إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مذكرات الاسر للدكتور فايز ابو شمالة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مذكرات الاسر للدكتور فايز ابو شمالة

    عندما وقعت في فخ المخابرات الصهيونية
    حين بدأت الحرب على غزة سنة 2014، توقفت عن نشر تجربتي الشخصية في الزنازين الإسرائيلية،
    سأعاود نشر التجربة من جديد، ثم أكمل البقية، مع التأكيد على أنني سأروي التجربة بدقة وصدق وأمانة كي يستفيد منها من لم يبدأ المعركة بعد.
    وحين أنشر تجربتي في التحقيق لا أنشد إثارتك، ولا أدعي البطولة، فالبطولة موقف يحتكم إلى درجة وعي الإنسان للحالة التي يعيشها، ولا أسعى لكسب ودك، ولا أرغب في تسليتك، ولا أطلب منك دمعة حزن، ولا انتظر ثناءً، ولا أخشى ملامة، فلا مطمح لي بكل ما يلهث إليه الآخرون، فقد تجاوزت في تجربتي الحياتية مرحلة الخوف والطمع.
    (1)
    محاصرة البيت
    على غير العادة، لاحظت تحرك مجموعة من الجنود الإسرائيليين شرق بئر الوكالة في مخيم خان يونس، كان منظر الجنود يوحي بأنهم ينتشرون بهدف محاصرة المنطقة التي يتواجد فيها بيتي، تعالت دقات قلبي، وزاد انفعالي، وحسبت أنني المطلوب لهذا الجيش، ولاسيما أن المخابرات الإسرائيلية قد اعتقلت قبل عدة أيام بعضاً ممن عملت معهم عسكرياً .
    كانت الساعة الحادية عشر ليلاً حين صعدت على سطح أحد بيوت الأقارب في المخيم، ورحت أراقب تحرك الجنود بحذر شديد. فقد كان من عاداتي ألا أدخل البيت قبل الثانية فجراً، فقد كنت أخشى ما أخشاه أن يفاجئني رجل المخابرات وأنا نائم، لذلك حرصت أن أظل في كل ليلة خارج البيت حتى الثانية بعد منتصف الليل، لأضع رأسي على الوسادة، وأنام مثل الذئب الذي تراقب أذنه كل حركة، حتى صرت خبيراً بمحركات السيارات؛ أميز بين صوت سيارة المرسيددس من صوت سيارة النقل من صوت عربة الجيب العسكري.
    ظل الصمت يلف المنطقة ثلاث ساعات، وكأن لا شيء غير مألوف في ليل مخيم خان يونس، حتى خيل إلي أن الجنود قد انسحبوا دون أن أشعر، ولكنني لم اطمئن رغم الهدوء الذي يلف بيتي، فقد أوصيت أمي أن تشعل الضوء في ساحة البيت إذا جاء يوماً الجنود الإسرائيليون.
    عند الساعة الثانية فجراً تنفست الصعداء فقد بدأ الجنود الإسرائيليون المحاصرون للمنطقة بالانسحاب، وبدأت العربات المجنزرة المتواجدة في شارع البحر مقابل مركز التغذية بالتحرك في اتجاه الغرب، بشكل يؤكد أنهم يئسوا في إلقاء القبض على ضالتهم.
    لمزيد من الحذر، انتظرت في مكمني حتى الساعة الثالثة فجراً يوم الثلاثاء 8/5/ قبل ثلاثين عاماً، انتظرت ساعة وأنا في غاية الاطمئنان بأن القوات الإسرائيلية قد انسحبت من المكان، لأبدأ عند الساعة الثالثة فجراً التسلل إلى بيتي، بهدف تجهيز نفسي ببعض الأشياء، والتوجه بسيارتي "فيات 128" مباشرة إلى شاطئ بحر رفح، والنزول إلى الماء، والسباحة غرباً عدة كيلو مترات، بعيداً عن عين المراقبة البحرية الإسرائيلية، ومن ثم التوجه جنوباً، لأخرج قبل انبلاج الفجر على الشواطئ المصرية، فقد كنت أعددت خطتي مسبقاً، ودرست المكان جيداً، وكنت أتمتع بقوة جسدية خارقة، وكانت لدي قدرات مذهلة للسباحة في كل الظروف، وقد اكتملت لدي في تلك الليلة التي حاصرها الجنود الإسرائيليون القناعة بضرورة عدم تسليم نفسي مهما كلف الأمر.
    كان لبيتي أربعة أبواب تطل على أربع جهات، ولكنني في تلك الليلة اخترت الطريق التي تأتي على البيت من وسط المخيم الغربي، وكانت تمر عبر زقاق بعرض مترين، فيه باب من الخشب يفضي إلى مطبخ البيت.
    كنت أرتدي جلابية بلا شباح داخلي، وكان في جيبي ليرة إسرائيلية واحدة، وعلبة سجائر تبقى منها سيجارة واحدة، وقداحة، وكانت خطواتي للبيت واثقة سريعة جريئة لا تلوي على أي شيء يحول دون تنفيذ خطتي، كنت أنوي إلقاء نظرة وداع على أطفالي الخمسة وقتئذٍ، والمغادرة بسرعة، ولم يخطر في بالي أنني قد وقعت في الكمين وسط عشرات البنادق المصوبة بخشونة على رأسي، والتي تشكشك من حولي، مع صوت باللغة العبرية يقول لي: تعمود، تريم يديم لماله، رفعت يدي إلى أعلى وقد أدركت أنني قد وقعت في الفخ، فقد كان انسحاب الجنود قبل ساعة مجرد خدعة يهودية، وكانت مغادرة المجنزرات للمكان خدعة مخابرات.
    قادتني البنادق الإسرائيلية المصوبة حتى غرفة نومي، كي أحضر بطاقة الهوية، وحين تأكد الضابط من الاسم، قال لي: وقع على شهادة بأن الجنود الإسرائيليين لم يأخذوا من بيتك أي شيء. رفضت التوقيع، إيذاناً ببدء المواجهة التي لم تنته بعد.
    وقتها لف أحد الضباط يدي خلف ظهري، ووضع فيها كلبشة بلاستك مقوى، ووضع على عيني غطاء، وقادني الجنود إلى المجنزرة التي كانت تنتظر عند نهاية المخيم الغربي، لتبدأ من تلك الليلة رحلة ميلاد شخصيتي الجديدة في السجون الإسرائيلية.
    يتبع...

  • #2
    رد: مذكرات الاسر للدكتور فايز ابو شمالة

    بارك الله في الدكتور فايز أبو شمالة
    وبوركت جهودكم
    أخي الكريم أبو بكر الرازي.

    تعليق


    • #3
      رد: مذكرات الاسر للدكتور فايز ابو شمالة

      المشاركة الأصلية بواسطة ذكرى صلاح الدين مشاهدة المشاركة
      بارك الله في الدكتور فايز أبو شمالة
      وبوركت جهودكم
      أخي الكريم أبو بكر الرازي.
      شكرا شكرا
      وبوركت جهودكم

      تعليق


      • #4
        رد: مذكرات الاسر للدكتور فايز ابو شمالة

        (2)
        اليوم الأول في التحقيق
        كانت السيارة العسكرية تطوي المسافة سريعاً بين مدينة خان يونس ومدينة غزة حيث السجن المركزي، وكان عقلي يطوي المسافات الفاصلة بين توقع العذاب الشديد وبين أحلام النجاة، بين أسئلة المحقق، وبين جوابي، وبماذا سأرد على الأسئلة، وما هي الأسئلة؟ وهل سيقتنع المحقق بجوابي، لو قلت له: لا أعرف؟ وماذا سيفعل بي، كيف سيعذبني؟ هل لدى المحققين معلومات، أم لديهم تقديرات؟ بماذا سيفاجئني هذا المحقق؟ كيف سأتصرف؟
        لقد قررت وأنا مقيد في العربة العسكرية الإسرائيلية أنني لا أعرف شيئاً، ولا علاقة لي بأحد، وأنني أتحدث في السياسة، وأحرض طلابي على المقاومة، ولكنني لا أمارس أقاوم. ومع ذلك، تمنيت في تلك اللحظة أن تصطدم السيارة العسكرية بلغم أرضي يفجرها، وتتفجر وأنا فيها، حتى لا أصل إلى سجن غزة المركزي، فما أقسى تلك اللحظة التي يقع فيها الإنسان أسيراً، يغمض عينه على المجهول ويفتحها على القيود، والتوتر، والخوف، والحيرة، والفشل، والظن السيء بالآخرين حتى الشك.
        مع الفجر وصلت السيارة العسكرية، أنزلوني منها أحدهم مقيداً مغمض العينيين، وقادني حتى غرف التحقيق، هنالك يقف ضابط إسرائيلي صارم الملامح، طلب مني على الفور نزع ملابسي، وارتداء لباس التحقيق الذي يشبه لباس عمال النظافة؛ قطعة واحدة من القماش المقوى، تسمي "أفرهول"، كان المقاس صغيراً، وأنا رجل طويل، فكان يتوجب علي أن أحشر أكتافي في هذا الثوب بصعوبة بعد أن حشرت ساقي، ليضع السجان بعد ذلك القيود في معصمي من خلف ظهري، ويغطي رأسي بكيس من القماش المقوى، ويقودني إلى الطابق الثاني، حيث كان في انتظاري رجل التحقيق المناوب، الذي كان مرهقاً مع طلوع الفجر، فاكتفى بالتعرف علي اسمي، وعملي، وعمري، ثم طلب مني الاعتراف له بكل شيء، وإلا فإن طاقم التعذيب ينتظر في الصباح .
        وجاء الصباح، وجاء رجل التحقيق المكلف بملفي، كان ضخم الجثة، قوي العضلات، غبي القسمات، ولا يتقن إلا فن الصفع على الأذن، واللكم في البطن، والصراخ، والركوب على صدري، وممارسة العنف بتلذذ وغطرسة واستفزاز، وكان يسمي نفسه "أبو عنتر".
        كنت قوياً جداً في ذلك الوقت، وكنت عنيداً جداً أيضاً، وكان من طبعي التحدي، وما زال، واعترف بعد كل السنين التي عبرت بأن استخدام العنف المباشر ضدي في التحقيق من اليوم الأول كان سبباً في تعزيز قراري بعدم الاعتراف مهما كانت النتائج، لقد أدركت أن في الصمت، وانكار التهم إهانة لهذا المحقق الغبي الذي لا يكف عن صفعي في كل حين، وأيقنت أن الرد عليه سيكون في احتقاره، وعدم تقديم أي معلومة تفرح قلبه، وترضيه، ويتفاخر فيه أمام زملائه، لقد قررت أن أكسره، وألا أنكسر حتى لو تكسرت عظامي، وسأحتفظ بسري في صدري حتى ولو قطعوا من لحمي.
        يتبع

        تعليق


        • #5
          رد: مذكرات الاسر للدكتور فايز ابو شمالة

          (3)
          ما أهنأ الحياة في الزنزانة!
          التحقيق الإسرائيلي سياسة، يتبادل فيه المسئولون عن التحقيق الأدوار، فبعد أن أدرك المحقق اليهودي المدعو "أبو عنتر" فشله في انتزاع أي اعتراف مني بالقوة، تراجع إلى الخلف قليلاً، وصار يتقدم للتحقيق معي شاب يهودي مهذب ذكي دمث، يسمي نفسه "مايكل"، كان هدف "مايكل" التأثير النفسي، وانتزاع الاعتراف بالطرق السلمية، فكان يطيل الحديث معي بالسياسية، ويناقش معي مستقبل الصراع، ونتبادل الحديث بقضايا اجتماعية وثقافة عامة، وبين كل فقرة وأخرى كان ينصحني بالاعتراف حرصاً على حياتي، وخلاصاً من العذاب الذي ينتظرني على يد المحقق الذي لا يعرف لغة الحوار، لقد أدركت اللعبة من بدايتها، فأوحيت له بأنني مصدق لكل ما يقول، ولكنني لا أعرف شيئاً عما يقول.
          كان المحقق "مايكل" حنوناً معي، كان يسألني: هل أكلت؟ هل شربت؟ هل ذهبت إلى الحمام؟ ما أقسى التحقيق الإسرائيلي!
          كان "مايكل" يأمر السجان بفك قيود يدي، والسماح لي بالأكل من الطنجرة التي تتواجد عند مدخل صالة التحقيق، ومن ثم أخذي إلى حمامات الزنازين لقضاء الحاجة.
          كنت أعرف أن قوتي الجسدية هي سلاحي في المعركة، لذلك كنت استغل الدقائق التي يسمح لي فيها بتناول الطعام، فألتهم أكبر كمية ممكنة، حتى أنني كنت أغرف طبيخ الباذنجان بيدي الاثنتين، وأضعه فوق طنجرة الرز، وألتهم دون مضغ، فأنا أسابق حركة السجان الذي يتوثق لسحب يدي من الطعام ليضع فيهما القيود.
          كان الزمن المسموح فيه بدخول الحمام لقضاء الحاجة أقل من دقيقة، وكان السجان يقف على باب الحمام الذي يرتفع عن الأرض مقدار نصف متر، في الوقت الذي لا يصل ارتفاع باب الحمام إلى قامة الرجل، كان السجان يبيع زمن قضاء الحاجة في المرة القادمة بالطاعة، وحسن السلوك في التحقيق.
          أربعة أيام مضت وأنا على هذه الحالة، أربعة أيام أعطتني الثقة بنفسي، وعززت قدرتي على التحمل، لقد فرحت وأنا أعد الأيام الأولى، أربعة أيام من الصمود تحت التعذيب، قلت في نفسي: لن يكون هنالك عذاب أكثر مما عرفت، وطالما نجحت في الصمود لأربعة أيام، فإنني لن أضيع تعبي هباء، سأواصل الصمود لأيام وأيام، أربعة أيام هي مجال فخر وارتياح، سأحتمل ضربات "أبو عنتر" في البطن، واحتمل صفعاته على الأذن، واحتمل ثقل جسده فوق صدري، ولن أرهب صرخاته وتهديده، فقد أثبتت الأيام الأربعة أنه يتعب، ويخرج غاضباً مهدداً، ليدخل من بعده المحقق "مايكل"، يرفع الكيس عن رأسي، ويناقشني في السياسة، وهو يبدي الحزن لما وصل إليه حالي، إنه المحقق الإنسان الذي لم يرفع ضدي يداً، ولم يهبشني بلفظ مسيء، كان يأتي إلي بعد كل جولة تعذيب عنيف بثوب النبي المخلص، يتحدث معي حتى يتعب هو، وأتعب أنا، فينسحب، كي يفسح الطريق ثانية للعنف الجسدي على يد المدعو "أبو عنتر".
          استمرت هذه الحالة من التحقيق العنيف واللين مدة أربعة أيام متواصلة، لم أعرف ليلها من نهارها حتى يوم الجمعة، حين وضع الجندي الكيس في رأسي، وأخرجني من مسلخ التحقيق، وأنزلني درجات السلم حتى باب الزنزانة رقم 22 في سجن غزة المركزي، أدخلني، وأغلق علي الباب.
          فما أجمل الزنزانة! ما أوسع الزنزانة! وما أروعك يا زنزانة! إنها أطيب ريحاً من قصر بسمان في عمان! لقد صار لي زنزانة طولها متران، وعرضها متر ونصف، ولي فيها إبريق ماء بلاستك، ولي فيها جردل لقضاء الحاجة، فما أهنأ الحياة في الزنزانة! أنا اللية أنام بلا قيود، وأمدد ظهري على الأرض، أنا أنام في الزنزانة، ولا يوجد فوق رأسي محققون، ولا تعذيب، يا ليتهم يتركونني أعيش باقي عمري هنا في هذه الزنزانة، بعيداً عن لكمات أبو عنتر" وضرباته.
          يتبع

          تعليق


          • #6
            رد: مذكرات الاسر للدكتور فايز ابو شمالة

            عندما وقعت في فخ المخابرات الإسرائيلية
            اليوم الرابع
            فرحٌ في الزنازين الإسرائيلية
            لم أكن أعرف عصر يوم الجمعة أن المحققين اليهود في إجازة يوم السبت، لذلك عشت اللحظات الأولى من الزنزانة في حالة من الاطمئنان القلق، فلا أنا مصدق بنجاتي من أيدي المحققين، ولا أنا مكذب، ولاسيما أن بين يدي بطانية قذرة، فرشتها على الأرض، ومددت جسدي عليها لأول مرة منذ أربعة أيام، إنها بمثابة فرشة حرير؛ غرقت معها في نوم عميق، ما كنت لأصحو منه لولا صرخات السجناء المدوية التي تنطلق من الزنازين، وتوزع الأمسيات؛ أحدهم يصرخ: بنمسي يا زنزانة أربعة، فيأتي الرد: مليون. صوت آخر من بعيد، ينادي: بنمسي يا زنزانة 12، فيأتي الرد: مليووووون.
            صرخات السجناء في الزنازين تعبر عن خلاص مؤقت، وفي الصرخات حاجة إنسانية التواصل الاجتماعي، فالصرخات إعلان حياة وسط الموت، وللصراخ هدير يكسر الصمت، ويجتاز الرتابة، وفي الصراخ تعويض عن حاجة إنسانية لإثبات الوجود، ورفض الظلم.
            في بادئ الأمر لم أبادل السجناء صرخاتهم، خجلت أن أرفع صوتي، وكان ردي على أمسيات السجناء لي متناسباً مع عملي في التدريس، وحتى حين جاءني صوت السجين محمد دحلان، قائلاً: بنمسي يا فايز، كان ردي عليه بصوت عادي: مساء الخير يا محمد. فلم أصرخ بلفظة "مليون" التي يبالغ السجناء في مدها، وفي طولها وعرضها.
            لقد طغت صرخات السجناء التي تدوي في الزنازين على لحظات القلق، ولكنها لم تنزعني من التفكير في كيفية الخلاص من عذاب المحققين الآتي، وأنا أتحرك جيئة وذهاباً في مساحة مترين من الزنزانة، وأسأل نفسي: هل نجوت حقاً، أم سأعود للتحقيق ثانية؟
            وسط هذا القلق المدوي لا أعرف متى نمت ثانية في الزنزانة، ولا عرفت الوقت الذي صحوت فيه على صوت رجولي يغني بشجن، كان يردد بحزن شجي أغنية أم كلثوم، وهي تقول مع كلمات الشاعر أحمد رامي: سهران لوحدي، بناجي طيفك الساري، سابح في وجدي، ودمعي على الخدود جاري. نام الوجود من حوالي، وأنا سهرت في دنيايا، أشوف خيالك في عينيا، واسمع كلامك وياي، أتصور حالي أيام وليالي، مرت على بالي.
            قلت في نفسي: من هو هذا السجين؟ أي مبدع هذا؟ وكيف استطاع أن يعبر عن مشاعري، وربما عن مشاعر عشرات السجناء؟ كيف استطاع اختراق مكنون وجداني في هذه اللحظات التي أقف فيها على مفرق طرق بين الحاضر والماضي وبين الحياة والموت.
            سرحت مع كلمات الأغنية، حتى نمت، دون أن أدري شيئاً عن الوقت، حتى أفقت صباح يوم الأحد 13/5 على صوت المفتاح يخشخش في باب الزنزانة، لقد فتحت شدقيها على المجهول من عذاب جهنم، والسجان يضع القيود في يدي، ويضع الكيس في رأسي، ويجرني إلى الطابق الثاني، هنالك إلى غرف التحقيق، لتبدأ الجولة الثانية من التعذيب، ولكن بشكل أكثر وحشية، وأشد وجعاً، ولاسيما بعد أن أدرك المحققون قوة جسدي، وأيقنوا أن عضلات بطني القوية أصلب من ركلات أقدامهم، وأيقنوا أنني أكثر عناداً مما ظنوا؛ هذا ما اعترف فيه محقق يسمي نفسه أبو رشدي، انضم للمحقق أبو عنتر، وصار يشاركه جلسات التعذيب المكثف والمتواصل حتى يهلك كلاهما من التعب، فيأمرا السجان بربطي في ماسورة الحمام من المساء حتى الصباح.
            يتبع

            تعليق


            • #7
              رد: مذكرات الاسر للدكتور فايز ابو شمالة

              كيف وقعت في فخ المخابرات الإسرائيلية
              اليوم الخامس
              كيف قرضت الكيس بأسناني؟
              في إحدى زوايا قسم التحقيق توجد دورة المياه المخصصة للمحققين، ويقابلها مساحة صغيرة فيها المغسلة، وفي مقابل المغسلة توجد ماسورة حديد على ارتفاع سبعين سنتيمتر تقريباً، كان يقيد السجان يدي من خلف ظهري ويشدهما على هذه الماسورة، ولطولي الزائد عن الحد، كنت لا استطيع الوقوف، وكنت لا أقدر على القعود، كنت أقف مثني الركبتين، أو مشدود الذراعين، وكلما طال زمن الوقوف كلما تدفق الدم إلى القدمين، وحتى تنتفخ بعد عدة أيام من الوقوف، وأحس وكأنني أقف على خف الجمل، أو على كومة من الإسفنج، وحين أتيح لي أنظر إلى قدمي شاهدت كرتين منفوختين باللون الأزرق، مع بداية تسلخ الجلد.
              ولكل جسد قدرة على التحمل والسهر واللامبالاة، ولكن لا قدرة للجسد على مقاومة النوم، الذي كان يهاجمني بجحافل من التخدير الذي يلامس المفاصل، كنت أقاوم النوم، وأحاربه بكل قوة، لا أريد أن أنهزم أمام سلطان النوم، ولكنه يتسلل رغم أنفي إلى رأسي المتدلي، فأغفو، ليصير كل جسدي معلقاً على يدي المربوطتين، فينحبس الدم عنهما الدقائق التي نمتها، أو الساعات، لا أدري، لتكون المأساة حين أصحو من الإغفاءة، حيث كنت أتلوى من شدة الوجع في تلك اللحظة الرهيبة التي يتدفق فيها الدم إلى عروقي من جديد، يا لهول ما أحس به من احتراق في عروقي، وكأن شهباً من النار تسري في ذراعي، جمر يتقد في دمي، مع نمنمة في ذراعين كانا ميتين قبل قليل، فعادت إليها الحياة تسرى مع شهب الدم المتدفق.
              في الصباح اليوم التالي، بينما كان السجان يمسك بي من الكيس العفن الذي يغطي رأسي، ليجرني إلى غرفة التحقيق من جديد، اكتشفت سراً خطيراً في الكيس البالي المقرف، فقد كان مثقوباً، وهذا الثقب الصغير يسمح لي برؤية الدنيا، ويفسد على المحقق غايته في عزل السجين عن محيطه.
              منذ ذلك اليوم صرت أحرك رأسي يميناً وشمالاً حتى تلتقي إحدى عيني بالثقب المتواجد في الكيس، منذ ذلك اليوم صرت أبصبص على الأحداث من حولي، وأعيش الحياة في التحقيق بكامل الوعي، فقد تجدد نشاطي الذهني مع رؤية ما يجري من حولي في المسلخ، وعاد لي التوازن النفسي، إنه ثقب صغير أبصر من خلاله الدنيا وما فيها، حتى صرت بعد ذلك لا احتمل البقاء أعمى في المسلخ، وكنت أتجنن حين يضع السجان على رأسي كيساً مغلقاً بالكامل، كنت أظل أصرخ حتى أنزل إلى الحمام، كي استبدل الكيس الأعمى بآخر فيه ثقب، ولكن مع طول الزمن، وتطور التجربة، فقد طورت قدرتي، فصرت أمسك الكيس بأسناني، وأقرضه مثل الفأر، وأفتح لعيني ثقباً، فلم أعد أطيق العيش في العتمة طالما كنت قادراً على الرؤية.
              بعد فترة من التمتع بنعمة البصر، أدرك السجان ما أنا فيه من توازن، فانهال علي بالركل والضرب، وأحضر لاصقاً، ووضعه على الثقب، كي يعيدني إلى العتمة.
              في ذلك الزمن كنت رياضياً بامتياز، وكان جسدي مرناً، بحيث كانت تلتف إحدى يدي المربوطتين من خلف ظهري، وتمتد حتى رأسي، وبدل أن أرفع اللاصق الذي يسد الثقب، زحزحته قليلاً عن مكانه، وبذلك أوهمت السجان أن اللاصق لما يزل موجوداً كما هو، وأنني لا أرى شيئاً، ولكنني في الحقيقة كنت أرى كل ما يجري من حولي.
              يتبع

              تعليق


              • #8
                رد: مذكرات الاسر للدكتور فايز ابو شمالة

                عندما وقعت في فخ المخابرات الإسرائيلية
                اليوم السابع
                نادي العراة أم مسلخ التعذيب
                بعد نهار طويل من التعذيب والشبح والضرب والإهانة، أدرك المحققان أبو عنتر وأبو رشدي أنهما لن يأخذا مني شيئاً، وأيقنا أن نزع روحي أهون من انتزاع أدنى معلومة لدي، لذلك طلبا من السجان أن يضعني تحت دش المياه الباردة.
                لقد فرحت كثيراً حين طلب مني السجان نزع ملابسي والاستحمام، فقد كانت رائحتي نتنة، وكنت أتأفف من نفسي، وأنا بحاجة إلى هذا الدش البارد من الماء في شهر مايو، لقد فرحت للحمام، خلعت كل ملابسي، واستقبلت بفرح دش الماء الذي يحاصرني من كل جانب.
                كان الماء منعشاً، كان بارداً ولذيذاً حتى ربع ساعة، وكان الماء مقبولاً حتى نصف ساعة، وكان الماء محتملاً حتى ساعة من الزمن، ولكنني بدأت أرتجف بعد ساعتين، وبعد ثلاث ساعات صرت مثل عصفورٍ يبلله المطر، وبعد أربع ساعات شعرت أن في الدينا طوفان أغرق جسدي المرتجف بالبرد الشديد، فاصطكت معه أسناني، فما أوحش البرد! وما أوجع البرد! وكأنني أعيش في القطب الشمالي، وتحاصرني الثلوج، رحماك يا ربي، إلى متى سأبقى غارقاً تحت مياه هذا النهر المتدفق ثلجاً وبرداً؟.
                بعد وقت لا أعلمه بالضبط، أخرجني السجان من الحمام، وبدلاً من ارتداء ملابسي، وضع الكيس على رأسي، وأخذني إلى مروحة مثبتة في الحائط، وراح يجفف جسدي على الهواء المندفع، لقد حاولت الهروب من الهواء يميناً وشمالاً فلم أقدر، كنت مقيداً ومنهكاً، ومقبوضاً علي بيد قوية، تجرني حيث شلال الهواء الذي ضاعف من ارتجاف جسدي.
                في ذلك الوضع البائس والمرتجف، كان أحد المعتقلين في المسلخ يبصبص من ثقب الكيس، ويشاهد ما حل بي، ويراقب جسدي العاري المرتجف، ويبدو أنه قد أشفق على حالي، فانتظر حتى ابتعد السجان قليلاً، وراح في هذا الجو العابس يداعبني همساً برقيق الكلمات، وهو يقول لي: ما هذا الجسد؟ ما هذه القامة؟ ما هذه السيقان الممشوقة؟ بدنا نعمل عرض كمال أجسام، وصار يضحك، وهو يحاول أن يخفف عني، ويضيف ساخراً: ما شاء الله، هذا لم يعد مسلخ للتعذيب، بدءاً من هذا اليوم، صار المسلخ نادي للعراة، وعند هذا الوصف ضحكت، نعم، ضحكت من وجعي وحزني وهمي وغمي، نعم، أزحت تلال الخوف وضحكت لمداعبة صديقي الذي رافقني فترة التعذيب، وفترة السجن، إنه صديقي محمد أبو شاويش من مخيم النصيرات، الذي كان يغني في الزنازين لأم كلثوم: سهران لوحدي، وما زلت حتى يومنا هذا، استمع منه إلى أغنية أم كلثوم، سهران لوحدي.
                في آخر الليل أخذني السجان من تحت المروحة، وألقى بي عارياً ومقيداً في زاوية من إحدى غرف التحقيق، وقام بتشغيل جهاز كهربائي في السقف، يبث من حولي البرد الشديد، عرفت فيما بعد أن اسمه "المكيف"، لقد تركني السجان على هذه الحالة، وأغلق من خلفه الباب، وخرج.
                كنت ارتجف من شدة البرد حين نظرت من ثقب الكيس الذي يغطي رأسي، فلم أجد أحداً في غرفة التحقيق، فقط رأيت طاولة صغيرة، وكرسي، ورأيت في الغرفة قطعة من الموكيت العفن الذي تدوسه الأقدام، فما كان مني إلا أن ألقي بنفسي على قطعة الموكيت، وأمسك بطرفها، وأقوم بعملية دوران سريع لجسدي، حتى صرت ملفوفاً بالموكيت.
                دقيقة بعد اختفائي في قطعة الموكيت، بدأت أشعر بالدفء، وتفككت مفاصل جسدي، وأنا أقول لنفسي: تكفيني هذه الدقائق، يجب العودة إلى الوضع الذي تركني عليه السجان، وإلا فالعقاب عنيف لو دخل الغرفة ووجدني نائماً، ومتدثراً بالموكيت، يكفي، قلت لنفسي: يكفي.
                وبدون أن أدري، غلبني النوم، وأنا على هذه الحالة، لقد استسلمت لنوم لذيذ ربما لدقائق، ربما لساعة، لا أعرف كم هو الوقت الذي مر علي وأنا غارق في النوم الدافئ، حتى صحوت على صوت السجان وركلاته، فقد كان يصرخ بغضب، ويدوس على جسدي كالمجنون.
                يتبع

                تعليق


                • #9
                  رد: مذكرات الاسر للدكتور فايز ابو شمالة

                  عندما وقعت في فخ المخابرات الإسرائيلية
                  (8)
                  ما أهون الشبح في الماسورة!!!
                  يوم الأربعاء 15/5/1985 كان يوماً مميزاً في التعذيب، فبعد الشبح في الماسورة لمدة ثلاثة أيام، وبعد ليلة طويلة تحت دش الماء البارد، والتجفيف تحت المروحة، تم تقديمي في الصباح وجبة ناضجة للمحقق أبو عنتر، والذي بادراني بالحديث عن عذاب الليلة الماضية، وعن المفاجآت التي تنتظرني هذا اليوم إذا لم أعترف.
                  وكان ردي الحازم، أنا لا أعرف شيئاً عن السلاح الذي تتحدث عنه يا أبا عنتر، ولا علاقة لي بكل ما تتهمني فيه من انتماء لتنظيمات فلسطينية، أنا أعمل مدرساً، وأتحدث بالسياسة، وأدرب الشباب في النادي على لعبة الكرة الطائرة، وأنا كابتن الفريق.
                  لم يخترق حديثي قشرة دماغ المحقق، وأدرك أنني ما زلت على موقفي الثابت رغم ثلاثة أيام من الشبح والتبريد، فاختصر على نفسه الوقت، وضغط أمام عيني على الجرس بشكل يوحي بأنه يخبئ لي الكثير من العذاب، وكما رتب الأمر مع الآخرين، فقد دخل سريعاً المدعو "أبو رشدي"، ومعه محقق آخر جديد بالنسبة لي، كان يسمي نفسه "أبو الوليد"، والذي وضع الكيس العفن في رأسي، كي لا أرى شيئاً، بينما كان أحدهم يفك الكلبشة الإنجليزي من معصمي ويستبدلها بكلبشة الأمريكي، ولكن بعد أن ثبتها في منتصف المسافة بين مرفقي والمعصم.
                  لم أكن أعرف ما الفرق بين الكلبشة الإنجليزي والأمريكي إلا بعد أن أطبق المحققون الكلبشة، وانقضوا بشكل مفاجئ على جسدي، وطرحوني أرضاً، ليشكل جسدي مادة الضغط الأولى على الكلبشة الأمريكي، والتي يزداد ضغطها على لحم ذراعي، كلما زاد الضغط عليها، ولاسيما حين جلس أبو عنتر الذي يزن أكثر من مئة كليو جرام على صدري، وقتها انغرزت الكلبشة في لحم ذراعي أكثر، وازداد ضغط الكلبشة حتى لامست العظم حين وقف المدعو "أبو رشدي على جسدي أيضاً، وراح يدوس بحذائه على عضلات بطني، في الوقت الذي كان فيه المحقق "أبو الوليد" يضع ركبته على عنقي، ويصب الماء من إبريق البلاستك في أنفي.
                  يومها عرفت أن الكلبشة الإنجليزي أرحم من الكلبشة الأمريكي، فالكبشة الإنجليزي تثبت على المعصم، ولا تغلق أكثر مهما زاد الضغط عليها، بينما الكلبشة الأمريكي مرنة، متحركة، تضغط على المعصم كلما زاد الضغط عليها، حتى أنها قادرة على تمزيق اللحم.
                  كانت عضلات بطني قوية جداً، ولي صور على شاطئ بحر خان يونس وأنا أعمل حركة الجسر الرياضية، وأرفع على عضلات بطني خمسة رجال بأوزان ثقيلة، أذكر منهم الأستاذ فتحي بارود بوزنه الثقيل، والمناضل أحمد حنيدق، أحد قيادات الجبهة الشعبية حالياً في غزة، والمرحوم الأستاذ عبد الحميد سلامة الأخ الأكبر للأسير الحمساوي المعروف حسن سلامة، وآخران هما الممرض مرشد عامر، والمهندس إبراهيم أبو جاموس؛ وجميعهم أوزان ثقيلة.
                  احتملت ثقل المحققين الثلاثة على جسدي لفترة من الزمن، وصمدت عضلات بطني تحت أقدام المحقق لفترة أخرى من الزمن، ولكنها بعد حينٍ بدأت العضلات تضعف، ثم راحت تتهاوى تحت ضغط الأجساد وطول الفترة، حتى ارتخت العضلات، وقتها، شعرت بحذاء المحقق يغوص في أحشائي، وكنت أحس بكعب حذائه يلامس العمود الفقري في ظهري.
                  لقد انصب الوجع على جسدي في ثلاثة مواضع، الموضع لأول والأهم؛ والذي خطف انتباهي كان محاولتي التقاط النفس بكل قوة، والتملص من الماء المنصب من الإبريق في أنفي، فإن تمكنت بصعوبة من اقتناص جرعة الهواء، يتوجه انتباهي إلى مصدر الوجع الثاني، لأحاول رفع جسدي وجسد المحققين عن ذراعي اللتين كانتا تحتي، وتحت ضغط الكلبشة الأمريكي التي تطبق عليهما أكثر كلما ازداد ضغط الوزن، فإذا تنفست ذراعي من الوجع قليلاً، يتوجه انتباهي إلى الموضع الثالث من الوجع، فأحاول شد عضلات بطني من جديد، كي أخفف الضغط عن أحشائي التي تتمزق تحت حذاء المجرم، ولكن دون جدوى.
                  وسط هذا العذاب كنت أسمع من حولي كلمة، اعترف، اعترف أحسن لك، أعترف قبل أن تموت، اعترف وأسلم بنفسك؛ أما أنا، فقد كنت استحضر من التاريخ الإسلامي شخصية بلال بن رباح مع كفار قريش، وذلك رغم جنوحي للفكر اليساري في تلك الفترة، إلا أن المواقف الصعبة أثبتت أنني سليل الثقافة الإسلامية، التي راحت توازن تحت الوجع بين يوم النكبة 15/5، وبين نكبتي كسجين تحت التعذيب، وكنت أقول لنفسي: أنا صاحب قضية، وصاحب وطن، وصاحب حق، لن أبيع وطني وكرامتي مقابل تخفيف العذاب عن جسدي، لن يكون جسدي الثغرة التي يتسلل منها الأعداء، لن انهزم بعد ثمانية أيام من الصمود وتحمل العذاب، خذوا هذا الجسد يا أعدائي، عذبوه، فقد فصلت روحي عنه، وتركتها تحلق في الافاق.
                  لا أعرف كم من الوقت بقيت تحت العذاب، ولكنني أعرف أنني تنفست الصعداء في المساء، حين جرني السجان جراً ليشبحني في الماسورة، فقد كنت على قيد الحياة.
                  فما أقوى الإنسان! إنه خزان قوة لا ينضب، هذا ما أدركته ليلاً، وأنا أفتش عن الثقب في الكيس، كي أرى ما حولي، وأعيد التوازن لنفسي، في ذلك اليوم عرفت أن سجيناً آخر كان مربوط معي في الماسورة، وعرفت أن اسمه "محيي الدين أبو عون" من مدينة رفح، وكان يئن من شدة الظمأ كما قال لي: إنه يريد أن يشرب ماءً.
                  نسيت نفسي وأنا أسمع أنينه، فما زالت قوياً، وما زال جسدي يتميز باللياقة، بحيث اتكأت على الماسورة بمرفقي، ووقف على ساق واحدة، ومددت ساقي الأخرى إلى الحنفية الموجودة فوق المغسلة، وفتحتها بقدمي، ووضعت أصبع رجلي على فتحة الحنفية، ورحت أرش الماء على زميلي في الشبح، لعل وعسى تسقط عليه بعض القطرات، فتبلل ريقه.
                  لوم انتبه للسجان المناوب الذي داهمني فجأة، فحين رأي المشهد، أحضر كلبشة جديدة، ووضعها في قدمي، فصرت مقيد اليدين والرجلين.
                  يتبع

                  تعليق


                  • #10
                    رد: مذكرات الاسر للدكتور فايز ابو شمالة

                    (9)
                    عندما وقعت في كمين الطعام
                    لا أذكر صباح يوم الخميس 16/5/ ، بعد مرور تسعة أيام في التحقيق، لا أذكر إن كنت قد أكلت، أو شربت، أو قضيت حاجة، كان كل تفكيري وانشغالي ينصب على اجتياز مرحلة العذاب دون اعتراف، وعلى عكس ما توقعت في ذلك الصباح، لم يطلبني أحد للتحقيق، ولم يكلمني أحد، صرت جسداً مربوطاً في ماسورة، وروحاً تسرح في كل الدنيا، وفي تقديري أن هذه الحالة من الإهمال والترك كانت السبب في انزعاجي، وقلقي من الآتي، وكانت سبباً وفي شعوري بالملل والضيق، فأنا مربوط بالجوع والعطش والانتظار، وماذا بعد؟ متى تنتهي هذه الحالة، وأخرج من العزلة وهذا الشعور بالجوع القارض للأمعاء.
                    جوع شديد يستنفر خلايا جسدي فأشتهي، وأتذكر الطعام، ما ألذ الطعام مع الأصدقاء، وتحت الشجر، وعلى شاطئ البحر! ما أشهى رائحة المرق والمفتول! متى سيأخذني السجان إلى طناجر الطعام؟ متى يتذكرني السجان، ويفك قيودي، ويجرني من الكيس إلى هناك؟ متى؟
                    وكانت المفاجأة بعد الظهر، حين فك السجان يدي، وأخذني حتى مدخل الدرج، المكان الذي توضع فيه طناجر الطعام، وكانت المفاجأة حين رفع الكيس عن رأسي، وقال: لتأكل بسرعة.
                    كانت الطنجرة كبيرة، نصفها مملوء بالرز المفلفل، وفوق الرز قطع صغيرة من صدر الدجاج، كل قطعة بحجم بيضة، وفي تقديري أن الطنجرة كان تحتوي عشرين قطعة أو يزيد.
                    وبدون أن أدري، وبلهفة الجائع، ودون تغسيل الأيدي، ودون ملعقة، صرت أضع في راحة يدي قطعة من لحم الدجاج على كبشة من الرز، وأكورها، وألقي بها في فمي بسرعة فائقة، وعيني لا تفارق السجان الذي جلس على الكرسي بعيداً، يتحفز لوضع القيود في يدي، لذلك صرت أسابق الزمن، وأنا أبتلع الطعام، حتى انتهت دقائق المخصصة، فجاء السجان، ليبعدني عن الطعام، ويعيدني إلى قيودي في الماسورة، ولسوء حظي، فقد ألقى السجان نظرة على الطنجرة، وصرخ بغضب شديد: يا مجنون، أكلت أكل عشرين سجيناً!
                    وبدل أن يربطني في الماسورة، أخذني إلى غرفة المحققين، وأخبرهم بما جرى، فكانت فرصة المحققين، الذين انقضوا على أحشائي بالركل والضرب، وهم يهددون بإخراج الطعام من جوفي بالقوة، وانقضوا على نفسي بالتقريع، والإساءة، وهم يتهمونني بأكل طعام بقية السجناء، وأنني عديم المسئولية والأمانة، وللحق فإنني وقعت تحت وجعين، وجع تعذيب المحققين النازل على جسدي، ووجع تأنيب الضمير، إذ كيف أكلت طعام هؤلاء المقيدين دون أن أدرى.
                    لم أكن أعرف أن كل قطعة صغيرة من لحم الدجاج مخصصة لسجين، ولم أكن أعرف أن امتلاء البطن نقطة ضعف في التحقيق، لقد تعلمت درساً، ولذت بالصمت حتى أخرجني السجان من غرفة المحققين مهرس البدن، أجرجر ساقي المنهكتين حتى صالة التحقيق، هنالك أجلسني السجان لأول مرة على الأرض بعد عدة أيام من الشبح.
                    دقائق معدودات تمكنت من قرض الكيس، وفتحت ثقب المراقبة، ورحت أتابع من خلاله ما يجري من حولي، لقد رأيت أكثر من عشرين سجيناً يجلسون مثلي في الصالة، أيديهم مربوطة من الخلف، يغطي رأس كل منهم كيس، ووجوه الجميع مثبتة على الحائط.
                    في تلك اللحظات نظرت إلى قدمي، فارتعبت من حجمها، إنها منتفختان جداً مثل خف جمل، أعاود النظر إلى قدمي من ثقب الكيس، ولا أصدق أن هاتين القدمين المنفوختين هما لي، نعم، الآن أدركت لماذا كنت أشعر أنني أدوس على كومة من القطن حين كنت أمشي.
                    في تلك الليلة، وبينما كنت جالساً بين الصحو والإغفاء، شعرت بجلبة خلف ظهري، وأحسست بيد السجان وهو يسحب ثوبي من بين كتفي، ويضع قطعاً من الثلج، تنساب مع حرارة جسدي حتى أسفل الظهر، في البداية حسبت أن السجان يسلي نفسه، وينغص علي غفوتي، فاحتملت، ولكن حين عاود السجان وضع قطع أخرى من الثلج، أدركت أنني مستهدف، وأنني سأبيت الليلة في ثلاجة، وسيتم تبريدي رويداً رويداً، فبدأت أشعر بالبرد الشديد، وأنا ارتجفت مع كل كومة ثلج يضعها السجان بين ثوبي وعمودي الفقري، وهي تنز ماءها تحتي، حتى صرت أقعد فوق بركة من الماء، بشكل يوحي بأنني قد بلت على نفسي .
                    ظل السجان يجلب الثلج ويدخله بين ثوبي وعمودي الفقري حتى اقترب الفجر، وقتها انتهت كمية الثلج الموجود في ثلاجات السجن، هذا ما أخبرني فيه لاحقاً السجين سمير سلامة رحمه الله، حين قال بعد ذلك على مسمع من السجناء: ليلة كاملة وهم يضعون الثلج في ظهر هذا الرجل، وعند الفجر سمعت السجان يقول للمحقق بالعبرية: لقد خلص الثلج من السجن!.
                    يتبع

                    تعليق


                    • #11
                      رد: مذكرات الاسر للدكتور فايز ابو شمالة

                      (10)
                      حين وقعت في فخ المخابرات الإسرائيلية
                      المحقق الناعم والمحقق الخشن
                      التحقيق في السجون الإسرائيلية لا يسير على وتيرة واحدة، والعذاب لا يأخذ منحىً تصاعدياً باستمرار، فقد تمر على الضحية فترة من الوقت بلا عذاب، يحاول خلالها المحقق ترتيب خطواته، ودراسة ما توفر لديه من معلومات، واتخاذ الإجراءات التي تتناسب وهذه الحالة، وهدف المحقق الدائم هو إغلاق الملف بشكل كامل، ليصير قضية أمام المحاكم الإسرائيلية.
                      في صباح يوم الجمعة 17/5، جاءني محقق صغير السن لطيف المظهر، يطلق على نفسه اسم "مايكل"، عرفت ذلك حين رفع الشاب اليهودي الأشقر عن رأسي الغطاء، وراح يتحدث إلي بهدوء، في محاولة لإقناعي بالخلاص من العذاب، وأن لا فائدة من الانكار، وأن عشرات المعتقلين قد اعترفوا في غضون يوم أو يومين، وخرجوا من غرف التحقيق إلى غرف السجن، والاعتراف نتيجة مضمونة، فعليك أن توفر على نفسك العذاب. وكان "مايكل" يردد على مسامعي بين فترة وأخرى المثل العربي القائل: "ميت عين تبكي ولا عين أمي تبكي".
                      لقد حاول ذلك اليهودي أن يثير الخوف لدي من الذي سيحدث بعد أيام، كان يقول لي: هل ترضى أن يحضر الجيش أباك إلى هنا، وهو رجل كبير؟ هل تقبل أن يهان أبوك بسببك، ويحشر مع اللصوص في زنزانة؟ هل تقبل على شرفك أن يحضروا زوجتك إلى هنا؟ هل ترتضى لزوجتك أن تترك أولادها، لتقعد في السجن مع العاهرات!
                      لقد اكتشفت في ذلك اليوم أن المحقق لا يعتمد نمطاً تقليدياً في التعذيب، المحقق يبتدع الجديد المناسب لكل حالة، ويمزج بين العنف واللين، المحقق لا يترك جسد الضحية في العذاب على مدار الساعة، فجسد الإنسان يألف العذاب المتواصل، ويعتاد عليه، العذاب كالمرض يتأقلم معه الإنسان، بل قد يستعجل الإنسان جرعة العذاب إن تأخرت عليه، وقتها تصير اللكمات والضربات لا توجع بمقدار ما تستفز خلايا الجسد للدفاع، لذلك يحرص المحقق على أن لا يظل جسد الضحية مشدوداً، المحقق الذكي يترك جسد الضحية يتراخى عدة أيام، ليتذوق طعم الراحة، حتى إذا عاد التعذيب ثانية، يكون أوجع، ويكون الجسد أقل قدرة على التحمل والصمود، المحقق الذكي يترك الضحية ينتظر العذاب، ليفكر بالاعتراف قبل أن يجرب الوجع ثانية.
                      بعد ساعتين من الحديث الناعم خرج المحقق "مايكل" دون نتيجة، ليدخل بعده المحققان أبو عنتر وأبو رشدي، وهما يصرخان: كوم، كوم، وطلبا مني الوقوف ووجهي على الحائط، ولكن دون غطاء للرأس، وذلك كي يكون ارتطام رأسي بالحائط أكثر وجعاً، ولاسيما أن الاثنين تعاونا على ضرب رأسي بالحائط الخشن عدة مرات، قبل أن يتركاني لفترة أدقق في تفاصيل الحائط.
                      وكم كان مرعباً ذلك الحائط! إنه لوحة تعذيب زمنية، فيها من الشواهد ما يشيب له الصغير، لقد رأيت خصل شعر تلتصق بالحائط، ورأيت بقايا دمٍ سال يوماً على الحائط، ورأيت جلدة رأس إنسان تلتصق بالحائط، كان المنظر رهيباً، ويشهد على الوحشية والعنف، وأظن أن رفع الكيس عن رأسي كان القصد منه الترعيب؛ من خلال مشاهدة لوحة التعذيب الجدارية هذه، التي تزلزل كيان من يراها بالخوف من المجهول، والتوقع لما قد يمر على جسده من عذاب.
                      يتبع

                      تعليق


                      • #12
                        رد: مذكرات الاسر للدكتور فايز ابو شمالة

                        (11)
                        حين وقعت في فخ المخابرات الإسرائيلية
                        الضحك بشكل هستيري في المسلخ
                        لم يطل زمن وقوفي على الحائط، فبعد ظهر يوم الجمعة اخرجني السجان من غرفة التحقيق، بعد أن وضع الكيس في رأسي، وأجلسني مقيداً من الخلف وسط السجناء.
                        وما أطول يوم السبت في التحقيق! ما أطول الوقت حين يصير الإنسان كومة من اللحم المقيد بلا سؤال ولا جواب، وأنا لا أحب الانتظار، ضاق خلقي، فقد تعودت على الحركة والحدث والانفعال حتى ولو كان تعذيباً، لا أحب السكون، كانت روحي بحاجة إلى التمرد، فصرت أحدث ضجيجاً في مسلخ التحقيق، وأصرخ، وأنادي، وألعن، لقد دخلت مرحلة التحدي أو الجنون، وكسرت حاجز الصمت الرهيب! فماذا بإمكان السجان أن يفعل بي أكثر مما فعل؟
                        كان يوم السبت 18/5 بداية التمرد، فقد غادر المحققون المسلخ، وعادوا إلى بيوتهم في إجازة السبت، ولم يبق في المكان إلا السجان المدعو "أبو جميل"، وكنا نسميه "خيال"، وهي كلمة عبرية معناها بالعربي جندي.
                        ولما كان جسدي قوياً ورشيقاً جداً في ذلك الوقت، فقد نجحت لأول مرة في تحويل يدي المربوطتين من خلف ظهري إلى الأمام، وهذه الحركة تحرر يداي المقيدتين نسبياً، فيصير بإمكاني ملامسة وجهي، ومسح عيني، وترتيب ثقب الكيس على العين بشكل يمكنني رؤية ما يجري من حولي، وهذه حرية إضافية، واستراحة مطلوبة لجسد متعب.
                        في تلك الفسحة من هدوء يوم السبت، اكتشفت أن معتقلاً آخر يبصبص مثلي من ثقب الكيس، ويشير إلي بيديه المقيدتين، وبلا تفكير تحركت يداي لترد عليه بإشارة مماثلة، وهكذا، صار بيننا حوار، إنه حوار ممتع في ظل الخوف والترقب، والأهم من الحوار هو الصداقة في أجواء العداء، لقد صار عندي صديق في غرف التحقيق، عرفت أن اسمه محمد أبو شاويش، وصرنا نتبادل حديث الطرشان والعميان، ولكنه حديث فيه تسلية، حتى أن لغة الحوار بيننا قد تطورت بالتجربة، فصرنا نكتب لبعضنا على أرض المسلخ، ونمسح، فلا هو يقرأ ما كتبت له، ولا أنا أقرأ ما كتب لي، ولكن كلانا مرتاح وهو يشكو للآخر، ويبوح له بمعاناته، وحتى إذا انشغل عني صديقي محمد أبو شاويش، أو تدلى رأسه على صدره، أعرف أنه نائم، فكنت أدق له بالشبشب على أرض المسلخ، فينتبه، ويدق لي على أرض المسلخ، لنتبادل أطراف الحديث الإشاري.
                        في تلك الليلة؛ ليلة الأحد، وبعد أن خيم الهدوء على المسلخ، وتراخى المعتقلون في قيودهم، وذبل من القلق بعضهم تحت الكيس، ونام بعضهم وهو يترقب، في تلك الليلة من الهدوء الفزع، انتبه السجان إلى حال المعتقلين، فلم يعجبه نومهم وارتياح أجسادهم، فصرخ علينا في المسلخ مهدداً، بأن نقف جميعاً، قوموا جميعكم، قوموا واقفزوا.
                        استجبنا لنداء السجان، وقمنا بتثاقل، وبدأنا جميعنا بالقفز، بعد دقائق قليلة اكتشف أن القفز مفيد، فبدأت أقفز بقوة وارتياح، بل أعجبني القفز الذي كسر الرتابة، ونشط دماغي، فصرت أقفز أكثر وأنا أنادي على المعتقلين بصوت مرتفع: هب، هب، واحد اثنين، هيا، هيا، اقفز، اقفز!!!
                        لقد انتبهت لصديقي محمد أبو شاويش وقد راح يبادلني الحركات نفسها، وهو ينظر إلى من ثقب الكيس، ويردد معي بصوته الأجش، هب، هب، وهذا شجعني لأن أقول له: هيا، دبكة، على وحدة ونص، دبكة إخواننا في الضفة الغربية، وبدأنا ندبك أنا وصديقي محمد أبو شاويش في المسلخ وحدة ونص، وهو يراقبني وأنا أراقبه، وكلانا فرح بهذه الحركة المسلية، لقد طفح خزان الوجع والقلق في صدورنا، وجاء الآن موعد إفراغه، لنعاود شحنة من جديد، من خلال موجة من الضحك الهستيري، نعم، ضحكنا ونحن ندبك في المسلخ بصخب أزعج السجان، فطلب منا التوقف فوراً.
                        في تلك الليلة الساخرة الفزعة، انكسرت هيبة المسلخ وهيبة المحقق، وانكسر الخوف.
                        أيها القارئ العزيز،
                        حين أنشر تجربتي في التحقيق لا أنشد إثارتك، ولا أدعي البطولة، فالبطولة موقف يحتكم إلى درجة وعي الإنسان للحالة التي يعيشها، ولا أسعى لكسب ودك، ولا أرغب في تسليتك، ولا اطلب منك دمعة حزن، ولا انتظر ثناءً، ولا أخشى ملامة، فلا مطمح لي بكل ما يلهث إليه الآخرون، فقد تجاوزت في تجربتي مرحلة الخوف والطمع.
                        أنشر تجربتي في التحقيق بدقة وصدق وأمانة كي يستفيد منها من لم يبدأ المعركة بعد، فالحرب مع هذا العدو طويلة وممتدة.
                        يتبع

                        تعليق


                        • #13
                          رد: مذكرات الاسر للدكتور فايز ابو شمالة

                          (12)
                          حين وقعت في فخ المخابرات الإسرائيلية
                          لكل عميلٍ مهمةٌ، ولكل عميلٍ سقطةٌ
                          وما أن تسهو عيني قليلاً في المسلخ، حتى أفيق، لأوجه نظري إلى صديقي المعتقل الذي يبادلني حركات التمرد، وكنت إذا ضاقت علي اللحظة في المسلخ، أستأنس بحركاته، فأدق له بالشبشب على الأرض، فينتبه إلي، ويبادلني الحركة ذاتها، لقد صرنا أصدقاء دون أن أتبين ملامح وجهه في تلك الفترة، ودون أن أعرف اسمه.
                          في صباح يوم الأحد 19/5/ عاد المحققون من الإجازة، وبدأ الضجيج المخيف في المسلخ، أبواب غرف التحقيق الحديدية تفتح وتغلق، ومع كل حركة لها تنفتح هوة عميقة من والقلق في خيال المعتقلين، وتنغلق مساحة شاسعة من أحلامهم بالنجاة، في الوقت الذي كان صوت خطوات المحققين وهم يتنقلون من غرفة إلى أخرى يدق بالريبة في قلوب المعتقلين المقيدين بالانتظار، فماذا يخبئ لنا هذا اليوم من مصائب؟ وأينا سيجرجر إلى غرفة التحقيق أولاً؟
                          في هذه الأجواء المعبأة بالفزع، سمعت صوتاً يقول: "أيوه، أنا محمد عبد العزيز أبو شاويش"، التفت جهة الصوت، فعرفت إنه صديقي الذي يبادلني طوال الليل حديث الحركات، واكتشفت إنه يقلدني، ويستعمل طريقتي في الرد على السجان؛ فحين كان يسألني عن اسمي، أقول: فايز صلاح أبو شمالة من قرية بيت دراس، فيرد أبو شاويش من تحت الكيس: والنعم.
                          ملاحظة: ما زال محمد أبو شاويش الذي صار صديقي في التحقيق، وظل صديقي في السجن، ما زال حتى يومنا هذا صديقي، حتى على صفحة الفيس بوك، وهو يقيم في مخيم النصيرات، وقد طلبت منه قبل أيام أن يسمعني أغنية "سهران لوحدي" عبر الهاتف، لنتذكر تلك الأيام.
                          أدخل السجان صديقي غرفة التحقيق، وبعد دقائق صرت أسمع صراخه وأنينه، وكنت أتخيل نفسي مكانه، إنها لحظات فزع حين يسكن صوت العذاب في أذنيك، فرغم شعوري بالفخر بعد بمرور اثنا عشر يوماً دون اعتراف، ورغم ازدياد ثقتي بنفسي مع الأيام، ورغم تنامي إرادتي في الصمود، إلا أن سماع صوت أنين المعذبين في غرف التحقيق يوجع النفس أكثر من العيش تحت العذاب، لقد قررت في تلك اللحظات أن أحتفظ بسري، وأن أكتم وجعي مهما عذبوا جسدي، لقد قررت ألا أعطي مكافأة لمن يعذبني، لن أعترف لهم بشيء.
                          لم يطل انتظاري للعذاب، بعد دقائق كنت تحت المقصلة، ودارت المعركة بين جسدي المنهك بالقلق وبين الأيادي التي تعلمت القسوة والبطش من تاريخ اليهود المعبأ بالأحقاد.
                          قبل العصر توقف التعذيب، وأعادوني إلى المسلخ ثانية، فجلست أراقب من ثقب الكيس ما يجري، وقد شدني صراخ المحققين في إحدى غرف التحقيق، كان الصراخ ممزوجاً بصوت الصفعات والضربات التي تخترق آذاننا، فتنشر في المكان الخوف، وكان المعتقل يستغيث ويصرخ بشكل مفزع، قلت في نفسي: من هو هذا البطل الذي يعذب حتى الآن؟ فتشت بين السجناء، فارتحت حين رأيت صديقي محمد أبو شاويش، يجلس أمامي.
                          ظل نظري مثبتاً على الغرفة التي يخرج منها الصوت، انتظر اللحظة التي يفتح فيها الباب لرؤية المعتقل البطل الذي صمد تحت التعذيب، وكانت المفاجأة حين فتح باب غرفة التحقيق، فرأيت معتقلاً يلبس أفرهول التحقيق، ويجلس بارتياح على كرسي، ويشرب القهوة، بينما المحقق اليهودي يضرب الطاولة بحركات تمثيلية، ويشتم ويسب كذباً بصوت مرتفع.
                          إنها تمثيلية إذن، الهدف منها إثارة الرعب فينا، فمن هو هذا العميل الذي يمثل دور البطل؟
                          ألصقت نظري بباب غرفة التحقيق كي أتبين معالم وجه العميل جيداً حين يخرج من غرفة التحقيق، ولكن خاب انتظاري حين أخرجه السجان من الغرفة ورأسه مغطى بالكيس، فقررت الانتقام منه، وبسرعة فائقة مددت قدمي في طريقه بشكل متعمد، فسقط العميل، وارتطم رأسه بالأرض، وقتها تأكدت من ملامح وجهه جيداً، حين اضطر السجان إلى رفع الكيس عن رأس العميل ليطمئن على سلامته.
                          لقد أخرج صوت الارتطام المحققين من الغرفة على وجه السرعة، وحين رأوا المشهد، انهالوا على جسدي بما لا يعد ولا يحصى من الصفعات والركلات! ولكنني كنت في غاية الرضى والثقة.
                          بعد عدة شهور، وأثناء وجودي في الزنازين، كنت أبصبص من تحت باب الزنزانة، فرأيت ملامح وجه العميل التي حفظتها غيباً، لقد تأكدت منه أثناء خروجه من الزنزانة رقم عشرين إلى الحمامات، من يومها بدأت أرسل له الأمسيات وكلمات الإعجاب، وعرفته على نفسي، وتعاملت معه كبطل، كي يطمئن لي، ويعرفني على اسمه الحقيقي، وقد نجحت، عرفت أنه من سكان حي الأمل في خان يونس، وهذا ما أبلغته لاحقاً لقيادة التنظيم في سجن غزة المركزي.
                          يتبع

                          تعليق


                          • #14
                            رد: مذكرات الاسر للدكتور فايز ابو شمالة

                            (13)
                            "كارولين" ذات الشعر الأشقر
                            بدأ التحقيق يوم الاثنين 20 مايو مبكراً، فقد كانوا أربعة وحوش، يرأسهم اليهودي أبو ربيع، الذي لم يكن سؤاله في ذلك اليوم عن السلاح، ولا عن المجموعات المسلحة، ولا عن التنظيم، كان السؤال في ذلك اليوم عن مندوبة الصليب الأحمر الدولي "كارولين"، كان السؤال المتكرر: ماذا قدمت لك "كارولين" من خدمات؟
                            وكان جوابي الذي لم يتغير، هي أجنبية، وغريبة عن أرض فلسطين، وهي صديقة مقربة من كل الأسرة، وتشعر أننا أهلها، وقد كانت تركن سيارة الصليب الأحمر، وتدخل البيت كأحد أفراد العائلة، تتحدث مع أمي وزوجتي، وتمازح أبي، وتأكل من طعامنا، وتنام وسط أطفالي الخمسة، وتحتضنهم بحنان وكأنها أمهم، وقبل أن تغادرنا تأخذ معها خبزنا والبيض البلدي.
                            ظل المحقق يسأل عن العلاقة مع "كارولين"، بل تجاوز في سؤاله الخدمات التي قدمتها، وصار يسأل ساخراً عن العلاقة الخاصة مع صاحبة الشعر الأشقر! وماذا فعلت معها؟
                            لقد ارتحت لجملة "صاحبة الشعر الأشقر" فقد تأكد لي أن المخابرات الإسرائيلية لم تتعرف على شخصية مندوبة الصليب الأحمر، ولم تعتقلها، فأنا أعرف أن شعرها ليس أشقراً.
                            ولما ظل جوابي على سؤال المحقق كما هو، قام الخبيث من مكانه، ووضع الكيس على رأسي، وضغط بالكلبشات الأمريكي على ذارعي بين الرسغ والمرفق، لقد ارتجف قلبي، فأنا جربت هذه الطريقة من العذاب، ودون أن أدري، وجدت نفسي مطروحاً أرضاً، لا أستطيع تحريك ساقي المقيدتين بقبضات المحققين، وشعرت بثقل جسد المحقق فوق صدري، وهو يطبق بالبشكير المبلل بالماء على أنفي، ويكتم أنفاسي، أما أنا، فقد كنت أحرك رأسي يميناً وشمالاً كي أفلت من قبضته، واستنشق جرعة هواء.
                            وبين لحظة استرداد الحياة وفقدانها، كنت أشعر بثقل جسدي وجسد المحقق اللذين يضغطان على الكلبشة، وهي تنغرز في ذراعي، فتحبس عنهما الدم، وكنت أشعر بكعب حذاء أحدهم، وهو يضغط بقوة أسفل الخصيتين.
                            فإذا عاد المحقق واستجمع قوته ثانية، ووضع البشكير المبلل بالماء على أنفي، وضغط بكلتا يديه القويتين، ليكتم أنفاسي، أعاود طلب حياتي بقوة، فأشهق شهقة الموت، وانفض رأسي، واختطف النفس، وهكذا لجولات لا أعلم زمانها، ليظل السؤال المحير: لماذا لم أكن أشعر بالوجع الشديد الذي يسري في جسدي جراء ضغط الحذاء على أسفل الخصيتين إلا في اللحظة التي أنجح فيها بالتقاط الأنفاس، والعودة إلى الحياة؟.
                            إن الوقت تحت التعذيب لا يقاس بالساعة، ولا يحسب بالدقائق، الوقت تحت التعذيب يقاس بالقدرة على الصبر وتحمل العذاب، وكان قراري أن أتحمل عذاب الموت دون فضح سري، وكنت واثقاً أن المحقق لا يريدني ميتاً، فهو يريد المعلومة أولاً، ثم هو يريد أن يصل بي إلى حافة الموت كما قال، ليعيدني إلى الحياة ثانية، هو يريدني أن أتمنى الموت فلا أصل إليه، لذلك كان المحقق يخفف الضغط، ويرفع البشكير المبلل بالماء عن أنفي، كلما أيقن أن مقاومتي قد ضعفت، وأنني قد أوشكت على الهلاك، وهكذا؛ حتى هلك هو من التعب، فرفع الكيس عن رأسي، وأقعدوني كي أرى الدنيا من حولي، وقتها شعرت أنني أبعث حياً، وأنا أسمع سؤال المحقق المكرر: ماذا قدمت لك "كارولين" من خدمات؟ في تلك اللحظات كننت أتلفت حولي، وكأنني أرى الدنيا والأشياء لأول مرة، فأنا عائد إلى الدنيا من عالم آخر.
                            تركني المحققون على هذه الحالة، وراحوا يشربون القهوة، ويريحون أجسادهم التي نزت عرقاً، وهم يراقبون جسدي، حتى إذا أيقنوا أنه قد تعافى، انقضوا عليه ثانية، واستأنفوا جولة العذاب بالأسلوب السابق نفسه.
                            أقعدوني ست مرات، أو سبع مرات، لا أذكر، ولكنني أذكر ما بين جولة تعذيب وأخرى، كان يجلس اليهودي أبو ربيع على الطاولة، ويحرك رجليه، ويغني: كارولين كارولين، فيرد عليه المحقق المدعو أبو رشدي، وهو يتمايل من حولي، ويصفق ويغني ساخراً، وهو يقول: أم الشعر الأشقر. الأول يقول: كارولين كارولين، والثاني يرد عليه: أم الشعر الأشقر.
                            أما أنا فقد كنت مغمساً بالوجع، ولا تهمني رقصاتهم، وضحكاتهم التي أدركت هدفها، فقد كنت مهموماً بالحزن على مندوبة الصليب الأحمر "كارولين"، وماذا سيحل بها، وكنت قلقاً على ما سيحدث في هذا اليوم 20/5، فقد كنت أحد القلائل الذين يعرفون أن هذا هو اليوم المحدد لتنفيذ صفقة تبادل أسرى بين المنظمة وإسرائيل.
                            في تلك الفترة من عمري كان منسوب التضحية والإنسانية لدي مرتفعاً جداً، وكنت أنظر إلى جسدي وهو تحت العذاب وكأنه لا يخصني، لذلك عندما انتهت الجولة في المساء، واجلسني المحقق منهكاً في المسلخ، رحت أفتش عن الثقب في الكيس، كي أرى صديقي أبو شاويش، وأدق له على أرض المسلخ، ويدق لي، لنتابع معاً حديث الإشارات غير المفهومة.
                            يتبع

                            تعليق


                            • #15
                              رد: مذكرات الاسر للدكتور فايز ابو شمالة

                              (14)
                              حين وقعت في فخ المخابرات الإسرائيلية
                              وأخيراً زارني الصليب الأحمر الدولي
                              اليوم الذي لم تشبهه الأيام تحت التعذيب كان يوم الثلاثاء 21/5، ففي ذلك اليوم زارني ثلاثة من مندوبي الصليب الأحمر، ولما كنت أعرف بعضهم قبل السجن، فقد كان اللقاء حنوناً إلى حد بكاء مندوبة الصليب الأحمر، فقد رأت بأم أعينها إنساناً لا يشبه الذي عرفته من قبل!
                              سألت مندوبة الصليب الأحمر عن صديقتها "كارولين" قبل أن تسألني عن أحوالي، فقالت لي: لقد سافرت في اليوم التالي لاعتقالك مباشرة.
                              ثم سألت: وماذا جرى للأسرى في السجون الإسرائيلية، فرد أحدهم بفرح: بالأمس تم الإفراج عن 1200 أسير ضمن صفقة تبادل الأسرى.
                              لم أشعر بعد ذلك بما يجري حولي، طرت إلى عالم آخر من الفرح، كان قلبي يرقص طرباً، لقد صرت حمامة تطوف شوارع فلسطين، وترش عطر الحرية، فقد كنت واحد من القلائل الذين عرفوا أن صفقة تبادل الأسرى ستتم في ذلك التاريخ.
                              كان موعد تنفيذ صفقة تبادل الأسرى سرياً، فقد وصلني من عمان بتاريخ 30/4/1985 رسالتان عاجلتان، وسريتان جداً، كان يتوجب أن تصل الرسالة الأولى إلى سجن عسقلان، وأن تصل الرسالة الثانية إلى سجن نفحة، والرسالتان تحتويان على تفاصيل صفقة تبادل الأسرى، التي كان يجب أن يتم تنفيذها يوم الاثنين 20/5/1985.
                              بعد تفكير طويل، ذهبت يوم الخميس 1/5/1985 إلى بيت المرأة الفاضلة أم رأفت النجار من خان يونس، وكانت تربطني بالعائلة علاقة طيبة، فأنا أستاذ لابنها محمود وابنتها نسرين، وأحمل للأسرة تقديراً خاصاً، والمرأة أم لأسيرين، رأفت النجار في سجن نفحة، وذيب النجار في سجن عسقلان، وكان يوم الجمعة موعد زيارة السجون، لذلك أعطيتها الرسالتين، وأوصيتها بضرورة إيصالها للسجناء، وأكدت لها أن هاتين الرسالتين تختلفان عن كل الرسائل السابقة.
                              في مساء يوم الجمعة 2/5/ وقبل اعتقالي بأربعة أيام، اتصلت أم رأفت النجار، وأكدت لي أن الأمانة قد وصلت بسلام إلى أصحابها.
                              كانت الابتسامة تبدو على شفتي حين تركني مندوبو الصليب الأحمر، فقد كنت سعيداً جداً في ذلك اليوم، حتى وأنا أدخل المسلخ، ليضع السجان الكيس في رأسي، لم أفتش عن الثقب في الكيس كالعادة، فقد آثرت أن أطبق قلبي على الفرح، وأن أطلق العنان لخيالي، ليشارك الأسرى المحررين فرحتهم في مدن ومخيمات وقرى غزة والضفة الغربية، وأغمضت عيني على نهر الدموع الذي راح يجري شوقاً حتى تساقط على ثياب السجن.
                              في تلك اللحظة الشيقة أخذني السجان إلى غرفة التحقيق، وما أن رفع المحقق الكيس عن رأسي وشاهد الدموع، حتى هلل هو الآخر فرحاً، ورقص طرباً، وقال: فايز أبو شمالة يبكي، يا حرام، مسكين، لقد قلت لك من البداية: خلص نفسك من العذاب، واعترف، وانتهى الأمر.
                              نظرت إلى المحقق باحتقار، ولم أرد عليه، فقد طارت روحي بعيداً، خارج غرف التحقيق، لقد صارت غيمة تمطر حرية وانتصار، وتركت للمحقق جسداً لا أشعر بما يلاقيه من عذاب.
                              يتبع

                              تعليق


                              • #16
                                رد: مذكرات الاسر للدكتور فايز ابو شمالة

                                (15)
                                "كارولين" أم الشعر الأشقر، عاشقة فلسطين
                                ظل السؤال الذي يردده المحقق طوال الأيام التالية ليوم 20/5 هو: ماذا قدمت لكم "كارولين" من خدمة، وظل جوابي بعد أن تأكدت من سفرها إلى الخارج: لا شيء، فكيف أتهم فتاة أحبت الفلسطينيين، واقتنعت بعدالة قضيتهم؟ ماذا أقول عن عاشقة فتحت لي قلبها، واعترفت أمامنا بأنها وقعت في حب سجين سياسي فلسطيني، التقت به أثناء زيارتها للسجون الإسرائيلية، وهي تحرص على زيارة السجن الذي يتواجد فيه؛ كي تزوره، وتلتقي معه؟.
                                رغم أن الحب مشاعر إنسانية تفرض علينا احترامها، وعدم الطعن في مصداقيتها، وأحياناً تفرض علينا هذه المشاعر السامية أن نواسي العاشق، ونداري معه على نبض قلبه، إلا أنني سألت مندوبة الصليب الأحمر "كارولين": عن مصير هذا الحب؟ وما النتيجة التي تنتظرها من حب سجين فلسطيني محكوم بالمؤبد؟
                                قالت كاولين والأمل يقفز من عينيها: قريباً سيتحرر الأسرى، ويمكن أن نتزوج، إلا إذا رأى فتيات فلسطينيات أجمل مني، وخطفن قلبه، وأضافت: هو الآن يراني أجمل فتاة على وجه الأرض؛ لأنه لا يرى نساء غيري، ولكن حين تنفتح أمامه مجالات الرؤيا، ربما يتغير!.
                                هذا الكلام العاقل قلته للأسير اللبناني سمير القنطار رحمه الله ـمطلع سنة 1992، في سجن نفحة الصحراوي قلت له: إن الحب في السجن حب غير مكتمل الأركان، إنه حبٌ فجٌ، لأنه حب يقوم على الشفقة من طرف والضعف من طرف آخر، ولما كان الحب كائناً حياً، يتنفس القناعة المشتركة، والإحساس المشترك، فإن تبدل الواقع كفيل بأن يقتل الحب، ويبدل المشاعر.
                                لم يصدق سمير القنطار حديثي في ذلك الوقت، فقد كان غارقاً في حب فتاة فلسطينية من عكا اسمها "كفاح كيال"، وكان قد وقع الحب بينهما بعد إضراب سجن نفحة عن الطعام الذي حدث في شهر 6/1991، لقد استمر الإضراب تسعة عشر يوماً، لم يدخل خلالها جوف الأسرى إلا الماء والملح، وبعد أن انتهى الإضراب، تم عزل الأسير سمير القنطار إلى سجن بئر السبع لمدة ستة أشهر، هنالك ترددت على زيارته فتاة فلسطينية من عكا اسمها كفاح كيال، لقد كانت الوحيدة التي تزوره كل أسبوعين مرة، حتى صارت جزءاً من أيامه.
                                حين عاد سمير القنطار إلى سجن نفحة، بادرني بالحديث عن سر يؤرقه، وعن مشاعر حب سكنت فؤاده تجاه الفتاة كفاح كيال، الفتاة التي تحرص على زيارته، وهو حائر في مكاشفتها، أو طي صفحات قلبه على سطور الحب.
                                أوصيت سمير أن يكتم هذا الحب، وأن لا يتحدث لأي أسير غيري بهذا الشأن، ورويت له قصة مندوبة الصليب الأحمر "كارولين" التي عشقت أسيراً مثله قبل سنوات، وكانت من الذكاء بحيث أنها قدرت تبدل مشاعره في حالة تحرره من الأسر، ولكن اعتقالي قبل أيام من تحرر الأسرى، وسفرها إلى الخارج على عجل، قد أفسد عليها الحب.
                                ولكن الحب مجنونٌ، إذا تلبس اثنين غم على الأعين، وفجر في صحراء الشوق بينهما نهراً دافقاً من الحنان، لا يكبحه عقل، ولا يردعه واقع مرير، وهذا ما حدث مع الأسير اللبناني سمير القنطار الذي كان يأتيني مباشرة بعد كل زيارة، ليحدثني عن حبه للفتاة، ويطفئ بالحديث لظى الشوق، كان يحدثني عن عشقه لكفاح الكيال، وعن تخوفه بأن يكون واهماً.
                                وقتها شجعته على أن يكتب لها رسالة سرية، يبثها حبه، وينتظر ردها في الزيارة القادمة، وذلك ما حصل، فقد ردت عليه بالإيجاب، وصار الحب بينهما صريحاً.
                                بعد فترة من الزمن، جاء سمير القنطار يستشيرني بالزواج من فتاته، خشية افتضاح أمر حبه، وقد شاركنا الاستشارة بعد فترة في هذا الشأن الأسير جبر وشاح، وكان قد عاد إلى سجن نفحة من عزل طويل في سجن بئر السبع، وقد استعد جبر وشاح أن يرسل أباه إلى عكا ليخطب الفتاة من أهلها، وقد تم ذلك فعلاً، بعد التغلب الشرعي لمشكلة زواج شاب درزي من فتاة مسلمة، لتبدأ بعد ذلك معركة كتب كتاب سجين محكوم بالمؤبد على فتاة خارج السجن.
                                وبعد التهديد باللجوء إلى المحكمة العليا، وافقت إدارة سجن نفحة على كتب الكتاب في حفل صغير داخل السجن تحضره العروسة والعريس وخمسة أفراد من خارج السجن، ويحضره خمسة سجناء فقط، أبلغ أسماءهم سمير القنطار إلى الإدارة، وهم: جبر وشاح، وسليم الزريعي، ورياض الملاعبي، ومسعود الراعي أبو الصاعد، وفايز أبو شمالة.
                                لا أعرف كيف جرت أمور كتب الكتاب في سجن نفحة بعد ذلك، فقبل يوم من عقد القران، تم ترحيلي إلى سجن عسقلان، مروراً بسجن الرملة، هنالك تابعت من خلال الصحافة العبرية، ومن خلال الإذاعة العبرية وقائع المظاهرات التي انطلقت في تل أبيب ضد هذا الزواج، فقد قادت المظاهرات "سميدار هارن" زوجة عالم الذرة الإسرائيلي، الذي قتل في العملية الاستشهادية التي نفذها سمير القنطار سنة 1979،
                                لقد قالت تلك المرأة للصحافة العبرية: بعد أن سمعت إطلاق النار، هربت مع طفلتي، واختفيت تحت الدرج، أنا وجارتنا، وبعد فترة من الزمن، دار الاشتباك بين الجيش وبين الخاطفين، فصرخت طفلتي، خفت أن يكتشف أمرنا، فحاولت أن أسكت طفلتي؛ وضعت يدي على فمها، ولم أدر أنني قد كتمت نفسها، وخنقتها بيدي حتى ماتت.
                                حتى اليوم أنا لا أعرف الأسباب التي حالت دون زواج سمير القنطار رحمه الله من كفاح الكيال، فبعد أن تحرر من الأسر تزوج سمير القنطار من الإعلامية اللبنانية زينب برجاوي سنة 2009، في الوقت الذي كسبت فيه كفاح الكيال قضية خلع ضده في المحاكم الفلسطينية، بعد صار بينهما مشادات كلامية واتهامات ونفي عبر وسائل الإعلام.
                                يتبع

                                تعليق


                                • #17
                                  رد: مذكرات الاسر للدكتور فايز ابو شمالة

                                  (16)
                                  حين وقعت في فخ المخابرات الإسرائيلية
                                  وجاء أبي إلى المسلخ مع شهر رمضان
                                  لم أكن أعرف أن شهر رمضان قد حل، حتى حين أخذني السجان في ليلة الخميس الموافق 22/ 5/1985، ورفع الكيس عن رأسي، وأقعدني عند طناجر الطعام، فأكلت، وأنا مستغرب من هذه الوجبة الليلية، ولم يخطر في بالي أن هذا وقت السحور، وأن ستة عشر يوماً قد مرت على وأنا تحت التعذيب لا أعرف ليلها من نهارها.
                                  وكانت المفاجأة في الصباح، حين سألني السجان: هل أنت صائم؟ فقلت: لا
                                  فأخذني مرة ثانية إلى مكان الطعام، ورفع الكيس عن رأسي، وفك قيودي، فأكلت؟
                                  قلت في نفسي: ما أروع شهر رمضان في التحقيق! لقد أكلت في ذلك اليوم من رمضان حتى الضحى مرتين، إنه شهر رمضان الذي سيجلب المزيد من الوجبات، هذا شيء رائع، وأنا جائع، وأخوض معركة بجسدي الذي يجب أن يظل قوياً وصامداً.
                                  في ضحى ذلك اليوم كنت أجلس في المسلخ مقيداً، وأرقب من ثقب الكيس ما يجري من حولي، لقد كنت مرتاحاً، فلم يسأل عني أحد حتى الظهيرة، إنها فترة استجمام، وفرصة لأغمض عيني بعض الوقت، وأسرق إغفاءة صغيرة، أيقظني منها دقات عصا على بلاط المسلخ، توحي بأنها تحمل جسداً منهكاً، وهنا فتحت عيني، ونظرت جهة الصوت، فجزع قلبي، هذا أبي صلاح أبو شمالة بشحمه ولحمه وبطوله وعرضه، إنه يدخل إلى غرفة التحقيق، ويغلقون الباب من خلفه، لقد صدق المحقق حين قال لي: سنجلب أبيك، ونأتي به هنا لتعذيبه أمام عينيك.
                                  يا للهول، هل سيعذبونه حقاً؟ ورحت استرق السمع، وأحسب أنني سأمع صفعاً وضرباً وما شابه ذلك، كنت أرقب اللحظة، بينما الصمت يبسط ذراعيه على المكان لفترة من القلق.
                                  قم، لغة أمر أصدرها لي السجان، وهو يمسك بطرف الكيس، قمت ومشيت خلفه بتثاقل وحذر، فماذا سأرى الآن، ماذا سأقول لأبي؟ وكيف سيراني بهذا الشكل؟ وحين رفع الكيس عن رأسي، رأيت أبي يجلس مهموماً على كرسي، فلما رآني، لم يصدق ما يرى، فنادي بأعلى صوته، فايز، وكأنه يريد أن يتأكد حقاً بأنني هو فايز، وليس شخصاً آخر تم استبداله، فقد كان منظري مفزعاً ومقززاً حين أدخلني السجان إلى غرفة التحقيق.
                                  كيف حالك يا فايز؟ هل أنت بخير؟
                                  كان ردي السريع: أنا بخير يا مختار، ولا شيء عندي أعترف عليه.
                                  لقد انتهى اللقاء، فقد أوجعت كلماتي المحققين، وكان مردود إحضار أبي على عكس ما تمنهوا، فانهالوا علي ضرباً وصفعاً، وأخرجوني من الغرفة بسرعة.
                                  لقد أوصلت إلى الخارج الرسالة التي أريد، فأنا لم أعترف على شيء، وبهذا أكسون قد أفشلت مخطط المحققين في التأثير السلبي على نفسي، وتهديدهم بإحضار أبي إلى غرف التحقيق.
                                  سمعت بعد خروجي من السجن، أن والدي قد استدعى في ذلك اليوم مجموعة من الوجهاء والمخاتير، وأبلغهم بأنه مطلوب للمخابرات الإسرائيلية في غزة، وأنه يطالبهم بعدم تركه وحيداً إن لم يرجع إليهم حتى المساء، ولما حاول بعض المخاتير طمأنته، بأنه رجل كبير في السن، وأنه مختار، وأن لا علاقة له بالعمل المسلح، قال لهم: ما أقل عقولكم أيها المخاتير! لقد سجنت المخابرات الإسرائيلية الشيخ أحمد ياسين وهو مقعد، فهل ستخجل من حبس مختار؟!!
                                  لقد عاد أبي إلى البيت في نفس اليوم، ولكنني لم أشعر بالهدوء، وظلت مشاعري فزعة لأجله طوال الفترة التي كان فيها جسدي مقيداً في المسلخ، لقد تركتني روحي وسافرت إلى مخيم خان يونس، لتراقب الأماكن التي اعتاد أن يجلس فيها أبي، وأن يشرب فيها قهوته، وأن يلتقي مع أفراد العائلة، فقد هزت رؤية أبي عواطفي، فسكنت مع نفسي لحظات من الوجد، لم أصح منها إلا حين جاء السجان، وأخذني إلى مكان الطعام، ولكنني لم أذقه في هذه المرة.
                                  بعد آذان المغرب، بدء السجان في إطعام الصائمين، كان يفك قيود أحد السجناء، ويأخذه لتناول طعام الإفطار، فإذا انتهى من الأكل، يضع القيود في يديه ثانية، ويجلسه في المسلخ، ليبدأ في فك قيود سجين آخر، وهكذا، حتى أفطر بعض السجناء بعد منتصف الليل.
                                  أما أنا، فلم يصلني الدور، لقد وضع السجان شريطاً لاصقاً على ظهري، وكتب عليه شيئاً ما، فصرت مميزاً عن باقي السجناء، وطويت بالجوع حتى ضحى يوم الجمعة الموافق 23/5، حين طلب المحقق من السجان أن يخرجني من المسلخ، لأجد نفسي مقيداً تحت ضوء الشمس في يوم قائظ، انتظر عربة الترحيلات، ورياح حارة تعصف من حولي.
                                  يتبع

                                  تعليق


                                  • #18
                                    رد: مذكرات الاسر للدكتور فايز ابو شمالة

                                    (17)
                                    في الطريق إلى عصافير سجن جنين
                                    كنت معصوب العينيين ومقيداً من الخلف حين صعدت إلى عربة الترحيلات صباح الجمعة 23/5، وكان علي الانبطاح على بطني فوق أرضية العربة، وتحمل حرارة الجو في ذلك اليوم، وتحمل النار التي تشع من المحرك، وتلفح وجهي، كنت أحرك نفسي يميناً ويساراً قدر المستطاع، كي لا يلتهب جسدي الملاصق لحديد العربة، ولقد مكنتي هذه الحركة من اكتشاف جسدٍ لإنسان بجواري على أرضية العربة، فبادرته بذكر اسمي، وسألته: من أنت؟
                                    قال: أنا جمال أبو عامر، فسألته: هل أنت ابن الأستاذ عامر أبو عامر، فأجاب: نعم، وانتهى الحديث بيننا، ولاسيما أن كلاً منا غارق في أوجاعه وهمومه، وخائف من المجهول، ومع ذلك قد أشفقت عليه مثلما أشفقت على نفسي من هذه الرحلة الغامضة.
                                    في هذا الجو الخانق المخيف لا أعرف أين أنزل المحققون جمال أبو عامر، ولكنني عرفت بعد ساعات طويلة من السفر أنني موجود في زنازين سجن جنين، شمال الضفة الغربية، وقد رفع السجان الكيس عن رأسي، وفك قيودي، وأعطاني بطانية ومكنسة، وقال لي: نظف هذا المرحاض، ستقيم هنا في هذا المكان.
                                    كان عرض المرحاض متراً واحداً، وكان طوله مترين، وفيه حفرة لقضاء الحاجة، فلم يكن فيه كرسي، لقد قمت بتنظيف المرحاض جيداً، وقمت بتنظيف جوانب المكان، فقد صار غرفة نومي الإجبارية، ولاسيما بعد أن أغلق السجان باب الحديد، بعد التنظيف قمت فرد البطانية على ثقب المرحاض، وجلست سعيداً، فأنا بلا قيود في يدي، ولا كيس في رأسي، ومعي أربع سجائر، هي نصيبي اليومي، في ذلك الوقت المجهول كنت جائعاً، وكنت تعباً، وكنت مرهقاً، وكنت قلقاً، وكنت في المرحاض، ومع ذلك، تمددت على ظهري، وغبت عن الوجود في نوم عميق.
                                    عند فجر يوم السبت 24/5 أيقظني السجان من النوم الهانئ، وطلب مني أخذ البطانية والخروج من المرحاض، ومرافقته حتى أسفل درج سجن جنين، هنالك فتح بوابة مخزن صغير تحت الدرج، وطلب مني حشر نفسي في الداخل، ففعلت، وأغلق علي البوابة، لأجد نفسي في ظلام دامس مع مجموعة من الكراتين المغلقة، فقعدت علي كرتونه.
                                    دقائق، كانت يدي تفتش في الكراتين، فعثرت فيها على علب سجائر، ودون تفكير، رحت أحشو جيوب أفرهول التحقيق بعلب السجائر، وانتظرت قرابة ساعتين حين عاد السجان، وفتح بوابة المخزن، وأخذني إلى المرحاض ذاته ثانية، وطلب مني تنظيفه، بعد أن قضى فيه نزلاء زنازين السجن حاجتهم لفترة الصباح.
                                    كان السجناء في زنازين السجن يقضون حاجتهم في المرحاض مرتين في اليوم، صباحاً، وقبل المساء، وكان علي في هذين الوقتين أن أتخلى عن غرفة نومي لنزلاء الزنازين، لأمكث في المخزن تحت السلالم، ولكن قبل دخولي المخزن في المساء، طلبت من السجان أن يشعل لي سيجارة، فقد كنت مدمناً على التدخين في ذلك الوقت.
                                    تركني السجان في المخزن حولي ساعتين، كنت خلالها أشعل سيجارة من سيجارة، فأنا أجلس في مخزن السجائر، وكانت المفاجأة حين فتح السجان باب المخزن، وصرخ بأعلى صوته حين رأي غيمة من دخان السجائر تغطي المكان، وقال جملة لا أنساها بالعبرية: أتا مشوجاع: ومعناها: أنت مجنون، كيف لم تختنق في داخل المخزن؟ كيف لم تمت؟!.
                                    تذكرت جملة "كيف لم تمت" سنة 1990، حين أصابتني الحمى في سجن نفحة، فقد ارتفعت حرارتي في إحدى ليل السجن حتى الهلوسة، وقتها نادى السجناء بأعلى صوتهم على "حوفيش" ومعناها ممرض، فجاء مسرعاً، وكان اسمه "ميمون" وأعطاني حبتين مسكن، بعد ساعة لم تنخفض الحرارة، فنادي السجناء على "حوفيش" فجاء "ميمون" وأعطاني حبتين مسكن، وهكذا حتى منتصف الليل، دون أن تنخفض الحرارة، وقتها نادى السجناء، فأحضر ميمون تحميلة مسكن، ولكن دون فائدة، فنادى السجناء، وعاد "ميمون" وأعطاني شراب مسكن، ثم حقنة مسكن عن طريق الفم، ثم حبتين مسكن، وهكذا حتى الثامنة صباحاً، حين وصلت الضابط "ياعيل" مسئولة العيادة، فقرأت التقرير الذي كتبه "ميمون" عن كمية الدواء التي صرفها في تلك الليلة ، فجاءت إلى غرفتي مسرعة، وطلبت من السجانين نقلي على وجه السرعة إلى عيادة السجن، وهنالك كنت أسمع كلمات التأنيب والتقريع والتوبيخ للممرض "ميمون" ولماذا لم يتصل بالدكتور "شيرمان"؟ ولماذا يأخذ علي مسئوليته إعطاء كل هذه الكمية من العلاج لمريض؟
                                    لقد تم نقلي من سجن نفحة إلى مستشفى "سوروكا" في بئر السبع في غضون دقائق، لتكون المفاجأة بعد عدة أسابيع، حين عدت إلى سجن نفحة سليماً وبصحة جيدة، وجاء الممرض "ميمون" على عادته يوزع الدواء على السجناء قبل المساء، فضحك حين رآني، وقال: أبو شمالة، أنت حي، أنت لم تمت حتى اليوم؟
                                    قلت له: لم أمت، وأنا بخير يا "ميمون"
                                    فقال: لقد أخطأت، وأعطيتك في تلك الليلة كمية من الدواء كانت تكفي لأن تقتل جملاً، ولكنك أقوى من جمل يا أبا شمالة.
                                    لقد اندهش السجناء وهم يسمعون الممرض "ميمون" يكررها بالعبرية عدة مرات.
                                    بالعودة إلى صباح يوم الأحد 25/ 5 بعد مبيت ليلتين في المرحاض، أدخلني السجان إلى غرفة فيها سجناء عرب، لقد أدركت من اللحظة الأولى أنها غرفة العصافير، غرفة للعملاء.
                                    ملاحظة: جمال أبو عامر (أبو الصادق) يسكن اليوم في حي الأمل في خان يونس، كان محسوباً على تنظيم الجبهة الشعبية في ذلك الزمان، وهو اليوم من قيادي حركة حماس.
                                    يتبع

                                    تعليق

                                    جاري التحميل ..
                                    X