إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الناصريون وتأميم قناة السويس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الناصريون وتأميم قناة السويس

    الناصريون وتأميم قناة السويس .. فصل من كتاب يؤرخ للحقبة الناصرية بعنوان (أوهام الزعامة والناصريون الجدد), وفيه يحاول الكاتب كشف الستر عن أحداث كان لها أكبرالأثر في الحال التي أصبحت عليها مصر, بل مصر والعالم العربي بعد حكم عبد الناصر الذي استمر لنحو ستة عشر عاما, وفي هذا الفصل يوضح الكاتب حقيقة ما جرى وأدى إلى أن يتخذ عبد الناصر قراره بتأميم قناة السويس, دون أن تكون لديه القوة التي تقوم على تنفيذه, فأدى ذلك إلى نتيجة بالغة الأهمية نكشف عنها في الفصل التالي وهو بعنوان حرب السويس, وسوف أقوم بنشر فصول الكتاب تباعا على هذا المنتدى إن شاء الله متمنيا أن ينال اهتمام القائمين على المنتدى, وكل الذين يهمهم أمر القضية الفلسطينية وما آلت إليه بعد هذه السنين.

    مقدمة
    قلنا إن الناصرية حركة منسوبة إلى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر, وكأن أول من أطلق لفظ الناصرية هو الكاتب محمد حسنين هيكل في مقال له في جريدة الأهرام بتاريخ 14/1/1972, وذلك إمعانا في تضليل الشعب المصري, وكأن هذا الكاتب صعب عليه أن يتخلص هذا الشعب من براثن عبد الناصر وقيةده وظلمه بموته, فأراد أن ينشر فكره والمنهج الذي اتبعه في الحكم فيما أسماه بالناصرية, وجاء من بعده كمال رفعت وأصدر في عام 1976م كتيباً بعنوان ناصريون ذكر فيه مبادئ الناصرية وأهدافها, وهكذا نشأت هذه الحركة التي وجدت مرتعا خصبا بين طوائف معينة من الشعب المصري, ومن اشتغلوا بالإعلام منهم صنعوا من عبد الناصر صنما يعبد, وجعلوا له منهجا في الحكم هو في رأيهم أحرى بالاتباع من أي منهج آخر, حتى لو كان هذا المنهج قائما على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, بل صار من ينادي بالرجوع إلى شريعة الإسلام في الحكم عدوا لهم, تجب مقاتلته وعزله عن الحياة السياسية, و إبان حكم الرئيس الراحل أنور السادات, عانى الناصريون من بعض التضييق على تطلعاتهم ولكنهم عادوا فوجدوا مرتعا خصبا لهم ولأفكارهم وتطلعاتهم في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك, الذي ترك لهم الحبل على الغارب كما يقولون, في الوقت الذي أمعن فيه في التضييق على الإسلاميين فلم يترك لهم مساحة يتحركون فيها إلا أن يكونوا مراقبين, وبعد مرور عدة أعوام على وفاة عبد الناصر وحدوث الكثير من التغيرات على الساحة السياسية والاجتماعية وجد القائمون على أمر (الناصرية) أن نجمها قد بدأ في الأفول وأن ذكرى عبد الناصر قد بدأت في الاختفاء, فأرادوا إيقاظ فكرة الناصرية من جديد, واهتدوا إلى أن إنتاج فيلم عن عبد الناصر ربما يعيدها إلى الأذهان مرة أخرى, وبدأت عملية البحث عن موضوع يصلح لتقديم عبد الناصر من جديد, فهل يكون موضوع الفيلم الانقلاب العسكري الذي أطاح بالنظام الملكي مثلا؟ كلا لأن الذي قاد الانقلاب هو الصاغ يوسف صديق, والعقيد أحمد شوقي, ودور عبد الناصر في الانقلاب وكذلك بعد الانقلاب لا يكاد يذكر, فقد كان أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة الذي يرأسه اللواء محمد نجيب, ثم تولى منصب وزير الداخلية في حكومة محمد نجيب, ثم منصب نائب رئيس الوزراء إلى أن دب الخلاف بينه وبين محمد نجيب وبدأ الصراع على السلطة, من أفعال تنم عن وضاعة أخلاقه وولعه الشديد بالسلطة دون النظر إلى أية اعتبارات أخرى, إلا إذا أتى القائمون على إنتاج الفيلم بسيناريو يجمل صورة عبد الناصر في تلك الفترة, وحينذاك سيكون الكذب والافتئات على الحقيقة من السمات الغالبة على السيناريو, وربما يسيء الفيلم لعبد الناصر أكثر مما يجمل صورته, لذا تركز التفكير بعد البحث والتنقيب في كل الأحداث التي وقعت خلال فترة حكم عبد الناصر على قرار تأميم قناة السويس, فجعلوا منه موضوعا للفيلم المزمع إنتاجه, وجعلوا عنوان الفيلم (ناصر 56), كأنه حلقة من سلسلة أفلام سوف يتم إنتاجها عن عبد الناصر, أو أن القائمين على إنتاج الفيلم رأوا أن ما حدث في ذلك العام هو أهم الأحداث التي وقعت في عهد عبد الناصر المليء بالأحداث الجسيمة وأن قرار تأميم قناة السويس هو أهم قرار اتخذه عبد الناصر. ولا شك في أن تأميم قناة السويس عمل وطني مائة في المائة لا يستطيع أحد أن ينكر هذه الحقيقة, فقناة السويس قناة مصرية مائة بالمائة, حفرها المصريون بسواعدهم في أرض مصرية, فهي حق أصيل للمصريين, انتزعته شركة عالمية طبقا لاتفاقية كان قد تم حفر القناة بموجبها عام 1869, ومعنى تأميم قناة السويس تحويل الشركة من شركة عالمية إلى شركة مساهمة مصرية مقابل تعويضات تمنح للأجانب. نحن إذا أمام حق مغتصب يعود إلى أصحابه, والذي يقوم بهذا العمل يستحق من كل مصري كل تقدير وإجلال, فكيف تم التأميم, وكيف استعادت مصر حقها المغتصب منذ عدة عقود من الزمان؟ لقد تم التأميم بقرار أصدره جمال عبد الناصر بصفته رئيسا للجمهورية عام 1956, وتحديدا في السادس والعشرين من يوليو, ورداً على هذا القرار قررت الحكومة البريطانية تجميد الأرصدة المالية لمصر في بنوك إنجلترا في أعقاب تأميم القناة, على اعتبار أنها إحدى الدول المتضررة من القرار, هنا تبرز عدة أسئلة تفرض نفسها على مجريات الأحداث وهي: إلام استند عبد الناصر حين أصدر هذا القرار؟ هل استند إلى قوة تحمي قراره؟ ومتى كان الحق المغتصب يسترد بقرار لا يستند إلى قوة تحميه؟ وهل وضع عبد الناصر في الحسبان احتمال قيام الدول المتضررة أو إحداها بالاعتداء على مصر؟ هل كانت لديه القوة العسكرية التي يدافع بها عن القناة إذا ما ارتأت هذه الدول المتضررة من قرار التأميم استعادة القناة بالقوة العسكرية؟ نترك الآن الإجابة عن هذه الأسئلة ونحاول الإجابة عن أسئلة أخرى تفرض نفسها على الأحداث؛ هل اتخذ عبد الناصر قرار تأميم قناة السويس بعد الرجوع إلى ممثلي الشعب على اعتبار أن هذا القرار يدخل في نطاق الأمن القومي؟ أم اتخذه دون الرجوع إلى أحد؟ وهل مثل ولو ذكرت تفاصيل هذا الصراع في الفيلم لوصم عبد الناصر بأحط الصفات وأحقرها لما قام به هذا القرار من الممكن أن يتخذه فرد حتى لو كان رئيسا للجمهورية؟ ثم إن هناك سؤالا لابد من طرحه, وهو هل قام عبد الناصر بتأمين حدود البلاد حتى إذا وقع اعتداء على البلاد, كانت حدودها مؤمّنة؟ خصوصا أن عدوا شرسا يرابط على الحدود الشرقية, وقد تكررت اعتداءاته على القوات المصري كم سنرى بعد حين, كل هذه الأسئلة تبحث عن إجابات بعدما تكشفت الحقائق, وظهر للقاصي والداني ما وصلت إليه مصر بعد ستة عشر عاما من حكمٍ لا يستشار فيه أحد, ولا يسمح فيه برأي آخر, وتتخذ القرارات المصيرية التي تعرض البلاد للنكبات والحروب, دون أن يكون لأحد رأي في هذه القرارات على خطرها, وعظم نتائجها.
    إسرائيل العدو المرابط على الحدود الشرقية:
    كانت نكبة عام 1948, وهزيمة الجيش في فلسطين من الأسباب الرئيسة لتكوين تنظيم الضباط الأحرار, كما يقول عبد اللطيف بغدادي في مذكراته وكما يؤكد محمد نجيب في كتابه (كنت رئيسا لمصر), فقد كانت هزيمة الجيش في فلسطين أهم أسباب انضمام محمد نجيب إلى تنظيم الضباط الأحرار ليكون قائده الذي عليه أن يخلص البلاد من الفساد المستشري فيها, ذلك لأنه رأى أن تحرير فلسطين يبدأ بتحرير مصر أولا, يقول محمد نجيب:"في فلسطين اكتشفت أن العدو الرئيسي لنا ليس اليهود, وإنما الفساد الذي ينخر كالسوس في مصر, والذي يتمثل في الملك وكبار القواد والحاشية والإقطاع وباقي عناصر النظام ودعائمه في مصر. وكنت أول من قال إن المعركة الحقيقية في مصر وليست في فلسطين, وهي العبارة التي نسبها عبد الناصر لنفسه بعد ذلك.", أما وقد سقطت هذه العبارة وسط الصراع على السلطة الذي بدأ بمجرد أن استتب الأمر للضباط الأحرار على نحو ما رأينا آنفا, فلم يعد يهم إن كان قائلها عبد الناصر أو محمد نجيب. ففي 28 أغسطس عام 1953, قامت إسرائيل بغارة على غزة هاجمت فيها معسكرا للاجئين الفلسطينيين قتل فيها عشرون لاجئا فلسطينيا أغلبهم من النساء والأطفال, وبالطبع لم تحرك السلطات المصرية ساكنا إزاء هذا الهجوم علما بأن غزة كانت تحت الإدارة المصرية في ذلك الوقت, ولكن انشغال الحكام في مصر بالصراع على السلطة صرف انتباههم عن هذه القضية التي قالوا ذات يوم أنها كانت السبب في التفكير في قلب نظام الحكم, يقول بغدادي عن هذه الغارة إنها المرة الأولى التي يهاجم الإسرائيليون معسكرا فلسطينيا بعد قيام الثورة في مصر, ولكنه لم يتحدث عن أي رد قامت به مصر المسؤولة إداريا عن غزة في ذلك الوقت, لأن مصر لم تقم فعلا بأي رد على هذا الهجوم, مما جعل إسرائيل تكرر التجربة بعد إزاحة محمد نجيب عن سدة الحكم, وبعد أن تخلص عبد الناصر كما تصور من الإخوان المسلمين. ففي 28 فبراير عام 1955, قامت إسرائيل بالإغارة على معسكر مصري بالقرب من غزة, يقول عبد اللطيف بغدادي "لم يكن هناك ما يعوق اندفاعنا وانطلاقنا في العمل لخدمة بلادنا بعد تسوية المشكلة مع اللواء أ. ح. محمد نجيب إلا بعض المشاكل الداخلية داخل مجلس قيادة الثورة نفسه, واستمر الحال على هذا المنوال حتى يوم الاثنين 28 فبراير سنة 1955 حين فوجئنا بغارة عسكرية من الجيش الإسرائيلي على معسكر لنا بالقرب من مدينة غزة. وكان الهجوم عليه ليلاً، وبعد عودة بن جوريون إلى الحكم بأيام قلائل فقط. وكان عدد القتلى من جنودنا سبعة وثلاثين جنديًّا في مقابل ثمانية جنود إسرائيليين." أي أن توقيت هذه الغارة كان بعد انفراد عبد الناصر بالحكم بثلاثة أشهر ونصف, فهل بدأ النظام القائم في مصر يعد العدة للتصدي لأية غارات أخرى يمكن أن يقوم بها العدو الإسرائيلي, يقول بغدادي:"ولما كانت تلك الغارة الإسرائيلية قد قام بها الجيش الإسرائيلي نفسه وضد قواتنا النظامية أيضًا فقد جعلتنا نتصور ونعتقد أن الغرض منها هو العمل على إضعاف نظامنا الثوري الوليد, خاصة أنه كان لا يزال في بداية الطريق, وهناك مقاومة داخلية له من الأحزاب السابقة ومن جمعية الإخوان المسلمين ومن الشيوعيين أيضًا. وكذا من الذين أصابهم ضرر من قيام الثورة. وحتى تلك اللحظة لم نكن قد اتجهنا إلى الإنفاق على تسليح جيشنا بالقدر الكافي لبناء جيش حديث قوي. لأن الثورة كانت في حاجة إلى كل الاستثمارات المتاحة لها لإنفاقها على مشروعات إنتاجية وخدمات تعود بالنفع والخير على المواطنين". طبعا عبد اللطيف بغدادي يبالغ بعض الشيء, إذ أنه في ذلك الوقت لم تكن هناك مقاومة تذكر للنظام الثوري الوليد, فلا الأحزاب أصبح لها وجود, ولا الإخوان المسلمون أصبحوا قادرين عن أن يفصحوا عن هويتهم الدينية بعد أن امتلأت بهم المعتقلات والسجون, وباتوا نهبا لأدوات التعذيب التي تم جلبها خصيصا من أجلهم, وقد أفصح بغدادي عن أن كل ما يهمه وبالطبع كل ما يهم النظام القائم برئاسة عبد الناصر أن العدو الإسرائيلي إنما يهدف إلى إضعاف النظام الثوري الوليد. أي لا يهمه أن يموت من الجنود من يموت, أو أن تنتهك السيادة المصرية, ولكن المهم هو النظام الثوري الوليد, يقول بغدادي:" وكان هذا الهجوم الإسرائيلي مؤشرًا لنا وعلامة هامة بضرورة إعادة النظر في موقفنا والعمل على تسليح جيشنا وإعداده بالقدر الكافي للتصدي لمثل هذه الهجمات وإلا اهتز موقف الثورة أمام الجيش والشعب معًا. والثورة كانت معتمدة أساسًا في خلال تلك الفترة على مساندة الجيش لها وحمايتها من أعدائها.", أعتقد أننا أمام تفكير سليم من الناحية النظرية, وإن كان الهدف هو العمل على عدم اهتزاز موقف النظام الحاكم أمام الشعب والجيش, وليس على حماية السيادة الوطنية ضد أي انتهاك أو اعتداء, ولكن الرجل يفصح عن تفكير النظام الحاكم وقتئذ, إذ أنه بالفعل كان لا يهتم إلا بالمحافظة على صورته وهيبته في نظر الشعب والجيش, ذلك لأن تسلسل الأحداث على صعيد الصراع العربي الإسرائيلي يقطع بأن وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين لم يكن يمثل أهمية تذكر لدى عبد الناصر ونظامه الثوري الوليد, كما سيتضح لنا بعد ذلك.
    صفقة السلاح:
    يقول بغدادي في مذكراته إنه خوفا على صورة النظام الثوري الوليد من أن تهتز أمام الشعب والجيش فقد اتجه النظام إلى إعادة تسليح الجيش من أجل التصدي لأية اعتداءات تقوم بها إسرائيل على معسكراتنا, ثم يبدأ في سرد قصة صفقة السلاح التي تم استيرادها من روسيا, ليكشف وهو لا يدري عن هيمنة أمريكا على القرار المصري آنذاك, والعلاقة الوطيدة التي كانت تربط بين نظام عبد الناصر (الثوري) والإدارة الأمريكية,
    إن من يسمون أنفسهم بالناصريين يعدون نجاح عبد الناصر في إبرام هذه الصفقة مع روسيا نصرا كبيرا للإرادة المصرية, وتحررا من التبعية الأجنبية, وجعلوا منها نصرا لا يقل عن أي نصر يتحقق في ميادين القتال, وطلع زعيمهم يقول: "إن أحدا لا يستطيع أن يفرض علينا إرادته", وهو في الحقيقة لم يتحرر لحظة من التبعية الأمريكية, ولكن من الأسس التي قامت عليها (الناصرية) أن تقول ما تفعل وتفعل عكس ما تقول, وسوف نقف على هذه الحقائق من خلال قصة صفقة السلاح, ومن خلال أحداث كثيرة وقعت في العهد الناصري, يقول بغدادي: "ولقد دفعتنا حاجتنا إلى السلاح إلى الالتجاء إلى الاتحاد السوفيتي للحصول منه على احتياجات جيشنا وذلك بعد أن تعذر علينا الحصول عليه من الدول الغربية الموردة له. يتبين من هذا أن تلك الغارة حدثت في وقت كانت الثورة تواجه فيه مشاكل متعددة داخلية وخارجية منها: الصراع مع محمد نجيب ومع الإخوان المسلمين، والضغط المتزايد علينا من دول الغرب لقيام حلف بغداد ومحاولة إشراكنا فيه مع العراق وتركيا. وكان وراء هذا الضغط كل من بريطانيا والولايات المتحدة. ولم نكن على استعداد للمشاركة في هذا الحلف بعد أن تخلصنا من الاحتلال البريطاني، بل وكنا ضد قيام مثل هذه الأحلاف العسكرية في المنطقة". يكرر بغدادي ادعاءه بأنه وقت حدوث الغارة كان هناك صراع مع محمد نجيب عل السلطة وصراع مع الإخوان المسلمين, وقلنا إن هذا كذب صراح لأن نجيب غُيّب بتاريخ 14 نوفمبر 1954, ووضع تحت الإقامة الجبرية, وبدأت منذ ذلك التاريخ عمليات شطب اسمه من سجلات التاريخ, ومحوه من ذاكرة الناس بأساليب أقل ما توصف به أنها أساليب وضيعة, أما الإخوان المسلمون فقد كان الآلاف منهم في المعتقلات يتعرضون لأشد أنواع التعذيب التي لم يسمع بها بشر من قبل, ومن بقي منهم حرا كان لا يجرؤ على مجرد كشف هويته الدينية مخافة أن يؤخذ إلى حيث لا عودة مع من سبقوه. فأي صراع يتحدث عنه بغدادي؟!, أما الضغط الخارجي نتيجة رفض مصر الانضمام إلى حلف بغداد ربما يكون صحيحا, ولكن في رأيي أن حرص الغرب على تفوق إسرائيل من الناحية العسكرية على كل جيرانها من العرب وبخاصة مصر هو السبب الحقيقي لإحجام كل من الولايات المتحدة وبريطانيا على إمداد مصر بالسلاح, وحتى الاتحاد السوفيتي لم يكن أقل حرصا من دول الغرب على التفوق العسكري الإسرائيلي, ولكن المسألة لا تعدو أن تكون لعبة سياسية الغرض منها أن تظل إسرائيل آمنة ضد أي خطر يتهددها, وهذا ما سوف يتبين لنا من خلال سرد قصة صفقة السلاح التي مازال الناصريون الجدد يتغنون بها إلى الآن. يقول بغدادي: " وكان الاتفاق بين بينا وبين الاتحاد السوفيتي على شراء ما يلزمنا من أسلحة منهم قد تم, وجاءت موافقتهم على ذلك في شهر يونيو 1955. وكان جمال عبد الناصر قد تحدث إلى رئيس وزراء الصين "شواين لاي" أثناء مؤتمر باندونج في أبريل 1955 حول شراء ما يلزمنا من سلاح من الصين. ولكن "شواين لاي" أبدى عدم قدرة بلاده على توفير احتياجاتنا من الأسلحة ووعد بالعمل على الاتصال بالروس في هذا الخصوص. كما وأن صلاح سالم كان قد سبق وطلب من السفير الروسي بالقاهرة نفس الطلب", أريد أن أنبه على أهمية التواريخ الواردة في هذه القصة, فحديث عبد الناصر عن الصفقة مع رئيس وزراء الصين كان في أبريل 1955, وموافقة الاتحاد السوفيتي كانت في يونيو 1955, يقول بغدادي: "ولم نشأ اتخاذ خطوات عقد اتفاق مع روسيا بعد تلك الموافقة إلا بعد بذل محاولة أخرى مع الولايات المتحدة لشراء ما نحتاج إليه من سلاح منها, وقام عبد الناصر بإبلاغ سفيرها في القاهرة (هنري بايورد) في يونيو 1955, بوجود عرض من روسيا لبيع سلاح لنا، وعلى أننا سنضطر لقبوله إن لم نتمكن من الحصول على احتياجاتنا من السلاح من الولايات المتحدة. ولكن حكومة أمريكا ظلت على موقفها وعدم موافقتها على بيع سلاح لمصر." أي أنه بعد موافقة روسيا عاد عبد الناصر ليخبر أمريكا أنه سوف يكون مضطرا لشراء ما يحتاجه من سلاح من روسيا. فما هو دخل أمريكا في صفقة تعقد مع روسيا, هل لابد من موافقة أمريكا على الصفقة؟ ألسنا أمام نوع من التبعية ونوع من الهيمنة الأمريكية على القرار المصري, على العموم قد لا يكون الأمر كذلك, وهذا من بنات أفكارنا, أو أنه سوء نية بمتخذي القرار في مصر. ما علينا..! يقول بغدادي:" ولما كنا في حاجة ملحة وشديدة إلى تسليح جيشنا لذا لم نجد بدًا من الاتفاق مع روسيا. واتخذت الخطوات الضرورية لإتمام الاتفاق معها. وأوفدنا بعثة عسكرية إلى تشيكوسلوفاكيا لهذا الغرض في أغسطس سنة 1955, وكانت تلك البعثة مكونة من الأميرالاي حافظ إسماعيل، وقائد الجناح محمد شوكت والصاغ عباس رضوان. وعلى ما يظهر أن خبر عقد اتفاق هذه الصفقة مع روسيا كانت قد تسرب إلى الولايات المتحدة لأن "مستر دالاس" وزير خارجيتها صرح في مؤتمر صحفي عقده في نهاية شهر أغسطس 1955, أن لديه معلومات وثيقة وأكيدة على أن روسيا قد عرضت بيع أسلحة على بعض الدول بالشرق الأوسط. وأن هذا العمل من جانب روسيا لا يساعد على تخفيف حدة التوتر الدولي.", نعود إلى التسلسل التاريخي لأحداث الصفقة؛ موافقة الاتحاد السوفيتي كانت في يونيو 1955, والبعثة العسكرية المنوط بها إتمام الصفقة وصلت إلى تشيكوسلوفاكيا لهذا الغرض في أغسطس, ووزير خارجية أمريكا يصرح أن لديه معلومات عن الصفقة في نهاية أغسطس, طبعا حينما تكون الإرادة حرة, لا يهم أن تعلم أمريكا أن صفقة سلاح تعقد بين مصر والإتحاد السوفيتي أو لا تعلم, فهذا قرار مصري لا هيمنة لأحد عليه, ولكن أن يسجل بغدادي في مذكراته أن دالاس علم بوجود هذه الصفقة فهذا يعني أن الأمر ليس هينا, وأن ما صرح به دالاس أحدث ارتباكا بشكل أو بآخر في الموقف المصري, ما علينا ربما لا يكون الأمر كذلك وقد أشار إليه بغدادي من باب حرصه على أن تكون الصورة مكتملة لدى القارئ, ولكن إذا وضعنا هذا الخبر إلى جانب حرص عبد الناصر على إبلاغ سفير أمريكا بالقاهرة أن هناك عرضا من روسيا لبيع سلاح لنا، فسنجد أنفسنا أمام قرار مصري يأخذ طريقه بحذر لإتمام صفقة سلاح بعيدا عن الولايات المتحدة, ومع هذا علينا أن نتجاوز هذه النقطة لنرى ماذا تم في شأن الصفقة, يقول بغدادي: "وفي 31 أغسطس 1955 قام الجيش الإسرائيلي بمهاجمة مركز البوليس في خان يونس بقطاع غزة كما هاجم مواقع مصرية أخرى. وكان عدد القتلى من جانبنا نتيجة لهذا الهجوم حوالي خمسة وثلاثين قتيلاً وخمسة وعشرين جريحًا", ولم يتحدث بغدادي عن أي رد قامت به مصر لتثأر لهؤلاء القتلى والجرحى على أقل تقدير, ومر الاعتداء كما مرت الاعتداءات السابقة, ليطرح هذا الموقف من قبل عبد الناصر تساؤلات عديدة, عن مدى ارتباط هذا الصمت إزاء الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على قواتنا, بعلاقة عبد الناصر بأمريكا والتي اتضحت بعض ملامحها وهو يخطو الخطوات الأولى لإتمام صفقة السلاح المتفق عليها مع الاتحاد السوفيتي, نأتي إلى ما هو أخطر, يقول عبد اللطيف بغدادي: "وفي يوم 20 سبتمبر سنة 1955 قابل السفير الأمريكي بالقاهرة جمال عبد الناصر وتكلم معه عن تلك الصفقة والتي كان قد تم التعاقد عليها بين تشيكوسلوفاكيا وبيننا. وكانت أمريكا قد أوفدت أيضًا "كيرمنت روزفلت" إلى القاهرة لمقابلة جمال عبد الناصر وليتحدث معه بخصوص هذه الصفقة, وفي نفس اليوم تحركت قوة عسكرية إسرائيلية واحتلت منطقة العوجة المنزوعة السلاح والمتحكمة في عدة طرق وكلها تؤدي إلى داخل الأراضي المصرية. وكان واضحًا أن الولايات المتحدة ستبذل كل جهد ممكن، وتستعمل كل الطرق والوسائل للضغط علينا لإلغاء ذلك العقد الذي كان قد أبرم فعلاً. وكانت أول دفعة من السلاح الذي تم التعاقد عليه ستصلنا في شهر أكتوبر 1955.", هذا تطور آخر في صفقة السلاح والاعتداءات الإسرائيلية؛ عبد الناصر يلتقي بالسفير الأمريكي ليتحدث معه بشأن صفقة السلاح, وأمريكا تبعث بأحد رجالها وهو كيرميت روزفلت إلى القاهرة ليقابل عبد الناصر بهذا الشأن, وكيرميت روزفلت كان يشغل منصب رئيس مكتب المخابرات الأمريكية CIA بالقاهرة, وقد ورد ذكر هذا الاسم في كثير من كتب محمد حسنين هيكل على أنه صديق شخصي له, ثم يتحدث بغدادي في عجالة عن خبر ربما كان عنده خبرا عاديا وهو تقدم القوات الإسرائيلية واحتلال منطقة العوجة المنزوعة السلاح والمتحكمة في عدة طرق وكلها تؤدي إلى داخل الأراضي المصرية. أما ما لم يقله بغدادي إن إسرائيل قتلت عددا من الجنود المصريين وطردت البدو المصريين من هذه المنطقة وأقامت عليها مستوطنة يهودية هي مستوطنة نتساريم, وهي موجودة إلى الآن, ولم يتحدث بغدادي عن أي رد عسكري قامت به مصر إزاء التحرك العسكري الإسرائيلي, وإنما أورد الخبر كأن شيئا لم يحدث فالأهم عنده هو لقاء عبد الناصر بالسفير الأمريكي ووصول المبعوث الأمريكي كيرميت روزفلت إلى القاهرة. يقول بغدادي: "وكان جمال عبد الناصر قد اجتمع بـكيرمنت روزفلت يوم الأحد 25 سبتمبر، واجتمع مجلس قيادة الثورة في اليوم التالي لمعرفة الحديث الذي دار بينهما في هذه المقابلة. وكان جمال عبد الناصر قد طلب من محمد حسنين هيكل المحرر بجريدة أخبار اليوم أن يتقابل مع كيرمنت قبل أن يلتقي به جمال عسى أن يعرف منه الغرض من تلك المقابلة. ولو بطريق غير مباشر. وذكر جمال أن هيكل أخبره أن كيرمنت في حالة ثورة وعصبية شديدة رغم الهدوء المعروف عنه. وأن ذلك بسبب إتمام تلك الصفقة. وأن كيرمنت يطالب بإلغائها.", طبعا ترتيب الأحداث أن هيكل تقابل مع كيرمنت روزفلت بناء على طلب عبد الناصر "عسى أن يعرف منه الغرض من تلك المقابلة", وهيكل يقوم بالدور المخابراتي المطلوب منه فيلقي الرعب في قلب عبد الناصر قبل أن يلتقي بكيرمنت روزفلت, ويصور له ثورته بسبب إتمام الصفقة ويطالب بإلغائها, أعتقد أن هيكل ليس صحفيا عاديا, وقد أشرنا إلى ذلك من قبل, ويصور هذا الخبر الذي يسوقه عبد اللطيف بغدادي في مذكراته أنه يقوم بدور مخابراتي لمصلحة الولايات المتحدة, يقول بغدادي: "وسرد جمال ما دار من حديث بينه وبين كيرمنت ويقول جمال إنه كان قد صمم على ألا يكون هو البادئ بالحديث حول صفقة الأسلحة وأن يترك كيرمنت ليبدأ هو بالحديث عنها. وبدأت المقابلة ودار الحديث بينهما في موضوعات شتى ولمدة ساعة دون أن يقترب كيرمنت أو جمال من الحديث حول صفقة السلاح. ثم بدأ كيرمنت يتساءل عما إذا كنا فعلاً قد تعاقدنا مع روسيا على شراء أسلحة منها. فأجابه جمال أن التعاقد قد تم منذ أسبوع سابق على هذا اللقاء. وأنه عقد تبادل تجاري بين مصر وتشيكوسلوفاكيا وأنها ستحصل على قطن وأرز كثمن لهذه الأسلحة. فأشار كيرمنت إلى أن هذه الصفقة ستعمل على الإخلال بالتوازن العسكري الموجود بالشرق الأوسط. وأن إتمام هذه العملية تعتبر ضربة قاصمة لمستر دالاس نفسه. وأنه يجب إلغاء تلك الصفقة إنقاذًا لماء وجه مستر دالاس وإلا فإنه سيضطر لاتخاذ إجراء قاس ضد مصر. فاستفسر منه جمال عما يقصده بهذا الذي ذكره. ورد عليه كيرمنت إن الولايات المتحدة ستجد نفسها مضطرة إلى توقيع عقوبات على مصر كقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وعمل حصار اقتصادي عليها. وثار جمال وغضب لهذا القول منه. ورد عليه بقوله: إن مصر ليست خاضعة لأي نفوذ لا لأمريكا ولا لإنجلترا ولا لروسيا ولا للسعودية ولا لأي بلد وأن مصر ترسم سياستها وتحدد علاقتها مع الدول الأخرى حسب ما تقتضيه مصالحها. ومستطردًا ربما تعتقدون أننا سياسيون محترفون ولكننا ثوار. وهذه السياسة منكم ستضطرنا إلى محاربتكم في المنطقة. وأننا سنعلن على العالم العربي والإسلامي ما ذكرته لي الآن، وسنقاتلكم حتى لو اضطررنا إلى النزول تحت الأرض, أي العمل بشكل سري. ولما ذكر له جمال هذا تراجع كيرمنت قائلاً: كلا.. أنا لا أقصد ما فهمته، ولكن مستر دالاس جن جنونه من هذه العملية، وربما تدفعه الظروف إلى هذا التصرف الذي أشرت إليه. خاصة أن موقفكم ضعيف داخليًا. ومجلس الثورة منقسم على نفسه. وأنك مقدر قوتك أكثر من حقيقتها. ولذا فمن الواجب علينا أن نعمل على إنقاذ الموقف وأن تلغى هذه الصفقة؟ ورد عليه عبد الناصر: إننا منذ عامين ونصف العام نحاول أن نحصل منكم على أسلحة ولكن دون فائدة، علمًا بأن إسرائيل في نفس الوقت تحصل منكم على احتياجاتها من السلاح, وأنكم دائمًا تتكلمون عن التوازن العسكري في منطقة الشرق الأوسط رغم أن صحفكم تذكر أن الجيش الإسرائيلي قادر على القضاء على جميع الجيوش العربية. وأن ما لديه من عتاد وأسلحة يفوق ما لدى الدول العربية مجتمعة. كما قال له جمال: إن موقفنا أصبح سيئًا للغاية أمام الجيش والشعب لأن إسرائيل تتحرش بنا كل يوم لعلمها بضعف تسليحنا. ونحن بتسليح جيشنا بهذه الصفقة لا نقصد الاعتدء على إسرائيل، وإنما هدفنا هو أن نكون قادرين على الدفاع عن أنفسنا. وأننا كنا ننتظر منكم مدنا بالسلاح كما تفعلون مع إسرائيل. ولقد لجأنا إليكم عدة مرات وسافرت بعثة عسكرية إلى أمريكا في المرة الأولى ومعها كشف بالأسلحة المطلوبة ولكنها عادت دون أن تحقق شيئًا وفي فبراير 1955, أعدنا الطلب لشراء أسلحة منكم ولكنكم لم تستجيبوا لهذا الطلب أيضًا. وفي يونيو عندما عرضت علينا روسيا موافقتها على بيع أسلحة لنا دون أية ارتباطات سياسية، طلبت سفيركم في القاهرة وأبلغته بهذا الأمر. ولكنه عاد إلي بعد الرجوع إلى حكومتكم وطلب أن نقوم بدفع ثمن هذه الأسلحة التي نطلب شرائها منكم بالدولارات وفورًا. وحدد قيمتها بمبلغ سبعة وعشرين مليون دولار. وكان هذا المبلغ هو كل رصيدنا من تلك العملة. وأنكم تنسون أنكم لو أمددتمونا بالسلاح فإن هذا في حد ذاته سيكون أكبر دعاية لكم داخل جيشنا بصرف النظر عن الكمية.",
    تعليق:
    أردت أن أثبت كل ما جاء في مذكرات بغدادي حول لقاء عبد الناصر برجل المخابرات الأمريكي كيرمنت روزفلت, والواضح أنه حديث ذو شقين؛ الشق الأول ارتفع فيه صوت عبد الناصر مهددا متوعدا الإدارة الأمريكية بأنه سوف يحاربهم حتى لو اضطر إلى النزول تحت الأرض, وأخبره بأن مصر ليست خاضعة لنفوذ أمريكا ولا انجلترا ولا السعودية (لست أدري ما دخل السعودية), ثم يخبرنا بغدادي بأن كيرمنت روزفلت بعد هذا التهديد والوعيد تراجع, فهل قال افعلوا ما تريدون, واعقدوا الصفقات كما يحلو لكم, فقط لا تعلنوا الحرب علينا, هذا هو التراجع يا بغدادي ولكن أن يظل على رأيه, ويضطر صاحبك إلى خفض صوته وإلى أن يعيد عليه ما حدث من أنه أخبر السفير الأمريكي قبل أن يشرع في إتمام الصفقة, وأنه ما فعل ذلك إلا بعد أن يئس من أن تمده الولايات المتحدة بالسلاح أسوة بما تفعل مع إسرائيل المتفوقة عسكريا على كل دول المنطقة, طبعا نبرة التهديد اختفت من حديث عبد الناصر حين أخبره كيرمنت روزفلت بكل هدوء أنه مقدر قوته أكثر
    من حقيقتها, أي أن هذا التهديد لا يستند على أساس, فتحولت نبرة التهديد إلى نبرة استعطاف وتبرير لما أقدم عليه من عمل خالف به ما كان متفقا عليه بينه وبين الإدارة الأمريكية, وطبعا التبرير والاستعطاف في مثل هذه الحالات لا يكفيان, فأكد له عبد الناصر أنه لن يستخدم هذا السلاح في الاعتداء على إسرائيل, ولم يستطع بغدادي أن يخفي هذه الحقيقة عن قراء مذكراته, مع حرصه الشديد على إظهار عبد الناصر على أنه البطل الذي تحدى الإدارة الأمريكية وأبرم صفقة سلاح مع الإتحاد السوفيتي. فما أن سمع كيرمنت روزفلت هذا التأكيد حتى هدأ بعد انفعال, ولم يجد ما يرد به على تبريرات عبد الناصر, فأظهر له أنه اقتنع بهذه التبريرات, وهو في حقيقة الأمر أدرك أنه لم يعد هناك ما يقلق من هذه الصفقة, مادامت لن تستخدم في الاعتداء على إسرائيل. يقول بغدادي: "ويقول جمال إن كيرمنت قد اقتنع بهذه الفكرة ولكنه أشار إلى أنه سيجد صعوبة لدى المسئولين في الولايات المتحدة لإقناعهم بذلك بحجة أنهم غير مقدرين الموقف ولا ظروف المنطقة. ويذكر جمال أن كيرمنت في النهاية قال له: يجب أن نعمل على إنقاذ ماء وجه (دالاس) وذلك بأن تصدر بيانًا". ورد جمال بأنه لا يمكنه فعل ذلك ما دام لم يصله شيء منه رسميًّا. وأن كل ما يعلمه هو أن (دالاس) كان قد ذكر هذا الاقتراح في كلمة ألقاها مؤخرًا. واستطرد جمال وذكر لنا أنهما قد اتفقا على أن يصدر جمال بيانًا يقول فيه أنه على استعداد للاجتماع بمستر دالاس لمناقشة الوسائل الكفيلة بتخفيف حدة التوتر في المنطقة. وأن يذكر كذلك أن شراءنا أسلحة من روسيا لا يربطنا بها بأية ارتباطات سياسية. ويقول جمال أنه أوضح لـكيرمنت أنه لن يقوم بإصدار هذا البيان إلا بعد أن يتصل كيرمنت بـمستر دالاس ويتعرف منه على وجهة نظره وأن كيرمنت وافق على هذا الرأي.", أي أن الموضوع لم ينته بعد, ولابد من إنقاذ ماء وجه دالاس وزير خارجية الولايات المتحدة, وقد وافق عبد الناصر على إصدار البيان شريطة أن يصله شيء بصفة رسمية بهذا الخصوص, أعتقد أن ملامح علاقة مصر في ذلك الوقت بالإدارة الأمريكية بدأت تتضح, وأن أحدا لا يستطيع أن يدعي أن إرادة مصر كانت حرة, إذ اتضح أنه ليس من حقها أن تعقد أية صفقة تحصل بموجبها على ما يلزمها من سلاح إلا بموافقة الإدارة الأمريكية, ولن توافق الإدارة الأمريكية إلا إذا كان هناك تعهد بأن هذه الأسلحة لن تستخدم في الاعتداء على إسرائيل, قد يقول قائل إنه كان تعهدا شفهيا أو مجرد كلام ورد في حديث عبد الناصر ولكنه لم ينفذ منه شيء, إلا أن المتتبع لحلقات الصراع العربي الإسرائيلي يجد أن عبد الناصر بالفعل لم يقم بالاعتداء على إسرائيل إلا في خطاباته, ولم يقم حتى بالرد على اعتداءات إسرائيل المتكررة على حدودنا وقواتنا العسكرية, ولما قامت إسرائيل باحتلال سيناء عام 1956, أصدر أمرا لقواتنا المسلحة بالانسحاب إلى غرب القناة, وحين أعادت إسرائيل احتلال سيناء عام 1967, أصدر أيضا أمرا بالانسحاب إلى غرب القناة, ليترك سيناء في المرتين نهبا للاحتلال الصهيوني. وليضرب المثل في الوفاء بالعهد الذي أخذه على نفسه ألا يقوم بالاعتداء على إسرائيل, وسوف نتحدث بالتفصيل عن الصراع العربي الإسرائيلي في الحقبة الناصرية لتتضح لنا هذه الحقيقة أكثر, ولنتأكد أن انفراد عبد الناصر بالسلطة كان هدفا أمريكيا استغل في تحقيقه ولع عبد الناصر بالسلطة ولهفته على الانفراد بالحكم, وروج له إعلام مصطفى أمين وسوق له بعد ذلك محمد حسنين هيكل في عملية تضليل إعلامية غير مسبوقة, استخدمت فيها كل وسائل التضليل وكل أساليب الكذب والافتراء والاجتراء على كل معاني الحق والصدق والعدل. نعود إلى بقية قصة صفقة السلاح التي يدعي الناصريون الجدد أنها حررت الإرادة المصرية لنجد أننا أما رئيس جمهورية ترسل إليه الخارجية الأمريكية مبعوثها ليتناقش معه حول صفقة السلاح المزمع إتمامها مع الاتحاد السوفيتي, ويجلس رئيس الجمهورية أمامه يستعطفه حينا ويبرر له حينا ثم يؤكد له أن ما يقلق الإدارة الأمريكية لن يحدث أبدا إذ أنه لا يفكر أبدا في الاعتداء على إسرائيل, وكأني به يؤكد له أن ما اتفق عليه من قبل قائم ولن يخل باتفاقه أبدا, يقول بغدادي: "وأبدى لنا جمال أنه تخوف وخشي أن يكون وراء إصدار ذلك البيان لعبة سياسية ولذلك طلب من علي صبري مدير مكتبه للشئون السياسية أن يتصل بالسفير السوفيتي في القاهرة ويخبره بالحديث الذي دار بينه وبين كيرمنت ليبلغه إلى حكومته ويسألها عن رأيها؛ هل يقوم جمال بإصدار ذلك البيان أم لا؟ وقد نصحت الحكومة السوفيتية بعدم إصدار ذلك البيان. كما أن كيرمنت نفسه لم يبلغ جمال برأي مستر دالاس كما كانا قد اتفقا.", أي أن المسالة كما قلنا ليست هينة, إن فيها تخوفا وخشية من جانب عبد الناصر, هل يصدر البيان أم لا, ثم تأتي نصيحة الحكومة السوفيتية لتزيد الأمر تعقيدا, فقد نصحت بعدم إصدار البيان, فماذا يصنع (الزعيم)؟, ثم إن كيرمنت لم يخبر عبد الناصر برأي مستر دالاس, الرأي إذاً أن ينتظر (الزعيم), أخبارا تأتيه من واشنطن ولا نقول أوامر حتى لا يظن أحد بنا الظنون وعلى العموم لم يطل انتظار عبد الناصر, يقول بغدادي: "وفي يوم 27 سبتمبر أعلن أن (مستر ألان) وكيل وزارة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط سيصل إلى القاهرة في غضون عدة أيام. وأن هذه الزيارة مرتبطة بصفقة السلاح التي تم التعاقد عليها مع روسيا. وكان لابد لنا والأمر كذلك من أن نعمل على إعلان إتمام تلك الصفقة قبل أن يصل (مستر ألان) إلى القاهرة حتى نضع الحكومة الأمريكية وكذا أنفسنا أمام الأمر الواقع ويصبح
    لا أمل لهم ولا حيلة لنا في أن نتراجع عن العقد الذي أبرم وتم إعلانه على شعبنا وعلى العالم أجمع.",
    تعليق:
    (مستر ألان), اسم جديد يدخل اللعبة, إنه وكيل وزارة الخارجية, ألم أقل إن الأمر لم يعد يهم الإدارة الأمريكية ولا داعي أن يكلف وزير الخارجية نفسه عناء السفر إلى القاهرة, ولكن لمزيد من الرعب في قلب (الزعيم), أرسل إليه وكيل الوزارة لشؤون الشرق الأوسط في زيارة أعلن أنها مرتبطة بصفقة السلاح. فسارع عبد الناصر ورفاقه في إتمام صفقة السلاح ليضعوا أمريكا أمام الأمر الواقع, ولا يدعوا لأنفسهم فرصة للتراجع إذا ما تعرضوا لضغوط أمريكية يحملها (مستر ألان), هذا ما يفهم من عبارة بغدادي, وهو رأي يرى أن فيه بعض الجرأة, ويكفي أنهم سيضعون أمريكا أمام الأمر الواقع. والحقيقة أن أمريكا لم يعد يهمها أن تتم الصفقة أو لا تتم, بعد لقاء عبد الناصر برجل المخابرات كيرمنت روزفلت, ولكن الخائفين المضطربين القلقين لا يعلمون. يقول بغدادي:"وقد رأى جمال أن يلقي خطابًا شعبيًّا يعلن فيه ذلك. ويذكر أيضًا قصة شراء السلاح كاملة من بداية تعنت أمريكا وامتناعها عن بيع سلاح لنا ثم التجائنا إلى تشيكوسلوفاكيا وموافقتها وإتمام العقد معها بشراء أسلحة منها دون أية شروط سياسية ومقابل تصدير سلع زراعية إليها. وقد قام جمال بإلقاء هذا الخطاب في نفس يوم 27 سبتمبر ودون إعداد سابق له على زوار معرض كان قد أقيم بأرض المعارض بالجزيرة للشئون العامة للقوات المسلحة. وكان جمال ومعه زكريا قد التقيا بـكيرمنت روزفلت يوم الأربعاء 28 سبتمبر في منزل السفير الأمريكي "بايرود". واجتمع مجلس الثورة في اليوم التالي الخميس 29 سبتمبر ليبلغنا جمال بالحديث الذي جرى بينهم.",
    تعليق:
    الحقيقة أن عبد الناصر كان خطيبا مفوها, وكان يتحدث بلغة عامية يفهمها الناس جميعا, ولم يحاول يوما أن يتقعر في لغته فينفر منه العامة, وكان هذا من الأساليب التي ملك بها قلوب الناس, ومنذ ثار عليه الشعب في فبراير 1954, لإعادة محمد نجيب إلى السلطة واضطراره إلى الإذعان إلى مطالب الشعب وهو يحاول التقرب إلى الشعب بكل وسيلة, وكانت الخطابة إحدى هذه الوسائل. ولجوءه إلى الشعب في مثل هذه الظروف هو من قبيل التقرب إليه ولو بأكاذيب أو مهاترات يبثها عبر خطاباته مثل التي اشتهر بها حينما كان يتوعد إسرائيل بالويل والثبور وعظائم الأمور ثم لا يقدم على أي عمل عسكري باتجاه إسرائيل. أما اجتماعه هو وزكريا محيي الدين بكيرمنت روزفلت في اليوم التالي, فهو ما سوف نتعرف على نتائجه من خلال مذكرات بغدادي, يقول بغدادي: "وقال جمال إنه شعر أن هناك معركة حرب باردة. وأن كيرمنت كان يحاول هز أعصابهما. ومما قاله كيرمنت لهما إن (مستر ألان) موفد برسالة من (دالاس) نفسه. وأنه يعتقد أن (دالاس) هو الذي أملاها بشخصه. كما يعتقد أيضًا أن الإنجليز هم الذين أشاروا عليه بهذا لأنها عنيفة جدًا وأنه يجب عليك (يقصد جمال) أن تحزن ولكن لا تغضب وأن تمسك أعصابك حتى يمكننا أن نحل هذا المشكل فيما بعد. كما ذكر لهما أنه لو كان هناك في الولايات المتحدة عند كتابة هذه الرسالة لوقف بجانب (مستر دالاس) ومنعه من إرسالها على هذه الصورة. وأنه مضطر لتأجيل سفره حتى يتواجد عند تقديم الرسالة. وهو كان ينوي السفر صباح الخميس إلى بيروت. ومما قاله كيرمنت لجمال أيضًا [أنك ستجرح في كبريائك، ولست أقصد كبرياءك شخصيًّا بل كبرياء بلدك وأرى حتى تمر هذه الأزمة دون اتخاذ أية إجراءات من جانبنا أن تكون صبورًا. وأن تطلب منه أن يعطيك فرصة للدراسة. وأن تكون كأب حليم وهو كابن أو أن تقبل ما في الرسالة]. ولكنه لم يذكر لهما مضمون تلك الرسالة التي يشير إليها. وطلب كيرمنت من جمال مقابلة (مستر ألان) مساء يوم الخميس 29 سبتمبر، ولكن جمال أعلمه أن يومي الخميس والجمعة عطلة أسبوعية عندنا. وأنه لا يقابل أحدًا فيهما. وأشار إلى أنه من الممكن أن يقابله يوم السبت أول أكتوبر سنة 1955."
    تعليق:
    هذا ما أورده بغدادي عن لقاء عبد الناصر وزكريا بكيرمنت, وهو لقاء لا شك أن المقصود منه كان بث الرعب في قلب عبد الناصر ورفاقه ليس أكثر, أو كما نقول (قرصة أذن), لأن كلمات التهديد والتخويف التي ألقاها كيرمنت على أسماعهما لا تصدر إلا ممن له الهيمنة على من يتحدث إليه, وهذا يؤكد أن علاقة ما كانت قائمة بين عبد الناصر والإدارة الأمريكية, أعطت رجل مخابراتها الحق في أن يسمع عبد الناصر مثل هذا الكلام. ولكن ماذا يخيف عبد الناصر من الرسالة التي يحملها مستر ألان؟ يقول بغدادي: "وبعد أن ذكر لنا جمال ما جاء على لسان كيرمنت، بدأنا في استعراض الموقف وذكرت أن ما أفهمه من جملة [جرح كبرياء بلدك] هو ربما دفع إسرائيل ومساعدتها على الاعتداء علينا حتى تحقق نصرًا عسكريًّا على جيشنا ليؤثر ذلك على موقف الثورة داخليًا وعربيًّا. وذكر عبد الناصر أنهم ربما يطلبون عودة نجيب كما حدث في 24 فبراير 1954. ولكننا استبعدنا هذا الاحتمال لاختلاف الظروف وعدم توافر قوة عسكرية لهم بالبلاد تساعدهم على اتخاذ مثل هذه الخطوة. ولما سألنا عبد الحكيم عن قوتنا الدفاعية ومدى إمكانياتها في الصمود أمام أي هجوم إسرائيلي وكذا إمكانية استمرارها في الدفاع إلى أن تصل إلينا الأسلحة الروسية ويقوم جنودنا بالتدريب عليها. أجابنا أن الجيش قادر على الدفاع لوقت غير محدود. ولكن جمال قال: إن خطتنا هي الانسحاب والدفاع عند أول حدود لنا.
    تعليق:
    الملاحظ هنا أن خوف هؤلاء القادة ليس على البلد أو على الشعب, ولكن على السلطة التي انفرد بها عبد الناصر, فعبد الناصر يخشى أن يجبروه على أن يعيد محمد نجيب إلى السلطة كما حدث في 24 فبراير 1954, أي أن عودة نجيب إلى السلطة لم تكن بسبب مظاهرات الشعب الغاضبة وتذمر بعض رجال الجيش فقط, وإنما عاد بأمر من الولايات المتحدة التي ربما رأت أن الوقت ليس مناسبا أمام هذه الانتفاضة الشعبية, هكذا أفصح عبد الناصر عن هيمنة الولايات المتحدة على قراره ونقل عنه بغدادي ما حاول أن يخفيه وراء عبارات رنانة في خطاباته, أما خوف بغدادي فكان من هجوم إسرائيلي أو نصر إسرائيلي يؤثر على موقف الثورة داخليا وخارجيا, أي أنه لو لم يؤثر النصر الذي تحققه إسرائيل على موقف الثورة فلا يهم, لا يهم أن تنتهك السيادة أو يقتل الجنود أو حتى تضيع الأرض مادام موقف الثورة لم يتأثر. والله هذا ما حدث بعد ذلك, فقد كان كل ما يهم مجلس الثورة برئاسة عبد الناصر من الحروب التي شنتها إسرائيل على مصر ألا تؤثر نتائج هذه الحروب على مناصبهم. وليحدث بعد ذلك ما يحدث. على العموم لم يحدث شئ مما أثار الرعب في قلوب عبد الناصر ورفاقه, يقول بغدادي: "ولما قال جمال إن الولايات المتحدة تخشى من ذكر أي شيء في الصحف تشير إلى أنهم استعماريون تقدم زكريا باقتراح أن يقوم بالاتصال بالأمريكيين ويبلغهم أن جمال ينوي أن يعلن على العالم موضوع الرسالة التي أشار إليها كيرمنت، وعلى اعتبار أن هذه الخطوة من جانبنا والتي يقترحها هي محاولة في استخدام أسلوب الحرب الباردة معهم. ولكن لم يؤخذ باقتراحه."
    تعليق:
    لماذا لم يؤخذ باقتراحه؟ أعتقد أن مثل هذا الاقتراح خارج الاتفاق المبرم بين عبد الناصر والولايات المتحدة والذي انفرد بموجبه بالسلطة كما بينا آنفا, وكما تأكد لنا من هذه اللقاءات التي جرت على هامش صفقة السلاح التي عقدت بين عبد الناصر والاتحاد السوفيتي. أليس كذلك؟ إن عبد الناصر لم ينعتق من أغلال الولايات المتحدة - كما سنرى - إلا بعد أن صعدت روحه إلى بارئها في خريف عام 1970, ما علينا..! يكمل بغدادي القصة فيقول:"وذكر جمال إنه كان قد طلب من مصطفى أمين وهيكل محاولة معرفة مضمون هذه الرسالة من كيرمنت وأنهما قد أمضيا طوال الليل معه بعد أن تقابل مع جمال وتناولا العشاء معه. وأنه تحدث إليهما وذكر كل ما دار بينه وبين جمال من حديث. كما أخبرهما أن الرسالة فيها إنذار وأنه غالبًا محدد بوقت. ولكنه لم يقل لهما ماهية هذا الإنذار. وأنه قال لهما إنه لم يشأ أن يخبر جمال بمضمون هذا الإنذار حتى لا يكون صادرًا منه وفضل أن يقوم به (مستر ألان) بنفسه. وتناولت مناقشاتنا أيضًا احتمال قيام دول الغرب بحصار بحري على الموانئ المصرية لمنع وصول الأسلحة الروسية إلينا. ولكننا استبعدنا هذا الاحتمال لأن روسيا كانت هي المسئولة عن تسليمه إلينا في ميناء الإسكندرية. ورأينا أن نعد أنفسنا لأسوأ الاحتمالات فتقرر أن يعلن عن تخريج دفعة جديدة من طلبة الكلية الحربية يوم الأحد التالي حتى يتبين أننا جادون في الاستعداد لمقاومة أي ضغط منهم. كما تقرر أيضًا استدعاء ثلاثة لواءات من الحرس الوطني. وتم اتفاقنا على أنه في حالة دفعهم إسرائيل إلى الهجوم علينا أو أي تحرك منهم لتهديدنا أن نقوم بتقسيم جمهورية مصر إلى مناطق، وأن يتولى كل عضو من أعضاء مجلس الثورة قيادة منطقة ويصبح حاكمًا عسكريًّا عليها. وأن نعمل على تعبئة الشعب كله للمعركة.",
    تعليق:
    مصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل يحاولان بتكليف من عبد الناصر معرفة مضمون الرسالة, من كيرمنت, وقد أطلعهما كيرمنت بالفعل على جزء من مضمونها بطريقة تبعث الخوف والوجل في قلوب المتمسكين بالسلطة والخائفين على ضياعها من بين أيديهم, مما دعاهم إلى مناقشات جادة حول أسوأ الاحتمالات, وماذا هم فاعلون إذا قامت أمريكا أو قام الغرب بعمل عسكري ضد مصر. ولكن لا ينسينا هذا أن عبد الناصر كلف اثنين من رجاله يعلم أنهما يعملان لدى المخابرات الأمريكية بمعرفة مضمون الرسالة التي يرتعد منها خوفا وهلعا, ولو لم يكن مضمون الرسالة يهمه ما شغل باله بها, أما المناقشات التي دارت بين أعضاء مجلس الثورة حول أسوأ الاحتمالات فهي نوع من العبث السياسي لأناس أقل ما يوصفون به أنهم مراهقون سياسيون قدر لهم أن يحكموا بلدا مثل مصر وأن تصبح كلماتهم قوانين تطبق على أهلها كما قال جمال حماد. يقول بغدادي: "وتقابل جمال مع (مستر ألان) وكان يرافقه السفير الأمريكي بالقاهرة (هنري باريرود) ويقول جمال إن (ألان) بدأ حديثه عن مساعدة أمريكا لمصر في عقد اتفاقية الجلاء مع بريطانيا. كما ذكر المساعدات الاقتصادية التي تقدمها بلاده لنا، وشعور الصداقة المتبادلة بين البلدين. وأشار في حديثه إلى أن اتفاق مصر الأخير مع تشيكوسلوفاكيا لتوريد أسلحة لها يهدد أمن منطقة الشرق الأوسط ويخل بالتوازن العسكري بين إسرائيل والدول العربية. وبين أنهم على علم بالتكتيك الشيوعي وطريقة تغلغلهم في البلاد التي يرغبون في نشر مبادئهم بها. وأنهم - أي الأمريكان - لهم خبرة طويلة في هذا الشأن. وتكلم جمال موضحًا له أن هذا التوازن الذي يشير إليه لا يزال في صالح إسرائيل، وأطلعه على المستندات الإنجليزية والفرنسية التي تؤكد ذلك. وكان قد أمكن لمخابراتنا الحصول على تلك المستندات التي تشير إلى كميات الأسلحة التي وردت إلى إسرائيل من كل من أمريكا وإنجلترا وفرنسا وتشير كذلك إلى تقرير المخابرات البريطانية الذي جاء به أن ليس لدى مصر أية نية في الاعتداء على إسرائيل وأنها ليست مستعدة إلى ذلك بخلاف موقف إسرائيل واستعدادها. وقام جمال بذكر قصة السلاح ولجوئنا إليهم بعد قيام الثورة بنصف عام وموقفهم من ذلك. وإخطار السفير الأمريكي بالقاهرة عن استعداد روسيا لمدنا بما نحتاج إليه من سلاح واستمرار وقوف أمريكا جامدة دون حراك منها وإغداق الدول الكبرى السلاح على إسرائيل, وأن موقفهم هذا قد دفعنا إلى الباب المفتوح أمامنا وتم التعاقد مع تشيكوسلوفاكيا على توريد بعض الأسلحة إلينا طبقًا لاتفاقية تجارية وليس لها أية صبغة سياسية. وسأل (ألان) عن كمية السلاح التي تم تعاقدنا عليها. وأجاب جمال إنه على استعداد لإبلاغه بها ولكنه سيكون في نفس الوقت معرضًا للمثول أمام مجلس عسكري لأنه بجانب أنه رئيس الحكومة فهو لا يزال ضابطًا بالجيش. وقال جمال هذا كفكاهة طبعًا وتخلصًا من الإجابة على سؤاله. ويقول جمال إن (ألان) لم يتكلم كثيرًا وإنما هو الذي تولى الحديث طوال الوقت شارحًا له وجهة نظر الحكومة المصرية وقصة الأسلحة وتطورها وانتهى الاجتماع بينهما دون أن يقدم (مستر ألان) الرسالة التي كان قد أشار إليها كيرمنت روزفلت في أحاديثه المسبقة. واتفق جمال و(ألان) على أن يجتمعا مرة ثانية يوم الاثنين 3 أكتوبر وطلب منه جمال أن يكون الحديث بينهما في المقابلة التالية عن المستقبل وعلاقة البلدين ببعضهما بعد أن تكلما عن الماضيفي تلك المقابلة. وصرح (مستر ألان) بعد خروجه من الاجتماع مع جمال "بأن مصر دولة لها سيادتها. ولها مطلق الحرية في شراء السلاح من أي جهة تشاء". وعندما التقيا ثانية يوم 3 أكتوبر لم يتقدم (مستر ألان) أيضًا بأية رسالة. وكان الحديث بينهما عامًا. وذكر (ألان) أنه قد تضايق عندما علم أن إذاعة صوت العرب قد أذاعت في تعليقها حول موضوع السلاح [إن الولايات المتحدة تخرج من فيها الرغاوي كما يحدث للكلاب عندما تغضب]. ولكن تبين أن ما جاء بتعليقها هو:[أن الولايات المتحدة ترغي وتزيد]. وترجمت له خطأ بالمعنى السابق وكانت الولايات المتحدة على ما يظهر قد قدرت أن موضوع شراء الأسلحة من الاتحاد السوفيتي أصبح أمرًا واقعًا ومنتهيًا بعد أن أعلنا عن تعاقدنا على تلك الصفقة، والأمر قد خرج من يدها. وأن التهديد أصبح لا يجدي معنا وأن أي إجراء منهم لن يترتب عليه إلا زيادة في تعقيد الهدف بينهم وبيننا."
    تعليق:
    انتهت الأزمة, ولم يتسلم عبد الناصر الرسالة التي أرقت مضجعه أياما, وما كان القصد منها غير هذا, فالإدارة الأمريكية مذ صرح عبد الناصر أنه لن يستخدم هذه الأسلحة في الاعتداء على إسرائيل والأمر لم يعد يهمها, بل ربما شجعته على ذلك, ولكن كان لابد أن تشعره بأنه تحت أعينها, ولا ينبغي له أن يتحرك إلا في المجال الذي تحدده لها, وأن تلقي في روعه أن أمن إسرائيل خط أحمر لا يجب تجاوزه, وقد حققت ما تريد وأكثر في هذا الصدد عن طريق رجل مخابراتها الأمريكي كيرمنت روزفلت, ورجليْ مخابراتها المصريين هيكل ومصطفى أمين ووكيل وزارة خارجيتها مستر ألان, أما وزير الخارجية مستر دالاس فأدى مهمته عن بعد في إلقاء الرعب في قلب عبد الناصر ورفاقه لمجرد ذكر اسمه أمامهم. لقد كشفت صفقة السلاح عن خفايا علاقة عبد الناصر بالإدارة الأمريكية, ولم يستطع بغدادي إخفاء ملامح تلك العلاقة, فأظهر ضعف عبد الناصر وتبعيته لأمريكا وهو يقصد إظهار بطولة وهمية له, أما الجانب المضحك في قصة صفقة السلاح فيبرزه خطاب عبد الناصر الذي ألقاه بعد انتهاء أزمة صفقة السلاح, ولا أخفي أني ضحكت كثيرا وأنا أطلع على محتوى هذا الخطاب لأني تذكرت خطابات عبد الناصر وأسلوبه المثير في الخطابة, وتذكرت كيف كان يستلب عقول مستمعيه وقلوبهم بالكذب والخداع, وقد آثرت أن أضع بين أيدي القراء هذا الجزء من الخطاب الذي يتحدث فيه عن صفقة السلاح, وقد ارتدى ثوب الزعامة والشجاعة, ونفض عنه ثوب التبعية والخوف, وحاول أن يظهر أمام الشعب على صورة تغاير الواقع تـماما, يقول عبد الناصر في خطابه [بعد إعلان صفقة الأسلحة أرسلت واشنطن مندوب إلى مصر - "مستر ألان".. "جورج ألان" اللى هم نقلوه، ودوه أتينا الجمعة اللى فاتت - جا هنا مندوب إلى مصر يحمل رسالة من الحكومة الأمريكية، وكان مفروض انه حيقابلنى، وجت التلغرافات من واشنطن ووكالات الأنباء تقول: إن "مستر ألان" يحمل إنذار إلى مصر.. "مستر ألان" يحمل تهديد إلى مصر، تهديد بقطع كذا وقطع كذا، وعمل كذا وعمل كذا. وبعدين اتصل بى أحد الأمريكان الرسميين وطلب مقابلة خاصة، قابلته، قال لى: إنه متأسف جداً على الحالة يمكن اللى وصلت إليها العلاقات بين أمريكا ومصر، إن "ألان" معاه رسالة شديدة من حكومة أمريكا قد تمس القومية المصرية والعزة المصرية، وإنى أطمنك بهذا الخصوص ان هذه الرسالة مش حيكون لها أثر؛ لأن سنستطيع أن نقضى على آثارها، وأنا أنصحك انك تقبل هذه الرسالة. سألته.. قلت له رسالة فيها إهانة للقومية المصرية والعزة المصرية؟.. يعنى إيه إهانة للقومية المصرية والعزة المصرية؟! قال: دى رسالة من "مستر دالاس" وهى رسالة شديدة جداً، واحنا مستغربين كيف أرسلت هذه الرسالة!‍ وان احنا نطلب منك أنك تكون هادئ الأعصاب - وأنت طول عمرك هادئ الأعصاب - وتقبل هذه الرسالة بأعصاب هادئة: بعدين قلت له ازاى بس أقبل رسالة يعنى فيها تهديد، فيها جرح للعزة المصرية؟! فقال: لن تترتب على هذه الرسالة أى نتيجة عملية، وأنا أضمن لك هذا، هى بس رسالة مكتوبة حتجرح العزة المصرية فى الجواب، لكن فى العمل مش حتجرح العزة المصرية. قلت له اسمع أنا مانيش رئيس وزارة محترف، أنا رئيس وزارة جاى بثورة، وعمرى ما فكرت فى حياتى إنى أنا حابقى رئيس وزارة، يعنى دى عملية جات بهذا الشكل. مندوبكم إذا جا لى المكتب واتكلم كلمة حاطرده بره المكتب.. دا كلام رسمى، وحاطلع أعلن.. حاعلن للشعب المصرى انكم أردتم أن تهينوا عزته وتهينوا كرامته، وسنقاتل جميعاً لآخر قطرة فى دمائنا، وأنا عن نفسى سأقاتل فى سبيل عزة مصر وكرامتها لآخر قطرة فى دمى؛ لأن هذه هى المبادئ اللى أنا قمت من أجلها.. دى المبادئ اللى أنا قمت من أجلها. حتهددوا بقطع معونة، مافيش تهديد، حاطلع أعلن قطع المعونة، تهددوا بأى شىء، سأعلنه، وأحب انكم تعرفوا ان احنا ما أخدناش دروس فى الدبلوماسية ولا فى السياسة، احنا ناس قمنا بثورة، وبنتجه إلى تحقيق أهداف هذه الثورة. الكلام دا حصل فى أوائل أكتوبر، وبعدين جا لى تانى.. طلبنى تانى، وقال لى: إنه راح بلغ هذا الكلام لـ "مستر ألان"، وإن "مستر ألان" محتار.. بيقول: لو جا لك يبلغك هذه الرسالة حينطرد، ولو راح لـ "مستر دالاس" من غير ما يبلغ الرسالة، مستر دالاس حيطرده، إيه اللى يحصل؟ (ضحك من الجماهير) قلت له والله أنا ما اعرفش، أنا أعرف شىء واحد؛ إنه إذا جا بلغنى هذه الرسالة حاطرده، كون "دالاس" حيطرده أو ما يطردوش دا موضوع ما يهمنيش. وجا "مستر ألان" وما فتحش بقه بكلمة، قعد واستمع إلى وجهة النظر المصرية، وقال وجهة النظر الأمريكية بإيجاز. فدى الضجة اللى حصلت بعد السلاح.. تهويش، تضليل، بيعاملونا على أساس زمان.. فاهمين ان احنا سياسيين محترفين، ولكن استطاعت مصر أن تحافظ على عزتها، وأن تحافظ على كرامتها. قامت ضجة فى كل مكان علشان الأسلحة، وتهديدات، وكنت باقرا الجرايد البريطانية والفرنسية والأمريكية كل يوم.. اقرا فيها العجب، شتيمة لا حد لها، وكنت أقول يعنى إنهم يستطيعوا أن ينفسوا بهذا لسبب واحد؛ هم بيشتمونا مش علشان خدنا سلاح، بيشتمونا لأن احنا فلتنا.. فلتنا من الخية اللى كانوا عاملينها لنا.. فلتنا من السلاسل اللى كانوا بيحطونا فيها.. فلتنا، واستطعنا ان احنا - غصب عنهم - نبنى بلدنا، نبنى قوتنا، ونقرر سياسة مستقلة حقيقية.], أكتفي بهذا القدر من الخطاب وهذه الكمية الرهيبة من الكذب والتزييف والتضليل, إن كلمة صدق واحدة لم ترد في هذا الخطاب, طبعا لم يكن عبد الناصر يعلم أن ما جرى سيدونه رفيقه عبد اللطيف بغدادي بالحرف الواحد ليكشف دون أن يدري كيف عاش الشعب المصري مضللا هذه الحقبة البغيضة من الحكم الناصري القميء, ليس بفعل الإعلام المتواطئ مع أعدائه فحسب ولكن باستمراء الكذب والخداع من قبل حاكم سلك كل الدروب الملتوية ليصل إلى سدة الحكم.
    أحداث سبقت تأميم قناة السويس
    انتهت قصة صفقة السلاح, وألقى عبد الناصر خطابه الملئ بالأكاذيب والمهاترات و(العنجهية), ليساهم في أكبر حملة تضليل تعرض لها الشعب المصري في تاريخه, ولتلقي هذه الحملة بظلالها على مصر بنتائج وخيمة, يعلم الله وحده كيف سيتخلص الشعب المصري من نتائجها, ولكن أكثر ما يلفت النظر في خطاب عبد الناصر قوله (واستطعنا ان احنا غصب عنهم نبنى بلدنا، نبنى قوتنا، ونقرر سياسة مستقلة حقيقية), كل هذا لأنه عقد صفقة سلاح مع الاتحاد السوفيتي, ومع أن الأسلحة لم تصل بعد, ولم تجرب في معركة بعد, يقول إنه استطاع أن يبني بلده ويبني قوة بلده ويقرر "سياسة مستقلة حقيقية", الظاهر أنه قد نسي القلق الذي انتابه جراء لقاء كيرمنت وزيارة مستر ألان والرعب الذي بثته الرسالة التي يحملها مستر ألان في قلبه حتى أنه لم ينتظر أن يتسلمها بنفسه وأرسل مصطفى أمين وهيكل إلى كيرمنت ليعرفا منه شيئا عن مضمون الرسالة. ما علينا..!, لقد تمت صفقة السلاح, والأسلحة على وشك الوصول إلى الموانئ المصرية, وأعتقد أنه إذا أقدمت إسرائيل على أي هجوم عسكري كما اعتادت من قبل فسوف يرد عليها عبد الناصر الصاع صاعين, وربما يبدأ هو الهجوم هذه المرة, ولقد بنيت اعتقادي هذا على حديث عبد الناصر عن صفقة السلاح وطريقة عرض بغدادي لقصة هذه الصفقة واعتبارها نصرا مؤزرا لا يقل عن أي نصر يتحقق في ميدان القتال, وإني لأتصور إعلام مصطفى أمين وهيكل وهو يطلع على الشعب كل يوم بعنواين ومانشيتات نارية ومقالات لأنصاف المثقفين كافية لإقناعهم ببطولة عبد الناصر الفذة في ميدان عقد الصفقات من وراء ظهر الولايات المتحدة, ولكن هل غيرت صفقة السلاح التي تغنى بها عبد الناصر وحواريوه وإعلامه المضلل شيئا على أرض الواقع؟ كلا..! لم تغير شيئا خاصة من موقف عبد الناصر من إسرائيل كما سنرى...!!!
    اتفاقية دفاع مشترك مع سوريا
    يحدثنا عبد اللطيف بغدادي عن لقاء تم في منزل عبد الناصر حضره كل من الأمير فيصل وزير خارجية السعودية وعبد الحكيم عامر وبغدادي, دار فيه الحديث حول عدة مواضيع, منها طلب للأمير فيصل بتشكيل لجنة عسكرية مشتركة من الجيش السعودي والجيش المصري لشراء أسلحة للمملكة من دول الكتلة الغربية, وكان قد تم الاتفاق بين مصر والمملكة العربية السعودية على عقد اتفاقية دفاع مشترك بين البلدين, ومن المواضيع التي أثيرت في هذا اللقاء مشروع (جنستون) لاستغلال مياه نهر الأردن، يقول بغدادي: " ثم حضر بعد ذلك كل من سعيد الغزي رئيس وزراء سوريا ووزير خارجيتها ومعه اللواء شوكت شقير رئيس هيئة أركان حرب الجيش السوري، وكانا هما الآخران مدعوين لتناول العشاء معنا. وبعد حضورهما دار الحديث بيننا حول موضوعات عامة إلى أن انتقل بقول جمال لهما: لو أن إسرائيل أرادت التوسع أو القيام بعمليات حربية فإنها في هذه الحالة تفضل أن يكون ذلك التوسع على حساب سوريا أو لبنان، فهل قام السوريون بإعداد أنفسهم لذلك؟ ورد عليه شوكت شقير بقوله: إن إسرائيل لن تقوم بمثل هذه العمليات إلا لهدف. وهذا الهدف هو إجبار الدول العربية على الصلح معها. وهي إن قامت بعمليات ضد سوريا أو لبنان أو حتى لو احتلت دمشق نفسها فهي تعلم أن هذا لن يجبر الدول العربية على الخضوع لها وطلب الصلح معها ولكنها تعلم أنها لو هاجمت مصر ودحرت جيشها وهو أقوى جيش عربي ففي هذه الحالة فقط يمكنها فرض شروطها على الدول العربية. ورد عليه عبد الناصر بقوله: "إن إسرائيل اليوم تفكر بدلاً من المرة عشرات المرات قبل أن تقدم على مهاجمة مصر لعلمها بقوة جيشها ومدى استعداده وهي الآن لن تحاول أن تقامر على كيانها.",
    تعليق:
    فرق كبير بين تفكير (الزعيم), وتفكير رئيس هيئة أركان حرب الجيش السوري, بين التفكير المتغطرس لرجل يظن نفسه انتصر لمجرد أنه عقد صفقة سلاح مع الاتحاد السوفيتي, والتفكير المنطقي لرجل عسكري, والأعجب من ذلك أن يؤكد عبد الناصر أن إسرائيل لا يمكن أن تهاجم مصر, كأنه على يقين من ذلك, فهل ثأر بما يمتلك من قوة لما قامت به من هجمات متكررة على قواتنا؟ كلا..!, هل استرد منطقة العوجة التي أقامت عليها إسرائيل مستوطنة يهودية؟ كلا..!!, إذاً هو ينتظر أن تقوم إسرائيل بمهاجمة مصر ليرد عليها بما يهدد كيانها حسب قوله, يقول بغدادي:" ثم أوضح جمال أن الغرض من إثارته لهذا الموضوع هو الوصول إلى نقطة أساسية وهي أن نضع هذا الخطر نصب أعيننا. وأن نعمل له حسابه. وأن ننسق خططنا حتى لا نفاجأ بهذا الموقف كما حدث للدول العربية عام 1948, عندما بدأت الحرب بين العرب واليهود، وأن موقف الدول العربية لا يزال شبيهًا حتى تلك اللحظة بموقفها عندما قامت الحرب بينها وبين إسرائيل ذلك لعدم تنسيق خططها وعدم توافر التعاون بينها. وأن هذا القصور منها كان السبب الرئيسي في هزيمتها أمام إسرائيل.",
    تعليق:
    والله إن هذا الكلام يستحق أن يكتب بماء الذهب, فالرجل يبحث عن التنسيق بين الدول العربية حتى لا يتكرر ما حدث في عام 1948, هذا هو الكلام, وهذا هو الهدف الذي يجب أن يسعى إليه العرب جميعا, ولكن مما يدعو إلى الأسف أن هذا الكلام صدر عن رجل يقول ما لا يفعل ويفعل عكس ما يقول ولو وضع هذا الهدف أمامه وعمل على تحقيقه على أرض الواقع لكانت إسرائيل الآن أثرا بعد عين, ولكنا نتحدث عنها كما نتحدث ظواهر كونية وقعت ثم ما لبثت أن انتهت, يقول بغدادي:"ورد شوكت على عبد الناصر بقوله: إن سوريا ترى أن من المصلحة عمل اتفاقية ثنائية مع مصر على أن تقتصر على الناحية العسكرية فقط دون السياسية والاقتصادية, وذكر أنه أعد مشروعًا يحقق هذا الغرض، وأنه قد تناقش فيه في صباح اليوم مع اللواء محمد إبراهيم رئيس هيئة أركان حرب الجيش المصري. وقد طلب شوكت من عبد الحكيم أن يطلع عليه حتى إذا ما تم الاتفاق على ما هو مقترح فيه أمكن توقيعه من البلدين.",
    طبعا حينما سمع شوكت هذا الكلام من عبد الناصر تحمس للفكرة التي يبدو أنه جاء من أجل تنفيذها, وهي عقد اتفاقية ثنائية عسكرية مع مصر, وبالفعل تم توقيع الاتفاقية, وصار هناك تنسيق عسكري بين مصر وسوريا , واتفاقية دفاع مشترك بين مصر والمملكة العربية السعودية, ثم يستطرد بغدادي قائلا:"لم يكن قد مضى فترة طويلة على توقيع تلك الإتفاقية العسكرية بين سوريا ومصر، حتى أراد بن
    جوريون على ما يظهر أن يشكك سوريا في قيمة هذه الاتفاقية، فدفع بقوة عسكرية من الجيش الإسرائيلي لمهاجمة بعض مواقع عسكرية للجيش السوري قرب بحيرة طبرية يوم 11 ديسمبر عام 1955. وقد قتل في هذا الهجوم حوالي خمسين جنديًا سوريا. وقامت مصر بإبلاغ سكرتير عام هيئة الأمم أن أي اعتداء على سوريا مستقبلاً سيضطرها إلى مقابلته بتدخل من الجيش المصري. وأما سوريا فقد أكد لهم هذا الهجوم مدى أهمية هذا الاتفاق العسكري بينها وبين مصر. كما أنها شعرت أيضًا باحتياجها الشديد للسلاح لتزويد جيشها به. ولم يكن هناك من باب مفتوح أمامها لتوفير احتياجاتها منه غير روسيا. فاتجهت هي الأخرى إليها، كما سبق واتجهنا.",
    تعليق:
    لست أدري كيف أكد هذا الهجوم مدى أهمية الاتفاق العسكري بينها وبين مصر, هل منع هذا الاتفاق الهجوم الإسرائيلي على سوريا؟ كلا..!, هل دافعت مصر عن سوريا ودخلت في حرب مع إسرائيل؟ كلا..!, كل ما فعلته أنها أبلغت سركتير عام هيئة الأمم المتحدة أن أي اعتداء (مستقبلا), على سوريا سيضطرها للتدخل, يعني مثلما نقول (هذه المرة سنتسامح فيها, أما المرات القادمة فلن نتسامح أبدا), أليس هذا نوع من الاستخفاف بالعقول؟ أعتقد أنه كذلك ولا غرابة في ذلك فقد كان الاستخفاف بالعقول أحد سمات الحقبة الناصرية ولكن المغفلين لا يعلمون.
    تمويل مشروع السد العالي :
    يقول عبد اللطيف بغدادي:"واجتمعنا بعد أن عدنا يوم 13 أكتوبر 1955, من مشاهدة هذا الاستعراض بالأوبرا لمناقشة تمويل مشروع السد العالي الذي كان سيقام على نهر النيل جنوب خزان أسوان, وكانت المعركة والتنافس بين الشرق والغرب قد انتقلت بينهما بالنسبة لمصر من موضوع السلاح إلى التنافس على تمويل مشروع السد العالي. وأصبح هذا المشروع بالنسبة إليهما في المرتبة الأولى خاصة بعد أن أعلنت روسيا على لسان سفيرها في القاهرة عن استعدادها لتقديم قروض اقتصادية لمصر, أو لأي دولة عربية أخرى، هذا بالإضافة إلى استعدادها أيضًا كما جاء على لسانه إلى مد مصر بالمهمات والفنيين اللازمين لها لبناء السد وتمويله كذلك على أن تسدد هذه القروض على مدى طويل من السنين. كما أعلن أن الحكومة الروسية ستتقدم بذلك رسميًّا إلى الحكومة المصرية. وعلى أثر هذا التصريح من السفير الروسي تحرك البنك الدولي وأعلن هو أيضًا عن استعداده لتمويل المشروع رغم المماطلة السابقة منه عدة مرات. وكان حجم الاستثمارات المطلوبة لهذا المشروع تقدر بحوالي 450 مليونًا من الجنيهات، وثلث هذا المبلغ مطلوب توفره من العملات الحرة، وهي لم تكن متوفرة لدينا. وكان التفكير في طريقة تمويل هذا المشروع قد بدأ مع بداية عام 1954. وكان الاتجاه في بداية الأمر أن نعتمد على أنفسنا في توفير التمويل من النقد المحلي والأجنبي. وكان الدكتور عبد الجليل العمري وزير المالية يرى أن هذا ممكن عن طريق تصدير فائض انتاجنا من الأرز إلى الخارج مع استخدام الفرق بين سعره العالمي وسعره المحلي في تمويل المشروع دون أن نعتمد على أية دولة أجنبية أو الالتجاء إليها لتمويله، والفرق بين السعرين العالمي والمحلي للطن الواحد كان حوالي سبعين جنيهًا. وكان جمال سالم رئيس مجلس الإنتاج قد اقترح أن نقوم باستخدام احتياطي الذهب الموجود لدينا في هذا الغرض ذلك لعدم اطمئنانه إلى البنك الدولي. ولكن هذا الاقتراح منه استبعد لضرورة استمرار المحافظة على هذا الاحتياطي لاستخدامه عند الظروف الطارئة، وكذا عند النكبات إن حلت بالبلاد. وكانت هناك بعض شركات من ألمانيا الغربية تبدي اهتمامًا بالمشروع منذ أن بدأنا في دراسته ولكنها لم تكن جادة بالقدر الكافي.",
    تعليق:
    يضعنا عبد اللطيف بغدادي أمام مشهد يصف لنا ما كانت عليه الحال حين شرعت الحكومة المصرية برئاسة عبد الناصر في بناء السد العالي, كانت المشكلة هي عملية التمويل, وكانت الحكومة أمام عدة خيارات؛ أولها استعداد روسيا لتمويل المشروع من أوله إلى آخره, حتى أنها أبدت استعدادها لمد مصر بالفنيين اللازمين لإتمام المشروع, الخيار الثاني هو البنك الدولي, الخيار الثالث هو الاعتماد على النفس عن طريق تصدير فائض انتاجنا من الأرز إلى الخارج مع استخدام الفرق بين سعره العالمي وسعره المحلي في تمويل المشروع, على أنه يجب التنبيه إلى أن التفكير في مشروع السد العالي كان قد بدأ مع بداية عام 1954, أي حينما كان محمد نجيب هو رئيس الجمهورية وأيضا رئيس الوزراء, يقول بغدادي " وكانت هناك بعض شركات من ألمانيا الغربية تبدي اهتمامًا بالمشروع منذ أن بدأنا في دراسته ولكنها لم تكن جادة بالقدر الكافي, لذا أعطى جمال سالم مهلة ثلاثة أشهر من يناير حتى مارس 1954. للقيام بالاتصال بهذه الشركات ومعرفة موقفها النهائي من المشروع. وأن يقوم الدكتور العمري في حالة عدم الوصول إلى اتفاق مع تلك الشركات بالاتصال بالبنك الدولي كمحاولة أيضًا لمعرفة مدى استعداده على المشاركة في تمويل المشروع.", فلما بدأ التفكير الجاد في تنفيذ المشرع, وجدت الحكومة المصرية نفسها أما الخيارات الثلاث التي بيناها آنفا من واقع مذكرات عبد اللطيف بغدادي, فكيف تطورت الأمور, يقول بغدادي:" وكان الهدف من هذه الاتصالات هو العمل على توفير النقد الأجنبي اللازم في تمويل المشروع من جهات أجنبية حتى يمكن لنا أن نستخدم فائض الدخل من تصدير الأرز في تمويل مشروعات أخرى لها أيضًا أهميتها وحيويتها لزيادة دخلنا القومي ورفع مستوى معيشة شعبنا وتوفير الخدمات اللازمة له. ولم يكن البنك الدولي حتى ذلك الوقت مهتمًا بالمشاركة في تمويل المشروع بحجة عدم وجود استقرار سياسي في مصر. ولكن بعد أن أُعلن عن استعداد روسيا في مدنا بما نحتاج إليه من القروض وعن استعدادها لتمويل المشروع وتنفيذه فقد تحركت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وكذا البنك الدولي. وقام البنك بإرسال بعض الفنيين لدراسة اقتصاديات المشروع وإمكانية مصر الاقتصادية، ووافق على المساهمة في التمويل اللازم للتنفيذ. كما قام البنك بدعوة وزير مالية مصر في نوفمبر 1955, لزيارة واشنطون لمفاوضة مندوبي الحكومتين الأمريكية والبريطانية اللتين وعدتا أيضًا بالمساهمة في التمويل اللازم للمشروع. وفي 17 ديسمبر 1955 قام البنك الدولي وكذا كل من الولايات المتحدة وبريطانيا بإعلان أنهم سيعملون على توفير قيمة النقد الأجنبي اللازم للمشروع في مرحلته الأولى من التنفيذ. كما أعلنوا أنهم يضمنون أيضًا المساعدة في تمويله في المراحل الأخرى لإتمام تنفيذه. وتقدمت الولايات المتحدة بمنحة مالية منها مقدارها عشرون مليونًا من الجنيهات، وكذا بريطانيا بمنحة مقدارها خمسة ملايين من الجنيهات أما البنك الدولي فقد تقدم بقرض قيمته سبعون مليونًا من الجنيهات. وقد كان على مصر أن تقوم بتوفير النقد المحلي اللازم لتكملة التمويل للمشروع.",
    تعليق:
    أي أن العرض الروسي تم رفضة, ومسألة الاعتماد على التمويل المحلي من فائض إنتاج الأرز استبعدت, وتم الاتفاق مع البنك الدولي على تنفيذ المشروع, ومعنى ذلك أن الولايات المتحدة وانجلترا ستكونان لهما اليد الطولى في تنفيذ المشروع, وللتذكرة فقط نقول إن صفقة السلاح أحدثت أزمة بين عبد الناصر والولايات المتحدة سرعان ما انتهت بعد أن أقضت مضجع عبد الناصر عدة ليال. وعدم لجوء عبد الناصر لروسيا التي أبدت استعدادها دون شروط لتنفيذ المشرع يرجع فيما أرى إلى أنه لا يريد أن يتعكر الجو بينه وبين الولايات المتحدة مرة أخرى, ولكن بعد أن فرض البنك الدولي عدة شروط لإتمام الاتفاق, وفرضت كل من بريطانيا والولايات المتحدة شروطا أخرى, رفضت مصر الإذعان لهذه الشروط مخافة أن يتسبب ذلك في فقد استقلال مصر كما حدث في الماضي عندما استدان الخديوي إسماعيل من بعض الدول الأوروبية، وهذا الرفض يذكر لعبد الناصر والقائمين على الأمر وقتها, ويقدر لهم عدم إذعانهم لأية شروط مجحفة, يقول بغدادي:" وانتهى الأمر في النهاية على الاتفاق مع البنك الدولي على أن من حقه بحث الإجراءات الاقتصادية التي تتخذها مصر لمواجهة التضخم المالي فيما لو حدث. وأعلن الاتفاق مع البنك في فبراير 1956على أنه سيقوم بتقديم قرض لمصر قيمته سبعون مليونًا من الجنيهات. ولم يكن الدافع وراء تحرك كل من الولايات المتحدة وبريطانيا هو صالح مصر وإنما الذي دفعها إلى تقديم هذه المعونات وحث البنك الدولي أيضًا على إقراضنا هو محاولة إبعاد الاتحاد السوفيتي عن المساهمة في تمويل وتنفيذ المشروع. وذلك لعلمهما أن إتمام تنفيذه يحتاج إلى عشر سنوات. وأن روسيا سترتبط بمصر طوال هذه المدة الطويلة. وستقوم بتقديم الفنيين اللازمين لتنفيذه. وأنها ستستفيد من الدعاية التي ستحصل عليها داخل المنطقة العربية بعد إتمامه. خاصة بعد أن تظهر نتائجه الاقتصادية"، ثم يروي لنا بغدادي أنه تم بعد ذلك سحب تمويل مشروع السد العالي, أما السبب فيتضح من خلال هذه الرواية, يقول بغدادي:" وكان قد تصادف أن أصدر الملك حسين ملك الأردن أثناء تلك الزيارة (زيارة سلويد لويد وزير خارجية بريطانيا) لمصر قرارًا بطرد اللواء جلوب الإنجليزي من خدمة قواته المسلحة. وقد جاء إعلان هذا القرار أثناء تناول سلوين لويد والسفير الإنجليزي العشاء بقصر الطاهرة بدعوة من جمال عبد الناصر. ولما أصدر الملك حسين هذا القرار وعلمت به السفارة البريطانية في القاهرة، أوفدت أحد موظفيها إلى قصر الطاهرة لإبلاغ السفير تريفليان بالخبر. وهمس الموظف في أذن السفير بالخبر الذي أبلغه بدوره إلى سلوين لويد همسا كذلك. وعلى أثر ذلك استأذنا في الانصراف وكانا قد فرغا توًّا من العشاء. وعاد جمال عبد الناصر إلى منزله ولم يكن لديه علم بهذا الخبر أيضًا. ولم يعلم به إلا بعد أن وصل إلى منزله، وكان الخبر نفسه مفاجأة لجمال، لأنه لم يكن يتصور على حد قوله أن يقدم الملك حسين على هذه الخطوة. وبعد أن علم بالخبر وضح له سبب انصراف كل من (سلوين لويد) والسفير، والحالة العصبية التي كانت قد انتابتهما. وقدر جمال عبد الناصر أن (سلوين لويد) لابد أنه سيعتقد أن طرد جلوب وعلى تلك الصورة جاء بتدبير منه. وأنه قد أحكم تدبير طرده حتى يتم أثناء تناوله العشاء على مائدته. وقد اعتقد فعلاً (سلوين لويد) هذا، كما اعتقد (إيدن) نفس الاعتقاد كذلك. وهذا الذي حدث جعل (إيدن) يستشيط غضبًا من جمال. بالإضافة إلى غضبه السابق منه لمقاومته المستمرة ومهاجمته حلف بغداد. وقد بدأ (إيدن) يهاجم جمال بعد ذلك في خطبه وكلماته ويصفه بالدكتاتور الصغير الذي يعمل على هدم المصالح البريطانية في منطقة الشرق الأوسط. وبدأت بريطانيا تسعى جاهدة في العمل على عزل مصر عن باقي الدول العربية، وكذا العمل على هدم نظامنا الثوري متعاونة في ذلك مع فرنسا ورئيس وزرائها (جي موليه) الذي كان يضايقه أيضًا موقف مصر من مساندة ومساعدة الثوار الوطنيين العرب في الجزائر. وانضمت إليهما كذلك الولايات المتحدة بعد أن أعلنت مصر اعترافها بالصين الشيوعية في 16 مايو 1956، وقطعها أيضًا لعلاقاتها الدبلوماسية مع فرموزا التي كانت تؤيدها وتساندها أمريكا ضد الصين الشيوعية.", ثم يقول بغدادي:" وعدنا إلى القاهرة من هذه الرحلة يوم 19 يوليو 1956، وعلمنا بعد أن وصلنا إلى أرض الوطن مباشرة بما أعلنته الولايات المتحدة من سحبها لوعدها بالمساهمة في تمويل مشروع السد العالي بحجة ضعف الاقتصاد المصري وعدم قدرته على تحمل أعباء تنفيذ المشروع. وقام جمال عبد الناصر بإبلاغ نهرو الذي وصل معنا إلى القاهرة في طريقه إلى الهند بهذا التصريح الذي أدلى به "دالاس" وزير خارجية الولايات المتحدة. وكان الغضب قد انتاب جمال عبد الناصر من هذا التصريح خاصة مما جاء فيه عن وضع الاقتصاد المصري. ولم يمض أربع وعشرون ساعة على تصريح "دالاس" حتى أعلنت بريطانيا أيضًا هي الأخرى سحبها لمعونتها التي سبق وأعلنتها. وسقط بالتالي قرض البنك الدولي بعد انسحاب الدولتين لارتباطه بمساهمتها في تمويل المشروع.",
    تعليق:
    أي أن سحب تمويل مشروع السد العالي يرجع في رأي عبد اللطيف بغدادي إلى سببين الأول اعتقاد سلوين لويد وزير خارجية بريطانيا أن طرد جلوب باشا تم بتدبير من عبد الناصر, وكان ذلك في أول مارس 1956, والثاني اعتراف مصر بجمهورية الصين الشيوعية, وكان ذلك في 16 مايو 1956, مع أن سحب تمويل مشروع السد العالي فتم في 19 يوليو 1956, ونحن لا نملك إلا أن نوافقه فيما ذهب إليه, لأن النتيجة هي التي تهمنا وهي أن البنك الدولي سحب وعده بتمويل مشروع السد لعالي بعد أن تغير موقف كل من أمريكا وبريطانيا من المشروع.
    قرار تأميم قناة السويس
    يقول عبد اللطيف بغدادي في مذكراته: "وكنت قد ذهبت في مساء يوم 21 يوليو 1956, لمقابلة عبد الناصر في منزله، والتقيت بعلي صبري في حديقة المنزل أثناء مغادرته له, وعلمت منه أن عبد الناصر قد استقر رأيه على تأميم قناة السويس كردٍّ منه على موقف الولايات المتحدة وبريطانيا والبنك الدولي من تمويل مشروع السد العالي. وقد أكد لي عبد الناصر هذا الاتجاه بعد أن التقيت به وعلى أننا سنقوم ببناء السد العالي من دخل القناة الذي سيئول إلينا بعد التأميم. ولم يكن تفكير عبد الناصر في تأميم القناة وليد الساعة، ولكن فكرة تأميمها كانت مختمرة في أذهاننا من فترة طويلة من بعد قيام الثورة. ولم يكن قد حان الوقت المناسب لاتخاذ هذه الخطوة لوجود قوات بريطانية في منطقة القناة حتى 13 يونيو 1956, وكانت إدارة التعبئة العامة بالقوات المسلحة المصرية قد كلفت منذ عام 1954 بالعمل على الحصول على البيانات اللازمة والمعلومات الكافية عن نشاط شركة قناة السويس وإدارتها.",
    تعليق:
    قرار تأميم قناة السويس اتخذ في المدة بين 19 يوليو و 21 يوليو 1956, وتم إعلانه كما سنرى يوم 26 يوليو عام 1956, هذا القرار على أهميته يتم اتخاذه وإعلانه على العالم في غضون أسبوع, ولم نسمع أنه قد تم عرضه على ممثلي الشعب باعتباره قرارا مصيريا يمس أمن مصر الأمني, ولم نسمع أن دراسة أجريت بشأن هذا القرار وما قد يترتب عليه من تداعيات, وقد حدثنا بغدادي عن خطة عسكرية كانت قد أعدت لمواجهة عسكرية محتملة يقوم بها الغرب ضد مصر جراء إتمام صفقة سلاح عقدت مع روسيا, وذلك حين كان عبد الناصر ورفاقه يضربون أخماسا في أسداس بعد أن أعلن عن وصول مستر ألان وكيل وزارة الخارجية الأمريكية إلى القاهرة ومعه رسالة من مستر دالاس وزير الخارجية بخصوص تلك الصفقة. أما قرار تأميم قناة السويس وما سوف يسفر عنه فلم يؤخذ حتى برأي القائد العام للقوات المسلحة بشأنه, وأما الدراسات التي أجريت فمن قبيل ذر الرماد في العيون ولم يؤخذ فيها إلا برأي عبد الناصر الذي يبدو أنه كان مصمما على الخروج بالقرار إلى حيز التنفيذ برغم وجود أصوات معارضة له, يقول بغدادي:" وكان امتياز الشركة ينتهي في عام 1968, ولكن وجودها على تلك الصورة التي كانت عليها، لم تكن إلا دولة مستقلة داخل دولة مصر. ومصر كدولة تحترم نفسها وإرادتها ولها استقلالها لم تكن ترضى لنفسها بمثل هذا الوضع. كذا لم تكن مصر تحصل من عائد الشركة الضخمة والمقدر بخمسة وثلاثين مليونًا من الجنيهات سنويًّا إلا على نسبة ضئيلة لا تزيد على 7% من هذا الدخل. ولما طلبت الحكومة المصرية من الشركة في عام 1955 ضرورة زيادة نصيب مصر من عائدها والعمل على زيادة عدد المصريين المشتغلين بالإدارة والملاحة بها أيضًا كان رد الشركة على هذا الطلب هو طلب مد فترة الامتياز لها مقابل هذا الذي تقدمت به الحكومة المصرية. وقد بدأ في دراسة موضوع تأميم قناة السويس من جميع جوانبه المختلفة بعد أن غادر نهرو القاهرة مباشرة. وكان عبد الحكيم بالإسكندرية واتصل به جمال عبد الناصر وأبلغه بالاتجاه إلى تأميم القناة وكان رأيه أن نعمل بالضغط على الشركة حتى تزيد من نسبة حصتنا من دخلها السنوي.",
    تعليق:
    أما طلب مد فترة امتياز الشركة فقد تم رفضه من قبل حين عرض على مجلس الشورى المعين في عهد الخديوي إسماعيل, ورفض الحكومة المصرية في عهد عبد الناصر طلب مد فترة الامتياز من أعمال السيادة المصرية, ودليل على أنها حكومة وطنية, وأما قرار تأميم شركة قناة السويس فهو من صميم أعمال السيادة, إذا كانت وراء صدوره قوة تحميه, وقد أشار القائد العام للقوات المسلحة عبد الحكيم عامر إلى أن العمل على زيادة حصتنا من دخل قناة السويس السنوي أنسب في ذلك الوقت, أي أنه كان يرفض قرار تأميم قناة السويس لما قد ينتج عنه من تداعيات قد لا تتحملها القوات المسلحة في الوقت الحالي, ولكن هل يؤخذ برأيه, أو برأي أحد يرى غير ما يرى (الزعيم) ..؟! كلا ..!, ففي غضون أسبوع اتخذ القرار وأعلن, أما مناقشة تداعياته المحتملة فقد لخصها بغدادي في هذه السطور: "وما كنا نخشاه هو أن يمتنع الغرب عن القيام بتنفيذ المشروع حتى لو توافر لدينا النقد الأجنبي المطلوبة من عائدات القناة بعد تأميمها. وقد أجابنا الروس عن مدى استعدادهم برد شفهي من سفيرهم بالقاهرة مستر كيسيليف بأن الحكومة الروسية على استعداد من جهة المبدأ إلى مساندتنا. وكان من الأمر الطبيعي والضروري أن نناقش مدى رد الفعل الذي سيحدث عند كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة بعد إعلان قرار التأميم ذلك للأضرار التي ستصاب بها مصالحهم في المنطقة وتأثرها بهذا القرار. وكان جمال عبد الناصر يستبعد استخدامهم القوة العسكرية ضدنا لاعتقاده أن فرنسا مشغولة بـمعركتها مع الوطنيين الجزائريين داخل الجزائر نفسها. وأن إنجلترا ستخشى من تدمير مصالحها في العالم العربي، خاصة المنتجة منها للبترول لو قامت بالاعتداء علينا عسكريًّا. وأما الولايات المتحدة فليس لها مصلحة من قيام مثل هذه الحروب خاصة أن انتخابات الرئاسة فيها كانت على الأبواب في نهاية نفس العام. وكان هناك رأي آخر يعتقد أن بريطانيا ستخشى من ضياع هيبتها وبالتالي مصالحها في المنطقة لو تم تأميم القناة دون تحرك منها ولأن هذه الخطوة من مصر ستشجع دولاً أخرى عربية على اتباع نفس السياسة. وأما فرنسا فربما تحاول العمل على حل مشكلتها داخل الجزائر بضرب مصر وإسقاط النظام بها الذي يمد المساعدة للثوار الجزائريين ويوفر لهم احتياجاتهم من الأسلحة. ولكن جمال عبد الناصر كان يرى أن كل ما يمكنهم فعله هو الضغط علينا اقتصاديًّا، ومحاولة تجميد أرصدتنا من النقد الأجنبي الموجود في البنوك لديهم. لذا طلب من الدكتور عبد المنعم القيسوني أن يعمل على تحويل أكبر قدر ممكن من هذه الأرصدة من بنوك كل من بريطانيا وفرنسا وأمريكا إلى دول أخرى كسويسرا وعلى أن يتجنب إثارة الشبهات حول هذا التصرف منا. ولكن لضيق الوقت لم يتمكن القيسوني من تحويل كل أرصدتنا التي كانت لدى بنوكهم ولأنه خشي أن يلفت النظر إن قام بتحويل مبالغ ضخمة دفعة واحدة. ولقد عملوا على تجميد القدر الأكبر من أرصدتنا التي لم يتمكن من تحويلها بعد أن أعلن جمال قرار التأميم في 26 يوليو 1956, وكانت قد اتخذت ترتيبات الاستيلاء على مكاتب الشركة في مدن القاهرة وبورسعيد والإسماعيلية والسويس، وعلى أن يتم ذلك بصورة مفاجأة ودون أن تتسرب أية معلومات إلى إدارة الشركة الأجنبية تجنبًا لحدوث مقاومة أو تخريب لمنشآت من بعض العاملين الأجانب بها، أو العمل على إخفاء مستنداتها والتي كان لابد لنا من الاستيلاء عليها",
    تعليق:
    طبعا نذكر الآن ما قاله عبد الناصر لرئيس هيئة أركان حرب الجيش السوري من أن إسرائيل (سوف تفكر بدلاً من المرة عشرات المرات قبل أن تقدم على مهاجمة مصر), هجوم إسرائيل على مصر في رأي عبد الناصر مقامرة بكيانها, أي أنها إذا هاجمت مصر فسوف تكون نهاية وجودها, وحين أثير احتمال أن يقوم الغرب بعمل عسكري ضد مصر جراء قرار تأميم قناة السويس استبعد عبد الناصر هذا الاحتمال تماما, ولم يضعه في الحسبان ولو بنسبة ضئيلة كما يفعل القادة المتمرسين في العمل السياسي, ومضى في طريقه وأعلن قرار التأميم .

    محمود السيد الفخراني
    إقرأ أيضا هذا الموضوع: حرب السويس أو ما يعرف بالعدوان الثلاثي على مصر
    الصفحة الرئيسية لشبكة فلسطين للحوار وهي شبكة فلسطينية التخصص عروبية التوجه إسلامية الانتماء ولا تنتمي إلى جهة بعينها، ولا تتبنى أي موقف حزبي



    التعديل الأخير تم بواسطة محمود الفخراني; 18/02/2014, 04:37 PM.

  • #2
    رد: الناصريون وتأميم قناة السويس

    هذا فصل من كتاب (أوهام الزعامة والناصريون الجدد) , الذي أنتوي نشره هنا فصولا حتى يتمكن أكبر قدر من القراء من قراءته والاطلاع عليه لتعم الفائدة ويعرف القاصي والداني أن اكثيرين من أبناء الأمة العربية عاشوا مخدوعين في هذا الصنم الذي أقامته ثلة من الإعلاميين والسياسيين بغرض توطيد الاستبداد في أكبر بلد عربي لتصل إلى ما صلت غليه من حال بعد أكثر من ستين عاما من حكم العسكر

    محمود السيد الفخراني
    التعديل الأخير تم بواسطة محمود الفخراني; 24/02/2014, 05:16 PM.

    تعليق

    جاري التحميل ..
    X