تقييم لتفاعل الضفة الغربية مع الحرب على غزة
إعداد: ياسين عز الدين
ملخص:
في الوقت الذي كانت فيه المقاومة تبني قوتها وتطور من قدراتها في قطاع غزة، تلقت ضربات في الضفة المحتلة قضت عليها تقريبًا في الفترة ما بين 2002م إلى نهاية 2012م، والتقت ثلاثة عوامل في هذه المهمة: النشاط الأمني والعسكري للاحتلال وأجهزة السلطة، وثقافة اليأس ونشرها وإعادة بناء الأجهزة الأمنية على عقيدة جديدة، وانسحاب الاحتلال من مناطق الكثافة السكانية وبنائهم تحصينات تحميهم من العمل المقاوم.
بدأ المزاج الشعبي بعد حرب حجارة السجيل عام 2012م بالتغير في الضفة، حيث بدأ مسار المقاومة بالارتفاع بعدها ونجد أنه في حرب العصف المأكول (2014م) قد ارتفع بمقدار 70% مقارنة بحرب حجارة السجيل، إلا أنه لحد الآن ما زال يدور بين المقاومة الشعبية وما أسميه العمليات الشعبية، أما العمل المسلح فما زال محدودًا ولم نلمس فيه قفزات.
شهدت الضفة الغربية في حرب العصف المأكول ما بين 1000 و1100 نقطة مواجهة، بمعدل حوالي 20 نقطة مواجهة يوميًا، واستشهد خلال الحرب الأخيرة 22 فلسطينيًا في الضفة الغربية، وأصيب المئات، وكان لدينا 1050 حالة اعتقال من الضفة (بدون القدس) وحوالي 500 من القدس.
ونفذت 176 هجمة على الأقل بالزجاجات الحارقة، و28 عملية إطلاق نار، وتفجير 16 عبوة وكوع ناسف (كحد أدنى)، بالإضافة لعدة عمليات طعن ودهس، ومحاولتين لم تنجحا لإدخال سيارات مفخخة إلى داخل الكيان الصهيوني.
قتل خلال الحرب بالضفة المحتلة مستوطن صهيوني وأصيب 97 آخرون، منهم عدة إصابات خطيرة، وشهدنا خلال الحرب 102 عملية متوسطة وكبيرة في الضفة المحتلة، كما شهدنا أفكارًا إبداعية تأقلمت مع الواقع الجديد الذي فرضه الاحتلال مثل حرق الأبراج والحواجز العسكرية، وفتحت ثغرات في جدار الفصل.
كان بالإمكان أن يكون الحراك أكثر قوة لو كان هنالك قرار على المستوى القيادي في حركة فتح بالانخراط في الحراك الشعبي، ولو أوقفت الأجهزة الأمنية تنسيقها مع الاحتلال خلال فترة الحرب.
وهنالك مناطق مختلفة في الضفة أبدت ضعفًا بالتجاوب ويجب البحث في كل منها عن الأسباب وعن وسائل تنشيطها ونقل الخبرات والأفكار الإبداعية عبر المناطق، كما أن هنالك زخم لا بأس به للمقاومة يجب استغلاله والإبقاء على حد أدنى من حالة المواجهة مع الاحتلال حتى تحين اللحظة المناسبة للتصعيد.
وأخيرًا نشير إلى ضرورة تبني المقاومة (وبالأخص حماس) لهذا الحراك واحتضانه ولو معنويًا حتى يتطور ويصبح أكثر تنظيمًا وأقدر على الاستمرار، فلو كان حجم التفاعل خلال الحرب أعنف وأقوى لتمكنت المقاومة من انتزاع إنجازات أكبر وأهم أو إيقاف العدوان في وقت أبكر.
المقدمة:
تهدف هذه الدراسة إلى تقييم تفاعل الضفة الغربية مع الحرب على غزة، وتأثير الحرب على مشروع المقاومة في الضفة، وتحديد نقاط التحول الإيجابية، بالإضافة لنقاط الضعف والسلبيات التي تعيق انطلاق العمل المقاومة بشكل قوي.
تركز الدراسة على العمل المقاوم الفاعل (العنيف) إلا أنها تتناول بشكل سريع المقاوم السلمي (المقاطعة والتبرعات والمسيرات السلمية) في جزء خاص بنهاية الدراسة، وتشمل الدراسة إحصائيات قمت بإعدادها بمساعدة عدد من الإخوة الكرام عن العمل المقاوم في الضفة خلال الحرب.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أني اعتمدت مبدأ عدم تدوين الأحداث إلا التي أتأكد منها، وهذا أدى لعدم تسجيل عدد من الأحداث التي لم يكن بالإمكان التأكد منها؛ فمثلًا: عدد الزجاجات الحارقة الحقيقي أكبر مما ورد في الدراسة حيث أن بعض الأخبار كانت تذكر وجود مواجهات بشكل عام بدون تفصيل، وأيضًا عدد الأكواع والعبوات البدائية أكبر بكثير مما هو مذكور في الدراسة حيث أن أكثر الأخبار والمواقع تشملها مع الألعاب النارية أو المفرقعات.
في البداية سنستعرض المصطلحات المستخدمة في الدراسة وتعريفها، وبعد ذلك خلفية عامة عن وضع المقاومة في الضفة وما الذي أدى لتراجع دور المقاومة المسلحة ودراسة منحنى المقاومة في السنوات الأخيرة، يليها ذكر أهم الإحصائيات وأماكن المواجهات.
ثم يتبع ذلك تحليل الإحصائيات ونقاط قوة وضعف المقاومة في الضفة الغربية خلال الحرب، وأوجه الخلل الموجودة التي يجب علاجها والتفكير بحلول خلاقة من أجل تجاوزها، وبعدها هنالك قسم المقاومة السلمية ودورها في إسناد غزة بالحرب الأخيرة ومسيرة التحرير بشكل عام، وفي النهاية يمكنكم الإطلاع على ملحقات الدراسة والتي تحتوي على إحصائيات تفصيلية عن فترة الحرب، ومن أراد المزيد من التفاصيل بإمكانه التواصل معي.
المصطلحات المستخدمة في الدراسة:
نقاط المواجهة: أي حادث يحصل فيه مواجهة عنيفة مع الاحتلال بغض النظر عن عدد المشاركين أو الوسائل المستخدمة، نقطة المواجهة قد تكون إلقاء حجارة على سيارات المستوطنين، وقد تكون عدة آلاف من المتظاهرين عند حاجز قلنديا يصطدمون مع الجنود، وقد تكون عملية إطلاق نار، وما إلى ذلك.
حادث إلقاء زجاجة حارقة: عملية إلقاء زجاجة حارقة أو أكثر أو مفرقعات على أي هدف صهيوني في وقت متزامن، فإلقاء زجاجة حارقة على سيارة مستوطن تحسب حادث، وإلقاء عدة زجاجات في مظاهرة تعتبر حادث واحد أيضًا.
العمليات المتوسطة والكبيرة: تشمل جميع نقاط المواجهة التي أدت لإصابة صهاينة بغض النظر عن الوسيلة، بالإضافة لجميع عمليات إطلاق النار والعبوات والأكواع، وإحراق الأبراج والمقرات الأمنية بشكل كامل.
العمليات البسيطة: المواجهات التي تشتمل على إلقاء حجارة أو مفرقعات أو زجاجات حارقة التي لا تؤدي لإصابات في صفوف الاحتلال، وتخريب أسيجة المستوطنات وجدار الفصل العنصري، وحرق السيارات الصهيونية (عسكرية ومدنية).
الشهداء: تم احتساب فقط الشهداء الذين ارتقوا خلال مواجهات أو عمليات ضد الاحتلال، ولا تشمل الإحصائيات ضحايا عمليات الدهس التي يقوم بها المستوطنون أو انفجار مخلفات جيش الاحتلال في حقول التدريب، وما شابه.
تقسيم المناطق: قسمت الدراسة الضفة الغربية إلى اثني عشر منطقة، وهي المحافظات الأحد عشر بالإضافة لضواحي القدس (وهي المناطق الموجودة خارج جدار الفصل من محافظة القدس) والتي فصلتها الدراسة عن المدينة بسبب الخصوصيات التي تميز كل منهما وتؤثر على طبيعة العمل المقاوم.
والمناطق هي: مدينة القدس، ضواحي القدس، الخليل، رام الله، بيت لحم، طولكرم، جنين، سلفيت، نابلس، أريحا، طوباس، قلقيلية.
المقاومة السلمية: هي جميع أشكال المقاومة التي لا تستخدم العنف ضد المستوطنين أو جنود الاحتلال أو المنشآت والممتلكات الخاصة بهم، وتشمل المقاطعة الاقتصادية والتبرعات لغزة والمسيرات والفعاليات السلمية.
حالة اعتقال: هي كل حالة اعتقال قامت بها قوات الاحتلال خلال الحرب، سواء أفرج عن الشخص أو ما زال رهن الاعتقال، علمًا بأن أغلب حالات الاعتقال خلال الحرب ما زالت رهن الاعتقال حتى اللحظة، ولا تشمل الإحصائية التي حصلت عليها من الإخوة في مركز أسرى فلسطين للدراسات من تم اعتقاله في فلسطين المحتلة عام 1948م أو الذين اعتقلوا في الضفة والقدس قبل اندلاع حرب غزة.
نقاط الاحتكاك: هي الأماكن والمنشآت والطرقات التي يتواجد فيها عادةً جنود الاحتلال والمستوطنين أو يتحكمون بها، وتشمل المستوطنات والحواجز والطرق الالتفافية التي يسلكونها وجدار الفصل العنصري والأبراج العسكرية ومعسكرات الجيش.
خلفية عامة عن المقاومة في الضفة:
يظلم الكثيرون حال المقاومة في الضفة الغربية عندما يقارنوها مع المقاومة في قطاع غزة، بدون الأخذ بعين الاعتبار تسلسل الأحداث وآثارها على الساحة الفلسطينية خلال الأعوام الاثني عشر الماضية.
الضربات والحملات الأمنية:
حيث تعرضت المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية إلى استنزاف وضربات متتالية تلت اجتياحات عام 2002م (السور الواقي)، وعندما جاء محمود عباس إلى رئاسة السلطة عمل على تفكيك كتائب الأقصى، وبدأت مرحلة العمل المشترك مع جيش الاحتلال لتفكيك حماس في الضفة منذ عام 2005م، وتدمير ليس فقط الأجهزة العسكرية بل أيضًا البنية المدنية للمقاومة وبالأخص حركة حماس.
في المقابل انسحب جيش الاحتلال من غزة بنفس العام الأمر الذي أتاح للمقاومة عمومًا وحماس خصوصًا أن تطور قدراتها القتالية وتوسع حجم جهازها العسكري، فما نراه اليوم في غزة هو نتيجة لثمانية أعوام من التطوير المتواصل للقسام والأجهزة العسكرية الأخرى في غزة.
إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني:
كما عملت السلطة على إشاعة ثقافة اليأس من المقاومة وأنه لا فائدة منها وأنها جرت الويلات والاجتياحات والفلتان الأمني، واستفادت من أحداث الإنقسام عام 2007م التي زادت الناس يأسًا، وكان تأثير ذلك أكبر على قاعدة فتح الشعبية وإلى حد أقل على مؤيدي باقي الفصائل وعامة الناس.
فضلًا عن إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية بعقيدة جديدة وتنظيفها من كل شخص يمكن أن يكون مقاومًا أو متعاطفًا مع المقاومة في المستقبل (وبالأخص جهازي الوقائي والمخابرات).
انكفاء الاحتلال وراء تحصينات جديدة:
بالإضافة لما سبق قام الاحتلال بالانسحاب من مناطق الكثافة السكانية الفلسطينية العالية وفكك معسكرات وحواجز وحتى مستوطنات، فقام منذ بداية انتفاضة الأقصى بتكفيك والانسحاب من: معسكري دوتان وصانور في جنين، ومعسكر سمير أميس في رام الله، ومعسكر عش الغرب في بيت لحم، ومعسكر المجنونة في الخليل، بالإضافة لتفكيك مستوطنات غانيم وكاديم وصانور وحومش في جنين (عام 2005م)، وأخيرًا معسكر الرام الذي أخلي من معظم جنوده ومنشآته خلال العام الأخير، وتوجد فيه حاليًا قوة صغيرة ورمزية، إلى جانب عشرات الحواجز داخل مناطق الكثافة السكانية التي تم تفكيكها.
وقام ببناء جدار الفصل العنصري وزيادة تحصين المستوطنات وخصوصًا في الجهات القريبة من المناطق الفلسطينية، فكان التقاء ثلاثة عوامل: تدمير وتفكيك الأجهزة العسكرية للمقاومة، نشر ثقافة اليأس و"بدنا نعيش"، وانكفاء الاحتلال في مناطق أكثر أمنًا، كفيلًا بوأد العمل المقاوم في الضفة الغربية.
عودة الاعتبار للعمل المقاوم:
رغم ذلك كان هنالك بقايا عمل مقاوم سواء بشكله الشعبي (إلقاء الحجارة) أو المسلح لكنه بقي في حده الأدنى، لكن مع انسداد أفق التسوية السياسية بين السلطة والاحتلال، واستفحال خطر الاستيطان، ومحاولات حماس المستمرة إعادة تنشيط المقاومة في الضفة وخاصة بعد الربيع العربي، بدأنا نلمس بعض التغير.
ولعل نقطة التحول الأولى كانت حرب حجارة السجيل عام 2012م، وتلاها نقطة تحول ثانية تمثلت بارتفاع مفاجئ في العمليات الفردية بالضفة في شهري أيلول وتشرين أول عام 2013م، وهبة شعبية قصيرة في ذكرى انتفاضة الأقصى (بتاريخ 30/9/2013م)، بالإضافة لأحداث أخرى مثل حملة "من حقي أن أصلي في الأقصى" التي نظمتها حركة حماس، وموجات المواجهات إثر استشهاد كل من الأسيرين عرفات جرادات وحسن الترابي في عام 2013م.
وصل الوضع في الضفة الغربية إلى حد قريب من الغليان لكن ما كان يمنعه هي ذاتها الأسباب الثلاثة: غياب أي هياكل تنظيمية قادرة على استيعاب عمل مقاوم منظم، والسلطة وحركة فتح غير معنيتان بأي مواجهة مع الاحتلال خارج إطار المقاومة السلمية (وحتى مقاومتها السلمية لم تخرج من طور التنظير إلى طور الممارسة)، والافتقار لأفكار إبداعية من أجل مواجهة الاحتلال المختبئ وراء تحصينات ومنظومات أمنية مستحدثة.
جاء إضراب الأسرى في شهر نيسان (4) ليزيد حالة الغليان في الشارع الفلسطيني بالضفة الغربية، وشهدنا انخراطًا متزايدًا من كافة التنظيمات في المواجهات مع قوات الاحتلال بمن فيهم قسم من قاعدة فتح الشعبية، ثم جاءت عملية خطف المستوطنين الثلاثة لتعيد الاعتبار إلى خيار المقاومة وترفع معنويات الناس، لتأتي بعدها عملية خطف وقتل محمد أبو خضير لتلتقي المعنويات المرتفعة مع الغضب العارم.
في ظل هذه الأجواء اندلعت حرب العصف المأكول على غزة في 6/7/2014م وربما كان البعض يتوقع انتفاضة عارمة في الضفة الغربية أو حتى استئناف العمل المسلح، إلا أنه لم يأخذ بعين الاعتبار أن من أصعب المهام هي إشعال ثورات أو انتفاضات شعبية فما يحكم إيقاعها عوامل عديدة ومعقدة، فإن لم تجتمع تبقى دون المستوى المأمول والمطلوب.
كان لقلة مواقع الاحتكاك بالاحتلال وغياب الأجهزة العسكرية المنظمة ورفض فتح والسلطة دورًا هامًا بكبح جماح الحراك الشعبي، لكن هذا لم يمنع انطلاق حراك شعبي قوي ومعتبر، وكان لحركة حماس دورًا هامًا في تحريك الشارع بالإضافة للجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، وقسم غير بسيط من قواعد فتح الشعبية الذين قرروا اللحاق بخيار المقاومة (والفئتين الأكثر تأثرًا هما الشبان دون الـ21 عامًا، ومؤيدي الحركة من غير المرتبطين بوظائف ومصالح مادية).
والسؤال الذي بحاجة لإجابة علمية هو كم كان حجم الحراك الشعبي في الضفة وكم كان تأثيره على الاحتلال؟ وأين هي نقاط ضعفه؟
أداء المقاومة في الضفة خلال الحرب:
شهدت الضفة الغربية خلال حرب حجارة السجيل (عام 2012م) 98 نقطة مواجهات، بمعدل 12 نقطة مواجهة يوميًا، بينما في حرب العصف المأكول ما بين 1000 و1100 نقطة مواجهة، بمعدل حوالي 20 نقطة مواجهة يوميًا أي بزيادة 70% تقريبًا مقارنة بحرب حجارة السجيل (تمكنت من إحصاء نقاط المواجهة من 20/7/2014م إلى 26/8/2014م وما قبل ذلك فقمت بتقديره).
استشهد خلال الحرب الحالية 22 فلسطينيًا في الضفة الغربية أغلبهم خلال المواجهات مع قوات الاحتلال، وأحدهم استشهد في اشتباك مسلح وآخر أثناء تنفيذ عملية الجرافة، وأصيب المئات، وكان لدينا 1050 حالة اعتقال من الضفة (بدون القدس) وحوالي 500 من القدس، ونفذت 176 هجمة على الأقل بالزجاجات الحارقة، و28 عملية إطلاق نار، وتفجير 16 عبوة وكوع ناسف (كحد أدنى)، بالإضافة لعدة عمليات طعن ودهس، ومحاولتين لم تنجحا لإدخال سيارات مفخخة إلى داخل الكيان الصهيوني.
قتل خلال الحرب بالضفة المحتلة مستوطن صهيوني وأصيب 97 آخرون، منهم عدة إصابات خطيرة، وشهدنا خلال الحرب 102 عملية متوسطة وكبيرة في الضفة المحتلة، كما شهدنا أفكارًا إبداعية تأقلمت مع الواقع الجديد الذي فرضه الاحتلال مثل حرق الأبراج والحواجز العسكرية، وفتحت ثغرات في جدار الفصل العنصري.
ما زال النشاط المقاوم مستمرًا بعد الحرب بمعدل أقل من أيام الحرب لكنه يبقى أعلى مما كان عليه الوضع قبل اختطاف واستشهاد محمد أبو خضير، وصباح الأحد (31/8/2014م) كان هنالك عمليتان مميزتان بمهاجمة محطات وقوف للمستوطنين في منطقة نابلس بعبوات ناسفة.
ما زال من المبكر القول أن الوضع سيستمر على ما هو عليه في الضفة أو سيعود تدريجيًا إلى الهدوء، وفي ظل وجود كافة الأسباب لاستمراره تكون الأمور معلقة على عاتق المقاومة وبالتحديد حركة حماس من أجل استغلال الموجة والمحافظة على مستوى مقبول من المقاومة في الضفة.
الأداء المقاوم على مستوى المناطق:
سنجد تفاوتًا كبيرًا في الأداء المقاوم على مستوى المناطق ونستطيع أن نلحظ تقدمًا لمدينة القدس، تليها ضواحي القدس والخليل ورام الله وبيت لحم، ثم نرى في المستوى الأخير ضعفًا ملحوظًا للعمل المقاوم في محافظات شمال الضفة (استطاعت نابلس التعويض من خلال عمليات نوعية)، وهذه ظاهرة بحاجة لدراسة وفهم.
فعلى سبيل المثال هنالك تقارب بعدد السكان بين محافظتي جنين ورام الله لكن نجد أن نقاط المواجهة في رام الله بلغ 111 مقابل 21 فقط في جنين، وأيضًا ينطبق الأمر على بيت لحم وطولكرم تقارب في التعداد السكاني لكن تفاوت كبير في نقاط المواجهة (76 في بيت لحم مقابل 12 فقط في طولكرم)، وأدرك أن الإعلام لا يغطي كل شيء لكن حجم الفرق سواء كمًا أو نوعًا (عدد الإصابات في صفوف الاحتلال مثلًا) كبير لدرجة لا يمكن أن نعزوها لضعف التغطية الإعلامية.
وإذا اعتبرنا أماكن التواجد الصهيوني (أو ما نسميه نقاط الاحتكاك) هي الهدف الأول المفترض للمقاومة في الضفة (ولذا لست مع خيار العمليات الاستشهادية داخل فلسطين المحتلة عام 1948م في هذه المرحلة، لأن الأولى أن تنظف ساحتك الخلفية من المحتلين الصهاينة قبل أن تغزوهم في عقر دارهم)، فسنجد أن بعض مناطق الاحتكاك كانت مشتعلة قبل الحرب وبعدها، وبعض المناطق اشتعلت خلال الحرب، فيما هنالك مناطق كانت هادئة قبل وبعد الحرب.
لو ابتدأنا من جنوب الضفة فهنالك محور تجمع مستوطنات عصيون وطريق رقم ستين، ويشمل قرى غرب وشرق بيت لحم وقرى شرق الخليل، فقد كان هذا المحور مشتعلًا وبالأخص بعد المقاومة الشعبية.
بينما نجد طريق رقم ستين في منطقة شرق رام الله أكثر هدوءًا باستثناء قرى سلواد وسنجل وترمسعيا (وثلاثتها معاقل لحركة حماس)، وفي المقابل نجد قرى غرب رام الله (حيث جدار الفصل العنصري) مشتعلة على عكس قرى غرب الخليل (باستثناء دورا)، والحقيقة لو أخذنا مسار جدار الفصل العنصري كنقاط احتكاك سنجده غير مستغل جيدًا، باستنثاء محافظة رام الله وضواحي القدس، وبعض الاستثناءات مثل مخيم عايدة في بيت لحم ويعبد في جنين.
ولو انتقلنا إلى مدينة القدس فنجد أنها الأكثر اشتعالًا ومنذ بضعة سنوات، وإن كان بعض الأحياء أداءها افضل من غيرها وبالأخص أحياء وسط وشرق المدينة (البلدة القديمة، وسلوان وراس العامود والعيسوية والطور والصوانة).
ولو انتقلنا إلى محافظة سلفيت وهي الأكثر ابتلاءً بالمستوطنات وخصوصًا المنتشرة على خط عابر السامرة (ابتداء من حاجز زعترة في الشرق وانتهاءً بجدار الفصل بالغرب) سنجد عبء المقاومة فيها على قريتين أو ثلاث تقريبًا طوال الحرب (دير استيا وقراوة بني حسان وإلى حد ما كفر الديك)، بينما كان أداء باقي القرى متواضعًا.
أما في الحزام الممتد جنوب نابلس من مستوطنات رحاليم وألون موريه وايتمار في الشرق إلى قدوميم في الغرب مرورًا بيتسهار وبراخا، سنجد أداءً مميزًا للمقاومة ليس بشكلها الشعبي (حجارة وحارقات) فحسب بل أيضًا بعملياتها المسلحة من إطلاق نار وعبوات ناسفة، ولو استنسخت هذه التجربة إلى باقي مناطق الاحتكاك في الضفة فسيشعر الجميع بمقاومة الضفة وأثرها.
وهنالك في غور الأردن والطريق رقم تسعين تواجد استيطاني وعسكري كثيف لكن لا توجد كثافة سكانية فلسطينية يعول عليها، رغم ذلك كان هنالك مواجهات في منطقة النويعمة والعوجا شمال أريحا وعقبة جبر جنوب أريحا، ولا أرى أن محافظة أريحا قادرة على أن تقدم أكثر من ذلك.
تفسير الإحصائيات والأرقام:
ما سبب التفاوت في الأداء بين منطقة وأخرى؟ ولماذا هنالك نقاط احتكاك دائمة الاشتعال وأخرى تشتعل بشكل موسمي ونقاط هادئة طوال الوقت؟
أولًا: المناطق التي تحتوي على نقاط احتكاك أكثر مرشحة لأن تكون مشتعلة أكثر من غيرها، وهذا واضح للغاية في مدينة القدس التي توجد فيها نقاط احتكاك أكثر بكثير من باقي مناطق الضفة.
مع ذلك نجد في بعض المناطق قد أوجد الشبان فيها نقاط احتكاك، مثل حاجز بيت فوريك وهو حاجز شبه مهجور ولا يتواجد عليه جيش الاحتلال عادةً، فكانوا يتوجهون إليه ويأتي جيش الاحتلال "ليحميه".
ثانيًا: المناطق التي فيها ثقل لحماس أو للجبهة الشعبية واليسار أو كليهما كانت الأكثر اشتعالًا، مثل مدينة القدس وضواحي القدس والخليل وكلها معاقل قوية لحماس، وبيت لحم فيها تواجد قوي لحماس بالإضافة لكونها معقلًا لليسار، ومحافظة رام الله حيث لحماس وجود قوي في ريفها ولليسار وجود قوي مع حماس في المدينة.
ونفس الشيء ينطبق على قريتي قراوة بني حسان ودير استيا في سلفيت وقرية يعبد في جنين، بينما شمال الضفة يعتبر تاريخيًا من معاقل حركة فتح وبالأخص محافظة جنين، وهذا يفسر ولو جزئيًا فتور الرغبة في مواجهة الاحتلال في هذه المناطق، وإن كان التعاطف الشعبي مع غزة عارمًا مثل باقي مناطق الضفة.
طبعًا هنالك استثناءات لمناطق مشتعلة وتعتبر معاقل لحركة فتح مثل كفر قدوم وعزون بمحافظة قلقيلية، وإنما ما تكلمت عنه هو النسق العام وليس قاعدة دائمة.
ثالثًا: التنسيق الأمني ونشاط الأجهزة الأمنية والتي لم تتوقف عن مهمتها بملاحقة العمل المقاوم، وتأثيرها الواضح نجده في قلة العمليات المسلحة، ومحاولتها أكثر من مرة منع المسيرات من التوجه إلى نقاط الاحتكاك مع الاحتلال، إلا أن إصرار المتظاهرين كان يدفعهم للصدام معها في كل مرة تقريبًا، وغالبًا ما كان ينتهي المشهد بانسحاب هذه الأجهزة.
نجد أن ضعف وجود هذه الأجهزة في مدينة القدس وضواحيها أعطى المقاومة زخمًا لا بأس به، لكن يجب أن لا نبالغ أو نقلل من أهمية دور هذه الأجهزة، فهي لم تستطع الوقوف بوجه الجماهير وبنفس الوقت هي عبء واضح على الحراك الشعبي، ومانع لقسم من عمليات المقاومة لكن ليس جمعيها.
رابعًا: المستوى الاقتصادي وما يسمى "الرفاهية" (وهنا أسجل اعتراضي على هذا الوصف في الضفة لأنه يعطي انطباعًا مضللًا وكأن الضفة هي سويسرا، فهي رفاهية الفقراء، تقارن فقير بفقير فتسمي الأقل فقرًا بأنه مرفه)، وبلا شك أن الحياة الاقتصادي الجيدة لا تغري صاحبها بالإنخراط في عمل مقاوم قد يضيع عليه مكاسبه المادية.
وهذا نلحظه في الانخراط النشط للمخيمات بالحراك القائم كونها "أقل رفاهية"، رغم أن هذا الانخراط يفسره أيضًا انتشار ثقافة المقاومة في المخيم وحفاظه عليها طوال السنوات الماضية، وكالعادة هنالك استثناءات فوجدنا انخراطًا ضعيفًا لمخيم جنين في موجة المقاومة خلال حرب غزة وبعدها.
وأيضًا لدينا محافظة رام الله وهي تعتبر من أفضل المحافظات دخلًا وأكثرها "رفاهية" كانت منخرطة بشكل نشط في العمل المقاوم خلال حرب غزة، وفي المقابل هنالك المناطق الأكثر فقرًا حيث لا يتاح للناس التفكير بأكثر من السعي وراء لقمة عيشهم كانت هادئة مثل الأغوار والتجمعات البدوية جنوبي الخليل.
خامسًا: تلعب عملية تبادل الخبرات وانتقالها دورًا هامًا في تنشيط العمل المقاوم، فنجد تجربة بلعين في مقاومة الجدار قد انتقلت إلى محيطها القريب الذي لم يكتف بمقاومتها السلمية بل طورها إلى مقاومة شعبية عنيفة، بينما نجد ثقافة مقاومة الجدار غير منتشرة على نطاق واسع في باقي المناطق، وفي رأيي أن هذا يعود لعدم وجود مبادرة ذاتية ولعدم نقل الخبرة بكل بساطة.
بكلام آخر تحتاج المناطق الأخرى لحملات توعية وربما تواصل مع اللجان الشعبية ذات الخبرة، من أجل تشجيعها على الإنخراط في هذا العمل، وتزويدهم بأفكار خلاقة وآليات تطبيقها، مثل تخريب جدار الفصل أو إحراق الأبراج وغير ذلك.
*قطع الكهرباء عن مستوطنات غرب رام الله أحد الأفكار الإبداعية:
سادسًا: عامل الوقت لعب دورًا هامًا وضاغطًا، فأي حراك جماهيري وشعبي يحتاج لوقت حتى ينتظم ويأخذ أشكالًا أكثر ديمومة وفعالية، وانتقال الحراك الشعبي في الضفة من مجرد ردة فعل إلى عمل مؤسسي ومنظم يحتاج لأكثر من خمسين يومًا، وبالفعل بدأنا نرى ازدياد العمليات الأكثر تطورًا في الفترة الأخيرة (الزجاجات الحارقة والعبوات) مقابل انخفاض المواجهات المباشرة التي تحركها العاطفة.
سابعًا: يحتاج الحراك في الضفة إلى الوقت لكي ينتظم ويتطور، لكن أيضًا يحتاج إلى حاضنة شعبية وهي متوفرة الآن لكن قد لا تكون متوفرة في المستقبل، وكذلك يحتاج إلى إطار فكري وحزبي يؤصل له ويوجهه ويحتضنه (ولو معنويًا)، وهنا يأتي دور حركة حماس التي إن لم تستغل الفرصة فسيعود الوضع ليرتكس في الضفة.
ثامنًا: هنالك استنزاف لبعض المناطق بالاعتقالات قد يؤدي لهدوئها لفترة من الزمن، وهذا أمر متوقع في ظل منظومة أمنية احتلالية محكمة.
المقاومة السلمية في الضفة ما دورها:
ربما يستهين البعض بدور المقاومة السلمية ويعتبرها عديمة الفائدة وهذا غير صحيح لكن المشكلة تكون عند الاكتفاء بالمقاومة السلمية، وخصوصًا في الحالة الفلسطينية حيث الاحتلال لا يلقي بالًا لوسائل الضغط الناعمة.
لعب الرأي العام في الضفة الغربية (سواء بالإعلام أو المسيرات أو الأحاديث الخاصة) دورًا هامًا في الضغط على قيادة فتح والسلطة، وكان ضغط الرأي العام قويًا لدرجة أنه أحدث تحولًا كاملًا في خطاب السلطة التي فضلت مجاراة المزاج الشعبي بعد أن اظهرت المقاومة صمودها في غزة.
لكنه كان تحولًا في الخطاب الإعلامي وتحولًا مؤقتًا انتهى مع نهاية الحرب كما نلحظ في تصريحات عباس الأخيرة، فهو تحول تحت تأثير الرأي العام.
كما أن المقاومة السلمية المتمثلة بجمع التبرعات أو المقاطعة الاقتصادية لبضائع الاحتلال، دور بسيط في إضعاف اقتصاد الاحتلال وإسناد المجتمع الفلسطيني في غزة، الأثر بسيط لكنه أفضل من لا شيء، والعمل المقاوم هو عمل تراكمي وليس خطوة واحدة.
وبالإضافة إلى إيصال رسائل إلى الاحتلال الصهيوني والرأي العام العالمي بأن الوضع في الضفة يتجه نحو التصعيد ما لم يتوقف العدوان على غزة، فإن للمسيرات دور آخر لا يقل إهمية وهو الدور التعبوي.
والدور التعبوي يعمل على المدى البعيد من خلال نشر ثقافة المقاومة وتهيئة الحاضنة الشعبية للعمل المقاوم، وأيضًا يعمل على الصعيد اللحظي والآني من خلال إيجاد خلفية دافعة لمواجهة الاحتلال، فأغلب المسيرات كانت تتوجه نحو نقاط الاحتكاك مع الاحتلال، حتى لو لم يكن مخطط لها أن تذهب إليها، ولنتذكر هنا أن سيكولوجيا الجماهير وتوجيه الجموع عملية معقدة للغاية ويجب فيها التدرج، فهي ليست جيوش تتحرك بأمر من القائد الأعلى.
ولعل في مقاطع الفيديو الآتية من الخليل ورام الله، في الليالي التي تلت مجزرة الشجاعية والتي أعلن فيها عن خطف الجندي أرون، نرى تسلسل الأحداث: احتفالات بخطف الجندي ومسيرة سلمية تنديدًا بالعنوان، ثم مسيرة تتوجه نحو نقاط الاحتكاك، يليها صدام مع الأجهزة الأمنية وتنتهي بصدام مع الاحتلال.
رام الله مسيرة:
http://www.youtube.com/watch?v=tzIotCS24P4
رام الله الاحتفال بأسر أرون:
https://www.youtube.com/watch?v=50Wl...ature=youtu.be
رام الله الصدام مع السلطة
http://www.youtube.com/watch?v=OMQiYIL_x6Q
رام الله مواجهات مع الاحتلال
الاحتفال في الخليل
http://www.youtube.com/watch?v=94NUqqbylAA
مسيرة الخليل
http://www.youtube.com/watch?v=cOthToa63ZU
مواجهات في الخليل
http://www.youtube.com/watch?v=KjMngkaZz20
كان هذا استعراض بشكل مجمل للمقاومة السلمية في الضفة خلال الحرب، لم أجر إحصائيات حول عدد المسيرات أو ما تم جمعه من تبرعات أو نتائج حملة المقاطعة، لكن لن تجد مراقب ينفي أن حجم ما جمع من تبرعات أو حجم المقاطعة للسلع الصهيونية هو غير مسبوق على الإطلاق.
أما المسيرات السلمية فربما أن عدد المشاركين فيها لم يصل إلى عدد المشاركين في مسيرات انتفاضة الأقصى، لأسباب عديدة ذكرنا بعضها عند الحديث عن معوقات العمل المقاوم، وبالإضافة لها هنالك عدم اقتناع بجدوى هذه المسيرات وهذا يدفع الكثير لعدم المشاركة فيها، رغم أنها كما بينت لها فائدة لكن الخطأ كل الخطأ أن نقف على أحد طرفي نقيض: من لا يرى فيها فائدة ويقاطعها لذلك، ومن يراها كل شيء ويريد الاكتفاء بها.
في الختام:
نجد أن العمل المقاوم في الضفة يسير بمنحنى تصاعدي منذ حرب حجارة السجيل عام 2012م، وأنه ارتفع بمقدار 70% خلال الحرب الأخيرة (العصف المأكول)، ولحد الآن هو يدور بين المقاومة الشعبية وما أسميه العمليات الشعبية، لكن ما زال العمل المسلح محدودًا ولم نلمس فيه قفزات.
كان بالإمكان أن يكون الحراك أكثر قوة لو كان هنالك قرار على المستوى القيادي في حركة فتح بالإنخراط في الحراك الشعبي، ولو أوقفت الأجهزة الأمنية تنسيقها مع الاحتلال خلال فترة الحرب.
وهنالك مناطق مختلفة في الضفة أبدت ضعفًا بالتجاوب ويجب البحث في كل منها عن الأسباب وعن وسائل تنشيطها ونقل الخبرات والأفكار الإبداعية عبر المناطق، كما أن هنالك زخم لا بأس به للمقاومة في الضفة يجب استغلاله والإبقاء على حد أدنى من حالة المواجهة مع الاحتلال حتى تحين اللحظة المناسبة للتصعيد ضده.
وأخيرًا نشير إلى ضرورة تبني المقاومة (خاصة حماس) هذا الحراك واحتضانه ولو معنويًا حتى يتطور ويصبح أكثر تنظيمًا وأقدر على الاستمرار، فلو كان حجم التفاعل خلال الحرب أعنف وأقوى لتمكنت المقاومة من انتزاع إنجازات أكبر وأهم أو إيقاف العدوان في وقت أبكر.
إعداد: ياسين عز الدين
في الوقت الذي كانت فيه المقاومة تبني قوتها وتطور من قدراتها في قطاع غزة، تلقت ضربات في الضفة المحتلة قضت عليها تقريبًا في الفترة ما بين 2002م إلى نهاية 2012م، والتقت ثلاثة عوامل في هذه المهمة: النشاط الأمني والعسكري للاحتلال وأجهزة السلطة، وثقافة اليأس ونشرها وإعادة بناء الأجهزة الأمنية على عقيدة جديدة، وانسحاب الاحتلال من مناطق الكثافة السكانية وبنائهم تحصينات تحميهم من العمل المقاوم.
بدأ المزاج الشعبي بعد حرب حجارة السجيل عام 2012م بالتغير في الضفة، حيث بدأ مسار المقاومة بالارتفاع بعدها ونجد أنه في حرب العصف المأكول (2014م) قد ارتفع بمقدار 70% مقارنة بحرب حجارة السجيل، إلا أنه لحد الآن ما زال يدور بين المقاومة الشعبية وما أسميه العمليات الشعبية، أما العمل المسلح فما زال محدودًا ولم نلمس فيه قفزات.
شهدت الضفة الغربية في حرب العصف المأكول ما بين 1000 و1100 نقطة مواجهة، بمعدل حوالي 20 نقطة مواجهة يوميًا، واستشهد خلال الحرب الأخيرة 22 فلسطينيًا في الضفة الغربية، وأصيب المئات، وكان لدينا 1050 حالة اعتقال من الضفة (بدون القدس) وحوالي 500 من القدس.
ونفذت 176 هجمة على الأقل بالزجاجات الحارقة، و28 عملية إطلاق نار، وتفجير 16 عبوة وكوع ناسف (كحد أدنى)، بالإضافة لعدة عمليات طعن ودهس، ومحاولتين لم تنجحا لإدخال سيارات مفخخة إلى داخل الكيان الصهيوني.
قتل خلال الحرب بالضفة المحتلة مستوطن صهيوني وأصيب 97 آخرون، منهم عدة إصابات خطيرة، وشهدنا خلال الحرب 102 عملية متوسطة وكبيرة في الضفة المحتلة، كما شهدنا أفكارًا إبداعية تأقلمت مع الواقع الجديد الذي فرضه الاحتلال مثل حرق الأبراج والحواجز العسكرية، وفتحت ثغرات في جدار الفصل.
كان بالإمكان أن يكون الحراك أكثر قوة لو كان هنالك قرار على المستوى القيادي في حركة فتح بالانخراط في الحراك الشعبي، ولو أوقفت الأجهزة الأمنية تنسيقها مع الاحتلال خلال فترة الحرب.
وهنالك مناطق مختلفة في الضفة أبدت ضعفًا بالتجاوب ويجب البحث في كل منها عن الأسباب وعن وسائل تنشيطها ونقل الخبرات والأفكار الإبداعية عبر المناطق، كما أن هنالك زخم لا بأس به للمقاومة يجب استغلاله والإبقاء على حد أدنى من حالة المواجهة مع الاحتلال حتى تحين اللحظة المناسبة للتصعيد.
وأخيرًا نشير إلى ضرورة تبني المقاومة (وبالأخص حماس) لهذا الحراك واحتضانه ولو معنويًا حتى يتطور ويصبح أكثر تنظيمًا وأقدر على الاستمرار، فلو كان حجم التفاعل خلال الحرب أعنف وأقوى لتمكنت المقاومة من انتزاع إنجازات أكبر وأهم أو إيقاف العدوان في وقت أبكر.
المقدمة:
تهدف هذه الدراسة إلى تقييم تفاعل الضفة الغربية مع الحرب على غزة، وتأثير الحرب على مشروع المقاومة في الضفة، وتحديد نقاط التحول الإيجابية، بالإضافة لنقاط الضعف والسلبيات التي تعيق انطلاق العمل المقاومة بشكل قوي.
تركز الدراسة على العمل المقاوم الفاعل (العنيف) إلا أنها تتناول بشكل سريع المقاوم السلمي (المقاطعة والتبرعات والمسيرات السلمية) في جزء خاص بنهاية الدراسة، وتشمل الدراسة إحصائيات قمت بإعدادها بمساعدة عدد من الإخوة الكرام عن العمل المقاوم في الضفة خلال الحرب.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أني اعتمدت مبدأ عدم تدوين الأحداث إلا التي أتأكد منها، وهذا أدى لعدم تسجيل عدد من الأحداث التي لم يكن بالإمكان التأكد منها؛ فمثلًا: عدد الزجاجات الحارقة الحقيقي أكبر مما ورد في الدراسة حيث أن بعض الأخبار كانت تذكر وجود مواجهات بشكل عام بدون تفصيل، وأيضًا عدد الأكواع والعبوات البدائية أكبر بكثير مما هو مذكور في الدراسة حيث أن أكثر الأخبار والمواقع تشملها مع الألعاب النارية أو المفرقعات.
في البداية سنستعرض المصطلحات المستخدمة في الدراسة وتعريفها، وبعد ذلك خلفية عامة عن وضع المقاومة في الضفة وما الذي أدى لتراجع دور المقاومة المسلحة ودراسة منحنى المقاومة في السنوات الأخيرة، يليها ذكر أهم الإحصائيات وأماكن المواجهات.
ثم يتبع ذلك تحليل الإحصائيات ونقاط قوة وضعف المقاومة في الضفة الغربية خلال الحرب، وأوجه الخلل الموجودة التي يجب علاجها والتفكير بحلول خلاقة من أجل تجاوزها، وبعدها هنالك قسم المقاومة السلمية ودورها في إسناد غزة بالحرب الأخيرة ومسيرة التحرير بشكل عام، وفي النهاية يمكنكم الإطلاع على ملحقات الدراسة والتي تحتوي على إحصائيات تفصيلية عن فترة الحرب، ومن أراد المزيد من التفاصيل بإمكانه التواصل معي.
المصطلحات المستخدمة في الدراسة:
نقاط المواجهة: أي حادث يحصل فيه مواجهة عنيفة مع الاحتلال بغض النظر عن عدد المشاركين أو الوسائل المستخدمة، نقطة المواجهة قد تكون إلقاء حجارة على سيارات المستوطنين، وقد تكون عدة آلاف من المتظاهرين عند حاجز قلنديا يصطدمون مع الجنود، وقد تكون عملية إطلاق نار، وما إلى ذلك.
حادث إلقاء زجاجة حارقة: عملية إلقاء زجاجة حارقة أو أكثر أو مفرقعات على أي هدف صهيوني في وقت متزامن، فإلقاء زجاجة حارقة على سيارة مستوطن تحسب حادث، وإلقاء عدة زجاجات في مظاهرة تعتبر حادث واحد أيضًا.
العمليات المتوسطة والكبيرة: تشمل جميع نقاط المواجهة التي أدت لإصابة صهاينة بغض النظر عن الوسيلة، بالإضافة لجميع عمليات إطلاق النار والعبوات والأكواع، وإحراق الأبراج والمقرات الأمنية بشكل كامل.
العمليات البسيطة: المواجهات التي تشتمل على إلقاء حجارة أو مفرقعات أو زجاجات حارقة التي لا تؤدي لإصابات في صفوف الاحتلال، وتخريب أسيجة المستوطنات وجدار الفصل العنصري، وحرق السيارات الصهيونية (عسكرية ومدنية).
الشهداء: تم احتساب فقط الشهداء الذين ارتقوا خلال مواجهات أو عمليات ضد الاحتلال، ولا تشمل الإحصائيات ضحايا عمليات الدهس التي يقوم بها المستوطنون أو انفجار مخلفات جيش الاحتلال في حقول التدريب، وما شابه.
تقسيم المناطق: قسمت الدراسة الضفة الغربية إلى اثني عشر منطقة، وهي المحافظات الأحد عشر بالإضافة لضواحي القدس (وهي المناطق الموجودة خارج جدار الفصل من محافظة القدس) والتي فصلتها الدراسة عن المدينة بسبب الخصوصيات التي تميز كل منهما وتؤثر على طبيعة العمل المقاوم.
والمناطق هي: مدينة القدس، ضواحي القدس، الخليل، رام الله، بيت لحم، طولكرم، جنين، سلفيت، نابلس، أريحا، طوباس، قلقيلية.
المقاومة السلمية: هي جميع أشكال المقاومة التي لا تستخدم العنف ضد المستوطنين أو جنود الاحتلال أو المنشآت والممتلكات الخاصة بهم، وتشمل المقاطعة الاقتصادية والتبرعات لغزة والمسيرات والفعاليات السلمية.
حالة اعتقال: هي كل حالة اعتقال قامت بها قوات الاحتلال خلال الحرب، سواء أفرج عن الشخص أو ما زال رهن الاعتقال، علمًا بأن أغلب حالات الاعتقال خلال الحرب ما زالت رهن الاعتقال حتى اللحظة، ولا تشمل الإحصائية التي حصلت عليها من الإخوة في مركز أسرى فلسطين للدراسات من تم اعتقاله في فلسطين المحتلة عام 1948م أو الذين اعتقلوا في الضفة والقدس قبل اندلاع حرب غزة.
نقاط الاحتكاك: هي الأماكن والمنشآت والطرقات التي يتواجد فيها عادةً جنود الاحتلال والمستوطنين أو يتحكمون بها، وتشمل المستوطنات والحواجز والطرق الالتفافية التي يسلكونها وجدار الفصل العنصري والأبراج العسكرية ومعسكرات الجيش.
خلفية عامة عن المقاومة في الضفة:
يظلم الكثيرون حال المقاومة في الضفة الغربية عندما يقارنوها مع المقاومة في قطاع غزة، بدون الأخذ بعين الاعتبار تسلسل الأحداث وآثارها على الساحة الفلسطينية خلال الأعوام الاثني عشر الماضية.
الضربات والحملات الأمنية:
حيث تعرضت المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية إلى استنزاف وضربات متتالية تلت اجتياحات عام 2002م (السور الواقي)، وعندما جاء محمود عباس إلى رئاسة السلطة عمل على تفكيك كتائب الأقصى، وبدأت مرحلة العمل المشترك مع جيش الاحتلال لتفكيك حماس في الضفة منذ عام 2005م، وتدمير ليس فقط الأجهزة العسكرية بل أيضًا البنية المدنية للمقاومة وبالأخص حركة حماس.
في المقابل انسحب جيش الاحتلال من غزة بنفس العام الأمر الذي أتاح للمقاومة عمومًا وحماس خصوصًا أن تطور قدراتها القتالية وتوسع حجم جهازها العسكري، فما نراه اليوم في غزة هو نتيجة لثمانية أعوام من التطوير المتواصل للقسام والأجهزة العسكرية الأخرى في غزة.
إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني:
كما عملت السلطة على إشاعة ثقافة اليأس من المقاومة وأنه لا فائدة منها وأنها جرت الويلات والاجتياحات والفلتان الأمني، واستفادت من أحداث الإنقسام عام 2007م التي زادت الناس يأسًا، وكان تأثير ذلك أكبر على قاعدة فتح الشعبية وإلى حد أقل على مؤيدي باقي الفصائل وعامة الناس.
فضلًا عن إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية بعقيدة جديدة وتنظيفها من كل شخص يمكن أن يكون مقاومًا أو متعاطفًا مع المقاومة في المستقبل (وبالأخص جهازي الوقائي والمخابرات).
انكفاء الاحتلال وراء تحصينات جديدة:
بالإضافة لما سبق قام الاحتلال بالانسحاب من مناطق الكثافة السكانية الفلسطينية العالية وفكك معسكرات وحواجز وحتى مستوطنات، فقام منذ بداية انتفاضة الأقصى بتكفيك والانسحاب من: معسكري دوتان وصانور في جنين، ومعسكر سمير أميس في رام الله، ومعسكر عش الغرب في بيت لحم، ومعسكر المجنونة في الخليل، بالإضافة لتفكيك مستوطنات غانيم وكاديم وصانور وحومش في جنين (عام 2005م)، وأخيرًا معسكر الرام الذي أخلي من معظم جنوده ومنشآته خلال العام الأخير، وتوجد فيه حاليًا قوة صغيرة ورمزية، إلى جانب عشرات الحواجز داخل مناطق الكثافة السكانية التي تم تفكيكها.
وقام ببناء جدار الفصل العنصري وزيادة تحصين المستوطنات وخصوصًا في الجهات القريبة من المناطق الفلسطينية، فكان التقاء ثلاثة عوامل: تدمير وتفكيك الأجهزة العسكرية للمقاومة، نشر ثقافة اليأس و"بدنا نعيش"، وانكفاء الاحتلال في مناطق أكثر أمنًا، كفيلًا بوأد العمل المقاوم في الضفة الغربية.
عودة الاعتبار للعمل المقاوم:
رغم ذلك كان هنالك بقايا عمل مقاوم سواء بشكله الشعبي (إلقاء الحجارة) أو المسلح لكنه بقي في حده الأدنى، لكن مع انسداد أفق التسوية السياسية بين السلطة والاحتلال، واستفحال خطر الاستيطان، ومحاولات حماس المستمرة إعادة تنشيط المقاومة في الضفة وخاصة بعد الربيع العربي، بدأنا نلمس بعض التغير.
ولعل نقطة التحول الأولى كانت حرب حجارة السجيل عام 2012م، وتلاها نقطة تحول ثانية تمثلت بارتفاع مفاجئ في العمليات الفردية بالضفة في شهري أيلول وتشرين أول عام 2013م، وهبة شعبية قصيرة في ذكرى انتفاضة الأقصى (بتاريخ 30/9/2013م)، بالإضافة لأحداث أخرى مثل حملة "من حقي أن أصلي في الأقصى" التي نظمتها حركة حماس، وموجات المواجهات إثر استشهاد كل من الأسيرين عرفات جرادات وحسن الترابي في عام 2013م.
وصل الوضع في الضفة الغربية إلى حد قريب من الغليان لكن ما كان يمنعه هي ذاتها الأسباب الثلاثة: غياب أي هياكل تنظيمية قادرة على استيعاب عمل مقاوم منظم، والسلطة وحركة فتح غير معنيتان بأي مواجهة مع الاحتلال خارج إطار المقاومة السلمية (وحتى مقاومتها السلمية لم تخرج من طور التنظير إلى طور الممارسة)، والافتقار لأفكار إبداعية من أجل مواجهة الاحتلال المختبئ وراء تحصينات ومنظومات أمنية مستحدثة.
جاء إضراب الأسرى في شهر نيسان (4) ليزيد حالة الغليان في الشارع الفلسطيني بالضفة الغربية، وشهدنا انخراطًا متزايدًا من كافة التنظيمات في المواجهات مع قوات الاحتلال بمن فيهم قسم من قاعدة فتح الشعبية، ثم جاءت عملية خطف المستوطنين الثلاثة لتعيد الاعتبار إلى خيار المقاومة وترفع معنويات الناس، لتأتي بعدها عملية خطف وقتل محمد أبو خضير لتلتقي المعنويات المرتفعة مع الغضب العارم.
في ظل هذه الأجواء اندلعت حرب العصف المأكول على غزة في 6/7/2014م وربما كان البعض يتوقع انتفاضة عارمة في الضفة الغربية أو حتى استئناف العمل المسلح، إلا أنه لم يأخذ بعين الاعتبار أن من أصعب المهام هي إشعال ثورات أو انتفاضات شعبية فما يحكم إيقاعها عوامل عديدة ومعقدة، فإن لم تجتمع تبقى دون المستوى المأمول والمطلوب.
كان لقلة مواقع الاحتكاك بالاحتلال وغياب الأجهزة العسكرية المنظمة ورفض فتح والسلطة دورًا هامًا بكبح جماح الحراك الشعبي، لكن هذا لم يمنع انطلاق حراك شعبي قوي ومعتبر، وكان لحركة حماس دورًا هامًا في تحريك الشارع بالإضافة للجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، وقسم غير بسيط من قواعد فتح الشعبية الذين قرروا اللحاق بخيار المقاومة (والفئتين الأكثر تأثرًا هما الشبان دون الـ21 عامًا، ومؤيدي الحركة من غير المرتبطين بوظائف ومصالح مادية).
والسؤال الذي بحاجة لإجابة علمية هو كم كان حجم الحراك الشعبي في الضفة وكم كان تأثيره على الاحتلال؟ وأين هي نقاط ضعفه؟
أداء المقاومة في الضفة خلال الحرب:
شهدت الضفة الغربية خلال حرب حجارة السجيل (عام 2012م) 98 نقطة مواجهات، بمعدل 12 نقطة مواجهة يوميًا، بينما في حرب العصف المأكول ما بين 1000 و1100 نقطة مواجهة، بمعدل حوالي 20 نقطة مواجهة يوميًا أي بزيادة 70% تقريبًا مقارنة بحرب حجارة السجيل (تمكنت من إحصاء نقاط المواجهة من 20/7/2014م إلى 26/8/2014م وما قبل ذلك فقمت بتقديره).
استشهد خلال الحرب الحالية 22 فلسطينيًا في الضفة الغربية أغلبهم خلال المواجهات مع قوات الاحتلال، وأحدهم استشهد في اشتباك مسلح وآخر أثناء تنفيذ عملية الجرافة، وأصيب المئات، وكان لدينا 1050 حالة اعتقال من الضفة (بدون القدس) وحوالي 500 من القدس، ونفذت 176 هجمة على الأقل بالزجاجات الحارقة، و28 عملية إطلاق نار، وتفجير 16 عبوة وكوع ناسف (كحد أدنى)، بالإضافة لعدة عمليات طعن ودهس، ومحاولتين لم تنجحا لإدخال سيارات مفخخة إلى داخل الكيان الصهيوني.
قتل خلال الحرب بالضفة المحتلة مستوطن صهيوني وأصيب 97 آخرون، منهم عدة إصابات خطيرة، وشهدنا خلال الحرب 102 عملية متوسطة وكبيرة في الضفة المحتلة، كما شهدنا أفكارًا إبداعية تأقلمت مع الواقع الجديد الذي فرضه الاحتلال مثل حرق الأبراج والحواجز العسكرية، وفتحت ثغرات في جدار الفصل العنصري.
ما زال النشاط المقاوم مستمرًا بعد الحرب بمعدل أقل من أيام الحرب لكنه يبقى أعلى مما كان عليه الوضع قبل اختطاف واستشهاد محمد أبو خضير، وصباح الأحد (31/8/2014م) كان هنالك عمليتان مميزتان بمهاجمة محطات وقوف للمستوطنين في منطقة نابلس بعبوات ناسفة.
ما زال من المبكر القول أن الوضع سيستمر على ما هو عليه في الضفة أو سيعود تدريجيًا إلى الهدوء، وفي ظل وجود كافة الأسباب لاستمراره تكون الأمور معلقة على عاتق المقاومة وبالتحديد حركة حماس من أجل استغلال الموجة والمحافظة على مستوى مقبول من المقاومة في الضفة.
الأداء المقاوم على مستوى المناطق:
سنجد تفاوتًا كبيرًا في الأداء المقاوم على مستوى المناطق ونستطيع أن نلحظ تقدمًا لمدينة القدس، تليها ضواحي القدس والخليل ورام الله وبيت لحم، ثم نرى في المستوى الأخير ضعفًا ملحوظًا للعمل المقاوم في محافظات شمال الضفة (استطاعت نابلس التعويض من خلال عمليات نوعية)، وهذه ظاهرة بحاجة لدراسة وفهم.
فعلى سبيل المثال هنالك تقارب بعدد السكان بين محافظتي جنين ورام الله لكن نجد أن نقاط المواجهة في رام الله بلغ 111 مقابل 21 فقط في جنين، وأيضًا ينطبق الأمر على بيت لحم وطولكرم تقارب في التعداد السكاني لكن تفاوت كبير في نقاط المواجهة (76 في بيت لحم مقابل 12 فقط في طولكرم)، وأدرك أن الإعلام لا يغطي كل شيء لكن حجم الفرق سواء كمًا أو نوعًا (عدد الإصابات في صفوف الاحتلال مثلًا) كبير لدرجة لا يمكن أن نعزوها لضعف التغطية الإعلامية.
وإذا اعتبرنا أماكن التواجد الصهيوني (أو ما نسميه نقاط الاحتكاك) هي الهدف الأول المفترض للمقاومة في الضفة (ولذا لست مع خيار العمليات الاستشهادية داخل فلسطين المحتلة عام 1948م في هذه المرحلة، لأن الأولى أن تنظف ساحتك الخلفية من المحتلين الصهاينة قبل أن تغزوهم في عقر دارهم)، فسنجد أن بعض مناطق الاحتكاك كانت مشتعلة قبل الحرب وبعدها، وبعض المناطق اشتعلت خلال الحرب، فيما هنالك مناطق كانت هادئة قبل وبعد الحرب.
لو ابتدأنا من جنوب الضفة فهنالك محور تجمع مستوطنات عصيون وطريق رقم ستين، ويشمل قرى غرب وشرق بيت لحم وقرى شرق الخليل، فقد كان هذا المحور مشتعلًا وبالأخص بعد المقاومة الشعبية.
بينما نجد طريق رقم ستين في منطقة شرق رام الله أكثر هدوءًا باستثناء قرى سلواد وسنجل وترمسعيا (وثلاثتها معاقل لحركة حماس)، وفي المقابل نجد قرى غرب رام الله (حيث جدار الفصل العنصري) مشتعلة على عكس قرى غرب الخليل (باستثناء دورا)، والحقيقة لو أخذنا مسار جدار الفصل العنصري كنقاط احتكاك سنجده غير مستغل جيدًا، باستنثاء محافظة رام الله وضواحي القدس، وبعض الاستثناءات مثل مخيم عايدة في بيت لحم ويعبد في جنين.
ولو انتقلنا إلى مدينة القدس فنجد أنها الأكثر اشتعالًا ومنذ بضعة سنوات، وإن كان بعض الأحياء أداءها افضل من غيرها وبالأخص أحياء وسط وشرق المدينة (البلدة القديمة، وسلوان وراس العامود والعيسوية والطور والصوانة).
ولو انتقلنا إلى محافظة سلفيت وهي الأكثر ابتلاءً بالمستوطنات وخصوصًا المنتشرة على خط عابر السامرة (ابتداء من حاجز زعترة في الشرق وانتهاءً بجدار الفصل بالغرب) سنجد عبء المقاومة فيها على قريتين أو ثلاث تقريبًا طوال الحرب (دير استيا وقراوة بني حسان وإلى حد ما كفر الديك)، بينما كان أداء باقي القرى متواضعًا.
أما في الحزام الممتد جنوب نابلس من مستوطنات رحاليم وألون موريه وايتمار في الشرق إلى قدوميم في الغرب مرورًا بيتسهار وبراخا، سنجد أداءً مميزًا للمقاومة ليس بشكلها الشعبي (حجارة وحارقات) فحسب بل أيضًا بعملياتها المسلحة من إطلاق نار وعبوات ناسفة، ولو استنسخت هذه التجربة إلى باقي مناطق الاحتكاك في الضفة فسيشعر الجميع بمقاومة الضفة وأثرها.
وهنالك في غور الأردن والطريق رقم تسعين تواجد استيطاني وعسكري كثيف لكن لا توجد كثافة سكانية فلسطينية يعول عليها، رغم ذلك كان هنالك مواجهات في منطقة النويعمة والعوجا شمال أريحا وعقبة جبر جنوب أريحا، ولا أرى أن محافظة أريحا قادرة على أن تقدم أكثر من ذلك.
تفسير الإحصائيات والأرقام:
ما سبب التفاوت في الأداء بين منطقة وأخرى؟ ولماذا هنالك نقاط احتكاك دائمة الاشتعال وأخرى تشتعل بشكل موسمي ونقاط هادئة طوال الوقت؟
أولًا: المناطق التي تحتوي على نقاط احتكاك أكثر مرشحة لأن تكون مشتعلة أكثر من غيرها، وهذا واضح للغاية في مدينة القدس التي توجد فيها نقاط احتكاك أكثر بكثير من باقي مناطق الضفة.
مع ذلك نجد في بعض المناطق قد أوجد الشبان فيها نقاط احتكاك، مثل حاجز بيت فوريك وهو حاجز شبه مهجور ولا يتواجد عليه جيش الاحتلال عادةً، فكانوا يتوجهون إليه ويأتي جيش الاحتلال "ليحميه".
ثانيًا: المناطق التي فيها ثقل لحماس أو للجبهة الشعبية واليسار أو كليهما كانت الأكثر اشتعالًا، مثل مدينة القدس وضواحي القدس والخليل وكلها معاقل قوية لحماس، وبيت لحم فيها تواجد قوي لحماس بالإضافة لكونها معقلًا لليسار، ومحافظة رام الله حيث لحماس وجود قوي في ريفها ولليسار وجود قوي مع حماس في المدينة.
ونفس الشيء ينطبق على قريتي قراوة بني حسان ودير استيا في سلفيت وقرية يعبد في جنين، بينما شمال الضفة يعتبر تاريخيًا من معاقل حركة فتح وبالأخص محافظة جنين، وهذا يفسر ولو جزئيًا فتور الرغبة في مواجهة الاحتلال في هذه المناطق، وإن كان التعاطف الشعبي مع غزة عارمًا مثل باقي مناطق الضفة.
طبعًا هنالك استثناءات لمناطق مشتعلة وتعتبر معاقل لحركة فتح مثل كفر قدوم وعزون بمحافظة قلقيلية، وإنما ما تكلمت عنه هو النسق العام وليس قاعدة دائمة.
ثالثًا: التنسيق الأمني ونشاط الأجهزة الأمنية والتي لم تتوقف عن مهمتها بملاحقة العمل المقاوم، وتأثيرها الواضح نجده في قلة العمليات المسلحة، ومحاولتها أكثر من مرة منع المسيرات من التوجه إلى نقاط الاحتكاك مع الاحتلال، إلا أن إصرار المتظاهرين كان يدفعهم للصدام معها في كل مرة تقريبًا، وغالبًا ما كان ينتهي المشهد بانسحاب هذه الأجهزة.
نجد أن ضعف وجود هذه الأجهزة في مدينة القدس وضواحيها أعطى المقاومة زخمًا لا بأس به، لكن يجب أن لا نبالغ أو نقلل من أهمية دور هذه الأجهزة، فهي لم تستطع الوقوف بوجه الجماهير وبنفس الوقت هي عبء واضح على الحراك الشعبي، ومانع لقسم من عمليات المقاومة لكن ليس جمعيها.
رابعًا: المستوى الاقتصادي وما يسمى "الرفاهية" (وهنا أسجل اعتراضي على هذا الوصف في الضفة لأنه يعطي انطباعًا مضللًا وكأن الضفة هي سويسرا، فهي رفاهية الفقراء، تقارن فقير بفقير فتسمي الأقل فقرًا بأنه مرفه)، وبلا شك أن الحياة الاقتصادي الجيدة لا تغري صاحبها بالإنخراط في عمل مقاوم قد يضيع عليه مكاسبه المادية.
وهذا نلحظه في الانخراط النشط للمخيمات بالحراك القائم كونها "أقل رفاهية"، رغم أن هذا الانخراط يفسره أيضًا انتشار ثقافة المقاومة في المخيم وحفاظه عليها طوال السنوات الماضية، وكالعادة هنالك استثناءات فوجدنا انخراطًا ضعيفًا لمخيم جنين في موجة المقاومة خلال حرب غزة وبعدها.
وأيضًا لدينا محافظة رام الله وهي تعتبر من أفضل المحافظات دخلًا وأكثرها "رفاهية" كانت منخرطة بشكل نشط في العمل المقاوم خلال حرب غزة، وفي المقابل هنالك المناطق الأكثر فقرًا حيث لا يتاح للناس التفكير بأكثر من السعي وراء لقمة عيشهم كانت هادئة مثل الأغوار والتجمعات البدوية جنوبي الخليل.
خامسًا: تلعب عملية تبادل الخبرات وانتقالها دورًا هامًا في تنشيط العمل المقاوم، فنجد تجربة بلعين في مقاومة الجدار قد انتقلت إلى محيطها القريب الذي لم يكتف بمقاومتها السلمية بل طورها إلى مقاومة شعبية عنيفة، بينما نجد ثقافة مقاومة الجدار غير منتشرة على نطاق واسع في باقي المناطق، وفي رأيي أن هذا يعود لعدم وجود مبادرة ذاتية ولعدم نقل الخبرة بكل بساطة.
بكلام آخر تحتاج المناطق الأخرى لحملات توعية وربما تواصل مع اللجان الشعبية ذات الخبرة، من أجل تشجيعها على الإنخراط في هذا العمل، وتزويدهم بأفكار خلاقة وآليات تطبيقها، مثل تخريب جدار الفصل أو إحراق الأبراج وغير ذلك.
*قطع الكهرباء عن مستوطنات غرب رام الله أحد الأفكار الإبداعية:
سادسًا: عامل الوقت لعب دورًا هامًا وضاغطًا، فأي حراك جماهيري وشعبي يحتاج لوقت حتى ينتظم ويأخذ أشكالًا أكثر ديمومة وفعالية، وانتقال الحراك الشعبي في الضفة من مجرد ردة فعل إلى عمل مؤسسي ومنظم يحتاج لأكثر من خمسين يومًا، وبالفعل بدأنا نرى ازدياد العمليات الأكثر تطورًا في الفترة الأخيرة (الزجاجات الحارقة والعبوات) مقابل انخفاض المواجهات المباشرة التي تحركها العاطفة.
سابعًا: يحتاج الحراك في الضفة إلى الوقت لكي ينتظم ويتطور، لكن أيضًا يحتاج إلى حاضنة شعبية وهي متوفرة الآن لكن قد لا تكون متوفرة في المستقبل، وكذلك يحتاج إلى إطار فكري وحزبي يؤصل له ويوجهه ويحتضنه (ولو معنويًا)، وهنا يأتي دور حركة حماس التي إن لم تستغل الفرصة فسيعود الوضع ليرتكس في الضفة.
ثامنًا: هنالك استنزاف لبعض المناطق بالاعتقالات قد يؤدي لهدوئها لفترة من الزمن، وهذا أمر متوقع في ظل منظومة أمنية احتلالية محكمة.
المقاومة السلمية في الضفة ما دورها:
ربما يستهين البعض بدور المقاومة السلمية ويعتبرها عديمة الفائدة وهذا غير صحيح لكن المشكلة تكون عند الاكتفاء بالمقاومة السلمية، وخصوصًا في الحالة الفلسطينية حيث الاحتلال لا يلقي بالًا لوسائل الضغط الناعمة.
لعب الرأي العام في الضفة الغربية (سواء بالإعلام أو المسيرات أو الأحاديث الخاصة) دورًا هامًا في الضغط على قيادة فتح والسلطة، وكان ضغط الرأي العام قويًا لدرجة أنه أحدث تحولًا كاملًا في خطاب السلطة التي فضلت مجاراة المزاج الشعبي بعد أن اظهرت المقاومة صمودها في غزة.
لكنه كان تحولًا في الخطاب الإعلامي وتحولًا مؤقتًا انتهى مع نهاية الحرب كما نلحظ في تصريحات عباس الأخيرة، فهو تحول تحت تأثير الرأي العام.
كما أن المقاومة السلمية المتمثلة بجمع التبرعات أو المقاطعة الاقتصادية لبضائع الاحتلال، دور بسيط في إضعاف اقتصاد الاحتلال وإسناد المجتمع الفلسطيني في غزة، الأثر بسيط لكنه أفضل من لا شيء، والعمل المقاوم هو عمل تراكمي وليس خطوة واحدة.
وبالإضافة إلى إيصال رسائل إلى الاحتلال الصهيوني والرأي العام العالمي بأن الوضع في الضفة يتجه نحو التصعيد ما لم يتوقف العدوان على غزة، فإن للمسيرات دور آخر لا يقل إهمية وهو الدور التعبوي.
والدور التعبوي يعمل على المدى البعيد من خلال نشر ثقافة المقاومة وتهيئة الحاضنة الشعبية للعمل المقاوم، وأيضًا يعمل على الصعيد اللحظي والآني من خلال إيجاد خلفية دافعة لمواجهة الاحتلال، فأغلب المسيرات كانت تتوجه نحو نقاط الاحتكاك مع الاحتلال، حتى لو لم يكن مخطط لها أن تذهب إليها، ولنتذكر هنا أن سيكولوجيا الجماهير وتوجيه الجموع عملية معقدة للغاية ويجب فيها التدرج، فهي ليست جيوش تتحرك بأمر من القائد الأعلى.
ولعل في مقاطع الفيديو الآتية من الخليل ورام الله، في الليالي التي تلت مجزرة الشجاعية والتي أعلن فيها عن خطف الجندي أرون، نرى تسلسل الأحداث: احتفالات بخطف الجندي ومسيرة سلمية تنديدًا بالعنوان، ثم مسيرة تتوجه نحو نقاط الاحتكاك، يليها صدام مع الأجهزة الأمنية وتنتهي بصدام مع الاحتلال.
رام الله مسيرة:
http://www.youtube.com/watch?v=tzIotCS24P4
رام الله الاحتفال بأسر أرون:
https://www.youtube.com/watch?v=50Wl...ature=youtu.be
رام الله الصدام مع السلطة
http://www.youtube.com/watch?v=OMQiYIL_x6Q
رام الله مواجهات مع الاحتلال
الاحتفال في الخليل
http://www.youtube.com/watch?v=94NUqqbylAA
مسيرة الخليل
http://www.youtube.com/watch?v=cOthToa63ZU
مواجهات في الخليل
http://www.youtube.com/watch?v=KjMngkaZz20
كان هذا استعراض بشكل مجمل للمقاومة السلمية في الضفة خلال الحرب، لم أجر إحصائيات حول عدد المسيرات أو ما تم جمعه من تبرعات أو نتائج حملة المقاطعة، لكن لن تجد مراقب ينفي أن حجم ما جمع من تبرعات أو حجم المقاطعة للسلع الصهيونية هو غير مسبوق على الإطلاق.
أما المسيرات السلمية فربما أن عدد المشاركين فيها لم يصل إلى عدد المشاركين في مسيرات انتفاضة الأقصى، لأسباب عديدة ذكرنا بعضها عند الحديث عن معوقات العمل المقاوم، وبالإضافة لها هنالك عدم اقتناع بجدوى هذه المسيرات وهذا يدفع الكثير لعدم المشاركة فيها، رغم أنها كما بينت لها فائدة لكن الخطأ كل الخطأ أن نقف على أحد طرفي نقيض: من لا يرى فيها فائدة ويقاطعها لذلك، ومن يراها كل شيء ويريد الاكتفاء بها.
في الختام:
نجد أن العمل المقاوم في الضفة يسير بمنحنى تصاعدي منذ حرب حجارة السجيل عام 2012م، وأنه ارتفع بمقدار 70% خلال الحرب الأخيرة (العصف المأكول)، ولحد الآن هو يدور بين المقاومة الشعبية وما أسميه العمليات الشعبية، لكن ما زال العمل المسلح محدودًا ولم نلمس فيه قفزات.
كان بالإمكان أن يكون الحراك أكثر قوة لو كان هنالك قرار على المستوى القيادي في حركة فتح بالإنخراط في الحراك الشعبي، ولو أوقفت الأجهزة الأمنية تنسيقها مع الاحتلال خلال فترة الحرب.
وهنالك مناطق مختلفة في الضفة أبدت ضعفًا بالتجاوب ويجب البحث في كل منها عن الأسباب وعن وسائل تنشيطها ونقل الخبرات والأفكار الإبداعية عبر المناطق، كما أن هنالك زخم لا بأس به للمقاومة في الضفة يجب استغلاله والإبقاء على حد أدنى من حالة المواجهة مع الاحتلال حتى تحين اللحظة المناسبة للتصعيد ضده.
وأخيرًا نشير إلى ضرورة تبني المقاومة (خاصة حماس) هذا الحراك واحتضانه ولو معنويًا حتى يتطور ويصبح أكثر تنظيمًا وأقدر على الاستمرار، فلو كان حجم التفاعل خلال الحرب أعنف وأقوى لتمكنت المقاومة من انتزاع إنجازات أكبر وأهم أو إيقاف العدوان في وقت أبكر.
تعليق