بسم الله الرحمن الرحيم
فقه
فقه ( الموازنات ) واحد من خمسة أنواع من الفقه ينبغي على أبناء الحركة الإسلامية التركيز عليها وفهمها ، وهي بالإضافة لفقه الموازنات : فقه المقاصد ، وفقه الأولويات أو مراتب الأعمال ، وفقه السنن الكونية والاجتماعية ، وفقه الاختلاف .
وفقه الموازنات الذي نحن هنا بصدده ، هو في حقيقته مبني على فقه الواقع ودراسته دراسة علمية مبنية على ما يسره لنا عصرنا من معلومات وإمكانات ، وآثرنا تسميته في عنوان هذا المقال ( فقه التنازلات ) لسببين :
الأول : لأن فقه الموازنات في حقيقته يتضمن تنازلات في بعض الأحيان .
الثاني : لأن ما حدث في صلح الحديبية وكذلك ما حدث في صلح مكة هو تقديم تنازلات ، وإن كانت في دائرة المساحة المسموح بها شرعاً .
وهنا لابد أن نُذكَّر :
أولاً : إن المواقف التي تصلح لمرحلة ( التنظيم ) أو ما قبل الدولة ، ربما لا تصلح في مرحلة (الدولة ) وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار الهجمة الكبيرة – والتي فاقت كل التوقعات – على حكومتنا ، حيث لم يكن أمامنا أن نختار بين أسود وأبيض ، بقدر وَضْع جملة الخيارات في دائرة فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد ، أو الموازنة بين جملة من المفاسد ، لم يكن أمامنا خيار إلا أن نقبل بأقلها ضرراً على شعبنا وحركتنا .
ثانياً : ليس كل تنازل للأعداء مرفوضاً ، وليست كل استجابة لمطالبهم أمراً منكراً ، والفقه في ذلك تحقيق أعلى المكاسب بأدنى التنازلات ، والوصول إلى الخير المحبوب وإن مرَّ ببوابة الُمبغض المكروه ، والموازنة بين المصالح والمفاسد .
صلح الحديبية ، وفقه ( التنازلات )
ولدينا في صلح الحديبية مساحة كبيرة نستطيع أن نتحرك من خلالها ونقيس ما حدث من اتفاق في مكة على ما حدث في الحديبية .
فالمتأمل في شروط الحديبية يرى فيها الغبن والحيف ظاهرين على المسلمين من الكافرين في إملاء جملة من الشروط وذلك كالتالي :
1- ألم يَمنعوا المسلمين من كتابة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وقالوا : لا نَعرفُ إلا رحمان اليمامة ، ولكن اكتب : (باسمك اللهم ) فرفض المسلمون ذلك وأقرها النبي ، أليس ذلك تنازلاً ؟
2- ثم رفضوا كتابة ( هذا ما قضى عليه محمد رسول الله ) ، وقالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب : (محمد بن عبد الله )، فقال النبي : إني رسول الله وإن كذبتموني ، اكتب محمد بن عبد الله ، فقبل النبي بما أرادوا ، أليس ذلك تنازلاً ؟ وكانت هذه الاعتراضات منهم ( حميةً جاهلية ) كما أخبر الله عنهم في كتابة ، وإلا فقد تحققوا صدقه ، وأيقنوا صحة رسالته بالبراهين التي رأوها وسمعوا بها( ) .
3- حتى إذا وصلوا إلى شرط : ( على ألا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ) ، قال المسلمون : سبحان الله ! كيف يُرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً ؟ وفي تلك الأثناء قدم
( أبوجندل بن سهيل بن عمرو ) يَرْسُف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين ، فقال أبوه ( سهيل ) : هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إليّ ، فقال النبي : إنّا لم نقض الكتاب بعد ، قال سهيل :إذاً والله لا أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي : فأجزه لي ! فرفض سهيل ، ثم استصرخ أبو جندل ( المسلمين ) وحرك عواطفهم قائلاً : يا معشر المسلمين : أُردُّ إلى المشركين وقد جئت مسلماً ، ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عُذب في الله عذاباً شديداً ، فتأثر المسلمون وكان عمر من أشدهم تأثراً حتى أتى النبي وقال : يا رسول الله ! ألست نبي الله حقاً : قال : بلى ! قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ! فقلت : علام نعطي الدنية في ديننا إذاً ، ونرجع ولم يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟ فقال :إني رسول الله وهو ناصري ، ولست أعطيه .
4-ومن التنازلات الكبيرة التي قدمها المسلمون من أجل تحقيق مصلحة أكبر في صلح الحديبية ، أنهم صُدوا عن المسجد الحرام ، فقبل المسلمون بذلك ، على أن يعودوا في العام القادم ، وقد حكى القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى :هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [الفتح :25] .
5- يحسب من لا فقه له أن أي تعامل مع المشركين هو في حساب التنازلات المرفوضة ، وأن أي تعاون مع نفر منهم هو مناقض للبراءة منهم ، وأن أي استجابة تُعد نقيصة في الدين ، وضعفاً في التعامل معهم ، وكان ما حدث قُبيل الحديبية بل السيرة النبوية تصحح هذا المفهوم ، فقد بعث النبي من ( ذي الحليفة ) بشر بن سفيان الخزاعي عيناً له إلى قريش ليأتيه بخبرهم ، وقد كان بشر ما زال على شركه ، بل كانت ( خزاعة ) عيبة نصح رسول الله ( ) ( مسلمهم وكافرهم ) لا يُخفون عليه شيئاً كان بمكة ( ) .
قال ابن القيم رحمه الله معلقاً : ( وفي قصة الحديبية من الفقه أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة ، لأن بشر الخزاعي كان كافراً إذ ذاك ، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو ، وأخذه أخبارهم )( ) .
6- إن الحدَّة والشِّدة والعنف والتشنج ليست من لوازم القوة ، والمسامحة والمهادنة والتعقل والمداراة ليست مؤشرات للضعف والأمور تختلف بأحوالها ، والناجح من وظَّف الموقف المناسب في الوقت المناسب ، فليس الشديد بالصرعة ، وإن من البيان لسحراً ، وإذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها ، والمداراة من أخلاق المؤمنين ، والمداهنة سيما المنافقين .
ومن تأمل هديه ومواقفه في الحديبية وجدها محققة للغرض وإن غلب عليها المسامحة والمفاهمة ، ولذا قال العلماء بجواز بعض المسامحة في أمر الدين واحتمال الضيم ما لم يكن قادحاً في أصله ، إذا تعين ذلك طريقاً للسلامة في الحال والصلاح في المآل ، سواء كان ذلك في حال ضعف المسلمين أو قوتهم ، وأن التابع لا يليق به الاعتراض على المتبوع بمجرد ما يظهر في الحال ، بل عليه التسليم ، لأن المتبوع أعرف بمآل الأمور غالباً بكثرة التجربة ، ولاسيما مع من هو مؤيد بالوحي ( ) .
فتأمل أخي القارئ /
هل هناك أعظم من أن يُصد المسلم عن بيت الله الحرام ، حيث خرج المسلمون من المدينة ، لا يريدون قتالاً إنما خرجوا معتمرين قد ساقوا معهم الهدي ، ثم بعد كل هذا ، تُملى وتُفرض عليهم الشروط ، ويمنعوا من البيت الذي هو مأوى أفئدة المسلمين ، كم كانت هذه ثقيلة على النفس ، لكن بالرغم ذلك تنازل المسلمون من أجل مصلحة أكبر .
ثم هل هناك أعظم من أن يلقي مسلم مظلوم هارب من المشركين ، يلقي بنفسه بين ظهرانَي المسلمين ، فيُفرض على المسلمين تسليمه للمشركين ، بالرغم من استصراخه واستغاثته ، إلا أن المسلمين تنازلوا وقبلوا بتسليمه للمشركين .
ثم تأمل أخي القارئ :
إن رسول الله المؤيد من ربه لم يكن متعطشاً للدماء ، داعية حرب ، بل كان داعية سلام ، لذا نجده في الحديبية يُصلي بأصحابه صلاة الخوف في عُسفان وذلك حين بلغه قرب خيل المشركين ( ) . وليتفادى الاشتباك مع المشركين سلك طريقاً وعرة عبر ثنية المرار ( مهبط الحديبية ) وعندما بركت ناقته القصواء في الحديبية وقال الناس : خلأت القصواء ، قال : ( ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل ) ثم قال عليه الصلاة والسلام : ( والذي نفسي بيده لا يسألونني–يعني قريشاً–خُطة يُعظِّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)( ) وفي رواية : (وَاللَّهِ لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إِلَى خُطَّةٍ يَسْأَلُونِي فِيهَا صِلَةَ الرَّحِمِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا )( ) . ورغم عدوان قريش وكبريائها فقد ظل حريصاً على إسلامهم مفضلاً حقن الدماء بينه وبينهم متحسراً على أكل الحرب لهم وقد عبّر بقوله : ( يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلُّوا بيني وبين سائر الناس ؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون )( ) .
قال ابن القيم رحمه الله :
ومن فوائد قصة الحديبية : ( أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيمٌ على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ، ودفع ما هو شرُ منه ، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما ) ( ).
وهكذا يكون الفقه في التنازلات تحقيق المصلحة الكبرى ، وإن وقع مفسدة أقل ،وما أحوجنا إلى هذا الفقه ! وهو الذي قال عنه ابن القيم : ( وهذا من أدق المواضع وأصعبها ، وأشقها على النفس ) ( ).
نعم ! إن رفض الآخر سهل ، والقطع بعدم التفاهم والتعاون مع المخالفين ، لا يحتاج مزيد فقه ،ولكن هل يحقق الخير المطلوب ،وهل ينكأ العدو ، وماذا يترتب عليه من المفاسد؟ تلك قضايا لا بد من إعادة النظر فيها في تعاملنا مع أعدائنا وتحقيق المكاسب لإسلامنا على هدى السيرة النبوية .
اتهام النفس والرأي :
كم نُزكي أنفسنا والله يقول : ( فلا تُزكوا أنفسكم ) [ النجم :32] وكم نصحح مواقفنا ونُخطئ غيرنا ، وأحد الصحابة ( سهل ابن حنيف ، رضي الله عنه ) يقول حين قدم من
( صفين ) : اتهموا الرأي ، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ( الحديبية ) ولو أستطيع أن أرد على رسول الله أمره لرددت ، والله ورسوله أعلم ( ).
إن حق المسلم أن يجتهد في رأيه ، ولكن مع تقدير آراء الآخرين ،وليس بالضرورة أن يكون اجتهاده هو الحق ،بل قد يكون الحق مع مخالفيه ، ولذا ينبغي ألا يَحمل المسلم على إخوانه المسلمين ، ويُسيء الظن بهم ،وإن خالفوا الرأي ، بل ينبغي أن يعود إلى نفسه ويتهمها ،وليست القوة بالمعارضة أبداً ،ولا يعنى أن المسلم الموافق لغيره ضعيفٌ وجبانٌ .
وفي تباين موقف الشيخين أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – في شروط الصلح ما يؤكد هذا ، فعمر تأثر للشروط وعارض وأبو بكر سلَم و رضي ، وكان أقوى من غيره إيماناً وتسليماً ، حتى قال ابن القيم : (والصدِّيق تلقَّاه بالرضى والتسليم حتى كان قلبه على قلب رسول الله ، وذلك يدل على أفضل الصحابة وأكملهم وأعرفهم بالله – تعالى – ورسول الله ، وأعلمهم بدينه وأقومهم بمحابِّه وأشدهم موافقه له )( ) ، أجل لقد انبلج الصبح ، وأصبح الصلحُ فتحاً ، والغبن في الظاهر نصراً مبيناً ، وعاد عمر إلى نفسه يؤنبها حتى كان يصوم ويتصدق ليكفر عما سلف منه – بالرغم أن الذي حدث منه ومن غيره من الصحابة غَيرة على الإسلام – وقد فهم رضي الله عنه بعد هو وغيره من الصحابة أن الغيرة ينبغي أن تكون في مكانها ،وإن اتهام النفس وارد ، وإن التنازل إذا حقق مكاسب عليا فهو السياسة الشرعية والسنة النبوية التي ينبغي أن تقتفى ، بل لقد أكرم الله المؤمنين بالنصر العزيز والسكينة المطمئنة كما أخبر في سورة الفتح
قال ابن القيم : (وتأمل كيف وصف – سبحانه – النصر بأنه عزيزٌ في هذا الموطن ، ثم ذكر إنزال السكينة في قلوب المؤمنين في هذا الموطن الذي اضطربت فيه القلوب وقلقت أشد القلق ، في أحوج ما كانت إلى السكينة ، فازدادوا بها إيماناً إلى إيمانهم ( ).
والنجاح الأكبر والاستثمار الأعظم هو استثمار النبي لهذه الفرصة ( الهدنة ) وتحييد قريش ، للتفرغ لخصوم آخرين ، وثمة فرص للدعوة لدين الحق هذا أوانها وميدانها ، وقد كان . ففي الجانب الحربي غزا النبي ( اليهود ) في ( خيبر) وأدبهم وغنم أموالهم وعقد الصلح معهم ، وفي الجانب السلمي تقدمت الدعوة خطوات في أرض الحجاز وما حولها ودخل في دين الله – زمن الهدنة – أضعاف ما دخل من قبل . وعن هذه المكاسب الدعوية يقول الزهري – رحمه الله - : " فما فُتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه ، إنما كان القتال حيث التقى الناس ، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضاً والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، فلم يُكلَّم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه ولقد دخل في تينك السنين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر " أ . هـ .
قال ابن هشام : " والدليل على قول الزهري أن رسول الله خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة – في قول جابر – ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف " ( ) .
بين اتفاق مكة وصلح الحديبية
بداية لا يختلف اثنان في أن السبب الأهم والرئيس في نجاح الاتفاق وإنجازه هو حجم الدماء التي سالت في شوارع غزة ، هذه الدماء حاصرت الحركتين ولم تسمح لهما أن يخرجا بدون اتفاق .
والناس في موقفهم من حماس في هذا الاتفاق فريقان :
- الأول : مشفقٌ محبٌ لهذه الحركة وحريص على مصلحة القضية والمشروع الإسلامي .
- والآخر فريق شامت يتربص بهذه الحركة الدوائر ، يبحث عن ثُلمة أو ثغرة ، يَلجُ من خلالها للتشهير بهذه الحركة أمام جماهيرها واتهامها أنها قد تنازلت عن ثوابتها ، وللأسف الشديد فإن الفريق الأول قد تأثر بهذه الحملة الإعلامية المضللة . وأمام هذه الأسئلة والجدل الذي يدور من الفريقين حول هذا الاتفاق ، لابد من توضيح جملة من الأمور :
- أولاً : يقول البعض إن الحركة قد قدمت تنازلات في اتفاق مكة ، ويبالغ آخرون فيصفونها بالمخالفات الشرعية . ولعلي أوافق الذين يقولون بأن الحركة قد قدمت تنازلات ، وهذا يتضح لكل من تابع مسيرة المفاوضات بين الحركتين وذلك منذ اليوم الأول الذي وصلت فيه حماس إلى سدة الحكم ، وهذا من طبيعة المفاوضات ، أن يقدم كل طرف بعض التنازلات ، وإلا فستبقى المفاوضات تراوح مكانها ، ولكن نؤكد أن ذلك ليس على إطلاقه ، وإنما وقع في حدود المساحة المسموح بها شرعاً ، فهو اجتهاد في دائرة الظنيات ، التي تقبل هذا النوع من الاجتهاد .
- ثانياً: إن اتفاق مكة جاء في سياق فقه المصالح والمفاسد ، ومعالم هذا الفقه تمثلت في الآتي :
1- إن الاتفاق دفع مفسدة كبيرة عن الشعب الفلسطيني حيث حقن الدماء ، وهذا يشبه إلى حدٍ كبير ما فعله رسول الله يوم الحديبية حين قال : (وَاللَّهِ لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إِلَى خُطَّةٍ يَسْأَلُونِي فِيهَا صِلَةَ الرَّحِمِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا ) وهذا هو فقه المصالح بعينه وإن شئت فسمه فقه التنازلات . فالرسول هنا على استعداد أن يعطي قريش ما يطلبون في سبيل حقن الدماء ، والتي تقطع صلة الأرحام .
2- إن من المصالح التي حققها الاتفاق للشعب الفلسطيني ، حكومة الوحدة الوطنية، وهي أول حكومة وحة وطنية في تاريخ الشعب الفلسطيني ، وهذا سيسجله التاريخ لهذه الحركة
3- إن المناكفات التي وقعت بين حماس و فتح طوال فترة الحكومة ، شغلت الحركة عن كثير من القضايا الهامة وعلى رأسها الصف الداخلي وأمور الدعوة ، أما الآن فقد أصبح أمام الحركة فرصة كبيرة لإعادة ترتيب صفوفنا وحركتنا والاشتغال بالدعوة والتربية .
- ثالثاً : إن النص الذي جاء في خطاب التكليف الذي وجهه الرئيس عباس إلى إسماعيل هنية والذي أثار البعض حوله جدلاً وتساؤلات نَصُه : ( ادعوكم كرئيس للحكومة المقبلة للالتزام بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني وصون حقوقه والحفاظ على مكتسباته وتطويرها والعمل على تحقيق أهدافه الوطنية كما أقرتها قرارات المجالس الوطنية ومواد القانون الأساسي ووثيقة الوفاق الوطني وقرارات القمم العربية ، وعلى أساس ذلك أدعوكم إلى احترام قرارات الشرعية الدولية والاتفاقات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية) .
وهنا لابد من التأمل في عبارة (أدعوكم إلى احترام ) فهناك فرق بين الاحترام والالتزام ، وعلى كل حال فكلمة (احترام ) حمَّالةُ وجوهٍ ، لكنها لا تُلزم الحركة بشيء ولاسيما إذا علمنا أن خطاب الحركة فيما يتعلق بالاعتراف بشرعية إسرائيل لم يتغير ولن يتغير ، حيث مازالت حماس وستبقى ترفض الاعتراف بشرعية إسرائيل وهو أحد الشروط الأساسية التي تطالب بها قوى دولية لرفع الحظر المفروض عن حماس ، وهذا يؤكد أن التنازلات التي جاءت في اتفاق مكة شكلية ونوع من المناورة السياسية .
- رابعاً : من الطبيعي جداً أن نسمع بعض الأصوات الداخلية الساخطة على الاتفاق ، ومثل هذه الأصوات ، لابد أن نُحسن الظن بهم ، فهم يعبرون عن غَيرتهم ، لذا يجب أن نفتح صدورنا لهم ونحاورهم في أجواء يسودها الحب والإخاء . كذلك علينا ألا نتشنج أمام بعض الجماعات الإسلامية الناقدة لنا ، ولنتذكر أننا لو كنا خارج الحكومة ، ما اضطررنا إلى ما اضطررنا إليه ونحن في داخل الحكومة . فأمثال هؤلاء يجب أن نحاورهم بالتي هي أحسن .
- خامساً : يجب أن نترفق بإخواننا وبأنفسنا ولنحفظ حبل الود بيننا وليكن حسن الظن أصلاً راسخاً في علاقاتنا وتعاملنا ، فذاك يسهم في وحدتنا ، ولا يدع مجالاً للشيطان للتحريش بيننا ، ولا يعني ذلك بحال ترك التناصح ، فالمؤمن مرآة أخيه ، والنصيحة واجبة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وكتبه أبو الحسن يوسف علي فرحات
21/ربيع أول / 1428هـ - 8/4/2007م
فقه
( الموازنات )
بين اتفاق مكة وصلح الحديبية
بين اتفاق مكة وصلح الحديبية
فقه ( الموازنات ) واحد من خمسة أنواع من الفقه ينبغي على أبناء الحركة الإسلامية التركيز عليها وفهمها ، وهي بالإضافة لفقه الموازنات : فقه المقاصد ، وفقه الأولويات أو مراتب الأعمال ، وفقه السنن الكونية والاجتماعية ، وفقه الاختلاف .
وفقه الموازنات الذي نحن هنا بصدده ، هو في حقيقته مبني على فقه الواقع ودراسته دراسة علمية مبنية على ما يسره لنا عصرنا من معلومات وإمكانات ، وآثرنا تسميته في عنوان هذا المقال ( فقه التنازلات ) لسببين :
الأول : لأن فقه الموازنات في حقيقته يتضمن تنازلات في بعض الأحيان .
الثاني : لأن ما حدث في صلح الحديبية وكذلك ما حدث في صلح مكة هو تقديم تنازلات ، وإن كانت في دائرة المساحة المسموح بها شرعاً .
وهنا لابد أن نُذكَّر :
أولاً : إن المواقف التي تصلح لمرحلة ( التنظيم ) أو ما قبل الدولة ، ربما لا تصلح في مرحلة (الدولة ) وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار الهجمة الكبيرة – والتي فاقت كل التوقعات – على حكومتنا ، حيث لم يكن أمامنا أن نختار بين أسود وأبيض ، بقدر وَضْع جملة الخيارات في دائرة فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد ، أو الموازنة بين جملة من المفاسد ، لم يكن أمامنا خيار إلا أن نقبل بأقلها ضرراً على شعبنا وحركتنا .
ثانياً : ليس كل تنازل للأعداء مرفوضاً ، وليست كل استجابة لمطالبهم أمراً منكراً ، والفقه في ذلك تحقيق أعلى المكاسب بأدنى التنازلات ، والوصول إلى الخير المحبوب وإن مرَّ ببوابة الُمبغض المكروه ، والموازنة بين المصالح والمفاسد .
صلح الحديبية ، وفقه ( التنازلات )
ولدينا في صلح الحديبية مساحة كبيرة نستطيع أن نتحرك من خلالها ونقيس ما حدث من اتفاق في مكة على ما حدث في الحديبية .
فالمتأمل في شروط الحديبية يرى فيها الغبن والحيف ظاهرين على المسلمين من الكافرين في إملاء جملة من الشروط وذلك كالتالي :
1- ألم يَمنعوا المسلمين من كتابة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وقالوا : لا نَعرفُ إلا رحمان اليمامة ، ولكن اكتب : (باسمك اللهم ) فرفض المسلمون ذلك وأقرها النبي ، أليس ذلك تنازلاً ؟
2- ثم رفضوا كتابة ( هذا ما قضى عليه محمد رسول الله ) ، وقالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب : (محمد بن عبد الله )، فقال النبي : إني رسول الله وإن كذبتموني ، اكتب محمد بن عبد الله ، فقبل النبي بما أرادوا ، أليس ذلك تنازلاً ؟ وكانت هذه الاعتراضات منهم ( حميةً جاهلية ) كما أخبر الله عنهم في كتابة ، وإلا فقد تحققوا صدقه ، وأيقنوا صحة رسالته بالبراهين التي رأوها وسمعوا بها( ) .
3- حتى إذا وصلوا إلى شرط : ( على ألا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ) ، قال المسلمون : سبحان الله ! كيف يُرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً ؟ وفي تلك الأثناء قدم
( أبوجندل بن سهيل بن عمرو ) يَرْسُف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين ، فقال أبوه ( سهيل ) : هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إليّ ، فقال النبي : إنّا لم نقض الكتاب بعد ، قال سهيل :إذاً والله لا أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي : فأجزه لي ! فرفض سهيل ، ثم استصرخ أبو جندل ( المسلمين ) وحرك عواطفهم قائلاً : يا معشر المسلمين : أُردُّ إلى المشركين وقد جئت مسلماً ، ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عُذب في الله عذاباً شديداً ، فتأثر المسلمون وكان عمر من أشدهم تأثراً حتى أتى النبي وقال : يا رسول الله ! ألست نبي الله حقاً : قال : بلى ! قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ! فقلت : علام نعطي الدنية في ديننا إذاً ، ونرجع ولم يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟ فقال :إني رسول الله وهو ناصري ، ولست أعطيه .
4-ومن التنازلات الكبيرة التي قدمها المسلمون من أجل تحقيق مصلحة أكبر في صلح الحديبية ، أنهم صُدوا عن المسجد الحرام ، فقبل المسلمون بذلك ، على أن يعودوا في العام القادم ، وقد حكى القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى :هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [الفتح :25] .
5- يحسب من لا فقه له أن أي تعامل مع المشركين هو في حساب التنازلات المرفوضة ، وأن أي تعاون مع نفر منهم هو مناقض للبراءة منهم ، وأن أي استجابة تُعد نقيصة في الدين ، وضعفاً في التعامل معهم ، وكان ما حدث قُبيل الحديبية بل السيرة النبوية تصحح هذا المفهوم ، فقد بعث النبي من ( ذي الحليفة ) بشر بن سفيان الخزاعي عيناً له إلى قريش ليأتيه بخبرهم ، وقد كان بشر ما زال على شركه ، بل كانت ( خزاعة ) عيبة نصح رسول الله ( ) ( مسلمهم وكافرهم ) لا يُخفون عليه شيئاً كان بمكة ( ) .
قال ابن القيم رحمه الله معلقاً : ( وفي قصة الحديبية من الفقه أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة ، لأن بشر الخزاعي كان كافراً إذ ذاك ، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو ، وأخذه أخبارهم )( ) .
6- إن الحدَّة والشِّدة والعنف والتشنج ليست من لوازم القوة ، والمسامحة والمهادنة والتعقل والمداراة ليست مؤشرات للضعف والأمور تختلف بأحوالها ، والناجح من وظَّف الموقف المناسب في الوقت المناسب ، فليس الشديد بالصرعة ، وإن من البيان لسحراً ، وإذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها ، والمداراة من أخلاق المؤمنين ، والمداهنة سيما المنافقين .
ومن تأمل هديه ومواقفه في الحديبية وجدها محققة للغرض وإن غلب عليها المسامحة والمفاهمة ، ولذا قال العلماء بجواز بعض المسامحة في أمر الدين واحتمال الضيم ما لم يكن قادحاً في أصله ، إذا تعين ذلك طريقاً للسلامة في الحال والصلاح في المآل ، سواء كان ذلك في حال ضعف المسلمين أو قوتهم ، وأن التابع لا يليق به الاعتراض على المتبوع بمجرد ما يظهر في الحال ، بل عليه التسليم ، لأن المتبوع أعرف بمآل الأمور غالباً بكثرة التجربة ، ولاسيما مع من هو مؤيد بالوحي ( ) .
فتأمل أخي القارئ /
هل هناك أعظم من أن يُصد المسلم عن بيت الله الحرام ، حيث خرج المسلمون من المدينة ، لا يريدون قتالاً إنما خرجوا معتمرين قد ساقوا معهم الهدي ، ثم بعد كل هذا ، تُملى وتُفرض عليهم الشروط ، ويمنعوا من البيت الذي هو مأوى أفئدة المسلمين ، كم كانت هذه ثقيلة على النفس ، لكن بالرغم ذلك تنازل المسلمون من أجل مصلحة أكبر .
ثم هل هناك أعظم من أن يلقي مسلم مظلوم هارب من المشركين ، يلقي بنفسه بين ظهرانَي المسلمين ، فيُفرض على المسلمين تسليمه للمشركين ، بالرغم من استصراخه واستغاثته ، إلا أن المسلمين تنازلوا وقبلوا بتسليمه للمشركين .
ثم تأمل أخي القارئ :
إن رسول الله المؤيد من ربه لم يكن متعطشاً للدماء ، داعية حرب ، بل كان داعية سلام ، لذا نجده في الحديبية يُصلي بأصحابه صلاة الخوف في عُسفان وذلك حين بلغه قرب خيل المشركين ( ) . وليتفادى الاشتباك مع المشركين سلك طريقاً وعرة عبر ثنية المرار ( مهبط الحديبية ) وعندما بركت ناقته القصواء في الحديبية وقال الناس : خلأت القصواء ، قال : ( ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل ) ثم قال عليه الصلاة والسلام : ( والذي نفسي بيده لا يسألونني–يعني قريشاً–خُطة يُعظِّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)( ) وفي رواية : (وَاللَّهِ لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إِلَى خُطَّةٍ يَسْأَلُونِي فِيهَا صِلَةَ الرَّحِمِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا )( ) . ورغم عدوان قريش وكبريائها فقد ظل حريصاً على إسلامهم مفضلاً حقن الدماء بينه وبينهم متحسراً على أكل الحرب لهم وقد عبّر بقوله : ( يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلُّوا بيني وبين سائر الناس ؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون )( ) .
قال ابن القيم رحمه الله :
ومن فوائد قصة الحديبية : ( أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيمٌ على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ، ودفع ما هو شرُ منه ، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما ) ( ).
وهكذا يكون الفقه في التنازلات تحقيق المصلحة الكبرى ، وإن وقع مفسدة أقل ،وما أحوجنا إلى هذا الفقه ! وهو الذي قال عنه ابن القيم : ( وهذا من أدق المواضع وأصعبها ، وأشقها على النفس ) ( ).
نعم ! إن رفض الآخر سهل ، والقطع بعدم التفاهم والتعاون مع المخالفين ، لا يحتاج مزيد فقه ،ولكن هل يحقق الخير المطلوب ،وهل ينكأ العدو ، وماذا يترتب عليه من المفاسد؟ تلك قضايا لا بد من إعادة النظر فيها في تعاملنا مع أعدائنا وتحقيق المكاسب لإسلامنا على هدى السيرة النبوية .
اتهام النفس والرأي :
كم نُزكي أنفسنا والله يقول : ( فلا تُزكوا أنفسكم ) [ النجم :32] وكم نصحح مواقفنا ونُخطئ غيرنا ، وأحد الصحابة ( سهل ابن حنيف ، رضي الله عنه ) يقول حين قدم من
( صفين ) : اتهموا الرأي ، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ( الحديبية ) ولو أستطيع أن أرد على رسول الله أمره لرددت ، والله ورسوله أعلم ( ).
إن حق المسلم أن يجتهد في رأيه ، ولكن مع تقدير آراء الآخرين ،وليس بالضرورة أن يكون اجتهاده هو الحق ،بل قد يكون الحق مع مخالفيه ، ولذا ينبغي ألا يَحمل المسلم على إخوانه المسلمين ، ويُسيء الظن بهم ،وإن خالفوا الرأي ، بل ينبغي أن يعود إلى نفسه ويتهمها ،وليست القوة بالمعارضة أبداً ،ولا يعنى أن المسلم الموافق لغيره ضعيفٌ وجبانٌ .
وفي تباين موقف الشيخين أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – في شروط الصلح ما يؤكد هذا ، فعمر تأثر للشروط وعارض وأبو بكر سلَم و رضي ، وكان أقوى من غيره إيماناً وتسليماً ، حتى قال ابن القيم : (والصدِّيق تلقَّاه بالرضى والتسليم حتى كان قلبه على قلب رسول الله ، وذلك يدل على أفضل الصحابة وأكملهم وأعرفهم بالله – تعالى – ورسول الله ، وأعلمهم بدينه وأقومهم بمحابِّه وأشدهم موافقه له )( ) ، أجل لقد انبلج الصبح ، وأصبح الصلحُ فتحاً ، والغبن في الظاهر نصراً مبيناً ، وعاد عمر إلى نفسه يؤنبها حتى كان يصوم ويتصدق ليكفر عما سلف منه – بالرغم أن الذي حدث منه ومن غيره من الصحابة غَيرة على الإسلام – وقد فهم رضي الله عنه بعد هو وغيره من الصحابة أن الغيرة ينبغي أن تكون في مكانها ،وإن اتهام النفس وارد ، وإن التنازل إذا حقق مكاسب عليا فهو السياسة الشرعية والسنة النبوية التي ينبغي أن تقتفى ، بل لقد أكرم الله المؤمنين بالنصر العزيز والسكينة المطمئنة كما أخبر في سورة الفتح
قال ابن القيم : (وتأمل كيف وصف – سبحانه – النصر بأنه عزيزٌ في هذا الموطن ، ثم ذكر إنزال السكينة في قلوب المؤمنين في هذا الموطن الذي اضطربت فيه القلوب وقلقت أشد القلق ، في أحوج ما كانت إلى السكينة ، فازدادوا بها إيماناً إلى إيمانهم ( ).
والنجاح الأكبر والاستثمار الأعظم هو استثمار النبي لهذه الفرصة ( الهدنة ) وتحييد قريش ، للتفرغ لخصوم آخرين ، وثمة فرص للدعوة لدين الحق هذا أوانها وميدانها ، وقد كان . ففي الجانب الحربي غزا النبي ( اليهود ) في ( خيبر) وأدبهم وغنم أموالهم وعقد الصلح معهم ، وفي الجانب السلمي تقدمت الدعوة خطوات في أرض الحجاز وما حولها ودخل في دين الله – زمن الهدنة – أضعاف ما دخل من قبل . وعن هذه المكاسب الدعوية يقول الزهري – رحمه الله - : " فما فُتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه ، إنما كان القتال حيث التقى الناس ، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضاً والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، فلم يُكلَّم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه ولقد دخل في تينك السنين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر " أ . هـ .
قال ابن هشام : " والدليل على قول الزهري أن رسول الله خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة – في قول جابر – ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف " ( ) .
بين اتفاق مكة وصلح الحديبية
بداية لا يختلف اثنان في أن السبب الأهم والرئيس في نجاح الاتفاق وإنجازه هو حجم الدماء التي سالت في شوارع غزة ، هذه الدماء حاصرت الحركتين ولم تسمح لهما أن يخرجا بدون اتفاق .
والناس في موقفهم من حماس في هذا الاتفاق فريقان :
- الأول : مشفقٌ محبٌ لهذه الحركة وحريص على مصلحة القضية والمشروع الإسلامي .
- والآخر فريق شامت يتربص بهذه الحركة الدوائر ، يبحث عن ثُلمة أو ثغرة ، يَلجُ من خلالها للتشهير بهذه الحركة أمام جماهيرها واتهامها أنها قد تنازلت عن ثوابتها ، وللأسف الشديد فإن الفريق الأول قد تأثر بهذه الحملة الإعلامية المضللة . وأمام هذه الأسئلة والجدل الذي يدور من الفريقين حول هذا الاتفاق ، لابد من توضيح جملة من الأمور :
- أولاً : يقول البعض إن الحركة قد قدمت تنازلات في اتفاق مكة ، ويبالغ آخرون فيصفونها بالمخالفات الشرعية . ولعلي أوافق الذين يقولون بأن الحركة قد قدمت تنازلات ، وهذا يتضح لكل من تابع مسيرة المفاوضات بين الحركتين وذلك منذ اليوم الأول الذي وصلت فيه حماس إلى سدة الحكم ، وهذا من طبيعة المفاوضات ، أن يقدم كل طرف بعض التنازلات ، وإلا فستبقى المفاوضات تراوح مكانها ، ولكن نؤكد أن ذلك ليس على إطلاقه ، وإنما وقع في حدود المساحة المسموح بها شرعاً ، فهو اجتهاد في دائرة الظنيات ، التي تقبل هذا النوع من الاجتهاد .
- ثانياً: إن اتفاق مكة جاء في سياق فقه المصالح والمفاسد ، ومعالم هذا الفقه تمثلت في الآتي :
1- إن الاتفاق دفع مفسدة كبيرة عن الشعب الفلسطيني حيث حقن الدماء ، وهذا يشبه إلى حدٍ كبير ما فعله رسول الله يوم الحديبية حين قال : (وَاللَّهِ لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إِلَى خُطَّةٍ يَسْأَلُونِي فِيهَا صِلَةَ الرَّحِمِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا ) وهذا هو فقه المصالح بعينه وإن شئت فسمه فقه التنازلات . فالرسول هنا على استعداد أن يعطي قريش ما يطلبون في سبيل حقن الدماء ، والتي تقطع صلة الأرحام .
2- إن من المصالح التي حققها الاتفاق للشعب الفلسطيني ، حكومة الوحدة الوطنية، وهي أول حكومة وحة وطنية في تاريخ الشعب الفلسطيني ، وهذا سيسجله التاريخ لهذه الحركة
3- إن المناكفات التي وقعت بين حماس و فتح طوال فترة الحكومة ، شغلت الحركة عن كثير من القضايا الهامة وعلى رأسها الصف الداخلي وأمور الدعوة ، أما الآن فقد أصبح أمام الحركة فرصة كبيرة لإعادة ترتيب صفوفنا وحركتنا والاشتغال بالدعوة والتربية .
- ثالثاً : إن النص الذي جاء في خطاب التكليف الذي وجهه الرئيس عباس إلى إسماعيل هنية والذي أثار البعض حوله جدلاً وتساؤلات نَصُه : ( ادعوكم كرئيس للحكومة المقبلة للالتزام بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني وصون حقوقه والحفاظ على مكتسباته وتطويرها والعمل على تحقيق أهدافه الوطنية كما أقرتها قرارات المجالس الوطنية ومواد القانون الأساسي ووثيقة الوفاق الوطني وقرارات القمم العربية ، وعلى أساس ذلك أدعوكم إلى احترام قرارات الشرعية الدولية والاتفاقات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية) .
وهنا لابد من التأمل في عبارة (أدعوكم إلى احترام ) فهناك فرق بين الاحترام والالتزام ، وعلى كل حال فكلمة (احترام ) حمَّالةُ وجوهٍ ، لكنها لا تُلزم الحركة بشيء ولاسيما إذا علمنا أن خطاب الحركة فيما يتعلق بالاعتراف بشرعية إسرائيل لم يتغير ولن يتغير ، حيث مازالت حماس وستبقى ترفض الاعتراف بشرعية إسرائيل وهو أحد الشروط الأساسية التي تطالب بها قوى دولية لرفع الحظر المفروض عن حماس ، وهذا يؤكد أن التنازلات التي جاءت في اتفاق مكة شكلية ونوع من المناورة السياسية .
- رابعاً : من الطبيعي جداً أن نسمع بعض الأصوات الداخلية الساخطة على الاتفاق ، ومثل هذه الأصوات ، لابد أن نُحسن الظن بهم ، فهم يعبرون عن غَيرتهم ، لذا يجب أن نفتح صدورنا لهم ونحاورهم في أجواء يسودها الحب والإخاء . كذلك علينا ألا نتشنج أمام بعض الجماعات الإسلامية الناقدة لنا ، ولنتذكر أننا لو كنا خارج الحكومة ، ما اضطررنا إلى ما اضطررنا إليه ونحن في داخل الحكومة . فأمثال هؤلاء يجب أن نحاورهم بالتي هي أحسن .
- خامساً : يجب أن نترفق بإخواننا وبأنفسنا ولنحفظ حبل الود بيننا وليكن حسن الظن أصلاً راسخاً في علاقاتنا وتعاملنا ، فذاك يسهم في وحدتنا ، ولا يدع مجالاً للشيطان للتحريش بيننا ، ولا يعني ذلك بحال ترك التناصح ، فالمؤمن مرآة أخيه ، والنصيحة واجبة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وكتبه أبو الحسن يوسف علي فرحات
21/ربيع أول / 1428هـ - 8/4/2007م
تعليق