إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

حكايات من مسيرات العودة

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حكايات من مسيرات العودة







    أرجعت مسيرات العودة الزخم لقضيتنا وأعادتها لواجهة الأحداث، وسلطت عليها الضوء بعد أن خفت مرة أخرى.
    ينطلق كل من يؤرقه همُّ فلسطين، ويكبت أنفاسه الحصار ومفرداته، إلى الحدود أو السلك كما هو متعارف عليه.
    يحمل روحه في كفه، ويحمل مقلاعه، أو طائرته الورقية، أو بالونه الحارق، أو حتى علمه في الكفة الأخرى.
    وكل من يتوجه إلى السلك، فيعود سالماً، أو جريحاً نازفاً، أو شهيداً في آخر النهار وراءه حكاية..
    حكاية من الأمل والألم
    وفي هذه الزاوية الصيفية نروي بعض حكايات مسيرات العودة التي خطَّها أصحابها بالعرق والدماء،
    فطوبى لهم
    وطوبى لمن يؤمن بالمقاومة سبيلاً لاستعادة كامل التراب والحقوق
    وطوبى لمن يسير على دربهم.


    التعديل الأخير تم بواسطة ذكرى صلاح الدين; 11/08/2018, 09:16 PM.

  • #2
    رد: حكايات من مسيرات العودة

    مسيرة العودة وعودة

    "أكتب كلماتي هذه ولا أدري إن كنت سأعود مرة أخرى إلى ذات الكرفان المقيت لأجدها على حالها؟ أم أنني سأعود إلى حيث أرضي المسلوبة وسأنشغل حينها بكل ما أوتيت من قوة أعمِّرها وأعيدها كما كانت؟ لا أدري حقاً.. ولكن كلي أمل بأن هذه المرة تختلف.
    ضاقت الدنيا في ناظري، لم أعد أجد لشيء جدوى هنا.. الحياة باتت مجرد فرض علي أن أؤديه مكرها على أمري.. البطالة باتت كظل يلازمني وغيري من الشباب في هذه البقعة التي مضى الزمان ونسيها، الكهرباء مقطوعة معظم الوقت.. مهلاً.. مهلاً.. ولماذا نمضى في الحديث عن هذه الرفاهية التي غدت شيئا ثانويا مقارنة بالأساسيات؟ لماذا لا نتحدث بدلاً عن ذلك، عن المأوى، عن الطعام، عن الدواء... فهل الحياة في كرفان معدني كفرن ذري في الصيف، وكمجمد ثلاجة في الشتاء، لا يشبه المسكن في شيء حتى في اسمه، تسمى حياة؟ وماذا يفعل شخص مثلي يعاني من حساسية في الجهاز التنفسي تجعلني أشعر وكأني أتنفس تحت الماء لدى تعرضي لأية مثيرات للحساسية والتي على رأسها يقف الجو غير الصحي داخل الكرفان؟ البخاخ الذي علي أن أستعمله ليخفف من أعراضي التي أعاني ويلاتها إما أنه غير متوفر، أو أنه مرتفع الثمن لا يستطيع شخص مثلي شراءه!
    يا إلهي، كم نحن شعب جبار.. حتى في أحلك الظروف وأقساها نتابع عيشنا وكأن شيئاً لم يكن! آه يا أمي.. رحمك الله، رفضت مغادرة المخيم لأنك لا تريدين الخروج منه إلا إلى السوافير، وكنت على ثقة ويقين بأن عودتك لها لن تطول.. وكان مفتاح باب بيتك فيها لا يغادر عنقك، كنت ترتدينه كقلادة تتزينين بها.. ورحلت يا أمي عن الدنيا وأنت ما تزالين في المخيم، وكانت وصيتك أن أعود إلى السوافير، وأن أفتح باب البيت بمفتاحك، وأن أستخرج "كواشين" الأرض من تحت البلاطة الموجودة في الزاوية الشرقية الشمالية من الليوان في بيت جدي في السوافير، تحديداً تحت علاقة قنديل الكاز.
    بنيتُ يا أمي بيتاً صغيراً وغادرت المخيم.. كنت أؤمن بالعودة إلى السوافير، ولكن إيماني كان ينقصه اليقين بقربه، ربما لأنني أكثر علماً وثقافة واطلاعاً على السياسة القذرة منك؛ علمت أن طريق العودة طويل وقاسٍ ووعر، ولن يكون بهذه السهولة والبساطة التي كنت ترينها، وهو بحاجة للكثير الكثير من الإعداد. في الحرب الأخيرة، سقط صاروخ على بيتي فأحاله ركاماً دُفنت تحته زوجتي وأبنائي الثلاثة، وأكملت الحياة رغماً عني، ترافقني وحدتي وأحزاني.
    وبدأت تتردد أخبار مسيرة العودة الكبرى، التي مضى اللاجئون يخططون للانطلاق بها، عساها تكون الخطوة الأولى في درب العودة.. لا أدري لمَ بعثت هذه الأنباء الحياة في عروقي مرة أخرى، كشجرة كادت تجف من الجدب، وفجأة فاض عليها القطر فبعث فيها الحياة مرة أخرى.. وجدت أنني أنفض غبار اليأس والكآبة عني، ومضيت أساعد في التحضيرات التي تجري على قدم وساق في كل مكان لتلك المسيرات. وجدت أنني أصبحت أكثر شباباً، مما كنت عليه حتى أيام مضت.
    يا إلهي.. كم كانت السوافير تسكنني دون وعي مني.. ليتك كنت ما تزالين على قيد الحياة يا أمي، لاتكأتِ على عكازك ومضيت تسابقين قدميك في طريق العودة. فالأمل يلوح بارقاً بقوة هذه المرة.. أعد اللحظات والدقائق، وأشعر بها تمضي ببطء شديد، كعادتها عندما تجدك متحرقاً لعمل شيء يملأ كيانك شغفاً ورغبة.. فهذه المرة سأعود.. سأخرج إلى المنطقة الحدودية مبكراً، عساني أكون أول الواصلين إلى قراهم المهجرة."
    عودة
    30آذار 2018
    لم يعد عودة لكرفانه، فرصاصة قناص غادر كانت بانتظاره ما إن اقترب من السياج الحدودي، اخترقت الرصاصة جبينه، ومضى عودة إلى جنات الخلد، ترتسم على وجهه ابتسامة عريضة تحمل في معالمها البشرى والبهجة..
    رحمك الله يا عودة، ورحم جميع شهداء مسيرات العودة الكبرى. سيبقى الأمل حياً فينا، وسنكمل المشوار حتى نعود إلى أراضينا التي اغتصبها محتل لقيط غاصب.

    مهداة إلى أرواح شهداء #مسيرة _العودة_الكبرى

    د. زهرة خدرج

    تعليق


    • #3
      رد: حكايات من مسيرات العودة

      جميل أن تنقلينا إلى أجواء وبطولات مسيرات العودة
      أختي الفاضلة د. زهرة خدرج
      بانتظار المزيد من الحكايات، شكر الله لكِ

      تعليق


      • #4
        رد: حكايات من مسيرات العودة

        وإن يكن طريقا قاسيا ووعرا , فهو وعدٌ من الله , ولا يزال حلمنا به محفوظا متوهجا , ما دام إيماننا بالله

        أعادنا الله وإيااكم وكل شعبنا المضطهد لمهوى الأفئدة , وموطن الأجداد

        تعليق


        • #5
          رد: حكايات من مسيرات العودة

          من الشهيد "ياسر أمجد أبو النجا"
          أمي أبي.. أرجو ألا تحزن قلوبكما لاستشهادي وفراقي، بل فليدخل الفرح والعزة نفوسكما، فقد أنجبتما رجلاً ما قَبِل إلا أن يكون على قدر المسؤولية، ما تخلف عن نداء الواجب حين نادت فلسطين صارخة مستغيثة، تحركت الحمية في عروقي يا والدي وما استطعت إلا أن أكون من الملبين، يحدوني الأمل بالعودة إلى يافا، حيفا، الناصرة، بئر السبع، عكا، صفد...
          لم أكن أعلم أن رصاصة غادرة من معتدٍ يتربص بكل ثائر حر عزيز النفس، كانت تنتظرني وتتربص بي، ويصرُّ مطلقها إلا أن يوجهها لرأسي معتقداً أنه عندما يقتلني سيخيف جيلاً خرج يواجههم بصدره العاري، ويقف أمام العالم أجمع مؤكداً أنه لم ينسَ حقه وأرضه، وأنه سيعود.. كنت أتمنى الشهادة، ولا أخفيكما أنني قد دعوت الله أن يمنَّ بها عليَّ، برغم أني كنت أشفق على قلبك يا أمي من وجع الفقدان..
          لست أول شهيد تُراق دماؤه على هذه الأرض المباركة ويغادر هذه الدنيا مبتسماً شامخ الرأس عزيزاً، ولن أكون الأخير يا أبي وأنت تعلم ذلك تماماً وطالما غرسته في نفسي منذ بدأت أعي الدنيا.. فقافلة شهداء الحق طويلة ممتدة يا أمي في عمق التاريخ، ولن تنتهي إلا بانتهاء الحياة في هذه الدنيا البائسة.. فالسجال بيننا وبين الباطل الذي يقف المحتلون على رأسه طويل لا ينتهي.
          أرجوك يا أمي، لا تجزعي ولا تحزني، أوما ترضين لي بالفردوس؟ أوما ترضين أن تكوني مثل الصحابيات وأمهات المؤمنين؟ أسماء بنت أبو بكر فقدت مهجة قلبها عبد الله بن الزبير وهو في ريعان شبابه وكان من أحب الناس إليها.. فلم تجزع، بل مضت تبث العزيمة في نفسه وتشجعه على الثبات في أن يمضي في طريق الحق عندما جاءها مودعاً قبل استشهاده.. وأم عمارة يا أمي عندما بعث رسولنا سيد الخلق وإمام المجاهدين ابنها حبيب رسولاً إلى مسيلمة الكذاب، فأوثقه ومضى يسأله: أتشهد أن محمداً رسول الله؟
          فيقول حبيب: نعم
          فيقول مسيلمة: أتشهد أني رسول الله؟
          فيقول حبيب: لا أسمع شيئاً.
          فما كان من مسيلمة الكذاب إلا أن أخذ يقطع بسيفه جسد ابن أم عمارة المؤمن الصابر، فلم يزده التعذيب إلا عزماً وصلابة وإيماناً وإحساناً حتى استشهد. وصبرت أم عمارة واحتسبته شهيداً عند الله، ولم تجزع لأمر من أمور الدنيا ومصائبها، ولكنها صبرت واحتسبت لتنال جزاء المحسنين الصابرين، وقد وعدها النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، ووعده حق أنها معه في الجنة، هي وأهلها.
          أنا سرت يا والديَّ على درب الصحابة والتابعين وأشاوس المسلمين فكانت الشهادة وساماً أتقلده، فكونا فخورين بانضمامي لقافلة الشهداء التي تصبو للقدس والأقصى واستعادة عزتنا على ثرى الأرض المباركة ولم تؤثر الراحة ونعيم الدنيا الزائل في وقت ما..
          لا تحزني أماه واصطبري.. ألا ترضين أن يعوضك الله خيراً مما أُخذ منك؟؟ واعلمي أني رحلت عن دنيا الفناء مرتاح البال ثابت النفس..
          ولا تأبه يا أبي لكلام من يقول إنك غدوت وحيداً بعد استشهاد شبلك الوحيد.. فأهل الحق كُثر، وجميعهم إخوة تجدهم معك في الصعاب، وكن واثقاً أن الله معك وسيعوضك أجر تعبك وصبرك.. وتذكر أن نبينا الكريم قد فقد جميع أبنائه الذكور.. ولكنه ترك حضارة عظيمة وعقيدة لا تتزعزع في نفوس أصحابه وتابعيه ومن سار على هديه إلى يوم الدين.
          أمي أبي.. أحبكما، وأدعو لكما بالثبات والصبر والقبول.
          مهداة إلى #والدي_الشهيد_ياسر_أبو_النجا
          د. زهرة خدرج

          تعليق


          • #6
            رد: حكايات من مسيرات العودة

            كيف لي أن أكون محايداً؟؟
            كان قدري أن أكون الابن الوحيد لك يا أبي بين خمسة من البنات، أعتقد أنك لهذا السبب تحديداً كنت دائماً تغرس فيَّ ومنذ طفولتي المبكرة أن أكون محايداً في كل شيء، في آرائي، حبي للوطن، سلوكياتي، كلامي... كنت تطلب مني دائماً أن أسير إلى جانب "الحيط أطلب الستر"، لا يجب أن أبدي رأيي أو إعجابي بفكر أو عمل فصيل سياسي أو عسكري، ممنوع أن أذهب إلى المسجد عند كل صلاة، فحتى الصلاة في المسجد يجب الاعتدال فيها..
            كلماتك التي كنت تقدسها دائماً: لا تتدخل في شيء، ليس لك علاقة.. لن تقيم الدين في مالطة، فأنت لن تصلح الكون.. أناس كُثر غيرك حشروا أنفسهم وخرجوا بخيبات قضت على مستقبلهم.. انتبه لنفسك، مصلحتك أهم شيء لأنك إن وقعت لن يسأل أحد عنك، " أنا و
            من بعدي الطوفان " .. كانت هذه الكلمات التي ترددها على مسامعي دائماً يا أبي، كنوع من تقديس الحياد الذي فيه سلامة الفرد وأمنه كما كنت تقول.. بيد أن كلامك الذي كان يتمكن مني في صغري ويجعلني أرى نفسي إنساناً حقيراً على الهامش لا قيمة له، إنسانا متفرجا على الأحداث لا يشارك في صنع أي منها.. حياته تنساب من بيد يديه دون أن يفعل شيئا يشعره بقيمته كإنسان..
            قالوا يا أبي:" الحياد لعبة الأوغاد", فهل تريدني أن أكون وغداً في نظر نفسي؟ وقالوا أيضاً: "إن المحايد لم ينصر الباطل ولكنه خذل الحق".. فهل ترغب يا والدي أن أكون ممن يحتقرون أنفسهم بخذلانهم للحق؟ الحق واضح يا أبي وضوح الشمس في السماء، والباطل أيضاً تكشف تماماً دون أي لُبس، فكيف تريدني أن أبقى محايداً بعد كل ذلك؟.
            أقسم لك يا أبي أنني كنت أحسد فتية يقولون آرائهم بشجاعة وصوت عالٍ، لا يخافون، لا يترددون، لا يعبؤون بما قد يحدث لهم بعد ذلك.. أشاهدهم يتسلحون بأدوات بدائية، يرقبون اقتراب الجيب الصهيوني ليمطروه بالحجارة والزجاجات الحارقة وعلب الدهان.. وأنا أرقبهم من بعيد في حلقي غصة تخنقني.. أجر أذيال خيبتي عائداً إلى البيت حتى لا أخرج عن صف الحياد فأشتري أمني وسلامتي.
            أعلم يا والدي الحبيب، أنك مغتاظ مني بشكل لا يوصف، ها أنت ترفض زيارتي وبشكل في السجن المرة تلو المرة، وتصر أن لا تبعث لي برسائل وكلمات تشد بها أزري وتعينني على تحمل أسري ووحدتي، وها أنت تتخلى عني في وقت أحتاجك فيه إلى جانبي حتى ولو بدعوة في جوف الليل يفرج الله بها كربي.. ألأني ملت عن حيادك الذي رسمته لي وسرت عليه باستكانة طوال سنوات العشرين الماضية؟.
            أرجوك يا أبي، لا تغضب مني، فأنا لم أستطع أن أكمل حياتي نذلاً تافهاً فارغاً.. أعبر الحياة وأمضي منها دون أن يكون لي موقف أو رأي.. أنا الآن فخور بنفسي، لأني ترجمت المشاعر التي كنت أحبسها في صدري إلى كلمات وأفعال عبرت بها عن وقوفي إلى جانب الحق..
            أعلم أنني لم أفعل الكثير، كل ما فعلته أني غيرت صورتي أمام نفسي، لم أعد ذلك الشخص الأناني الحقير المدلل، الذي يسمع صرخات أمهات الشهداء وبكاء الأطفال الجرحى وأنين زوجات الأسرى دون أن يعبأ بأي منها.. أعلم أن تغريدة على تويتر أو منشورا على فيس بوك، أو حجراً أقذفه في المقلاع على برج مراقبة يقف كالقلعة في وجوهنا يتحصن فيه أعداؤنا ويصطادوننا كما العصافير.. أعلم أن ذلك قد لا يحرر أوطانا، وقد لا ينصر أمة، ولكن أمثالي يعبرون بذلك عن أنفسهم ومواقفهم، ويخبرون الحق وأهله أنهم معهم، يحبونهم، ويدعمونهم، وإن أتيحت لهم الفرصة، واحتاج لهم الحق يوماً لن يقفوا على الحياد متفرجين، بل سيشدون عضده وينصرونه.. وأظن أن ذلك آتٍ لا محالة.
            د. زهرة خدرج

            تعليق


            • #7
              رد: حكايات من مسيرات العودة

              اسمع حكاية النكبة، حتى لا تُذل
              سأحكي لك يا ولدي حكاية.. لنكبة امتدت منذ الماضي وحتى الأن.. فأعرني بصرك واسمعني واحفظ كل كلمة عني:
              في الماضي، خُطط لسرقة بلادنا بإحكام، كنا بسطاء حينها.. سُذج.. أحسنَّا النية ولم يدر في خلدنا ما يُحاك لنا ولبلادنا في الخفاء. هاجمت عصابات الأغراب ديارنا.. وتحت جنح الدجى هدموا قرانا ومدننا.. قتلونا وفتكوا بنا.. اغتصبوا بناتنا ونسائنا.. طردونا وشردونا.. وتملكوا أرضنا وسكنوا بيوتنا.. جدتي يومها رتبت البيت على عجل، وأحكمت إغلاق النوافذ، وبالمفتاح أقفلت الباب، وحملت مفتاحه معها.. لتعود إليه بعد أن يزول الغرباء الذين لن يطول بقائهم، كما يزول الغمام الأسود من كبد السماء.. نسيت جدتي يومها حقيقة أن من تملَّك بيتك لن يخرج منه بإرادته.. لن يغادره طائعاً.. إن لم تجبره بالقوة على الخروج.
              مر عام.. ومضت على إثره الأعوام.. فإذا بنا نمضي في المهجر سبعين عام... جدتي لم تعد على بيتها، وتوالدت الأجيال ونحن ننتظر العودة التي طال انتظارها.
              راح منا البعض يستجدون، يطرقون الأبواب، عل أحدهم ينصفهم ويرأف لحالهم، لم يعبأ بهم أحد، بل مضوا يدعمون ويشاركون العصابات الصهيونية في التخطيط والتنفيذ لطردنا وتشريدنا وقتلنا، زودوهم بالذخيرة والسلاح وغضوا الطرف عن جرائمهم التي ارتكبت باسم الديموقراطية.. اليوم تماماً كما الماضي، الصورة تعيد نفسها بذات التفاصيل التي تبثها الفضائيات وتوثقها الكاميرات.. إلا أن العالم يصاب بالصمم والخرس أمامها.
              ولنجري مقارنة بسيطة يا ولدي، هذا العالم المارق نفسه، يطالب الأتراك بالاعتذار للأرمن بينما يمضي بتقديمنا قرابين على مذبح الصهيونية دون أن يطالب أحد بالاعتذار لنا أو حتى الاعتراف بحقوقنا... أليست هذه مفارقة؟ مع أن مصيبتنا من أعظم مصائب التاريخ... ليس لأنهم قتلونا وهجَّرونا من ديارنا فحسب، وإنما لأنهم خططوا لكيِّ الوعيِ العربي الإسلامي وعملوا على استئصاله بإصرار طوال تلك السنوات... ليصلوا بالعرب إلى حالة التشرذم والتسابق للتطبيع مع عصابة بني صهيون.
              لم تكن نكبة فلسطين هي بداية مخطط التقسيم يا ولدي، بل اعلم أنهم قسموا بلاد العرب والمسلمين قبلها إلى دويلات لحماية الجنين الصهيوني الذي بدأ يتكون على أوراقهم ومخططاتهم ويريدون أن يبعثوا به الحياة.. ويهيئوا له الظروف ليضمنوا له البقاء.
              ولم تنتهي المأساة بنكبة فلسطين وتهجيرنا وتشريدنا، بل تتكرر النكبات كل يوم بصور شتى؛ فنكبة أوسلو مثلاً، والتي خرجت بها دولة الأعداء بأكبر فائدة لم تحلم بها يوماً، لم تختلف كثيراً عن النكبة الأولى رغم اختلافها في الأسلوب والنوع، لأن النتيجة كان متشابهة: النتائج بالنسبة لنا كانت تحت الصفر، ناهيك عن التشرذم والضياع والحصار، بعد أن كنا صفاً واحداً نواجه الأعداء. وبالنسبة للصهاينة تملكوا الأرض وحصلوا على المزيد من الحقوق المسروقة.
              أتدري يا ولدي: أنا لا أخاف على الأرض التي تبتلعها عصابة الصهاينة التي تدَّعي أنها دولة، فهي لا محالة عائدة لأصحابها بإذن الله طال الوقت أم قصر، ولكن ما يقلقني ويؤلم قلبي هو تمزيق وحدة النسيج الفلسطيني من قِبَل مِنْ سموا أنفسهم بــ "قطب السلام الفلسطيني" وهي الفائدة الأكبر التي جناها الاحتلال وارتاح باله في ظلها، فهو يعلم بأننا سننشغل في خلافاتنا عن طرده من أرضنا واستعادة حقوقنا.. مع أن هؤلاء بالنسبة لعصابة الصهاينة ليسوا سوى مطية يركبونها ليصلوا لما يصبون إليه.
              ويا للعجب والغرابة، من الكلام الذي بتنا نسمعه من البعض منا، فهم يفضلون الصهاينة علينا، ويطأطئون أمامهم رؤوسهم ويحمون ظهورهم، بينما يتحدوننا ويظهرون قسوتهم وصلابتهم علينا... ظهر المنافقون بجميع أشكالهم، فأين هم الشرفاء؟؟؟، أليسوا معتقلين ومحاصرين ومُضيَّق عليهم ومحرَّم عليهم الحياة التي تليق بالبشر؟
              اعلم يا ولدي بأننا أمام عدو شرس متغطرس، لن يهنأ له بال حتى يسلب ما تبقى من أرضنا، ويسلب معها حياتنا وكرامتنا، فإن لم نلتحم جميعاً يداً واحدة ونقف في وجهه سداً منيعاً ونقاومه بكل ما نملك، لن ترحمنا الأجيال القادمة، ولن يغفر لنا التاريخ تخاذلنا.
              فاتخذ من المقاومة درباً، ومن الجهاد سبيلاً، وكن واثقاً بأنك لن تُذل ما دمت تقاوم.
              د. زهرة خدرج

              تعليق


              • #8
                رد: حكايات من مسيرات العودة

                هواجس وخيبات في بلاد الغربة
                سبقني ابن عمي إليها، بلاد السمن والعسل كما كان يسميها دائماً في رسائله الإلكترونية التي كان يبعثها لي طوال الوقت، ويبذل قصاري جهده ليقنعني من خلالها لأن أتبع خطواته وأحذو حذوه.. فأحمل أمتعتي وأرحل إلى غير رجعة عن القطاع.. أمريكا.. أليست بلاد الُحلم؟ أليست بلاد الحرية والرخاء والهدوء والأمن واحترام الإنسان؟؟ أترفضها؟؟ ما من عاقل يقول للنعمة لا عندما تقترب منه.. أما أنت يا ابن عمي، فتركلها بقدمك أيضاً..
                وكان دائماً يقول لي:
                - أمك، ماتت من زمان.. أبوك لا تعرفه منذ كنت طفلاً بعد أن هاجر وتركك أنك وإخوتك.. إخوتك، كل منهم سار في دربه الخاص وله حياته الخاصة. ليس لك بيت، ولا وظيفة تعيش من ورائها.. وشهادة الصيدلة تعلقها على الجدار حتى تتعفن أو تأكلها عثة الورق.. كم أنت غريب يا ابن عمي. أكل هذه وطنية وتمسك بالوطن؟ الوطن الذي يجفوني، لا أُبره، والوطن الذي لا يكرمني.. سأبخل عليه.. إن لم يغدق علي هذا الوطن بالعيش الكريم، فلا أريده.. لا أريده، ما الذي يربطني به؟؟ لا شيء يا ابن عمي..
                لا تكن ملكاً أكثر من الملك..
                ألهذه الدرجة تعشق الفقر أيها الصيدلاني الموقر، ولا تستغني عن صحبته؟؟ فقل لي بربك ماذا تريد؟
                لدي فرصة ذهبية لأساعدك على أن تحصل أنت وأسرتك على تأشيرة الدخول لهذه البلاد وتدخلها دون مشاكل، وبعد عدة أشهر سأساعدك لتحصل على الــ "جريين كارد".. أتعلم ماذا يعني ذلك؟؟ ستصبح مواطناً أمريكياً حقيقياً! كل حدود الدنيا ومطاراتها ستنفتح أمامك.. ولغتك الإنجليزية ستحترمها كل دول العالم.. ستعمل حينها.. وتنطلق في الدنيا، كل عطلة أسبوع ستقضيها في مكان.. حدائق، بحيرات، أسواق، أبراج ترفيهية، قاعات رياضة، مطاعم، ألعاب أطفال... وأشياء أخرى لا قِبَلَ لي بذكرها الآن لم ترها حتى في أحلامك.
                هنا الحياة يا ابن عمي، وهنا الرخاء والراحة.. هنا بلاد السمن والعسل.. فلا تفوِّت هذه الفرصة التي لن تتكرر في حياتك مرة أخرى.. الكرة في ملعبك الآن، فهل ستحسن توجيهها للهدف؟؟ الأمر يعود لك! فافعل ما يحلو لك.. وأنا بانتظار ردك الذي أرجو أن يكون إيجابياً لأشرع في ترتيب الأمر.
                أبنائي يلحون علي بالموافقة، لقد ملُّوا الحر الشديد، وانقطاع الكهرباء، وانعدام جميع الاحتياجات الأساسية، وحياة الفقر والحرمان التي يفرضها علينا الحصار، ابنتي التي ستنهي الثانوية العامة قريباً تريد أن تتعلم في جامعات عالمية، وابني يريد أن يصبح بطلاً رياضياً، و... و...
                لا تقف يا أبي حجر عثرة أمامنا.. موافقتك تعني أن حياتنا ستتغير.. نريد أن نرى الدنيا.. تعبنا من الحصار والحروب، وسئمنا من مفراداتها والحياة تحت مظلتها.. لا تحكم علينا بالكبت والحرمان بقية حياتنا.. أنت لا تقرر لنفسك فقط.. أنت تقرر مصير أسرة كاملة مكونة من سبعة أفراد.. فأعد حساباتك، وفكر في المستقبل المظلم الذي ينتظرنا هنا تحت الحصار، والمستقبل المشرق هناك.
                - ولكن.. الغربة؟؟
                - أية غربة هذه؟ هنا هي الغربة، حيث العوز والحاجة.
                - يصعب علي اتخاذ قرار كهذا..
                - نحن نقرر بدلاً منك، ونتحمل كامل التبعات.
                غادرت القطاع دامع العينين، وأولادي يضحكون فرحين. ووصلت بلاداً تكشر عن أنياب العداء لكل ما يحمل في طياته صورة الإسلام.. بلاد عارية، تضحك بخلاعة، تنام سكرى، تستيقظ وتنهض من فراشها لتركض إلى الوظائف والمعامل والإنتاج.. كل شيء يسير بسرعة لا معقولة..
                اندمج أبنائي في الحياة لدرجة أمسيت أخشى عليهم، ابني لا يزور البيت إلا لماماً، وابنتي لها عالمها الذي لا سيطرة لي عليه ولا ضوابط تضبطه، أصدقاء.. سهرات.. خروج إلى وقت متأخر... الخ، وبقوة القانون لا حق لي في التدخل وإملاء إرادتي عليها.. أما الصغار الثلاثة فيهددوني بالاتصال بالشرطة وإخبار المدرسة عن أي شيء أضغط عليهم لعمله، حتى العبادات، يفعلوها إن رغبوا.. والقانون يعاقب من يسلب حقوق الأطفال، وخاصة إن كان المتهم الأسرة.. وكأني هنا قد فقدت أبنائي الذين ما أتيت إلا لأنقذهم من جحيم الحصار.. فإذا بهم يسقطون في أتون الانفتاح والديموقراطية العوراء..

                د. زهرة خدرج

                تعليق


                • #9
                  رد: حكايات من مسيرات العودة

                  بيت من قش، انتظاراً للعودة
                  جلست أمام البيت القديم الضيق، المشققة جدرانه، ترقب الطيور العائدة في مساء خريفي يفيض حرارة وكآبة، تسأل نفسها:" لماذا تسرع الطيور هكذا في الطيران؟ وكأنها على موعد تحرص على أن لا تجعله يفوتها.. وهي لن تفعل شيئاً سوى أنها ستحط رحالها في أعشاشها.. لا بد أنها تعلم أن هناك وطناً ودفئاً وحباً ينتظرها هناك بعد عناء يوم طويل"، أيكون العش الصغير وطن؟ نعم قد يكون.. وقد يضيق الوطن الكبير في ناظريك فلا يغدو وطناً أيضاً.. ربما يكون ذلك صحيحاً.. ولكن: ماذا تفعل أفراد الطيور التي تعيش وحدها؟ هل يا ترى تُسارع هي الأخرى في العودة؟ لا أظن ذلك! فلمَ العجلة؟ ألتقتل وقتها بالوحدة والملل؟.
                  انحدر تفكيرها إلى غربتها وشعورها بالوحدة، فمنذ استشهاد زوجها، وعودتها إلى بيت أهلها تجر ورائها ذيول الحزن المعتق، ما من شاغل يشغلها سوى بحثها عن إجابات لأسئلة كثيرة تهاجمها كقطيع ذئاب ينهش وجدانها، وتشعر بها كإعصار صاخب يعبث بكل ما يقع أمامه، يشتتها، يشوش أفكارها.. لماذا؟؟ ماذا؟؟ من السبب؟؟ متى سيكون؟؟، وهل فعلاً قد يكون؟؟.. كانت تحاول حصر الإجابة، إلا أن إجاباتها كانت حائرة مترددة كما في كل مرة، لتختمها بقول: لا أدري في نهاية المطاف! كان الحزن رفيق ودود لها وجليس دائم يدثرها برداءه.. أما الوحدة فكانت كزوجة الأب غيورة ترقب سكناتها وحركاتها، وتسخر من أمنياتها.
                  تتذكر أحلامها التي تظنها ضلت الطريق وغدت في ذاكرة النسيان، هي لم تطلب الكثير، فقط أرادت أن يكون لها أرض وبيت تعيش فيه برفقة حبيب قلبها.. إلا أن هذه الأمنية تبخرت وغدت خارج نطاق المقبول والمعقول، فالمحتل لم يترك لها ولكثيرين من أمثالها أملاً في الحياة.. اعتاد أن يسلب البسمة من الوجوه، والسعادة والفرح من القلوب.. هو يكره الإنسانية ويكره الحياة.. يعترف بها لنفسه فقط.. فكيف به يغتال حبها وأحلامها برصاصة غادرة حملت روح حبيب قلبها إلى الفردوس.
                  وحلمت منذ صغرها أن تعود إلى بيت جدها في القرية التي هُجِّر منها قبل ستين عاماً.. أرادت أن ترى البيت الذي ولد فيه والدها، ترى كرم العنب وعين الماء العذبة ترى القرية الموغلة في القدم.. حتى قبل مجيء كنعان إلى هذه البلاد.. تراها دائماً في أحلامها مذ كانت جنيناً في بطن أمها.. فالأجنة الفلسطينيون يرثون حب الأرض وأمل الرجوع إليها في جيناتهم التي تتكتل داخل خلايا عقولهم وقلوبهم..
                  اغتصب المحتلون القرية، سرقوا الأرض واقتلعوا الأشجار وجففوا عين الماء، وادَّعوا ملكية كل الأشياء، فلا أرض نجت من عدوانهم ولا سماء، حتى الأسماء سلبوها وكذلك التاريخ.. تباً لهم كم هم دجالون كذابون..
                  ها هي ذا تعود إلى السياج الفاصل بعد غربة طويلة داخل وطن مشتت جعلتها تشيخ قبل أوانها، تمد بصرها علها تستطيع رؤية البيت والأرض.. أو المكان الذي استقر فيه البيت على أقل تقدير.. صدمها المنظر.. بيوت حديثة، غريبة الشكل لم تعتد رؤيتها، تكتظ في المكان، وتكاد تلتهمه حتى آخر ذرة منه، تجعله غريباً منفياً.. سيارات فارهة، مسابح وحدائق ونوافير ماء، وكأنها الجنة والله.. يا إلهي: أنا وإخوتي، ووالدي وجدي وجميع أهلي وأقاربي نتكدس في مساحات صغيرة ضيقة في المخيمات، في بيوت تضيق بمن فيها، سقوفها من صفيح يكاد يذيب الأجساد تحت حره صيفاً ويجمدها تحت برده شتاءً وتذوب وتتجمد معه الأحلام، وهم يتمتعون في أرض اغتصبوها لم تكن ملكاً لهم في أي يوم مضى.
                  - أنتخلى عن حُلم العودة؟ أنستسلم للواقع وننساق معه، وننسى الماضي الذي نمتد عبره وصولاً لهذه اللحظة؟؟
                  - ليس مثلنا من يتخلى، لن أبقى جالسة أعاقر الذكريات والهموم.. سأرابط ها هنا كل يوم.. سأكون أول القادمين, سأكتب على صدري " سأعود" وليرى العالم أجمع أننا شعب لا ينسى.. أرضي متشوقة لي كما أنا متشوقة لها..
                  ملحوظة: شهداء مسيرات العودة.. دماؤكم تعطر أرضنا، وتبث الأمل فينا.. ونحن على دربكم نسير.. وننتظر العودة لأرضنا أو الرحيل إلى الجنة.. وكلاهما خير ننتظره.. ولجرحانا ألف سلام ودعاء.
                  د. زهرة خدرج

                  تعليق


                  • #10
                    رد: حكايات من مسيرات العودة

                    "وعدٌ قطعناه على أنفسنا يا بني صهيون"
                    عندما تشرق شمس يوم أظنه بات قريباً سأعود إلى قريتي التي هجَّر الاحتلال الغاصب جدي منها عندما كان والدي طفلاً صغيراً لا يستطيع المشي، حملت جدتي حينها والدي بين ذراعيها وحمل جدي حقيبة وضع داخلها على عجل "كواشين" الأراضي التي يملكها، ورزمة أوراق نقدية وقليل من الطعام، أغلق جدي باب البيت جيداً وعلقت جدتي المفتاح في رقبتها خشية أن تفقده في هذا الهرج الذي عم القرية والقرى القريبة أيضاً بعد أن نزل البلاء بهم دون سابق إنذار، وفروا من القرية تحت وابل من الرصاص حصد أرواح كثير من الأهالي، اعتقد جدي حينها أنه سيغيب وأسرته الصغيرة لبعض الوقت إلى أن ينجلي هؤلاء الغرباء الذين أتوا إلى القرية على حين غرة..
                    من كان يمتلك بندقية من أهل القرية حملها، ومضى يقاتل بها الغرباء، كان اثنان من إخوة جدي ممن يمتلكون البنادق، مضوا هم ومجموعة أخرى من شباب القرية يقاتلون الغرباء ويشتبكون معهم؛ حتى يمنعوهم من دخول القرية أو النيل من أهلها، برغم أن تلك المعارك والاشتباكات لم تكن متكافئة، فبنادق شباب القرية كانت بسيطة، بدائية، قديمة، وبعضها كان صدِئَ، وكانت كمية الذخيرة محدودة جداً، فالإنجليز الذين استعمروا البلاد حينها كانوا يعدمون كل من تثبت عليه تهمة امتلاك سلاح أو ذخيرة.. ولولا أن شباب القرية كانوا قد خبأوا تلك البنادق بين نباتات الصبار المليء بالأشواك والتي تحيط بالقرية كسور منيع، لما وجدوا شيئاً يدافعون به عن أنفسهم أمام هؤلاء المعتدين.
                    استشهد جميع الشباب الذين يمتلكون السلاح والذين دافعوا عن القرية ببسالة، واستشهد كثيرون غيرهم من أهل القرية، وتمكنت بعض الأسر من الفرار بأنفسها وصغارها.. بعضهم تمكن من حمل بعض النقود والأوراق الثبوتية التي تخصه مثل شهادات الميلاد، والهوية، وكواشين الأرض، ومنهم من لم يتمكن من حمل أي شيء، حتى إن بعضهم قد فقد صغاره خلال الهروب.. ومنهم أيضاً من استشهد خلال فراره. بعض كبار السن رفضوا الهروب وآثروا الشهادة على تراب أراضيهم.
                    أحمد الله أن جدي تمكن من الخروج من قريتنا بسلام في ذلك الوقت، حيث كُتبت لأبي الحياة ليكون لي نصيب أن أولد وأدبُّ على هذه الدنيا، وأنجب أبناءً أذهب وإياهم إلى السياج الحدودي أطالب بالعودة إلى قريتي وأذكِّر العالم أن هذا الصهيوني الغاصب الذي أتي إلى بلادي من أصقاع الدنيا قد اغتصب أرضي وقتل أهلي وأقربائي وهو يحرمني من حق العيش وحق العودة لأرضي والذي يحق لكل البشر.
                    ها أنا ذا ما زلت حياً أطالب بحقي بقوة وثبات وإصرار، وأقول لهذا المحتل الغاصب ولكل العالم المارق الذي يتواطأ معه:
                    سأعود إلى بيتي الذي سأعيد بناءه وتجهيزه لأسكنه، وسط أرضي التي سأحرثها وأزيل الأعشاب الضارة والأشواك منها ، وأبذرها قمحاً وأزرع أشجار الزيتون واللوز والمشمش حولها، وأزرع أمام باب بيتي دالية، أصنع لها عريشة لتظلل المكان، وتتدلى قطوف عنبها مثل الثريات المضيئة في أيام الصيف ولياليه. بالقرب من بيتي سأزع الياسمين، ليعطر المكان ويبث الانتعاش في الأرواح، سأجهز الجزء الأمامي من بيتي للضيوف الذين سيفدون علينا من مناطق شتى، والذين عرفناهم خلال فترة اللجوء التي قضيناها في المخيم، سأضع فيه كل ما يحتاجه الضيوف ليشعروا بالراحة والخصوصية وكأنهم في بيوتهم.. كيف لا وهم الأهل والأصدقاء وشركاء اللجوء والتشرد ومسيرة العودة؟.
                    سأجهز جزءاً من أرضي لتغدو اسطبلاً لبعض الخراف التي سأشتريها، وحصاناً أركبه وأحرث به الأرض، ويلهو به الصغار، سأربي طيور حمام في صناديق خشبية سأعلقها في أعلى الاسطبل ليتخذ منها الحمام أعشاشاً يبيض داخلها لتفقس البيوض وتأتي للدنيا بصغار تنمو تكبر وتعيد دورة حياة آبائها.
                    عندما هرب جدي من قريتنا، كان هو وجدتي ووالدي، كانوا ثلاثة أفراد فقط، أما الآن، فمن يطالب بالعودة إلى القرية من نسل جدي عددهم مئة وثلاثة وخمسين فرداً، أي ثلاثة أضعاف من أخرجتموهم من القرية.. هؤلاء يصرخون مطالبين بأن يعودوا، يشعلون إطارات الكوشوك، يطيِّرون الطائرات الورقية المحملة بالزجاجات الحارقة، يصدرون أصواتاً مرعبة تزلزل الأرض والسماء وترعب بني صهيون..
                    وأقسم لكم أيها المحتلون الغاصبون، لو أننا استطعنا الوصول إليكم لقضمناكم بأسناننا..
                    حتى الأسلاك الشائكة التي تحميكم منا قطعناها بأيدينا العارية، وسنصل لكم في لحظة ما، ولن تحميكم منا أسلحتكم الحديثة الفتاكة.. فهي لا تخيفنا.. وأتمنى حينها أن لا تولوا الفرار، ولا تستنجدوا وتستغيثوا بأمهاتكم كما فعلتم سابقاً "إيما...إيما".. فقط فلتسمح لكم بقايا شجاعتكم بالبقاء وانتظارنا حنى نصلكم هذا إن كان لا يزال لديكم شجاعة ورجولة.. فإننا في طريقنا إليكم.
                    قد يكون ذلك الليلة، أو غداً أو بعد غد.. حسب ما تسمح به أمزجتنا وحساباتنا.. واعلموا أنه لا فرار لكم منا.
                    ولنا معكم موعد لا نخلفه. إننا قادمون يا بني صهيون.
                    د. زهرة خدرج

                    تعليق


                    • #11
                      رد: حكايات من مسيرات العودة

                      أأكون قد استُشهدت حقاً؟؟
                      استيقظت فجأة، ممدداً على شيء ما، لا أدري ما هو، قد يكون قطعة معدنية أو شيئا من هذا القبيل، "ولكن.. ما هذا الشيء القاسي الذي يلف جسدي بإحكام؟" حاولت زحزحة نفسي قليلاً، عساني أنعم ببعض الراحة، بيد أن العجز التام هو ما كان بانتظاري.. لم أستطع تحريك أي جزء من جسدي. يا إلهي، "ما هذا المكان! ماذا أفعل أنا هنا تحديداً؟ ماذا يحدث لي؟ أوه.. كيف أتيت إلى هنا؟" قلت بضيق لنفسي.
                      صمتُّ للحظات.. ضغطت على ذاكرتي، لا بد وأن أتذكر شيئاً ما قد يزيل حيرتي، "فلمَ أنا هنا.. ماذا كنت أفعل قبل ذلك؟ ما هو آخر شيء كنت أقوم به؟".
                      شعرت وكأني محمول داخل سيارة تسير بسرعة في طريق غير معبدة، أصخت السمع علَّ هذا الغموض ينجلي. "ليس لي إلا ذاكرتي.. فهي المنفذ الوحيد أمامي الآن، فقط لا غير". مضيت أنبش رفوف ذاكرتي وملفاتها، شعرت وكأن ظلاماً شديد القتامة قد حل بها فجأة.. مصغياً في الوقت ذاته لأي شيء قد يُعلمني ما أنا فيه الآن.
                      صبراً صبراً، بدأت أتذكر.. كنت أشعل عجل كوشوك، على السياج الأمني الفاصل، حين قام جنود الاحتلال بقنص أحد أصدقائي.. أصيب في ركبته، "إسلام" حاول حمايتي من رصاصة كادت تفتك بي أيضاً، هربت وإياه، ولكنهم وجهوا بنادقهم إلى رأسه وأصابوه في مقتل.. أه يا إسلام.. رحمك الله.. سبقتني للجنة، ليتني معك يا صديقي العزيز.
                      رجتني أمي أن لا أغادر البيت في صباح يوم الجمعة، فأنا وحيدها، وأملها في هذه الدنيا، فإن حدث لي شيء ستكون تلك نهايتها أيضاً. ضحكت، لاطفتها، تناولت طعامي معها، ثم صممت على الخروج.. فكيف لي أن أترك أصدقائي يخرجون وحدهم وأبقى جليس البيت كالعجائز؟ حتى النساء والأطفال والكثير من العجائز خرجوا جميعاً.. ولأخفف عن أمي قلقها وارتباكها، طلبت منها أن تخرج أيضاً.. ظنتني أسخر منها، ولكني لم أكن إلا جاداً جداً.
                      تذكرت الرصاصة التي اخترقت صدري.. كم كان ذلك مؤلماً.. لا أستطيع أن أصف كمية وطبيعة الألم الذي اخترق عظامي وقلبي فجأة، كان وكأنه يحطم صدري ويفتت قلبي، لم أعلم في أعوامي العشرين التي عشتها كيف يكون ألم القلب، ولكني خبرته جيداً في تلك اللحظة.. ولكني أحمد ربي كثيراً، فهو لم يدم سوى لحظات، مرت مثل لمح البصر.. سقطت أرضاً.. ثم انتهى بعدها كل شيء.. أستغرب الآن، أين ذهب الألم؟ أأكون قد...؟؟!! قد استشهدت؟؟ ربما!! أو.. لست أدري تماماً!! قد يكون ذلك.. ولكن أين أنا الآن؟ ما هذه السيارة التي أسير داخلها؟ إذا كنت قد استشهدت، فلماذا أنا هنا ولست بين أهلي ومودعيَّ؟ هل شيعوني؟ لا يبدو الأمر كذلك.
                      تناهى إلى سمعي أصوات تتحدث العبرية، آه.. لقد اتضحت الأمور أمامي، لا بد وأنهم سرقوا جثتي، ولا بد وأنهم سيحتجزونني في ثلاجة، أو قد يضعوني في مقابر الأرقام.. على كل حال، لا يهم ذلك، فماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟ مهما كان الأمر، أنا فخور بنفسي، فقد قدمت ما أستطيع لعيون فلسطين، قذفت جنود الاحتلال بزجاجة حارقة شاهدتها تشتعل في ملابس أحدهم، وحتى قبل ذلك، كنت لا أتوانى عن إلقاء الحجارة عليهم، وإشعال إطارات السيارات التي تؤذيهم.. أدعو أن يتقبل الله مني..
                      ولكن، ماذا فعلت أمي؟ هل أخبروها باستشهادي واختفاء جثتي؟ كان الله في عونك يا أمي. اصبري أماه ولك الجنة بإذن الله.
                      يعتقد المحتلون بأنهم قد تخلصوا من واحد أقضَّ مضجعهم وأربك حساباتهم، وهم ينسون دائماً أن هناك آلافاً بل ملايين سيتابعون مسيرهم بإصرار حتى يطردوهم من بلادنا..
                      ترحموا عليَّ وعلى جميع الشهداء.. وادعوا أن يجمعني الله وإياكم على حوض رسول الله.. وأوصيكم أن تتابعوا المسير من بعدي، ولا تثقوا بمن يعطيكم الوعود حتى تتراجعوا عن هذه الطريق ثم ينكثوا بعهدهم كما اعتدنا منهم دائماً أن يفعلوا..
                      د. زهرة خدرج

                      تعليق


                      • #12
                        رد: حكايات من مسيرات العودة

                        اقبل اعتذاري يا حبيب روحي
                        أكتب لك يا حبيب قلبي بكل جوارحي، وقلبي وعقلي وروحي.. كلمات تخرج من أعماق قلبي.. أكتبها لك بالدموع والألم والحسرة.. والكثير من الندم والأمنيات.
                        حبيب قلبي:
                        أود الاعتذار منك على عدد لا يحصى من الأشياء التي تأكل قلبي حسرة الآن، ولا أدري إن كنت ستقبل اعتذاري أم لا..
                        برغم سذاجة هذه الحادثة إلا أنني سأبدأ كلامي بها، فقد طلبت مني في الصباح أن أصنع لك "أقراصاً من الزعتر" طعاماً للإفطار.. رفضت طلبك صارخة في وجهك: أنا مشغولة اليوم، فلدي ضيوف سيحضرون في المساء، ولا بد أن يكون البيت برغم ضيقه الشديد نظيفاً مرتباً، ويتحتم عليَّ تحضير حلوى أقدمها لهم.. سأصنع أقراص الزعتر غداً وربما بعد غد..
                        لم يدر في خلدي ولو للحظة أن البيت سيمتلئ عن آخره بالمعزين في ساعات المساء.. والذين سيحضرون لتعزيتي باستشهادك.. وأنك لن تتناول إفطاراً بعد ذلك اليوم معنا، بعد أن نفذ عمرك وانتهت كل صلة لك بعالمنا.
                        قبل يومين يا مهجة قلبي كنت تحدثني عن آمالك وأحلامك:
                        - سأصبح طياراً يا أمي.. سأقود طائرة من غزة وأجوب بها بلاد العالم، سأرسم وروداً وبسمات على سطحها، حتى إذا عبرت أي مكان وشاهدها الأطفال، فرحوا وابتسموا، ولوَّحوا لي بأيديهم.. أتمنى لو لم يكن هناك ظلم في العالم، لو لم يكن هناك احتلال بغيض يحرم علينا الحياة والسعادة والأحلام والتحليق في الجو.
                        ضحكتُ حينها، وذكَّرتك قائلة:
                        - نحن مُحاصرون يا بني، مُضيق علينا.. بلدنا مهدمة.. وكأن الحياة أبت إلا أن تغادرها.. فكيف لك أن تطير في جوها بطائرتك؟ كن واقعياً يا بني.. لا تُكثر من الأحلام التي تعذبك وتؤرقني حزناً عليك وعلى صباك المهدور.
                        لقد استكثرت عليك حتى مجرد الحلم يا بُني.. وأعض أصابعي الآن ندماً على ذلك.. فلماذا لم أتركك تحلم على أقل تقدير؟؟؟
                        وبرغم كلامي الـمُثبط، فقد قلت لي حينها:
                        - لن نبقى محاصرين إلى ما لا نهاية يا أماه.. أقسم لك بأن الحصار يوشك على الانتهاء.. فغزة ستنتصر.. وبين عشية وضحاها سننتصر. أتعلمين لماذا يا أمي؟ لأن غزة شريفة تدافع عن كرامتها وشرفها الذي تأبى أن تقايضه بحفنة من الأموال والممتلكات، حتى وإن بدا الأفق مظلماً شديد السواد في الوقت الحالي.
                        كنتُ دائماً محصورة الفكر في الواقع القاتم المؤلم الذي نعيشه، فكلما عرَضتَ عليَّ فكرة ما، ذكَّرتك بواقعنا المر هذا.. حتى أنك حين طلبت مني أن أخطب لك إيناس، ابنة جيراننا، رفضتُ بحدة.. فأين ستذهب بها؟ أين ستسكنها؟ كيف ستنفق عليها؟ أين... كيف... هل... متى... من أين؟؟؟؟؟؟؟ أرهقتك بأسئلتي التي تولغ في مفردات الحصار.. فزدتك بسلبيتي حصاراً فوق الحصار، وضيقاً فوق الضيق..
                        تجوبني الكثير من التفاصيل الآن، وتقرع أجراس الحزن داخلي معلنة الحداد والسواد.. بعد أن حزمت آمالكَ وأحلامكَ التي أبيتُ أن أستوعبها وأؤمن بها مثلك، ورفضها العالم الأرضي الظالم وأصرَّ إلا أن يكسرها ويحطمها على شواطئه بقوة، ولم يسمح لها ولا بأي شكل من الاشكال أن تنداح على رماله الناعمة وحتى فوق صخوره الصلبة، وحرَّم عليك حتى الأحلام.. والتي ساهمت أنا أيضاً في حرمانك حتى من أبسطها.
                        حتى إذا جاء قرار رحيلك الذي أخفته الأقدار، ثم أعلَنَتْهُ على حين غرة، هوت بي فجأة وتركتني أقع على شفا الحصار مصدومة.. غير مصدقة بأنك رحلت بهذه السرعة الخاطفة، خرجت من البيت تستنشق بعض الهواء هرباً من الحر القائظ تحت سقف الصفيح.. وكأن الصاروخ المجرم كان بانتظارك.. ليمزق جسدك، ويبتر أحلامك، ويترك آمالك أشلاء ممزقة. أحبس دمعاتٍ حارة تحاول الفرار من عيني، وندم يسحق رأسي ويغتصب حزني.. وأتمنى أن تسامحني وتقبل اعتذاري.. ولولا أن هذه الطريق التي مضيت في دربها لا يعود منها الذاهبون.. لتمنيت أن تعود.. لأعوضك بعضاً مما فات..
                        ولكن.. هل فعلاً يمكننا تعويض ما فات؟؟؟؟؟
                        ليته يكون كذلك.
                        د. زهرة خدرج

                        تعليق


                        • #13
                          رد: حكايات من مسيرات العودة

                          نسوة الحصار والفقدان
                          مجموعة من النسوة، يتشحن السواد من الخارج، ويتشحهن من الداخل.. آلامهن تتشابه كما يتشابه الحصار المفروض عليهن، جمعتهن الأقدار والآمال والآلام والدموع والرغبة في الاستمرار في ذات الوقت.. كنَّ يلتقين كلما انضم للركب شهيد أو أسير، فيضممن زوجه إليهن.. يؤازرنها، ويعنِّها لتجتاز صدمة الفقدان بأقل الخسائر، علها تأنس بوجودهن فتتابع الدرب الوعر الذي اختارها واختارهن بإصرار بالرغم منهن وبغير إرادتهن.
                          لكل واحدة منهن حكايتها الخاصة بها، الفريدة في دقائق تفاصيلها، المتشابهة جداً في خطوطها العريضة والعموميات. وبرغم من أن التشابه قد يكون كبير في أغلب الأحيان، إلا أن لكل منهن كينونتها الفريدة التي لن تجد لها مثيل في هذا العالم.
                          هي أم لخمسة أطفال، أكبرهم في الثانية عشر من عمره، وأصغرهم على أبواب المدرسة.. رحل عنها زوجها بصاروخ غادر مزق جسده وأحاله أشلاء جمعوها في كيس بلاستيكي أسود لتوارى الثرى، خلَّفها رفيق دربها ورائه دون معين.. هي ما زالت فتيِّة في الثلاثين من عمرها، أجرة بيت تقض مضجعها، ومصروف أسرة يربكها، ومسؤولية أطفال في المدرسة أكبرهم بحاجة للكثير من الرعاية والعناية ليبلغ مبلغ الرجال، فما بالك بأصغرهم؟ فكيف تتدبر أمرها؟؟. تقول لها بعض النسوة: أخرجي ابنك لسوق العمل.. فليتحمل مسؤولية الأسرة.. أليس هو رجل صغير؟ لا.. ابني سيكمل مدرسته ويحدد مستقبله كما يرغب.. لن أحمِّله مسؤولية استشهاد والده.. أنا من ستخرج للعمل وتنفق على أسرتها.. لن أسلب صغاري طفولتهم وحقهم فقط لأن والدهم استشهد دونهم.
                          وزوجة شهيد أخرى ما زالت يافعة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، جنينها يتململ في أحشائها، كانت تحلم بغد براق فائق الجمال، وتنتظر ما يحمله في ثناياه من وعود وردية بسعادة باذخة وفرح واعد.. اصطدمت بالواقع على حين غرة.. ولم تكن قد أعدَّت نفسها لرؤيته بعد..
                          مكالمة هاتفية قصيرة قلبت حياتها رأساً على عقب، برغم قلة الكلمات التي احتوتها إلا أنها نقلتها إلى مجاهل العالم الذي لم تعي عن وجوده شيئاً:
                          - محمد.. استشهد يا نور.. الله يعوض عليكم عوض خير.. هنيئاً له الجنة.. اصبري ولك الأجر.
                          أما أماني.. تلك الجميلة التي تنضح شباباً وحيوية فلها مع الوجع لقاءات ومحطات.. آه لك يا أماني من الستار الأسود الذي لم تستطيعي إزاحته عن قلبك ومن أمام عينيك.. فأنت ما زلت على العهد.. رفضتِ الزواج من آخر برغم ضغط المجتمع عليك، لماذا يا أماني؟؟ أليس سترة المرأة في بيت زوجها؟ زوجك قد استشهد.. فماذا ستفعلين أنت؟ هل ستدفنين نفسك وراءه؟ هل ستعيشين حياتك من أجل ابنتك التي ستكبر وتتزوج وتتركك وحيدة؟.. لو كانت ذكراً لوافقناك على رأيك.. أنت الآن قوية الجسد وغداً ستضعفين، وتصبحين بحاجة لمن يمد يد العون لك.. إن لنفسك عليك حق.. فهل ستعيشين بقية عمرك حياة ناسك معتكف داخل صومعته؟ استيقظي من فجيعتك قبل فوات الأوان فالأيام تتسرب من بين يديك بلا وجل كما يتسرب الماء بين حبات الرمل.
                          وآه لك يا أماني.. وآه لعشقك العنيد لفارسك الذي رحل عنك دون أن يشفق على قلبك الرقيق.. عشق لا ينضب وكأنه عين فوارة تستمد مائها من محيط متجدد.. فلم تعترفي بالفقدان موسماً للخضوع والاستسلام لواقع مرّ فرض نفسه عليك.
                          ومريم تشاطر الأخريات حزنهن برغم بعض الاختلافات.. فرفيق دربها يقضي مؤبدات يزيد عددها عن عدد سنوات عمره مدفون على قيد الحياة خلف القضبان ووراء جدران رطبة لا تراها الشمس تحول بينها وبين حبيب قلبها ووالد أبنائها.. تحرمها وأبنائها من حبه وحنانه ورؤيته.
                          آه لكنَّ يا نساء الحصار والفقدان.. أزحتنَّ أنوثتكن جانباً، واتخذتن من الرجولة دثار.. أودعتن أحبتكن الثرى وأكملتن الدرب الوعر وحيدات متحديات.. هنيئاً لفلسطين بكن.. وهنيئاً لرجالها بنساء مثلكن.
                          د. زهرة خدرج

                          تعليق


                          • #14
                            رد: حكايات من مسيرات العودة

                            أن تحبي مقاوماً
                            هل فكرتِ يوماً ماذا ستكون ردة فعلك إن تقدم لخطبتك مقاوم يحمل وطنه وقضيته في كفة ويحمل روحه في الكفة الأخرى؟ أتقبلين بمقاوم يترصده المحتل ويبذل ما بوسعه ليحيل حياته سواداً وخوفاً وإرباكاً ويقضي عليه إن استطاع الوصول إليه؟ المحتل الغاصب يضيق الخناق على كل حرٍّ أبيٍّ فلسطين همه، والقدس بوصلته، ولا يهنأ له عيش ما دام هناك مقاوم على هذه الأرض يدافع عنها ويبذل دمه ليحميها.
                            تقدم يطلب الزواج مني، وبعد الموافقة الأولية، طلب من والدي رؤيتي في بيت أهلي.. راح يناقشني بأمور كثيرة، سياسة، علوم، فن، تاريخ،... الخ. وكلما أجبته عن شيء سألني وناقشني بغيره. كان مثقفاً، وملمَّاً بالكثير وكان حافظاً لكتاب الله.
                            وقبل أن يغادر شعرت قلبي يتعلق به وينبض إعجاباً به، خاصة بعد أن همس في أذني قائلاً: أتقبلين الزواج من مطارد يطارده جيش الاحتلال ليل نهار ولا يترك له ساعة يرتاح فيها؟
                            فقلت له: سأقبل إن أجبتني عن سؤال: لماذا اخترتني أنا تحديداً لهذه المهمة الشاقة ألا يوجد غيري؟
                            فقال: لأنك لست كأية فتاة أخرى عادية. مثلك من تصلح لأن تكون زوجة مقاوم مُطارد، ومشروع حبيبة شهيد. ففي نظراتك تتجلى القوة والثقة التي تزلزل المحتل إن سولت له نفسه بأن يساومك، وفي كلماتك الحنان والرقة التي تسبغ على روح من هم مثلي السكينة والدفء. مثلك من تُربي القادة، وتدعم المقاومة وتمد فلسطين بالرجال والعزيمة والهمة. فكيف لي أن لا أختارك دون سواك؟. أنت لا تعرفينني، بيد أني أعرفك مذ كنت طفلة صغيرة، تعاركين أبناء الحي وتنتصرين عليهم، فكانوا يحسبون لك ألف حساب، لدرجة كانوا معها يقولون بأنك ولد مختبئ في ثياب بنت. والآن ها أنت تعاركين جنود المحتل بالإصرار ذاته الذي كنت أشاهده يلتمع في عينيك وأنت صغيرة.
                            ضحكت لكلماته وأجبته: أنا موافقة.
                            فقال: إذن لا بد لي أن أعترف لك قبل أن أمضي وأتمنى أن لا تغيري رأيك.
                            قلت: قل ما تشاء فكلي آذان صاغية، ولا تخشى شيئاً فأنا لا أغير رأيي بسهوله.
                            قال: لن يكون بمقدوري أن أكون إلى جانبك يوم الزفاف، برغم أن روحي ستحرسك، وقلبي يفترش الطريق أمامك.. لن أجلس إلى جانبك على المنصة أمام أقاربك وصديقاتك، ولن أمسك يدك وأوصلك إلى السيارة ومنها إلى عش الزوجية، بل لن يكون لنا عش واحد يجمعنا طوال الوقت كأي زوجين عاديين، سنكون كقيس وليلى، نتواعد ونلتقي في الخفاء، حسب الظروف، بعيداً عن العيون التي ترقبنا وتترصدنا، وقد يتغير الموعد والمكان في اللحظة الصفر، من يدري؟..
                            فقلت: لا يهم، مهما كانت ظروفك فأنا أقبل بك. فإن لم أكن أنا عون لمقاوم مثلك، من تراها تكون؟؟
                            خرج من بيت والدي على عجل، وقد صادر قلبي معه، وكأنني أعرفه منذ زمن طويل. ومنذ ارتبطت به أصبحت أدرك تماماً ماذا يعني أن تحب الفتاة مقاوماً.
                            تتزوج الفتاة لتستقر في بيت يأتي رجلها مساءً من عمله، مرهق تعب، قد يكلمها ببضع كلمات وقد يغضب من كلمة تلقيها دون بال، فهو متعب لا قِبل له بتوتر الأعصاب والكلام الزائد. ولكنه في نهاية كل شهر يضع في حجرها مبلغ من المال عوضاً لها عن صبرها وطول انتظارها وتحملها لعصبيته ونفاذ صبره. أما أنا فلا وجود للاستقرار في حياتي، ولكن يتجلى الحب المتجدد الذي لا يعرف الملل إليه طريقاً في كل لحظة، فالشوق شلال متجدد لا ينفذ، واللقاء ثمين لا نستطيع إضاعة لحظة منه بعبوس أو مشاعر سوداء. وردة شذية هي أجمل الهدايا وكلمة رقيقة نابعة من القلب هي أجمل الكلمات.
                            أن تحبي مقاوماً عليك أن تزيحي الغيرة جانباً فقلب رجلك لا يقتصر عليك وحدك، بل تنافسك عليه فلسطين، وتأخذ القسط الأكبر من اهتمامه وأيامه، فإن لم تكوني تعشقينها، وتسكنك، فلن تصلحي لهذا الرجل المختلف عن بقية الرجال.
                            أن تحبي مقاوماً لن ترى حبيبك يرتدي ملابس مختلفة تواكب صرعات الموضة، بل لباسه هو هو دائماً لا يتغير.. بدلته خضراء زيتية اللون، وقناع مثل لونها يقنع رأسه ووجه، ولا تظهر منه سوى عينيه اللتان تظهران كعيني صقر جارح.
                            أن تحبي مقاوماً يعني أنك طوال الوقت تنتظرين أن يُزف لك خبر فراق حبيبك، وانتقاله إلى السماوات العلى، فكل صوت غير معتاد يثير مخاوفك، وكل انفجار لإطار سيارة يوقع في قلبك الهلع.. وسقوط شيء بصوت مرتفع يجعل قلبك يتوقف عن الخفقان.. كيف لا وحبيب القلب في قلب المعركة وسط النيران؟ أو أنه مرابط على الثغور يحميها بكل ما يملك.
                            أن تحبي مقاوماً معناه أن هناك ضريبة مرتفعة القيمة عليك سدادها، لتثبتي له ولك أنك لها وأنك مختلفة عن كل نساء الأرض، فهل حقاً ستنجحين في هذه المهمة؟؟؟.
                            د. زهرة خدرج

                            تعليق


                            • #15
                              رد: حكايات من مسيرات العودة

                              المشاركة الأصلية بواسطة د. زهرة خدرج مشاهدة المشاركة

                              أن تحبي مقاوماً عليك أن تزيحي الغيرة جانباً فقلب رجلك لا يقتصر عليك وحدك، بل تنافسك عليه فلسطين، وتأخذ القسط الأكبر من اهتمامه وأيامه، فإن لم تكوني تعشقينها، وتسكنك، فلن تصلحي لهذا الرجل المختلف عن بقية الرجال.

                              أدام الله عطاءك أختي الكريمة ورائع ما خطته يمينك ..
                              فلن تكون جديرة بالإرتباط بمقاوم إلا من عشقت الأرض كما عشقها هو ورخص لها كل غالِِ ونفيس ..
                              ومن كان وفيا للأرض عاشقا لها حتما سيكون وفيا لزوجته مخلصا لها وغيورا عليها وحاميها ..
                              وكيف تغار هي من محبوبة تشاركا في حبها وتواعدا على فدائها والتضحية لها ..

                              تعليق

                              جاري التحميل ..
                              X