وجهة نظر
في الأزمة السورية
د.كمال عبدالله
شهدت الأشهر الماضية تغيرات ملحوظة في السياسات الخارجية وفي الديناميات الداخلية المتعلقة بالأزمة السورية.
روسياً تشدد الكرملين أكثر في مواقفه من الأزمة السورية، وأصبحت أكثر ثباتا ورسوخا في مواجهة الضغوط الغربية .. تأكد ذلك في تصريحات رأس الهرم السياسي في روسيا الرئيس بوتين الذي صرح في المؤتمر السنوي لسفراء روسيا في الخارج والذي عقد في موسكو في 19 يوليو قائلا "يجب على روسيا أن تدافع عن سوريا باستخدام جميع الوسائل الممكنة"، وعزز هذا الموقف مباشرة بإرسال سرب البحرية الروسية القوي إلى الشواطئ السورية.. في الوقت نفسه كرر لافروف تصريحاته الرافضة للتدخل العسكري الأجنبي مذكرا بأن "موسكو لا تدافع عن بشار الاسد بل عن سوريا وشعبها ".
رؤية بوتين المتشددة في الشأن السوري لم تأت من فراغ، وهي تنبع من التحديات العالمية التي يراها تحيق ببلاده..
فالقيادة الروسية ترى أن الأزمة السورية هي إحدى قضايا السياسة العالمية، التي تسعى واشنطن من خلالها لتدمير النظام الدولي القائم، وفرض قواعد لعبة دولية جديدة..
ثانيا، في الأزمة السورية، ظهر حليا دور وفعالية ما يسمى "الأسلحة الناعمة"، والتي تعمل واشنطن وحلفاؤها منذ مدة طويلة على تطويرها وزيادة كفاءة وفعالية أدواتها، وحسب القيادة الروسية فإن هذه الأسلحة ستستخدم لاحقا ضد روسيا والصين.. وبالتالي غدا الدفاع عن سوريا بالنسبة للقيادة الروسية حماية لروسيا كذلك.
ثالثا، موقف روسيا المتشدد في الشأن السوري - هو استعراض للإرادة السياسية، والاستعداد للتحدي والسير حتى النهاية، ليس أمام الولايات المتحدة فحسب، بل وأمام الجار العملاق حليفها الصيني كذلك.. ففي أوساط النخبة الصينية، هناك بعض الدوائر، التي تلوح وإن بنبرة منخفضة بمطامع إقليمية في الأراضي الروسية الشاسعة..
أمريكياً بدأت واشنطن بحذر ضبط موقفها في الشأن السوري تحت تأثير عوامل متعددة أهمها موقف موسكو المتشدد فإن لم تكن الولايات المتحدة مستعدة للمخاطرة بحرب كبرى تحت ضغط الملف الإيراني، فإنها من باب أولى لن تخاطر بالحرب بسبب الأحداث السورية.. هذا العامل الأول.
أما العامل الثاني فهو التزايد الحاد والمفاجئ للعناصر الجهادية المتطرفة في الأزمة السورية.. فقد تجمع في سوريا وفقا لبعض التقارير الغربية ما يزيد عن خمسة آلاف عنصر من "المجاهدين" الأكثر راديكالية قادمين من اثني عشر بلدا..
بطبيعة الحال كانت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (السي آي إيه)، تراهن على تدويل الأزمة وفق السيناريو الأفغاني المجرب، معتبرين أن سوريا يمكن أن تتحول إلى شرك على المدى الطويل بالنسبة لموسكو وطهران كما كانت أفغانستان بالنسبة للاتحاد السوفييتي ..
ولكن النخب العسكرية الغربية تلقت مفاجأة غير سارة عبر عدم قدرتها على التحكم بالحد الأدنى المطلوب بمجموعات السلفيين المتطرفة، حتى عبر الرياض..وقد ظهرت مؤخرا تقارير إعلامية غربية تشير إلى أن المجازر الوحشية للسكان المدنيين في الريف في مايو ويونيو قد تكون من تنفيذ مجموعات تكفيرية متطرفة وليس جيش النظام..
"المتطرفون الجهاديون" باتوا يؤرقون حتى أعتى رموز المعارضة، كونهم باشروا ويقومون بعملياتهم، دون أدنى تنسيق مع قيادة ما يسمى "الجيش السوري الحر" الذي تشرف على تجهيزه وتدريبه في الأراضي التركيةوكالات استخبارات غربية.
علاوة على ذلك، فإن الخلافات بين "الجيش الحر" و"الجهاديين" في تزايد مستمر.. مؤخرا قتل عقيد في "الجيش الحر" بنيران المتطرفين عندما وصل بعض مواقعهم لتعزيز "التنسيق العسكري". وقد اعترف "الجيش الحر" ألا سيطرة له على كثير من مجموعات المسلحين في حلب وريفها..
تعزيز "السلفية الجهادية" المتطرفة في سوريا سيؤدي موضوعيا إلى إضعاف مواقع الإخوان السوريين السياسية..
وأخيرا، فإن العامل الرئيسي الثالث بالنسبة للأمريكان يتلخص في أن الركائز الأساسية لنظام الأسد بقيت متماسكة لم تتزعزع رغم الضربات القاسية التي تلقتها.. فلا تزال الطائفة العلوية متكاتفة ومجيشة إلى جانب النظام، ومعها الأقليات وأكثر المسيحيين، وغالبية الأكراد (وبالأخص المؤيدين لحزب العمال الكردستاني) ونسبة كبيرة من "السنة" وخصوصا في دمشق وحلب..
فشلت المجموعات المسلحة في استمالة سكان دمشق وحلب (وهم يشكلون ما يقرب من نصف سكان سوريا) رغم الهجومين الكبيرين والحملة الإعلامية المصاحبة، فخلال الهجوم على دمشق في يوليو، والذي سموه "بركان دمشق" تمكن المهاجمون من بسط سيطرتهم كليا على حيين اثنين فقط من أحياء العاصمة السورية الكبيرة، وذلك لوجود نسبة معينة من السكان دعمتهم، إلا أن باقي أحياء العاصمة بقيت خارج المواجهة، ولم يلبث المسلحون أن حوصروا، ثم تلقوا ضربة قاصمة في هذين الحيين كبدتهم خسائر فادحة..
هناك من رأى أن هجوم يوليو/ تموز على العاصمة السورية رتب ليفشل، ذلك أن طريقة تنفيذه وإخراجه بهذا الشكل حكمت عليه بالفشل العسكري مسبقا، فيما تكبدت المعارضة المسلحة نتيجته خسائر فادحة في الأرواح (عدة آلاف من القتلى والجرحى) فضلا عن انكشاف ملاذاتهم الآمنة وفقدان البيئة الحاضنة.
أغلب المحللين العسكريين في الغرب استنتجوا بعد فشل عملية دمشق وتعثر عملية حلب وانحسار حدتها إلى أن النظام باق والأوضاع متجهة نحو مواجهة داخلية طويلة المدى، ستتحول الى حرب استنزاف، وقد يؤدي ذلك إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة كلها، في المقام الأول في دول الجوار الأردن، تركيا، السعودية والعراق.. ممما سينعكس سلبا على المصالح الغربية ولذا رأينا إدارة أوباما ترفض تزويد المسلحين في سوريا بأي نوع من الأسلحة القتالية.
وعليه، تبعا للتقدير الغربي ستتوقف الإمدادات العسكرية من تركيا عاجلا أم آجلا..فيما سيحتفظ النظام على المدى المنظور بتفوقه العسكري الحاسم لاسيما في مجال الطيران والمعدات الثقيلة..
معظم المحللين العسكريين يرون أن الوقت يعمل لصالح النظام السوري .. فقد بدأت بالفعل مظاهر الإعياء المعنوي والكلل النفسي تظهر لدى ذلك القطاع من السكان الذي يدعم التمرد..في الوقت الذي عززالنظام صفوفه، وزاد من تماسك نواته الداخلية الصلبة، بعد مقتل آصف شوكت ورفاقه سواء أدرك المنفذون ذلك أم لا..
والله أعلم.
في الأزمة السورية
د.كمال عبدالله
شهدت الأشهر الماضية تغيرات ملحوظة في السياسات الخارجية وفي الديناميات الداخلية المتعلقة بالأزمة السورية.
روسياً تشدد الكرملين أكثر في مواقفه من الأزمة السورية، وأصبحت أكثر ثباتا ورسوخا في مواجهة الضغوط الغربية .. تأكد ذلك في تصريحات رأس الهرم السياسي في روسيا الرئيس بوتين الذي صرح في المؤتمر السنوي لسفراء روسيا في الخارج والذي عقد في موسكو في 19 يوليو قائلا "يجب على روسيا أن تدافع عن سوريا باستخدام جميع الوسائل الممكنة"، وعزز هذا الموقف مباشرة بإرسال سرب البحرية الروسية القوي إلى الشواطئ السورية.. في الوقت نفسه كرر لافروف تصريحاته الرافضة للتدخل العسكري الأجنبي مذكرا بأن "موسكو لا تدافع عن بشار الاسد بل عن سوريا وشعبها ".
رؤية بوتين المتشددة في الشأن السوري لم تأت من فراغ، وهي تنبع من التحديات العالمية التي يراها تحيق ببلاده..
فالقيادة الروسية ترى أن الأزمة السورية هي إحدى قضايا السياسة العالمية، التي تسعى واشنطن من خلالها لتدمير النظام الدولي القائم، وفرض قواعد لعبة دولية جديدة..
ثانيا، في الأزمة السورية، ظهر حليا دور وفعالية ما يسمى "الأسلحة الناعمة"، والتي تعمل واشنطن وحلفاؤها منذ مدة طويلة على تطويرها وزيادة كفاءة وفعالية أدواتها، وحسب القيادة الروسية فإن هذه الأسلحة ستستخدم لاحقا ضد روسيا والصين.. وبالتالي غدا الدفاع عن سوريا بالنسبة للقيادة الروسية حماية لروسيا كذلك.
ثالثا، موقف روسيا المتشدد في الشأن السوري - هو استعراض للإرادة السياسية، والاستعداد للتحدي والسير حتى النهاية، ليس أمام الولايات المتحدة فحسب، بل وأمام الجار العملاق حليفها الصيني كذلك.. ففي أوساط النخبة الصينية، هناك بعض الدوائر، التي تلوح وإن بنبرة منخفضة بمطامع إقليمية في الأراضي الروسية الشاسعة..
أمريكياً بدأت واشنطن بحذر ضبط موقفها في الشأن السوري تحت تأثير عوامل متعددة أهمها موقف موسكو المتشدد فإن لم تكن الولايات المتحدة مستعدة للمخاطرة بحرب كبرى تحت ضغط الملف الإيراني، فإنها من باب أولى لن تخاطر بالحرب بسبب الأحداث السورية.. هذا العامل الأول.
أما العامل الثاني فهو التزايد الحاد والمفاجئ للعناصر الجهادية المتطرفة في الأزمة السورية.. فقد تجمع في سوريا وفقا لبعض التقارير الغربية ما يزيد عن خمسة آلاف عنصر من "المجاهدين" الأكثر راديكالية قادمين من اثني عشر بلدا..
بطبيعة الحال كانت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (السي آي إيه)، تراهن على تدويل الأزمة وفق السيناريو الأفغاني المجرب، معتبرين أن سوريا يمكن أن تتحول إلى شرك على المدى الطويل بالنسبة لموسكو وطهران كما كانت أفغانستان بالنسبة للاتحاد السوفييتي ..
ولكن النخب العسكرية الغربية تلقت مفاجأة غير سارة عبر عدم قدرتها على التحكم بالحد الأدنى المطلوب بمجموعات السلفيين المتطرفة، حتى عبر الرياض..وقد ظهرت مؤخرا تقارير إعلامية غربية تشير إلى أن المجازر الوحشية للسكان المدنيين في الريف في مايو ويونيو قد تكون من تنفيذ مجموعات تكفيرية متطرفة وليس جيش النظام..
"المتطرفون الجهاديون" باتوا يؤرقون حتى أعتى رموز المعارضة، كونهم باشروا ويقومون بعملياتهم، دون أدنى تنسيق مع قيادة ما يسمى "الجيش السوري الحر" الذي تشرف على تجهيزه وتدريبه في الأراضي التركيةوكالات استخبارات غربية.
علاوة على ذلك، فإن الخلافات بين "الجيش الحر" و"الجهاديين" في تزايد مستمر.. مؤخرا قتل عقيد في "الجيش الحر" بنيران المتطرفين عندما وصل بعض مواقعهم لتعزيز "التنسيق العسكري". وقد اعترف "الجيش الحر" ألا سيطرة له على كثير من مجموعات المسلحين في حلب وريفها..
تعزيز "السلفية الجهادية" المتطرفة في سوريا سيؤدي موضوعيا إلى إضعاف مواقع الإخوان السوريين السياسية..
وأخيرا، فإن العامل الرئيسي الثالث بالنسبة للأمريكان يتلخص في أن الركائز الأساسية لنظام الأسد بقيت متماسكة لم تتزعزع رغم الضربات القاسية التي تلقتها.. فلا تزال الطائفة العلوية متكاتفة ومجيشة إلى جانب النظام، ومعها الأقليات وأكثر المسيحيين، وغالبية الأكراد (وبالأخص المؤيدين لحزب العمال الكردستاني) ونسبة كبيرة من "السنة" وخصوصا في دمشق وحلب..
فشلت المجموعات المسلحة في استمالة سكان دمشق وحلب (وهم يشكلون ما يقرب من نصف سكان سوريا) رغم الهجومين الكبيرين والحملة الإعلامية المصاحبة، فخلال الهجوم على دمشق في يوليو، والذي سموه "بركان دمشق" تمكن المهاجمون من بسط سيطرتهم كليا على حيين اثنين فقط من أحياء العاصمة السورية الكبيرة، وذلك لوجود نسبة معينة من السكان دعمتهم، إلا أن باقي أحياء العاصمة بقيت خارج المواجهة، ولم يلبث المسلحون أن حوصروا، ثم تلقوا ضربة قاصمة في هذين الحيين كبدتهم خسائر فادحة..
هناك من رأى أن هجوم يوليو/ تموز على العاصمة السورية رتب ليفشل، ذلك أن طريقة تنفيذه وإخراجه بهذا الشكل حكمت عليه بالفشل العسكري مسبقا، فيما تكبدت المعارضة المسلحة نتيجته خسائر فادحة في الأرواح (عدة آلاف من القتلى والجرحى) فضلا عن انكشاف ملاذاتهم الآمنة وفقدان البيئة الحاضنة.
أغلب المحللين العسكريين في الغرب استنتجوا بعد فشل عملية دمشق وتعثر عملية حلب وانحسار حدتها إلى أن النظام باق والأوضاع متجهة نحو مواجهة داخلية طويلة المدى، ستتحول الى حرب استنزاف، وقد يؤدي ذلك إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة كلها، في المقام الأول في دول الجوار الأردن، تركيا، السعودية والعراق.. ممما سينعكس سلبا على المصالح الغربية ولذا رأينا إدارة أوباما ترفض تزويد المسلحين في سوريا بأي نوع من الأسلحة القتالية.
وعليه، تبعا للتقدير الغربي ستتوقف الإمدادات العسكرية من تركيا عاجلا أم آجلا..فيما سيحتفظ النظام على المدى المنظور بتفوقه العسكري الحاسم لاسيما في مجال الطيران والمعدات الثقيلة..
معظم المحللين العسكريين يرون أن الوقت يعمل لصالح النظام السوري .. فقد بدأت بالفعل مظاهر الإعياء المعنوي والكلل النفسي تظهر لدى ذلك القطاع من السكان الذي يدعم التمرد..في الوقت الذي عززالنظام صفوفه، وزاد من تماسك نواته الداخلية الصلبة، بعد مقتل آصف شوكت ورفاقه سواء أدرك المنفذون ذلك أم لا..
والله أعلم.
تعليق