعهودة في القرآن الكريم، وهي أنَّ أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله تعالى فيذكر فاعلها منسوبة إليه ولا يبني الفعل معها للمفعول، فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف وبني الفعل معها للمفعول أدباً في الخطاب، وإضافته إلى الله تعالى أشرف قسمي أفعاله، فمنه هذه الآية، فإنه ذكر النعمة فأضافها إليه، ولم يحذف فاعلها، ولما ذكر الغضب حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول فقال: ((المَغضُوبِ عَلَيهِم))، وقال في الإحسان: ((أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ((، ونظيره قول إبراهيم الخليل عليه السلام: ((الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ))[سورة الشعراء: 78-80]، فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى ولما جاء إلى ذكر المرض قال: ((وإذا مرضت)) ولم يقل أمرضني وقال (( فَهُوَ يَشْفِينِ))...
                            2- إنَّ الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعم بها، وأصل الشكر ذكر المنعم والعمل بطاعته، وكان من شكره إبراز الضمير المتضمن لذكره تعالى الذي هو أساس الشكر، وكان في قوله: ((أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) من ذكره وإضافته النعمة إليه ما ليس في ذكر المنعم عليهم لو قاله، فضمن هذا اللفظ الأصلين وهما الشكر والذكر المذكوران في قوله: ((فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ))[سورة البقرة: 152].
                            3- إن النعمة بالهداية إلى الصراط لله وحده، وهو المنعم بالهداية دون أن يشرك أحد في نعمته، فاقتضى اختصاصه بها أن يضاف إليه بوصف الإفراد، فيقال: ((أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) أي أنت وحدك المنعم المحسن المتفضل بهذه النعمة. وأمَّا الغضبُ فإنَّ الله تعالى غضب على من لم يكن من أهل الهداية إلى هذا الصراط، وأمر عباده المؤمنين بمعاداتهم، وذلك يستلزم غضبهم عليهم موافقة لغضب ربهم عليهم، فموافقته تعالى تقتضي أن يغضب على من غضب عليه ويرضى عمن رضي عنه، فيغضب لغضبه ويرضى لرضاه، وهذا حقيقة العبودية. واليهود قد غضب الله عليهم، فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم. فحذف فاعل الغضب، وقال: ((المَغضُوبِ عَلَيهِم)) لما كان للمؤمنين نصيب من غضب الله عليه بخلاف الإنعام، فإنه لله وحده فتأمل هذه النكت البديعة.
                            4- إنَّ المغضوب عليهم في مقام الإعراض عنهم، وترك الالتفات، والإشارة إلى نفس الصفة التي لهم والاقتصار عليها، وأما أهل النعمة فهم في مقام الإشارة إليهم وتعيينهم والإشادة بذكرهم.

                            تعليق


                            • #44
                              رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة

                              نشرع بتفسير قوله عز وجل: ((غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِم وَلَا الضَّالِّينَ))
                              أولاً- ((غَير))
                              أ- أصل الكلمة ومعناها واستعمالاتها:
                              لفظ (غير) مفرد مذكر أبداً، إلا أنَّه إن أُريد به مؤنث جاز تأنيث فعله المسند إليه، نقول: "قامت غيرك"، وأنت تعني امرأة.
                              وهذه الكلمة في الأصل صفة بمعنى اسم الفاعل، وهو مغاير، ولذلك لا تتعرف بالإضافة، وكذلك أخواتها: "مِثل وشِبه وشَبِيه وخِذن وتِرب".
                              وقد يستثنى بها حملاً على "إلاّ" كما يوصف بـ"إلاّ" حملاً عليها.
                              وقد يراد بها النفي كـ"لا"، فيجوز تقديم معمولها عليها، كما يجوز في "لا" تقول: "أنا زيداً غَيرُ ضارب" أي: غير ضارب زيداً...
                              وهي من الألفاظ اللاَّزمة للإضافة لفظاً وتقديراً، فإدخَال الألف واللام عليها خَطَأ.
                              قال البغوي -رحمهُ اللهُ-: "(غير) ها هنا بمعنى "لا" و"لا" بمعنى "غير"، ولذلك جاز العَطفُ عليها، كما يقال: "فلان غير مُحسن ولا مجمل"، فإذا كان "غير" بمعنى "لا"، فلا يجوز العَطفُ عليها بـ"لا"؛ لا يجوز في الكلام: "عندي سوى عبد الله ولا زيد".

                              أولاً- ((غَير))
                              ب ـ- استعمال غير دون لا كما في ((ولا الضالين)):
                              في حكمة أنَّ الله تعالى قال: ((غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِم)) ولم يقل (لا المغضوب عليهم) يقال: لا ريب أن (لا) يعطف بها بعد الإيجاب؛ كما تقول: جاءني زيد لا عمرو، وجاءني العالم لا الجاهل، وأما (غير) فهي تابع لما قبلها، وهي صفة ليس إلا، وإخراج الكلام هنا مخرج الصفة أحسن من إخراجه مخرج العطف، وهذا إنما يعلم إذا عرف فرق ما بين العطف في هذا الموضع والوصف؛ إذ لو أخرج الكلام مخرج العطف، وقيل: (صراط الذين أنعمت عليهم لا المغضوب عليهم) لم يكن في العطف بها أكثر من نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم؛ كما هو مقتضى العطف، فإنك إذا قلت: جاءني العالم لا الجاهل؛ لم يكن في العطف أكثر من نفي المجيء عن الجاهل وإثباته للعالم.
                              وأما الإتيان بلفظ (غير) فهي صفة لما قبلها، فأفاد الكلام معها وصفهم بشيئين:
                              أحدهما: أنهم منعم عليهم.
                              والثاني: أنهم غير مغضوب عليهم.
                              فأفاد ما يفيد العطف مع زيادة الثناء عليهم ومدحهم، فإنه يتضمن صفتين ثبوتية، وهي كونهم منعماً عليهم وصفة سلبية، وهي كونهم غير مستحقين لوصف الغضب، وأنهم مغايرون لأهله، ولهذا لما أريد بها هذا المعنى جرت صفة على المنعم عليهم، ولم تكن صفة منصوبة على الاستثناء لأنه يزول منها معنى الوصفية المقصود.
                              وفيها فائدة أخرى؛ وهي أنَّ أهل الكتاب من اليهود والنصارى ادعوا أنهم هم المنعم عليهم دون أهل الإسلام، فكأنه قيل لهم: المنعم عليهم غيركم لا أنتم، وقيل: للمسلمين المغضوب عليهم غيركم لا أنتم فالإتيان بلفظة غير في هذا السياق أحسن وأدل على إثبات المغايرة المطلوبة فتأمله

                              تعليق


                              • #45
                                رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة

                                ثانياً- ((الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)):
                                أ- (ال) في ((الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)):
                                وأَلْ فيه موصولةٌ، والتقديرُ: غيرِ الذين غُضِبَ عليهم. والصحيحُ في ألْ الموصولة أنها اسمٌ لا حرفٌ.
                                وإذا ثبت هذا فالألف واللام في المغضوب وإن كانتا بمعنى الذين فليست مثل الذين في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات المسمى، فإن قولك: (الذين فعلوا) معناه القوم الذين فعلوا وقولك: (الضاربون والمضروبون) ليس فيه ما في قولك: (الذين ضربوا أو ضربوا) فتأمل ذلك.
                                فالذين أنعمت عليهم إشارة إلى تعريفهم بأعيانهم وقصد ذواتهم بخلاف المغضوب عليهم، فالمقصود التحذير من صفتهم والإعراض عنهم وعدم الالتفات إليهم".


                                ثانياً- ((الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)):
                                ب- معنى الغضب:
                                1- في اللغة:
                                قال ابن فارس -رحمه الله-: "الغين والضاد والباء أصلٌ صحيح يدلُّ على شدَّة وقُوّة".
                                فأصله الشدة، ومنه الغضبة الصخرة الصلبة الشديدة المركبة في الجبل، ورجل غضوب؛ أي شديد الخلق، والغضوب الحية الخبيثة والناقة العبوس، والغضبة: الدرقة من جلد البعير، يطوى بعضها على بعض، سميت بذلك لشدتها.
                                2- ماهية الغضب:
                                فسر تارة بأنه حركة للنفس مبدؤها إرادة الانتقام. وتارة: بإرادة الانتقام. وأخرى: بكيفية تعرض للنفس فيتبعها حركة الروح إلى خارج طلباً للانتقام. ويقرب منه ما قيل: تغير يحدث عند غليان دم القلب....، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((اتَّقُوا الْغَضَبَ فَإِنَّهَا جَمْرَةٌ تُوقَدُ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَلَمْ تَرَ إلَى انْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ وَحُمْرَةِ عَيْنَيْهِ، فَمَنْ أَحَسَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَلْزِقْ بِالأَرْضِ)).
                                3- وصف الله بالغضب:
                                قال ابن عادل -رحمه الله-: "وإذا وصف به الباري تعالى فالمراد به الانتقام لا غيره. قال ابن الخطيب -رحمه الله-: هنا قاعدة كليةٌ، وهي أنَّ جميع الأعراض النَّفسَانية -أعني الرحمة، والفرح، والسُّرور، والغضب، والحَيَاء، والعُتُوّ، والتكبر، والاستهزاء- لها أوائل ولها غايات. ومثاله: الغضب: فإنّ أول غليان دم القلب، وغايته: إرادة إيصال الضَّرَرِ إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب؛ بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار، وأيضاً الحَيَاءُ له أول، وهو انكسار النفس، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب".
                                وقال الطاهر-رحمه الله-: "الغضب هو كيفية للنفس تعرض من حصول ما لا يلائمها فتترتب عليه كراهية الفعل المغضوب منه وكراهية فاعله، ويلازمه الإعراض عن المغضوب عليه ومعاملته بالعنف وبقطع الإحسان وبالأذى، وقد يفضي ذلك إلى طلب الانتقام منه، فيختلف الحد الذي يثور عند الغضب في النفس باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات واختلاف العادات في اعتبار أسبابه.
                                وإذ كانت حقيقة الغضب يستحيل اتصاف الله تعالى بها وإسنادها إليه على الحقيقة للأدلة القطعية الدالة على تنزيه الله تعالى عن التغيرات الذاتية والعرضية، فقد وجب على المؤمن صرف إسناد الغضب إلى الله تعالى عن معناه الحقيقي، وطريقة أهل العلم والنظر في هذا الصرف أن يصرف اللفظ إلى المجاز بعلاقة اللزوم أو إلى الكناية باللفظ عن لازم معناه، فالذي يكون صفة لله عز وجل من معنى الغضب هو لازمه، أعني العقاب والإهانة يوم الجزاء واللعنة أي الإبعاد عن أهل الدين والصلاح في الدنيا أو هو من قبيل التمثيلية.
                                وكان السلف في القرن الأول ومنتصف القرن الثاني يمسكون عن تأويل هذه المتشابهات لما رأوا في ذلك الإمساك من مصلحة الاشتغال بإقامة الأعمال التي هي مراد الشرع من الناس، فلما نشأ النظر في العلم وطلب معرفة حقائق الأشياء وحدث قول الناس في معاني الدين بما لا يلائم الحق، لم يجد أهل العلم بُداً من توسيع أساليب التأويل الصحيح لإفهام المسلم وكبت الملحد، فقام الدين بصنيعهم على قواعده، وتميز المخلص له عن ماكره وجاحده، وكل فيما صنعوا على هدى، وبعد البيان لا يرجع إلى الإجمال أبداً، وما تأولوه إلا بما هو معروف في لسان العرب مفهوم لأهله.
                                فغضب الله تعالى على العموم يرجع إلى معاملته الحائدين عن هديه العاصين لأوامره ويترتب عليه الانتقام وهو مراتب أقصاها عقاب المشركين والمنافقين بالخلود في الدرك الأسفل من النار، ودون الغضب الكراهية، فقد ورد في الحديث: ((وَيَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وإضَاعَةَ المَالِ))، ويقابلهما الرضا والمحبة، وكل ذلك غير المشيئة والإرادة بمعنى التقدير والتكوين، ((وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ))[سورة الزمر: 7] ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ))[سورة الأنعام:112] ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا))[سورة يونس: 99]".

                                تعليق


                                • #46
                                  رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة


                                  ثانياً- ((الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)):
                                  جـ- لم جاء بصلة (ال) اسماً خلافاً لصلة ((الذين)):
                                  أتى بصلة (ال) اسماً خلافاً لصلة ((الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) التي جاءت فعلاً؛ ليشمل سائر الأزمان، وجاءت الصلة هنا على صيغة المبني للمفعول تحسيناً للفظ؛ لأن من طلبت منه الهداية، ونسب الإنعام إليه لا يناسبه نسبة الغضب إليه؛ لأنه مقام تلطف وترفق لطلب الإحسان فلا يحسن مواجهته بصفة الانتقام.
                                  د- لماذا قال: ((الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)) ولم يقل أُغضبت عليهم؟:
                                  جاء باسم المفعول وأسنده للمجهول ليعم الغضب عليهم من الله والملائكة وكل الناس حتى أصدقاؤهم يتبرأ بعضهم من بعض حتى جلودهم تتبرأ منهم ولذا جاءت المغضوب عليهم لتشمل غضب الله وغضب الغاضبين.

                                  تعليق


                                  • #47
                                    رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة

                                    ثالثاً- ((وَلاَ))
                                    أ- (لا):
                                    1- معنى (لا) في اللغة:
                                    هي حرف يكون للنفي وللطلب وزائداً، ولا يكون اسماً.
                                    2- موقع لا هنا:
                                    اختلف في ((لا)) في هذا الموضع:
                                    فقيل: هي زائدة لتأكيد معنى النَّفي المفهوم من ((غير)) لئلا يتوهّم عطف ((الضّالين)) على ((الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)).
                                    وقيل: هي بمعنى ((غير))، وهذا قريبٌ من كونها زائدةً، فإنه لو صرح بـ((غير)) كانت للتأكيد أيضاً.
                                    وجاء في التحرير والتنوير: "الحق أنَّ (لا) مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من لفظ (غير) على طريقة العرب في المعطوف على ما في حيز النفي نحو قوله: ((أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ))[سورة المائدة: 19]، وهو أسلوب في كلام العرب...، وليست زيادة (لا) هنا كزيادتها في نحو: ((قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ))[سورة الأعراف:12]؛ كما توهمه بعض المفسرين؛ لأن تلك الزيادة لفظية ومعنوية؛ لأن المعنى على الإثبات، والتي هنا زيادة لفظية فحسب، والمعنى على النفي".

                                    تعليق


                                    • #48
                                      رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة

                                      ثالثاً- ((وَلاَ))
                                      2- فائدة إيراد (لا) بين المعطوف والمعطوف عليه:
                                      في إيراد (لا) بين المعطوف والمعطوف عليه أربع فوائد:
                                      أحدها: أن ذكرها تأكيد للنفي الذي تضمنه (غير)، فلولا ما فيها من معنى النفي لما عطف عليها بـ(لا) مع الواو، فهو في قوة لا المغضوب عليهم ولا الضالين أو غير المغضوب عليهم وغير الضالين.
                                      الفائدة الثانية: أن المراد المغايرة الواقعة بين النوعين وبين كل نوع بمفرده، فلو لم يذكر (لا) وقيل: (غير المغضوب عليهم والضالين) أوهم أنَّ المراد ما غاير المجموع المركب من النوعين لا ما غاير كل نوع بمفرده، فإذا قيل: ((وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ)) كان صريحاً في أن المراد صراط غير هؤلاء وغير هؤلاء.
                                      وبيان ذلك أنك إذا قلت: ما قام زيد وعمرو فإنما نفيت القيام عنهما، ولا يلزم من ذلك نفيه عن كل واحد منهما بمفرده.
                                      الفائدة الثالثة: رفع توهم أنَّ ((الضالِّين)) وصف للمغضوب عليهم وأنهما صنف واحد، وصفوا بالغضب والضلال ودخل العطف بينهما؛ كما يدخل في عطف الصفات بعضها على بعض نحو قوله تعالى: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ))[سورة المؤمنون:1-3]؛ إلى آخرها فإن هذه صفات المؤمنين، ومثل قوله: ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى))[سورة الأعلى:1-3]، ونظائره، فلما دخلت (لا) علم أنهما صنفان متغايران مقصودان بالذكر...، وكانت (لا) أولى بهذا المعنى من (غير)".

                                      تعليق


                                      • #49
                                        رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة

                                        ثالثاً- ((وَلاَ))
                                        3- لم قال ((وَلَا الضَّالِّينَ)) ولم يقل (غير الضالين)؟
                                        كانت ((لا)) أولى بهذا المعنى من (غير) لوجوه:
                                        أحدها: أنَّها أقل حروفاً.
                                        الثاني: التفادي من تكرار اللفظ.
                                        الثالث: الثقل الحاصل بالنطق بـ(غير) مرتين من غير فصل إلا بكلمة مفردة، ولا ريب أنه ثقيل على اللسان.
                                        الرابع: أن (لا) إنما يعطف بها بعد النفي، فالإتيان بها مؤذن بنفي الغضب عن أصحاب الصراط المستقيم؛ كما نفى عنهم الضلال، و(غير) وإن أفهمت هذا فلا أدخل في النفي منها".

                                        تعليق


                                        • #50
                                          رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة

                                          رابعاً- ((الضَّالِّينَ))
                                          أ- معنى الضلال:
                                          1- لغة:
                                          قال ابن فارس -رحمه الله-: "الضاد واللام أصلٌ صحيح يدلُّ على معنىً واحد، وهو ضياع الشيء وذهابه في غير حقِّه. يقال ضَلَّ يَضِلّ ويَضَلّ، لغتان. وكلُّ جائرٍ عن القصد ضالٌّ. والضَّلال والضَّلالة بمعنى، ورجلٌ ضِلِّيل ومُضلَّل، إذا كان صاحب ضلالٍ وباطل. وممّا يدُلُّ على أنّ أصل الضّلال ما ذكرناه، قولُهم: أُضِلّ الميّتُ، إِذا دفن، وذاك كأنَّهُ شيء قد ضاع. ويقولون: ضَلَّ اللَّبَنُ في الماء، ثم يقولون استُهلِك…".
                                          قال الراغب -رحمه الله-: "الضلال: العدول عن الطريق المستقيم، ويضاده الهداية، قال تعالى: ((مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا))[سورة الإسراء:15]، ويقال الضلال لكل عدول عن المنهج، عمداً كان أو سهواً، يسيراً كان أو كثيراً...
                                          وإذا كان الضلال ترك الطريق المستقيم عمداً كان أو سهواً، قليلاً كان أو كثيراً، صح أن يستعمل لفظ الضلال ممن يكون منه خطأ ما، ولذلك نسب الضلال إلى الأنبياء، وإلى الكفار، وإن كان بين الضلالين بَون بعيد...
                                          والضلال من وجه آخر ضربان: ضلال في العلوم النظرية، كالضلال في معرفة الله ووحدانيته، ومعرفة النبوة، ونحوهما المشار إليهما بقوله: ((وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا))[سورة النساء:136].
                                          وضلال في العلوم العملية، كمعرفة الأحكام الشرعية التي هي العبادات".
                                          2- شرعاً:
                                          جاء الضلال في لسان الشرع مقابل الاهتداء، والاهتداء هو الإيمان الكامل، والضلال ما دون ذلك، قالوا وله عَرض عريض أدناه ترك السنن وأقصاه الكفر. وقد فسرنا الهداية فيما تقدم أنها الدلالة بلطف، فالضلال عدم ذلك، ويطلق على أقصى أنواعه الختمُ والطبعُ والأَكِنَّةُ".

                                          تعليق


                                          • #51
                                            رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة

                                            رابعاً- ((الضَّالِّينَ))
                                            ب- فائدة وصف ((الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) بـ((غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ)):
                                            وقيل في فائدة وصف ((الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) بـ((غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ)) أنَّ الإيمان يكمل بالرَّجاء والخوف، فقوله: ((صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم)) يوجب الرَّجَاء الكامل، وقوله تعالى: ((غَيرِ ٱلمَغضُوبِ عَلَيهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ)) يوجب الخوف الكامل، وحينئذٍ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه، وينتهي إلى حَدِّ الكمال.
                                            وكذلك يهدف وصف ((ٱلَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم)) بأنهم: ((غَيرِ ٱلمَغضُوبِ عَلَيهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ)) التعوذ مما عرض لأممٍ أنعم الله عليهم بالهداية إلى صراط الخير بحسب زمانهم بدعوة الرسل إلى الحق فتقلدوها، ثم طرأ عليهم سوء الفهم فيها فغيروها وما رعوها حق رعايتها، والتبرؤ من أن يكونوا مثلهم في بطر النعمة وسوء الامتثال وفساد التأويل وتغليب الشهوات الدنيوية على إقامة الدين حتى حق عليهم غضب الله تعالى، وكذا التبرؤ من حال الذين هدوا إلى صراط مستقيم، فما صرفوا عنايتهم للحفاظ على السير فيه باستقامة، فأصبحوا من الضالين بعد الهداية؛ إذ أساءوا صفة العلم بالنعمة فانقلبت هدايتهم ضلالاً.

                                            تعليق


                                            • #52
                                              رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة

                                              رابعاً- ((الضَّالِّينَ))
                                              جـ- من هم ((المَغضُوبِ عَلَيهِم)) ومن هم ((الضَّآلِّينَ))؟
                                              اختُلف في ((ٱلمَغضُوبِ عَلَيهِم)) و((ٱلضَّآلِّينَ)) من هم؟
                                              قيل: ((ٱلمَغضُوبِ عَلَيهِم)) المشركون، و((ٱلضَّآلِّينَ)) المنافقون.
                                              وقيل: ((ٱلمَغضُوبِ عَلَيهِم)) باتباع البدع، و((ٱلضَّآلِّينَ)) عن سنن الهدى.
                                              والجمهور على أنَّ ((ٱلمَغضُوبِ عَلَيهِم)) اليهود، و((ٱلضَّآلِّينَ)) النصارى؛ لأنَّ الله عز وجل حكم على اليهود بالغَضَبِ، فقال تعالى: ((مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيهِ))[سورة المائدة:60]، وحكم على النصارى بالضَّلال، فقال تعالى: ((وَلاَ تَتَّبِعُوۤا أَهوَآءَ قَومٍ قَد ضَلُّوا مِن قَبلُ))[سورة المائدة: 77]. ولكونه جاء مفسراً عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه وقصة إسلامه.
                                              قال القرطبي-رحمه الله-: "وهذا حسن، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم أولى وأعلى وأحسن".
                                              وقال الآلوسي-رحمه الله-: "والمراد بالمغضوب عليهم اليهود، وبالضالين النصارى، وقد روى ذلك أحمد في مسنده وحسنه ابن حبان في صحيحه مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود، وقال ابن أبي حاتم: "لا أعلم فيه خلافاً للمفسرين".
                                              فمن زعم أنَّ الحمل على ذلك ضعيف؛ لأنَّ منكري الصانع والمشركين أخبث ديناً من اليهود والنصارى، فكان الاحتراز منهم أولى؛ بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق، ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد؛ لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل، فقد ضل ضلالاً بعيداً إن كان قد بلغه ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد تجاسر على تفسير كتاب الله تعالى مع الجهل بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قاله في منكري الصانع لا يعتد به؛ لأن من لا دين له لا يعتد بذكره".
                                              وعدَّ ابن عاشور-رحمه الله- هذا التفسير الذي في الحديث من باب التمثيل لا الحصر، فقال -رحمه الله-: "المراد من المغضوب عليهم والضالين جنسا فرق الكفر.
                                              فالمغضوب عليهم: جنسٌ للفرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد وعن تأويل بعيد جداً تحمل عليه غلبة الهوى، فهؤلاء سلكوا من الصراط الذي خط لهم مسالك غير مستقيمة فاستحقوا الغضب؛ لأنهم أخطأوا عن غير معذرة؛ إذ ما حملهم على الخطأ إلا إيثار حظوظ الدنيا.
                                              والضالون: جنسٌ للفرق الذين حرفوا الديانات الحق عن عمد وعن سوء فهم.
                                              وكلا الفريقين مذموم معاقب؛ لأن الخلق مأمورون بإتباع سبيل الحق وبذل الجهد إلى إصابته، والحذر من مخالفة مقاصده.
                                              وإذ قد تقدم ذكر المغضوب عليهم وعلم أنَّ الغضبَ عليهم؛ لأنَّهم حادُوا عن الصراط الذي هُدوا إليه فحرموا أنفسهم من الوصول به إلى مرضاة الله تعالى، وأنَّ الضالين قد ضلوا الصراط، فحصل شِبه الاحتباك، وهو أنَّ كلا الفريقين نال حظاً من الوصفين إلا أنَّ تعليق كل وصف على الفريق الذي علق عليه يرشد إلى أن الموصوفين بالضالين هم دون المغضوب عليهم في الضلال، فالمراد المغضوب عليهم غضباً شديداً لأن ضلالهم شنيع، فاليهود مَثَلٌ للفريق الأول والنصارى من جملة الفريق الثاني؛ كما ورد به الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في «جامع الترمذي» وحسَّنه".




                                              إنَّ تفسير ((ٱلمَغضُوبِ عَلَيهِم)) باليهود و((ٱلضَّآلِّينَ)) بالنصارى مع تلازم وصفي الغضب والضلال ليس بتخصيص يقتضي نفي كل صفة عن أصحاب الصفة الأخرى، فإنَّ كل مغضوب عليه ضال، وكل ضال مغضوب عليه؛ لكن ذكر كل طائفة بأشهر وصفيها وأحقها به وألصقه بها وأن ذلك هو الوصف الغالب عليهما. وهذا مطابق لوصف الله اليهود بالغضب في القرآن والنصارى بالضلال، فهو تفسير للآية بالصفة التي وصفهم بها في ذلك الموضع. أما اليهود فقال تعالى في حقهم: ((بِئسَمَا اشتَرَوا بِهِ أَنفُسَهُم أَن يَكفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ))[سورة البقرة:90]...، وأما وصف النصارى بالضلال، ففي قوله تعالى: ((قُل يَا أَهلَ الكِتَابِ لَا تَغلُوا فِي دِينِكُم غَيرَ الحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهوَاءَ قَومٍ قَد ضَلُّوا مِن قَبلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ))[سورة المائدة:77]، فهذا خطاب للنصارى لأنه في سياق خطابه معهم".


                                              تعليق


                                              • #53
                                                رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة



                                                هـ- لم جاء التعبير عن أهل الغضب باسم المفعول وعن الضالين باسم الفاعل؟
                                                جاء التعبير عن أهل الغضب باسم المفعول وعن الضالين باسم الفاعل؛ لأنَّ أهل الغضب من غضب الله عليهم وأصابهم غضبه فهم مغضوب عليهم، وأما أهل الضلال فإنهم هم الذين ضلوا وآثروا الضلال واكتسبوه ولهذا استحقوا العقوبة عليه، ولا يليق أن يقال ولا المضلين مبنياً للمفعول لما في رائحته من إقامة عذرهم، وأنهم لم يكتسبوا الضلال من أنفسهم؛ بل فعل فيهم.


                                                نكمل ما بدأناه من تفسير قوله تعالى: ((غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِم وَلَا الضَّالِّينَ))
                                                رابعاً- ((الضَّالِّينَ))

                                                و- تقديم ((ٱلمَغضُوبِ عَلَيهِم)) على ((ٱلضَّآلِّينَ)):

                                                قدم تعالى ((ٱلمَغضُوبِ عَلَيهِم)) على ((ٱلضَّآلِّينَ)) مع أن الضلال سبب للغضب؛ إذ يقال ضل فغضب عليه لوجوه منها:
                                                1- أن اليهود متقدمون على النصارى بالزمان.
                                                2- أن اليهود كانوا هم الذين يلون النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين فإنهم كانوا جيرانه في المدينة والنصارى كانت ديارهم نائية عنه، ولهذا تجد خطاب اليهود، والكلام معهم في القرآن الكريم أكثر من خطاب النصارى؛ كما في سورة البقرة والمائدة وآل عمران وغيرها من السور.
                                                3- أنَّ اليهود أغلظ كفراً من النصارى، ولهذا كان الغضب أخص بهم، واللعنة والعقوبة، فإنَّ كفرهم عن عناد وبغي؛ كما تقدم فالتحذير من سبيلهم، والبعد منها أحق وأهم بالتقديم، وليس عقوبة من جهل كعقوبة من علم.
                                                4- أنه تقدم ذكر المنعم عليهم والغضب ضد الإنعام، والسورة هي السبع المثاني التي يذكر فيها الشيء ومقابله، فذكر المغضوب عليهم مع المنعم عليهم فيه من الازدواج والمقابلة ما ليس في تقديم الضالين، فقولك: الناس منعم عليه ومغضوب عليه فكن من المنعم عليهم؛ أحسن من قولك: منعم عليه وضال.
                                                5- أنَّ عطف ((وَلَا ٱلضَّآلِّينَ)) على ((غَير ٱلمَغضُوبِ عَلَيهِم)) ارتقاءٌ في التعوذ من شر سوء العاقبة لأنَّ التعوذ من الضلال الذي جلب لأصحابه غضب الله عز وجل لا يغني عن التعوذ من الضلال الذي لم يبلغ بأصحابه تلك الدركات...؛ لأن الدعاء كان بسؤال النفي، فالتدرج فيه يحصل بنفي الأضعف بعد نفي الأقوى.
                                                وهذا كله بناءً على تفسير ((ٱلمَغضُوبِ عَلَيهِم)) باليهود و((ٱلضَّآلِّينَ)) بالنصارى.
                                                6- رعاية الفواصل.



                                                تعليق


                                                • #54
                                                  رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة



                                                  ز- الحكمة في جعل المقبولين طائفةً واحدةً، والمردودين فريقين:
                                                  الحكمة في أنه تعالى جعل المقبولين طائفةً واحدةً، وهم الذين أنعم الله عليهم، والمردودين فريقين: المغضوب عليهم، والضَّالين؛ أنّ الذين كملت نعم الله تعالى عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحَقِّ لذاته، والخير لأجل العمل به، فهؤلاء هم المُرَادون بقوله: ((أَنعَمتَ عَلَيهِم))، فإن اختلّ قيد العمل فهم الفَسَقَةُ، وهم المغضوب عليهم، كما قال تعالى: ((وَمَن يَقتُل مُؤمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ))[سورة النساء: 93]. وإن اختلّ قيد العلم فهم الضَّالون لقوله تعالى: ((فَمَاذَا بَعدَ ٱلحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ))[سورة يونس: 32].

                                                  ح- مناسبة خاتمة السورة لأولها:

                                                  خاتمة سورة الفاتحة مناسبة لكل ما ورد في السورة من أولها إلى آخرها، فمن لم يحمد الله تعالى فهو مغضوب عليه وضال،
                                                  ومن لم يؤمن بيوم الدين وأن الله تعالى مالك يوم الدين وملكه، ومن لم يخص الله تعالى بالعبادة والاستعانة،
                                                  ومن لم يهتد إلى الصراط المستقيم، فهم جميعاً مغضوب عليهم وضالون.

                                                  تعليق


                                                  • #55
                                                    رد: سلسلة التفسير البياني للقرآن الكريم - ســــــورة الفاتحــــة

                                                    حياكم الله

                                                    تعليق

                                                    جاري التحميل ..
                                                    X