العلاقات الدولية في الإسلام
مراعاة القوانين الدولية من الشريعة، وليس تحكيماً للطاغوت
تخضع الدولة الإسلامية لنوعين من التعاملات، الأول: هو تعامل داخلي مع مواطنيها، والثاني: هو تعامل خارجي مع الدول الأخرى.
وهي في تعاملها مع شعبها تتحاكم إلى قانون الشريعة الإسلامية وإلى العدل، أما في تعاملها مع الدول الأخرى؛ فإنها ترجع إلى المعاهدات والمصالح.
ولما كان الغالب على الدول الأخرى أنها غير إسلامية؛ فإنه لم يكن باستطاعة الدولة الإسلامية إلزام هذه الدول بالتحاكم إلى الشريعة، لكونها دولاً غير مؤمنة بالشريعة؛ وبناءً على هذا كان المرجع في العلاقات الدولية هو "المعاهدات" سواء كانت هذه المعاهدات عامة، مثل هيئة الأمم المتحدة، أو معاهدات خاصة مع دولة بعينها، وبنود هذه المعاهدات توضع وفق المصالح المشتركة، وقدرة كل دولة على فرض شروطها.
ولقد غفل أتباع الجماعات التكفيرية، والجماعات الإسلامية الراديكالية، عن التفريق بين هذين النوعين من التعاملات؛ وحكموا بتحريم الانضمام إلى الهيئات الدولية، وتكفير من تحاكم إلى القوانين والمعاهدات الدولية، وقد أداهم هذا إلى تكفير الحكام والحكومات الإسلامية بتهمة "تحكيم الطواغيت"، وسأبين في هذه المقالة الأصول الشرعية للمعاهدات الدولية، وأنه لا يشترط في بنودها أن تكون مطابقة لأحكام الشريعة الإسلامية.
وقبل ذلك سأقدم بمقدمة عن طبيعة علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول، وأن الأصل في هذه العلاقة هو السلم.
علاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ.إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} حتى قوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(الممتحنة:1-9).
واضح من سياق الآيات أن المنهي عن الإلقاء إليهم بالمودة هم الذين كفروا بالحق، وطردوا المؤمنين، وظاهروا على ذلك، وقاتلوهم بسبب دينهم، والذين لا يتورعون عن بسط أيديهم وألسنتهم بالسوء ضد المؤمنين. ويظهر من سياق هذه الآيات وسبب نزولها أنها خاصة في قريش (ومن في حكمها).
أما من عدا قريشاً (ومن في حكمها)، وهم أكثر أهل الأرض، فعلاقتنا بهم هي البر والإقساط.
وفي قوله تعالى (قاتلوكم في الدين): قيدت الآية القتال بأنه بسبب الدين، ولم تطلقه.
ولذا ذهب كثير من العلماء إلى أن الأصل في العلاقة مع غير المسلمين، هو السلم، والبر والإقساط، وليس القتال كما زعم بعضهم.
والأدلة على هذا كثيرة، فمنها:
قول الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}(الأنفال: من الآية61)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة:208)، {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً}(النساء: من الآية90)، {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ}(النساء: من الآية94).
فهذه النصوص، وغيرها كثير، تبين أن الأصل هو "السلم"...وتدعو إليه، وتحذر من الحرب...وتسميها خطوات الشيطان.
وقد وردت آيات فيها الأمر بشن الحرب مطلقاً؛ ويمكن لنا الجمع بين الآيات بطريقتين:
الطريقة الأولى: أنها آيات مطلقة، بينما نجد أن الآيات التي فيها أن القتال شرع القتال لدفع الظلم، أو قطع الفتنة وحماية الدعوة: مقيدة، والمقيد مقدم على المطلق، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}(الحج:39- 40)، وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (البقرة:193).
الطريقة الثانية: أن هذه الآيات خاصة فيمن نزلت فيه، ومن هو من جنسه، ويدل على هذا سياق الآيات وأسباب النزول، فمن ذلك الآية التي يستدل بها على أن القتال هو الأصل، وهي قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}، وهؤلاء يستشهدون بالآية هكذا، باترين لها من سياقها، لكن لو أتممنا كتابة الآية؛ فسيتضح المعنى، حيث قال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين َ} (البقرة:191). فانظر إلى قوله: (وأخرجوهم من حيث أخرجوكم)، وقوله: (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه).
وقال بعض الفقهاء: إن الأصل هو القتال، وليس السلم؛ لكن ينبغي التنبه إلى أن أولئك الفقهاء كتبوا مصنفاتهم تحت ضغط واقعهم، فحكمَ بعضهم بأن الأصل هو القتال، وهذا ما كان عليه الوضع في زمنهم، ولم يكن هذا بحكم الشريعة، كما ذكر الشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور وهبة الزحيلي.
أما تسمية بعض الفقهاء بلاد غير المسلمين (بلاد حرب)؛ فهذا لم يكن إلا وصفاً للواقع الذي كان العالم يموج فيه، في حروب لا تنقطع.
قال الشيخ أبو زهرة (وهو أحد علماء الأزهر، قال عنه الزركلي: أكبر علماء الشريعة الإسلامية في عصره. توفي سنة 1394) : "الأصل في العلاقات بين المسلمين وغيرهم هو السلم، وأن ذلك هو رأي الجمهرة العظمى من الفقهاء، والقلة التي خالفت: ما كان نظرها إلى الأصل بل نظرها إلى الواقع، وكان ما قررته حكماً زمنياً، وليس أصلاً دينياً، وإن تسمية دار المخالفين (دارَ حربٍ) لا يمنع من أن الأصل هو السلم".
وقال الدكتور وهبة الزحيلي (وهو: عميد كلية الشريعة في جامعة دمشق، وأستاذ الفقه فيها): "الأصل في العلاقات الدولية في الإسلام هو السلم، حتى يكون اعتداء على البلاد أو الدعاة أو حرمات الإسلام أو المسلمين، بفتنتهم عن دينهم.
والحرب حينئذٍ ضرورة للدفاع عن النفس والمال أو العقيدة، والإسلام نفسه مشتق من السلام، وتحية المسلمين هي السلام، والله هو السلام، والجنة دار السلام، والحياة لا تزدهر إلا بالسلام".
وعقد عبد الله البسام (وهو من علماء السعودية، وكان عضواً في هيئة كبار العلماء، حتى وفاته سنة 1423) فصلاً في الرد على من قال إن الإسلام انتشر بالقتال وإراقة الدماء، ومما قال فيه: "الدين الإسلامي قام على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ونادى بالسلام، ودعا إليه، فإن السلام مشتق من الإسلام [كذا، ولعله العكس].
ومن تتبع نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة، التي منها وصايا النبي، صلى الله عليه وسلم، لأمراء جيوشه، ومنها سيرته صلى الله عليه وسلم في الغزوات: علم أن الإسلام جاء بالحكمة، والرحمة، والسلام، والوئام، وأنه جاء بالإصلاح لا بالإفساد.
اقرأ قوله تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}، واقرأ قوله تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}، وقوله تعالى: {قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا}.
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة، وأما السنة: فكل أعمال النبي، صلى الله عليه وسلم، في الحرب، ووصاياه لقواده ناطقة بذلك....
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في هذا الباب، حقق فيها أن قتال الكفار: لأجل مدافعتهم عن المسلمين، وصدهم عن الدعوة إلى الله تعالى، واستدل على ذلك بأدلة كثيرة، من الكتاب والسنة والاعتبار وكلام العلماء، وذكر أنه قول جمهور السلف والخلف".
المعاهدات الدولية:
قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:4)، وقال: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لهم}(التوبة: من الآية7)، وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(الأنفال: من الآية72).
وأما السنة فقد تواترت أخبار المعاهدات، والمعاهدين فيها، سواء من السنة القولية أو الفعلية.
فمن ذلك: الأحاديث الناهية عن قتل وإيذاء المعاهدين، ومنها ما أخرجه أبو داود (3052) عن صفوان بن سليم أنه أخبره عدة (في رواية أنهم ثلاثون) من أبناء أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن آبائهم دنية، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة" صححه السخاوي.
وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً".رواه البخاري (3166) من حديث عبد الله بن عمرو، ورواه النسائي (8: 24)، وأبو داود (2760) من حديث أبي بكرة، وفي الباب عن غيرهما.
ومنها: فعل النبي، صلى الله عليه وسلم، حيث عاهد اليهود في المدينة.
وقال لقريش يوم الفتح: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، ولم يضع عليهم جزية.
وغير ذلك كثير.
ولا يشترط في هذه المعاهدات أن تكون خاضعة لقانون الشريعة؛ بل تكون وفق ما يراه ولي الأمر من مصلحة المسلمين، ويدل على هذا فعل النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، حيث صالح النبي، صلى الله عليه وسلم، قريشاً في صلح الحديبية، واتفق معهم على أشياء كانت من المصلحة، ولم تكن خاضعة لقانون الشريعة بين المسلمين، ففي حديث صلح الحديبية الطويل أن سهيل بن عمرو قال للنبي: " هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً، فدعا النبي، صلى الله عليه وسلم، الكاتب؛ فقال النبي،صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم. قال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم. ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله" وكان مما اتفقوا عليه في ذلك الصلح: أن يرجع المسلمون ولا يعتمرون حتى يكون العام المقبل، وانه لا يأتي المشركين رجل ارتد إلا حموه ولم يردوه إلى النبي، وأنه لا يأتي المسلمين رجلٌ أسلم إلا ردوه إلى المشركين، فوافق النبي، صلى الله عليه وسلم، على هذه الشروط، وردَّ إلى المشركين أبا جندل وأبا بصير.
وهذا يدل على أن الذي يراعى في العلاقات الدولية هو مصلحة البلد وظروفه.
ومن قرأ تاريخ المسلمين، من الصحابة ومن بعدهم على اليوم، وجده مملوءاً بالشواهد على هذه القضية.
مراعاة الأعراف الدولية:
ومراعاة القيم والأعراف الدولية، لها أصل في الشريعة، كما قال النبي لرسولي مسيلمة: "لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما" رواه أبو داود (2761)، وصححه ابن حبان.
و كان هذان الرسولان مسلمين ثم ارتدا وصارا من أصحاب مسليمة الكذاب، ولم يقم عليهما النبي، صلى الله عليه وسلم، حدَّ الردة، مراعاة للأعراف الدولية في عصره، فقوله: "لولا أن الرسل لا تقتل" أي في عرف الناس، وإلا فإنه لم يرد نص شرعي بعدم قتلهم.
ومما سبق يظهر أن مراعاة القوانين والمعاهدات والأعراف الدولية؛ من الشريعة، وليست من التحاكم إلى الطاغوت كما يزعم التكفيريون.
( منقول)
مراعاة القوانين الدولية من الشريعة، وليس تحكيماً للطاغوت
تخضع الدولة الإسلامية لنوعين من التعاملات، الأول: هو تعامل داخلي مع مواطنيها، والثاني: هو تعامل خارجي مع الدول الأخرى.
وهي في تعاملها مع شعبها تتحاكم إلى قانون الشريعة الإسلامية وإلى العدل، أما في تعاملها مع الدول الأخرى؛ فإنها ترجع إلى المعاهدات والمصالح.
ولما كان الغالب على الدول الأخرى أنها غير إسلامية؛ فإنه لم يكن باستطاعة الدولة الإسلامية إلزام هذه الدول بالتحاكم إلى الشريعة، لكونها دولاً غير مؤمنة بالشريعة؛ وبناءً على هذا كان المرجع في العلاقات الدولية هو "المعاهدات" سواء كانت هذه المعاهدات عامة، مثل هيئة الأمم المتحدة، أو معاهدات خاصة مع دولة بعينها، وبنود هذه المعاهدات توضع وفق المصالح المشتركة، وقدرة كل دولة على فرض شروطها.
ولقد غفل أتباع الجماعات التكفيرية، والجماعات الإسلامية الراديكالية، عن التفريق بين هذين النوعين من التعاملات؛ وحكموا بتحريم الانضمام إلى الهيئات الدولية، وتكفير من تحاكم إلى القوانين والمعاهدات الدولية، وقد أداهم هذا إلى تكفير الحكام والحكومات الإسلامية بتهمة "تحكيم الطواغيت"، وسأبين في هذه المقالة الأصول الشرعية للمعاهدات الدولية، وأنه لا يشترط في بنودها أن تكون مطابقة لأحكام الشريعة الإسلامية.
وقبل ذلك سأقدم بمقدمة عن طبيعة علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول، وأن الأصل في هذه العلاقة هو السلم.
علاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ.إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} حتى قوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(الممتحنة:1-9).
واضح من سياق الآيات أن المنهي عن الإلقاء إليهم بالمودة هم الذين كفروا بالحق، وطردوا المؤمنين، وظاهروا على ذلك، وقاتلوهم بسبب دينهم، والذين لا يتورعون عن بسط أيديهم وألسنتهم بالسوء ضد المؤمنين. ويظهر من سياق هذه الآيات وسبب نزولها أنها خاصة في قريش (ومن في حكمها).
أما من عدا قريشاً (ومن في حكمها)، وهم أكثر أهل الأرض، فعلاقتنا بهم هي البر والإقساط.
وفي قوله تعالى (قاتلوكم في الدين): قيدت الآية القتال بأنه بسبب الدين، ولم تطلقه.
ولذا ذهب كثير من العلماء إلى أن الأصل في العلاقة مع غير المسلمين، هو السلم، والبر والإقساط، وليس القتال كما زعم بعضهم.
والأدلة على هذا كثيرة، فمنها:
قول الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}(الأنفال: من الآية61)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة:208)، {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً}(النساء: من الآية90)، {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ}(النساء: من الآية94).
فهذه النصوص، وغيرها كثير، تبين أن الأصل هو "السلم"...وتدعو إليه، وتحذر من الحرب...وتسميها خطوات الشيطان.
وقد وردت آيات فيها الأمر بشن الحرب مطلقاً؛ ويمكن لنا الجمع بين الآيات بطريقتين:
الطريقة الأولى: أنها آيات مطلقة، بينما نجد أن الآيات التي فيها أن القتال شرع القتال لدفع الظلم، أو قطع الفتنة وحماية الدعوة: مقيدة، والمقيد مقدم على المطلق، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}(الحج:39- 40)، وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (البقرة:193).
الطريقة الثانية: أن هذه الآيات خاصة فيمن نزلت فيه، ومن هو من جنسه، ويدل على هذا سياق الآيات وأسباب النزول، فمن ذلك الآية التي يستدل بها على أن القتال هو الأصل، وهي قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}، وهؤلاء يستشهدون بالآية هكذا، باترين لها من سياقها، لكن لو أتممنا كتابة الآية؛ فسيتضح المعنى، حيث قال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين َ} (البقرة:191). فانظر إلى قوله: (وأخرجوهم من حيث أخرجوكم)، وقوله: (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه).
وقال بعض الفقهاء: إن الأصل هو القتال، وليس السلم؛ لكن ينبغي التنبه إلى أن أولئك الفقهاء كتبوا مصنفاتهم تحت ضغط واقعهم، فحكمَ بعضهم بأن الأصل هو القتال، وهذا ما كان عليه الوضع في زمنهم، ولم يكن هذا بحكم الشريعة، كما ذكر الشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور وهبة الزحيلي.
أما تسمية بعض الفقهاء بلاد غير المسلمين (بلاد حرب)؛ فهذا لم يكن إلا وصفاً للواقع الذي كان العالم يموج فيه، في حروب لا تنقطع.
قال الشيخ أبو زهرة (وهو أحد علماء الأزهر، قال عنه الزركلي: أكبر علماء الشريعة الإسلامية في عصره. توفي سنة 1394) : "الأصل في العلاقات بين المسلمين وغيرهم هو السلم، وأن ذلك هو رأي الجمهرة العظمى من الفقهاء، والقلة التي خالفت: ما كان نظرها إلى الأصل بل نظرها إلى الواقع، وكان ما قررته حكماً زمنياً، وليس أصلاً دينياً، وإن تسمية دار المخالفين (دارَ حربٍ) لا يمنع من أن الأصل هو السلم".
وقال الدكتور وهبة الزحيلي (وهو: عميد كلية الشريعة في جامعة دمشق، وأستاذ الفقه فيها): "الأصل في العلاقات الدولية في الإسلام هو السلم، حتى يكون اعتداء على البلاد أو الدعاة أو حرمات الإسلام أو المسلمين، بفتنتهم عن دينهم.
والحرب حينئذٍ ضرورة للدفاع عن النفس والمال أو العقيدة، والإسلام نفسه مشتق من السلام، وتحية المسلمين هي السلام، والله هو السلام، والجنة دار السلام، والحياة لا تزدهر إلا بالسلام".
وعقد عبد الله البسام (وهو من علماء السعودية، وكان عضواً في هيئة كبار العلماء، حتى وفاته سنة 1423) فصلاً في الرد على من قال إن الإسلام انتشر بالقتال وإراقة الدماء، ومما قال فيه: "الدين الإسلامي قام على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ونادى بالسلام، ودعا إليه، فإن السلام مشتق من الإسلام [كذا، ولعله العكس].
ومن تتبع نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة، التي منها وصايا النبي، صلى الله عليه وسلم، لأمراء جيوشه، ومنها سيرته صلى الله عليه وسلم في الغزوات: علم أن الإسلام جاء بالحكمة، والرحمة، والسلام، والوئام، وأنه جاء بالإصلاح لا بالإفساد.
اقرأ قوله تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}، واقرأ قوله تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}، وقوله تعالى: {قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا}.
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة، وأما السنة: فكل أعمال النبي، صلى الله عليه وسلم، في الحرب، ووصاياه لقواده ناطقة بذلك....
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في هذا الباب، حقق فيها أن قتال الكفار: لأجل مدافعتهم عن المسلمين، وصدهم عن الدعوة إلى الله تعالى، واستدل على ذلك بأدلة كثيرة، من الكتاب والسنة والاعتبار وكلام العلماء، وذكر أنه قول جمهور السلف والخلف".
المعاهدات الدولية:
قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:4)، وقال: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لهم}(التوبة: من الآية7)، وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(الأنفال: من الآية72).
وأما السنة فقد تواترت أخبار المعاهدات، والمعاهدين فيها، سواء من السنة القولية أو الفعلية.
فمن ذلك: الأحاديث الناهية عن قتل وإيذاء المعاهدين، ومنها ما أخرجه أبو داود (3052) عن صفوان بن سليم أنه أخبره عدة (في رواية أنهم ثلاثون) من أبناء أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن آبائهم دنية، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة" صححه السخاوي.
وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً".رواه البخاري (3166) من حديث عبد الله بن عمرو، ورواه النسائي (8: 24)، وأبو داود (2760) من حديث أبي بكرة، وفي الباب عن غيرهما.
ومنها: فعل النبي، صلى الله عليه وسلم، حيث عاهد اليهود في المدينة.
وقال لقريش يوم الفتح: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، ولم يضع عليهم جزية.
وغير ذلك كثير.
ولا يشترط في هذه المعاهدات أن تكون خاضعة لقانون الشريعة؛ بل تكون وفق ما يراه ولي الأمر من مصلحة المسلمين، ويدل على هذا فعل النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، حيث صالح النبي، صلى الله عليه وسلم، قريشاً في صلح الحديبية، واتفق معهم على أشياء كانت من المصلحة، ولم تكن خاضعة لقانون الشريعة بين المسلمين، ففي حديث صلح الحديبية الطويل أن سهيل بن عمرو قال للنبي: " هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً، فدعا النبي، صلى الله عليه وسلم، الكاتب؛ فقال النبي،صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم. قال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم. ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله" وكان مما اتفقوا عليه في ذلك الصلح: أن يرجع المسلمون ولا يعتمرون حتى يكون العام المقبل، وانه لا يأتي المشركين رجل ارتد إلا حموه ولم يردوه إلى النبي، وأنه لا يأتي المسلمين رجلٌ أسلم إلا ردوه إلى المشركين، فوافق النبي، صلى الله عليه وسلم، على هذه الشروط، وردَّ إلى المشركين أبا جندل وأبا بصير.
وهذا يدل على أن الذي يراعى في العلاقات الدولية هو مصلحة البلد وظروفه.
ومن قرأ تاريخ المسلمين، من الصحابة ومن بعدهم على اليوم، وجده مملوءاً بالشواهد على هذه القضية.
مراعاة الأعراف الدولية:
ومراعاة القيم والأعراف الدولية، لها أصل في الشريعة، كما قال النبي لرسولي مسيلمة: "لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما" رواه أبو داود (2761)، وصححه ابن حبان.
و كان هذان الرسولان مسلمين ثم ارتدا وصارا من أصحاب مسليمة الكذاب، ولم يقم عليهما النبي، صلى الله عليه وسلم، حدَّ الردة، مراعاة للأعراف الدولية في عصره، فقوله: "لولا أن الرسل لا تقتل" أي في عرف الناس، وإلا فإنه لم يرد نص شرعي بعدم قتلهم.
ومما سبق يظهر أن مراعاة القوانين والمعاهدات والأعراف الدولية؛ من الشريعة، وليست من التحاكم إلى الطاغوت كما يزعم التكفيريون.
( منقول)
تعليق