قمة المقاومة وقمة التهافت / ياسين عز الدين
بينت قمة غزة التي عقدت في الدوحة يوم الجمعة الماضي أن ما يعيق اتخاذ قرارات حازمة وحاسمة ليس ما يسمى بالانقسام العربي ولا ضعف الإمكانيات العربية، وأن الدول العربية كانت دائماً تضطر إلى الانحياز إلى أضعف المواقف وأكثرها هزالاً باسم وحدة الموقف العربي، وأن هنالك أنظمة عربية محددة تتسابق على خفض سقف المواقف العربية، وتضع الآخرين أمام خيارين: إما مسايرتها أو التسبب بانقسام الصف العربي.
لا نقول أن قمة الدوحة اتخذت مواقف ثورية تقلب موازين القوى مع الاحتلال، لكنها أثبتت كذب كل الحجج التي كانت تساق لتبرير عدم اتخاذ مواقف، واليوم أصبح جلياً أنه يمكن تجميد العلاقات مع الكيان، وأنه يمكن تجميد مبادرات "تصفية نهاية موسم القضية الفلسطينية"، وأنه يمكن الحديث علناً عن تسليح ودعم المقاومة، دون أن تتأثر مصالح الدول الخاصة، وبات تبرير التقاعس والتهافت بالضغوط الأمريكية وضعف الإمكانيات حديثاً مكذوباً مفضوحاً لا أساس له على أرض الواقع.
ويؤكد ذلك الدول التي حضرت قمة الدوحة، منها أربع دول كانت تملك كل الأسباب لكي لا تحضر، فكان حضورها (وغيرها) فضحاً لأنظمة كانت وما زالت تتخذ الضغوط الخارجية والظرف الدولي ذريعة للتهافت وتقديم التنازل تلو الآخر للصهاينة.
الحضور العراقي:
كان على رأس أهداف الغزو الأمريكي للعراق كسر العمق العربي للشعب الفلسطيني، وتحويل العراق إلى أداة وجزء لا يتجزأ من المشروع الصهيوني في الشرق الأوسط الجديد، الذي نظّر له شمعون بيريس وحاول جورج بوش تطبيقه، وكان ضمن ما خطط للعراق أن يكون الدولة التي تستقبل اللاجئين الفلسطينيين، وخاصة أبناء المخيمات اللبنانية، وذلك تمهيداً لتصفية القضية الفلسطينية.
واليوم بعد ستة أعوام من احتلال العراق يبدو أن كل شيء تغير في العراق إلا الموقف تجاه القضية الفلسطينية، ورأينا كيف اتحد الشعب العراقي بكل أطيافه وتبايناته وراء المقاومة في غزة، حتى أن الحكومة العراقية كان لها مواقف متقدمة على كثير من الأنظمة العربية، فإذا استطاعت حكومة تحت الاحتلال الأمريكي إرسال نائب رئيس الجمهورية إلى الدوحة، رغماً عن الرفض الأمريكي- ومن يعرف عقلية وزارة الخارجية الأمريكية يدرك حجم الضغوط المتنوعة وغير المعلنة على الحكومة العراقية كي لا تذهب، فما هو مبرر الدول ذات "السيادة" و"الثقل الإقليمي" التي لم تذهب؟
الحضور الموريتاني:
يحكم موريتانيا مجلس عسكري جاء عن طريق إنقلاب قبل بضعة أشهر، وهو يتعرض لضغوط من الأوروبيين وأمريكا تحت مسمى الدفاع عن الديموقراطية، وكان بإمكان المجلس الحاكم أن يكسب قلب الأمريكان عن طريق تعزيز العلاقة مع الصهاينة، مثلما فعل الرئيس الموريتاني المخلوع ولد الطايع الذي أقام العلاقات الدبلوماسية مع الكيان قبل عشر أعوام، ويضمن بذلك رضا الأمريكان والأوروبين ويتجاوزوا عن حقيقته الإنقلابية.
إلا أن المجلس العسكري فضل حلاً آخر، وهو ركوب الموجة ومسايرة المطالب الشعبية وذهب رئيسه إلى الدوحة، وقرر تجميد العلاقات مع الكيان الصهيوني، فأثبت النظام الموريتاني أن الشرعية لا تأتي حصراً من الولايات المتحدة، وأن أمريكا ليس الضمانة الوحيدة لاستقرار كرسي الحكم، والأهم من ذلك أثبت مجلس الحكم أنه يمكن أن تتقاطع مصالح ومطالب الشعب مع مصالح الأنظمة.
الحضور الليبي:
كلنا يذكر كيف أقدمت ليبيا قبل خمسة أعوام بالضبط على تفكيك برامج أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها، وكيف خضعت للابتزاز الغربي في قضية لوكربي وقضية الممرضات البلغاريات، لكن موقف النظام الليبي من العدوان على غزة ومشاركته بمؤتمر الدوحة، يشير إلى إمكانية تقديم التنازلات في جوانب والتمسك بالثوابت في جوانب أخرى.
لم تعد مقنعةً نظرية النظام المصري وسلطة عباس (ومن هو على شاكلتهم) أن لا خيار إلا الانبطاح الشامل لأمريكا، وثبت فشل نظرية السادات بأن 99% من أوراق الحل بيد أمريكا، لقد بين لنا النظام الليبي الفرق بين من يقدم التنازلات اضطراراً وإنحاءً أمام العاصفة، وبين من أصيب بإسهال التنازلات وداء التفريط وفقدان المناعة السياسية.
حضور جزر القمر:
بداية نعرف بجزر القمر، حيث لا يعلم الكثيرون شيئاً عنها: هي عبارة عن أربع جزر صغيرة تقع في المحيط الهندي جنوب شرقي القارة الأفريقية، وأصول سكانها عربية، ويتكلمون اللغة السواحلية (خليط من اللغة العربية ولهجات أفريقية)، مساحتها 2200 كم2 وعدد سكانها 800 ألف نسمة، وهي مثل أغلب الدول الأفريقية دولة فقيرة وتعاني من تخلف اقتصادي شديد، وعانت الجزر منذ استقلالها عن فرنسا قبل 34 عاماً من انقلابات واضطرابات عديدة.
رئيسها الحالي أحمد عبد الله سامبي هو داعية إسلامي فاضل، جاء إلى الحكم عن طريق الانتخابات الديموقراطية، وهو يتبع سياسة التوجه نحو العمق العربي، رغم أن هذا العمق لا يساعده على ذلك مفضلاً خسارة مليارات الدولارات في بورصات الناسداك والداو جونز على استثمارها في دول عربية فقيرة مثل جزر القمر.
كان بإمكان رئيس جزر القمر إقامة علاقات مع الكيان الصهيوني والارتماء بأحضان أمريكا، فهي طريق مضمونة للحصول على مساعدة ودعم الأنظمة المرتبطة بالولايات المتحدة، لكنه يصر على الارتباط بالعمق العربي مهما كان هذا العمق عقيماً ومنفراً، كان بإمكانه تفادي غضب النظامين السعودي والمصري والغياب عن القمة، وله ألف ذريعة وحجة للغياب، لكن مثله مثل كل رئيس ينتخب بطريقة ديموقراطية وحرة لا يستطيع إلا الاستجابة لرغبات شعبه.
على هامش القمتين:
شاهدنا السهولة التي اتخذت بها قرارات قمة الدوحة، وكيف حددت المقاومة الفلسطينية مطالبها المتواضعة، وكيف استجاب لها المجتمعون بدون تردد أو تمييع أو مماطلة، وشاهدنا كيف دافع ممثل سلطة دايتون في قمة الكويت باستماتة عن مبادرة السلام العربية، وشاهدنا كيف أدى تعنت أنظمة التهافت العربي إلى خروج بيان هزيل ومقتضب بخصوص غزة على هامش قمة الكويت، توقعنا إجراءات تقشفية في هذه القمة الاقتصادية لكن لم يقل لنا أحد أنها ستكون مقتصدة بقرارات دعم الشعب الفلسطيني.
تطلب أضعف الأيمان اتخاذ موقف يفهم منه الصهاينة أن ما فعلوه في غزة لن يمر هكذا ودون عقاب أو عتاب، لكن أن تضنوا بمجرد العتاب فهذا تجاوز لكل الحدود، وهذا ليس نتيجة خوف أو إنقسام بل هو نتيجة عقلية عبثية معشعشة في عقول البعض، عبر عنها وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل الذي قال أنه التمسك بمبادرة السلام العربية لكي "نحرج إسرائيل"، وأقول له لماذا لا ترسل بناتك جواري إلى قواعد جيش الاحتلال، ولماذا لا ترسل أولادك ليذبحوا في غزة لعل حرج "إسرائيل" يزداد ولعل منسوب الخجل لدى الصهاينة يرتفع قليلاً.
حصل حدث لم ينتبه له الكثيرون ليلة الجمعة الماضية، بعيد انعقاد مؤتمر الدوحة، ألا وهو تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار بخصوص العدوان الصهيوني على غزة، طرح أمام الجمعية قرارين الأول طرحته الإكوادور نيابة عن عدد من الدول الإسلامية وأمريكا الجنوبية، يدين بشكل واضح العدوان الصهيوني، وقرار آخر مائع قدمته سلطة عباس بالتنسيق مع الأوروبيين يعيد التأكيد على قرار مجلس الأمن، وبعد نقاش حاد وأخذ ورد مرر قرار السلطة، لكن بعد أن امتنعت تسع دول من بينها إيران وسوريا وفنزويلا واندونيسيا عن التصويت، بات العالم يدرك اليوم أن هنالك مقاومة تمثل شعب، وأن هنالك سلطة تمثل المحتل.
الخلاصة:
لم يعد مقبولاً علينا التذرع بالضغوط الخارجية والمصالح حجة للتهافت تحت أقدام أمريكا والصهاينة، كما أن عهد التنازل عن المواقف المبدئية لصالح وحدة الصف قد ولى وانتهى إلى غير رجعة، فلم يعد مقبولاً أن يحدد محمود عباس سقف القرار الفلسطيني، ولم يعد مقبولاً أن يكون ثمن المصالحة الوطنية إطلاق العنان لمفاوضات عباس العبثية، ولم يعد مقبولاً الحديث عن حكومة وحدة وطنية تستجيب للشروط والاملاءات الصهيونية، ولم يعد مقبولاً الحديث عن وحدة وطنية وهنالك أجهزة أمنية تتعامل جهاراً نهاراً مع العدو الصهيوني.
كما لم يعد مقبولاً أن تكون كلمة أنظمة التهافت العربي هي التي تمثل الموقف العربي، ولم يعد مقبولاً أن يكون صوت الانهزام والتبعية هو الذي يمثل الشعب الفلسطيني في الأمم المتحدة، فمعركة الفرقان وضعت أسساً جديدة، وقمة الدوحة هي نتيجة من نتائج معركة الفرقان، وهي تؤرخ لعهد جديد أصبح فيه لقوى المقاومة والممانعة الصوت الأعلى ليس على الصعيد الشعبي فحسب بل أيضاً على الصعيد الرسمي، كما أنها فضحت كل الذين كانوا يمارسون الابتزاز: "إذا أردتم وحدة الموقف فعليكم تبني نهج التهافت"، لقد ولى عهد المساومة والتهافت وجاء عهد المقاومة.
لكل زعماء التهافت العربي نقول: "لكم تهافتكم ولنا مقاومتنا"، هذا هو شعار المرحلة....
تعليق