خواطر صيف (3)
أفكار مريضة من قلوب مريضة لم تذق طعم الإيمان، ولم تحلق أرواحها للأعالي كلما تنزلت آيات الله على نبيه غضة طرية، إنها خواطر من اثَّاقلوا إلى الأرض ورضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، دواخل من ظنوا في الله ظنَّ السوء وقالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً، نفسيات الذين بخلوا وضنّوا بأموالهم وأنفسهم عن نصرة دين الله، الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون.
تسربلوا طويلاً بأزمان رخيَّة حتى دهمهم ذلك الصيف الكاشف الفاضح فأخرج ما في صدورهم، وهتك أستارهم، وأبان حقيقتهم، فما ينفعهم اعتذار وتبرير، وقد كشفهم العليم الخبير. ولا عجب أن يطلق على غزوة العسرة إلى تبوك اسم (الفاضحة) كما أورد ذلك الرزرقاني رحمه الله في كتابه (شرح المواهب اللدنية). وإن الله تعالى قد ابتلاهم بحر الصيف فتملصوا من الجهاد مثل بني إسرائيل بقولهم "لاتنفروا في الحر"، وابتلاهم بالشام، والشام مَحَك وابتلاءٌ واختبار للمؤمنين على مدى الزمان، فتعللوا ببعد الشُّقة والخوف من فتنة نساء بني الأصفر "والله يعلم إنهم لكاذبون".
إنها الأيام والفصول والأزمنة يبتلينا الله بها، فإما أن تكون مَرَاقٍ لأعلى الدرجات، وإما أن تكون مزالق إلى أسفل الدركات، كل صيف أو خريف أو شتاء أو ربيع يمرّ علينا إما أن يكون مزرعةً للآخرة، أو يكون مَهلكةً تقود إلى الجحيم. وأولئك الذين تصايحوا بحضرة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم مخذولين مُخذلِّين: "لاتنفروا في الحرّ"، غاب عنهم حرَّ النار وشهيقها وزفيرها ولهيبها حين تقاصر فهمهم وتفكيرهم وتصورهم إلى ما يلمسونه من ارتفاع في حرارة الجو. فكان صيفاً أسوداً عليهم باؤوا فيه بالخسران المبين واستحقوا العقاب المشين.
إنهم فئة من الناس لم يهتموا إلا بأنفسهم، نسوا الله، ونسوا رسوله، فغفلوا عن أمر خطير جداً، أن الذي يدعوهم ويحرضهم على الخروج في ذلك الصيف اللاهب هو أول الخارجين، وطليعة المجاهدين، سيِّد الأولين والآخرين، الذي لا ينبغي لأحدٍ أن يتخلف عنه، أو يرغب بنفسه عن نفسه، أو يرضى أن يصيب نبيّه صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لا يرضاه لنفسه.. غاب عنهم أن الله تعالى قد اصطفاهم واختصهم بنعمة عظيمة لا تضاهيها نعمة ألا وهي صحبة الحبيب صلى الله عليه وسلم ومرافقته في حلِّه وترحاله، في سلمه وحربه، فكيف لعاقل أن يُفرِّط ولو بلحظة واحدة يحظى فيها برؤيته، فكيف بالمسير في ركابه، يصحو معه ويصلي معه، يأكل ويشرب معه، يرقب عياناً تنزل جبريل عليه بآيات القرآن الكريم، يتلقى مواعظه وينعم بحبه ورحمته وحنانه، ويجاهد في سبيل الله معه، كيف يزهد بذلك وهو على وشك أن يفارقه؟ إذ كانت غزوة تبوك آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وكان مكثه بعدها قرابة العام والنصف فقط.
معانٍ استشعرها من وقر الإيمان في قلوبهم، وتملَّك حبُّ نبيّهم شغافها، فكان كلّ أملهم أن يحملهم على ركائب ليشاركوه غزوه، فكانت الصاعقة الكبرى على نفوسهم الرقيقة قوله لهم: "لا أجد ما أحملكم عليه"..
إنه الحرمان إذن من رفقة الحبيب، إنه الحرمان أياماً كأنها الدهر من رؤية وجهه، وسماع صوته، والصلاة خلفه، والجهاد معه..
فلتبك أيتها النفس على هذه البليَّة، ولتنتحبي على هذه الرَّزيّة التي لا تعدلها رَزيَّة، ولتحزني وتذرفي الدمع سخيناً على هذا المصاب الجلل.
إنهم أولئك الذين فازوا وأفلحوا بما حملته نفوسهم من حب لله ورسوله والجهاد في سبيله، أولئك الذين لم يبالوا بصيفٍ أو شتاء، بحرٍّ أو برد، أو بُعدٍ أو قُرب ما دام محمد صلى الله عليه وسلم هو القائد وهو الرفيق وهو الشفيع وهو المصاحب والحبيب.. أولئك الذين نجحوا في اختبار الصيف، واختبار الشام، فأثنى الله عليهم في كتابه بقوله تعالى: "وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ" (92) التوبة.
لا تنفروا في الحرّ !!
مخلص برزق
يا للهول.. أفي هذه الهاجرة والحرّ الشديد نترك الظلال الوارفة والثمار اليانعة والمياه الجارية والعناقيد التي طابت على أغصانها لنخوض مفازة مهلكة، في صيف قائظ، ودرب وعر، لنواجه جيشاً عرمرماً لا قبل لنا ولا كل العرب به؟؟ أيعقل أن نُمضي الحياة على ظهور الجياد نقاتل أهل الأرض جميعاً، نهجر أرضنا وأهلنا وديارنا إلى مجهول قد يقود إلى هلاك محتوم.أفكار مريضة من قلوب مريضة لم تذق طعم الإيمان، ولم تحلق أرواحها للأعالي كلما تنزلت آيات الله على نبيه غضة طرية، إنها خواطر من اثَّاقلوا إلى الأرض ورضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، دواخل من ظنوا في الله ظنَّ السوء وقالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً، نفسيات الذين بخلوا وضنّوا بأموالهم وأنفسهم عن نصرة دين الله، الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون.
تسربلوا طويلاً بأزمان رخيَّة حتى دهمهم ذلك الصيف الكاشف الفاضح فأخرج ما في صدورهم، وهتك أستارهم، وأبان حقيقتهم، فما ينفعهم اعتذار وتبرير، وقد كشفهم العليم الخبير. ولا عجب أن يطلق على غزوة العسرة إلى تبوك اسم (الفاضحة) كما أورد ذلك الرزرقاني رحمه الله في كتابه (شرح المواهب اللدنية). وإن الله تعالى قد ابتلاهم بحر الصيف فتملصوا من الجهاد مثل بني إسرائيل بقولهم "لاتنفروا في الحر"، وابتلاهم بالشام، والشام مَحَك وابتلاءٌ واختبار للمؤمنين على مدى الزمان، فتعللوا ببعد الشُّقة والخوف من فتنة نساء بني الأصفر "والله يعلم إنهم لكاذبون".
إنها الأيام والفصول والأزمنة يبتلينا الله بها، فإما أن تكون مَرَاقٍ لأعلى الدرجات، وإما أن تكون مزالق إلى أسفل الدركات، كل صيف أو خريف أو شتاء أو ربيع يمرّ علينا إما أن يكون مزرعةً للآخرة، أو يكون مَهلكةً تقود إلى الجحيم. وأولئك الذين تصايحوا بحضرة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم مخذولين مُخذلِّين: "لاتنفروا في الحرّ"، غاب عنهم حرَّ النار وشهيقها وزفيرها ولهيبها حين تقاصر فهمهم وتفكيرهم وتصورهم إلى ما يلمسونه من ارتفاع في حرارة الجو. فكان صيفاً أسوداً عليهم باؤوا فيه بالخسران المبين واستحقوا العقاب المشين.
إنهم فئة من الناس لم يهتموا إلا بأنفسهم، نسوا الله، ونسوا رسوله، فغفلوا عن أمر خطير جداً، أن الذي يدعوهم ويحرضهم على الخروج في ذلك الصيف اللاهب هو أول الخارجين، وطليعة المجاهدين، سيِّد الأولين والآخرين، الذي لا ينبغي لأحدٍ أن يتخلف عنه، أو يرغب بنفسه عن نفسه، أو يرضى أن يصيب نبيّه صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لا يرضاه لنفسه.. غاب عنهم أن الله تعالى قد اصطفاهم واختصهم بنعمة عظيمة لا تضاهيها نعمة ألا وهي صحبة الحبيب صلى الله عليه وسلم ومرافقته في حلِّه وترحاله، في سلمه وحربه، فكيف لعاقل أن يُفرِّط ولو بلحظة واحدة يحظى فيها برؤيته، فكيف بالمسير في ركابه، يصحو معه ويصلي معه، يأكل ويشرب معه، يرقب عياناً تنزل جبريل عليه بآيات القرآن الكريم، يتلقى مواعظه وينعم بحبه ورحمته وحنانه، ويجاهد في سبيل الله معه، كيف يزهد بذلك وهو على وشك أن يفارقه؟ إذ كانت غزوة تبوك آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وكان مكثه بعدها قرابة العام والنصف فقط.
معانٍ استشعرها من وقر الإيمان في قلوبهم، وتملَّك حبُّ نبيّهم شغافها، فكان كلّ أملهم أن يحملهم على ركائب ليشاركوه غزوه، فكانت الصاعقة الكبرى على نفوسهم الرقيقة قوله لهم: "لا أجد ما أحملكم عليه"..
إنه الحرمان إذن من رفقة الحبيب، إنه الحرمان أياماً كأنها الدهر من رؤية وجهه، وسماع صوته، والصلاة خلفه، والجهاد معه..
فلتبك أيتها النفس على هذه البليَّة، ولتنتحبي على هذه الرَّزيّة التي لا تعدلها رَزيَّة، ولتحزني وتذرفي الدمع سخيناً على هذا المصاب الجلل.
إنهم أولئك الذين فازوا وأفلحوا بما حملته نفوسهم من حب لله ورسوله والجهاد في سبيله، أولئك الذين لم يبالوا بصيفٍ أو شتاء، بحرٍّ أو برد، أو بُعدٍ أو قُرب ما دام محمد صلى الله عليه وسلم هو القائد وهو الرفيق وهو الشفيع وهو المصاحب والحبيب.. أولئك الذين نجحوا في اختبار الصيف، واختبار الشام، فأثنى الله عليهم في كتابه بقوله تعالى: "وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ" (92) التوبة.
تعليق