أتكلمُ عن الأستاذ الفاضل والشيخ العامل الأسير الذي أمضى ثمانٍ وعشرين سنةً وما زال يسير في خطىً ثابتة! المحكومُ بالمؤبد –مدى الحياة-، الذي كان يُطِّلُ علينا بالبسمة الحانية، والذي كان ينصحنا في الله، ويُحبُّنا في الله، ويرشدنا لكل خير وصلاح.. إنَّهُ الملحدُ سابقًا، الشيوعيُّ مشربًا منذ زمن بعيد، الإسلاميُّ النابض بالحقّ أبو إسماعيل إبراهيم بيادسة من باقة الغربية –رضي الله عنه وثبَّته وفكَّ أسره-.


كان لقائي معه في شهر آذار من سنة 2012 م، عشتُ معه حوالي العشرة أشهر، كان مفعمًا بالنشاط والحيوية، هادئًا نوعًا ما، ظريفَ المُحيا، ملتزمًا بالفرائض والسُنَّن.. كُنت أجدُ فيه ملاذًا وركناً آمناً، له في اللغة والشريعة والسياسة ومضامين الحياة الأخرى.! قارئ بارع قد فقد شهيته في القراءة منذ السنتين الأخيرتين –والله المستعان- نظرًا لثمانٍ والعشرين سنة التي أمضاها بين أربعة جدران، وخلف أسوار قاتلة!
لا أريد سرد مناقبه الجليلة، ومفاخره العظيمة، وصدعه بالحقِّ مرةً بعد أخرى.. إلَّا أنَّني أريد أن أذكرَ لكم سبب اهتدائه.. لقد كان صاحبنا معزولاً لمشكلة في السجن، جالسًا وحده، يرمي بأنظاره نحو الكُتب المنثورة من حوله، فلم يجد ما يقرأهُ إلَّا كتاب [في ظلال القرآن] لسيد قطب –رضي الله عنه- الجزء الأول.. فقال ضاحكًأ: آخر زماني أقرأ للعميل الأمريكي!! (لإنَّهُ كان شيوعيًا قال هذا الكلام).. فرمى الكتاب بعيدًا ولم يقرأه! ومرَّت الليلة تلو الليلة، وهو النهمُ في القراءة لا يجدُ ما يُشبع نهمهُ.. فقرَّر أن يقرأ كتاب سيد قطب –رضي الله عنه- قائلًا: "فلنقرأ ماذا يكتب العميل!!" .. ثمَّ بدأ يقرأ.. ويقرأ.. حتى صارت يده ترتجف من الخوف، وكلُّ جسمه يهتزُّ كأنَّ صعقة الإيمان ضربتْ صميمَ قلبه!! وصار يقول: "فيي الله.. فيي الله.. فيي الله" ويُرددها حتى بكى بُكاءً شديدًا –رضوان الله عليه-، ودموعه تبلُّ سحنته المنكسرة في حضرةِ الله!!


رحم الله سيد قطب.. عظيمٌ في حياته، وعظيمٌ في حياته الأخرى!


لقد كان هذا الأسير يُكرر دائما دعاءً يقول فيه: "اللهم إن كنت تعلم أنَّ فكَّ أسري قد يفتنني عن دينك، فاللهم أمتني هنا سالمًا آمنًا" .. وكان يردُّدها دائما -رضي الله عنه-.