يجتمع المخالفون لأهل التوحيد والجهاد اليوم - على اختلاف توجهاتهم ومذاهبهم - على أصل واحد، وهو رفض التحاكم والعمل بنصوص الكتاب والسنة، ثم يتفرقون في مسوغات هذا الرفض.
فمنهم من كان صريحاً - مع نفسه ومع غيره -؛ فأعلن رفضه لتلك النصوص وعدم تصديقه - أساساً - بكونها إلهية المصدر، واجبة الاتباع.
وكان منهم طوائف أخرى - وهي المعنية بهذا المقال -؛ أدعت إيمانها بتلك النصوص، وأقرت بكونها واجبة الاتباع، إلا انها عند الانتقال من مرحلة التنظير إلى مرحلة التطبيق؛ تلتقي بالفريق الأول في تعطليها وترك العمل بها.
وحجة هؤلاء؛ ان الشريعة الإسلامية "جاءت؛ بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها"، ومن ثم فإذا ما تعارض قول الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، مع "المصلحة"، أو كان العمل بهما؛ مؤدياً إلى "مفسدة"، فالواجب تعطيلهما والعمل بما تمليه عليهم "المصلحة".
وهذه - كما أخبرنا القرآن الكريم - صفة من صفات المنافقين، قال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62 - 63].
يقول الأستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله معلقاً على حجتهم هذه: (... هي دائماً دعوى كل من يحيدون عن الاحتكام إلى منهج الله وشريعته؛ أنهم يريدون اتقاء الإشكالات والمتاعب والمصاعب التي تنشأ من الاحتكام إلى شريعة الله! ويريدون التوفيق بين العناصر المختلفة والاتجاهات المختلفة والعقائد المختلفة! إنها حجة الذين يزعمون الإيمان - وهم غير مؤمنين - وحجة المنافقين الملتوين، هي؛ هي، دائماً وفي كل حين).
والأمثلة من واقع تلك الطوائف كثيرة، بل يمكن القول؛ أنها تتعامل مع جميع النصوص الشرعية بهذه الصورة، إلا ما تعلق من تلك النصوص بـ "فقه العبادات"، على تفاوت بين تلك الطوائف، وقد نالت النصوص المتعلقة بتوحيد الإلوهية - بمعناه الشامل المتضمن لتوحيد الحاكمية ومقتضياته من الولاء والبراء وغير ذلك - والمتعلقة بالجهاد والسياسة الشرعية؛ القسط الأوفر من هذا التعطيل والنبذ... بل والاعتداء على العاملين بها.
وفي مجال استدلالهم على جواز تقديم "المصلحة" على النص الشرعي؛ يحتجون بأقوال لبعض أهل العلم في هذا الباب، من أشهرهم؛ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ويمكن إجمال ما يستدل به أولئك في كلمة واحدة جامعة عنه، يقول فيها: (... القاعدة العامة؛ فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها، فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي - وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة - فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر؛ لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته) [المجموع: ج28/ص129].
إن القارئ لهذا "القاعدة" يجد أنها تؤصل للطريقة التي تتعامل بها تلك الطوائف مع النصوص الشرعية، بل لو قارناها مع كلام منظري الفريق الأول - اللا ديني - لوجدناها تحمل ذات النفس.
فأي فرق بينها وبين قول "فيلسوف التشريع العلماني" - جون جيرمي بونتام - مثلاً: (يجب أن يكون سير الديانة؛ موافقا لمقتضى المنفعة) [1]؟!
أو بينها وبين ما يُعرف في دين النصارى بـ "حق التّحلة"، الذي "يُبيح للكنيسة أن تخرج عن تعاليم الدين، وتتخلى عن الالتزام بها، متى اقتضت المصلحة ذلك" [2].
إذ أن ملخص ما يستدلون به من كلام ابن تيمية رحمه الله يقول؛ "ان للناس عمل ما يرونه أصلح لدنياهم وان خالفت أعمالهم نصوص الشرع"! وحينها فما فائدة الوحي الذي نؤمن - نحن المسلمون - أن جبريل عليه السلام نزل به على النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذا كان الصواب تقديم "المصلحة" عليه؟!
وما قيمة تعاليم الأنبياء التي بلغوها عن الله عز وجل إلى الجنس البشري؛ إذا كانت نجاة وفلاح الإنسان في اتباع مصالحه التي يستطيع معرفتها بعقله المجرد؟!
ولمَ أمرنا الله عز وجل باتباع النصوص الشرعية، كما في قوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3]، وحذر المعرضين عن اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، إذا كان الصواب هو العمل بما تمليه "المصلحة" لا النص إذا ما تعارضا؟!
ولم أخبرنا الله عز وجل أن المتبع لأوامره لا بد وأن يُبتلى ويتضرر في دنياه، كما في قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155]، وقال عن التاركين للعمل بما أمر الله خوفاً من هذا الضرر والابتلاء: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}، إذا كان الصواب ترك العمل بالنص الشرعي عندما يكون العمل به سبباً في ضرر دنيوي؟!
يقول الشوكاني رحمه الله في تفسير هذه الآية: ({وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ}؛ أي في شأن الله ولأجله، كما يفعله أهل الكفر مع أهل الإيمان، وكما يفعله أهل المعاصي مع أهل الطاعات، من إيقاع الأذى عليهم لأجل الإيمان بالله والعمل بما أمر به، {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ}؛ التي هي ما يوقعونه عليه من الأذى {كَعَذَابِ اللَّهِ}؛ أي جزع من أذاهم فلم يصبر عليه، وجعله في الشدة والعظم كعذاب الله، فأطاع الناس كما يطيع الله) [فتح القدير: ج5/ص430].
ألا يرى العاملون بمذهب تقديم المصلحة على النص؛ أنهم يسيرون في طريق طائفة "اللا دينيين" حذو القذة بالقذة - فالخلاف بين الطائفتين هو في "تبرير" تعطيل النصوص، لا في "هل يُعمل بها أو لا يُعمل"، إذ الفريقان متفقان على أصل واحد، وهو ترك العمل بما يتعارض مع مصالحهم من تلك النصوص! وان كانوا يختلفون في تحديد تلك المصالح - وأن مذهبهم هذا يؤدي إلى إبطال الأمر والنهي ونبذ الشرع - الذي يزعمون الإيمان به - تماماً؟!
ففتح مثل هذا الباب؛ يعني إلغاء دين الإسلام... وقبل ذلك هو؛ إلغاء لوجودهم - هم - وإلغاء لمسمياتهم ومناصبهم ومراكزهم التي يمارسون من خلالها "الأستاذية" على بقية المسلمين! فلماذا يحق لهم - هم، وهم وحدهم! - تقدير المصالح التي يدفعون بها في نحر النصوص الشرعية، فيعطلون منها ما شاءوا؟! ولا يحق لغيرهم - كائناً من كان - أن يقدر من المصالح ما يعطل به من النصوص الشرعية التي يلزمه العمل بها؟!... أليس الجميع قد حباهم الله بـ "عقول" تستطيع معرفة الصواب من الخطأ والمصلحة من المفسدة؟! أم انهم قد خُلقوا بأدمغة تختلف عن أدمغة غيرهم من بني الإنسان؟! وحبوا بإلهام وتأييد إلهي لم ينل غيرهم حظاً منه؟!
لمَ يحق لهم؛ تعطيل الأمر بجهاد المرتدين [3] - مثلاً - تحت دعوى "درء المفسدة" [4]، ولا يحق للتاجر؛ أن يمنع الزكاة، تحت ذات الذريعة - أي درء مفسدة نقصان ماله -؟! ولماذا يحق لهم؛ الدخول في موالاة الكفار والمرتدين تحت دعوى "ترجيح المصلحة"، ولا يحق للفقير التعامل بالربا؛ بحجة ترجيح مصلحة الغنى على مفسدة الفقر؟! أو لا يحق للمرأة الاختلاط بالرجال وهي متبرجة في مجال عملها؛ لمصلحة "زيادة الإنتاج"؟! وقل مثل ذلك في كل ما نهى الشرع عنه وكان لبعض الناس في فعله مصلحة دنيوية، أو أمر به وكان لبعضهم في فعله ضرر دنيوي... أليس كل تلك الأوامر والنواهي؛ الآمر بها والناهي عنها واحد؟!
حاشا شيخ الإسلام ابن تيمية أن يُظن به الموافقة على هذا العبث... فضلاً عن تأييده والتأصيل له!
وإذا كان الأمر كذلك... فكيف نفهم "قاعدته العامة" إذن؟!
الجواب؛ نفهمها بضمها إلى غيرها من أقواله في هذه المسألة... حتى نخرج بتصور كامل للمعنى الذي يقصده من قضية الموازنة بين المصالح والمفاسد، والقيود التي تحكم هذه الموازنة التي يدندن حولها في مؤلفاته.
وفيما يلي بعض النقول عنه، تحوي طرفاً من الضوابط والقواعد التي تُعين على فهم مقصوده...
1) ان المصالح والمفاسد المعتبرة تُعرف بالنص الشرعي، لا بالعقل المجرد ولا بالهوى:
قال رحمه الله: (ما اعتقده العقل مصلحة - وإن كان الشرع لم يرد به - فأحد الأمرين لازم له؛ إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر، أو أنه ليس بمصلحة - وإن اعتقده مصلحة - لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال تعالى في الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام وأهل التصوف وأهل الرأي وأهل الملك؛ حسبوه منفعة أو مصلحة نافعا وحقا وصوابا، ولم يكن كذلك، بل كثير من الخارجين عن الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس، يحسب كثير منهم أن ما هم عليه من الاعتقادات والمعاملات والعبادات؛ مصلحة لهم في الدين والدنيا ومنفعة لهم، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، وقد زُين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا، فإذا كان الإنسان يرى حسنا ما هو سيئ؛ كان استحسانه أو استصلاحه قد يكون من هذا الباب) [المجموع: ج11/ص345].
وقال: (كل من فعل ما تريده نفسه، بغير علم يبين أنه مصلحة، فهو متبع هواه، والعلم بالذي هو مصلحة العبد عند الله في الآخرة؛ هو العلم الذي جاءت به الرسل) [المنهاج: ج5/ص331].
وقال: (اعتبار مقادير المصالح والمفاسد؛ هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل إن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام) [المجموع: ج28/ص129].
وقال: (الاعتبار بالمنفعة الخالصة أو الراجحة، وهذا قد عرّفه الله عباده؛ برسله وكتبه) [المجموع: ج14/ص35].
2) ان ما أمر به الشارع هو الوسيلة إلى المصلحة المعتبرة، وما نهى عنه وسيلة إلى المفسدة المعتبرة:
قال رحمه الله: (الله لم يأمرنا إلا بما فيه صلاحنا، ولم ينهنا إلا عما فيه فسادنا) [المجموع: ج25/ص282].
وقال: (الله بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فكل ما أمر الله به ورسوله؛ فمصلحته راجحة على مفسدته، ومنفعته راجحة على المضرة، وإن كرهته النفوس) [المجموع: ج24/ص287].
وقال: (يكفي المؤمن أن يعلم؛ أن ما أمر الله به؛ فهو لمصلحة محضة أو غالبة، وما نهى الله عنه؛ فهو مفسدة محضة أو غالبة، وأن الله لا يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم ولا نهاهم عما نهاهم بخلاً به عليهم، بل أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم) [المجموع: ج27/ص91].
وقال: (القول الجامع؛ أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلم، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك) [المجموع: ج11/ص344].
وقال: (ما نهى الله عنه ورسوله؛ باطل، ممتنع أن يكون مشتملا على منفعة خالصة أو راجحة) [المجموع: ج11/ص348].
وقال: (العمل إذا اشتمل على مصلحة ومفسدة؛ فإن الشارع حكيم، فإن غلبت مصلحته على مفسدته؛ شرعه، وإن غلبت مفسدته على مصلحته؛ لم يشرعه، بل نهى عنه) [المجموع: ج11/ص632].
وقال: (الطاعة والعبادة؛ هي مصلحة العبد التي فيها سعادته ونجاته) [المجموع: ج14/ص34].
وقال: (وهكذا كل ما يأمر الله به، لا بد أن تكون مصلحته راجحة على مفسدته) [المجموع: ج16/ص165].
وقال: (الشرك، والقول على الله بلا علم، والفواحش - ما ظهر منها وما بطن - والظلم؛ لا يكون فيها شيء من المصلحة) [المجموع: ج14/ص476].
وقال: (الشارع؛ أمر كل إنسان بما هو المصلحة له وللمسلمين) [المنهاج: ج4/ص542].
وقال: (الواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة، إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب، والله لا يحب الفساد) [المجموع: ج28/ص126].
3) أن حصول بعض "المصالح" من فعل ما، لا يستلزم كونه جائزاً مباحاً [5]:
قال رحمه الله: (حصول الغرض ببعض الأمور؛ لا يستلزم إباحته، وإن كان الغرض مباحا، فإن ذلك الفعل قد يكون فيه مفسدة راجحة على مصلحته... وإلا فجميع المحرمات - من الشرك والخمر والميسر والفواحش والظلم - قد يحصل لصاحبه به منافع ومقاصد) [المجموع: ج1/ص264].
وقال: (قد يحصل بالكفر والفسوق والعصيان؛ بعض أغراض الإنسان، فلا يحل له ذلك) [المجموع: ج1/ص138].
وقال: (الأمور التي حرمها الله ورسوله - من الشرك والسحر والقتل والزنا وشهادة الزور وشرب الخمر وغير ذلك من المحرمات - قد يكون للنفس فيها حظ مما تعده منفعة أو دفع مضرة، ولولا ذلك ما أقدمت النفوس على المحرمات التي لا خير فيها بحال) [المجموع: ج27/ص90].
4) اعتقاد ان المفاسد المتوقعة نتيجة لتطبيق نصوص الشرع أكبر من المصالح الحاصلة، هو مذهب الجهمية:
قال رحمه الله: (مذهب جمهور المسلمين من السلف والخلف؛ أن ما أمر الله به لا بد أن تكون مصلحته راجحة، ومنفعته راجحة، وأما ما كانت مضرته راجحة؛ فإن الله لا يأمر به، وأما جهم ومن وافقه من الجبرية؛ فيقولون: إن الله قد يأمر بما ليس فيه منفعة ولا مصلحة البتة، بل يكون ضررا محضا إذا فعله المأمور به، وقد وافقهم على ذلك طائفة من متأخري أتباع الأئمة ممن سلك مسلك المتكلمين - أبي الحسن الأشعري وغيره - في مسائل القدر، فنصر مذهب جهم والجبرية) [المجموع: ج16/ص165].
5) معظم الأعمال - ومن ضمنها ما أمر به الشرع - لا تخلو من "مفسدة":
قال رحمه الله: (المصلحة المحضة؛ نادرة، فأكثر الحوادث فيها ما يسوء ويسر، فيشتمل الفعل؛ على ما ينفع ويُحب ويُراد ويُطلب، وعلى ما يضر ويُبغض ويُكره ويُدفع) [المجموع: ج19/ص298].
6) تجويز تحليل الحرام وتحريم الحلال، بناء على ما يراه المرء "مصلحة" أو "مفسدة"؛ هو دين النصارى:
قال رحمه الله: (تقول النصارى؛ من أن المسيح سوغ لعلمائهم أن يحرموا ما رأوا تحريمه مصلحة، ويحلوا ما رأوا تحليله مصلحة، وليس هذا دين المسلمين، ولا كان الصحابة يسوغون ذلك لأنفسهم، ومن اعتقد في الصحابة أنهم كانوا يستحلون ذلك، فإنه يستتاب كما يستتاب أمثاله) [المجموع: ج33/ص94].
7) المصالح المرجوة من القيام بفريضة الجهاد؛ راجحة على المفاسد المتوقعة منه:
قال رحمه الله: (الجهاد وإنفاق الأموال؛ قد تكون مضرة، لكن لما كانت مصلحته راجحة على مفسدته؛ أمر به الشارع) [المجموع: ج1/ص265].
وقال: (الجهاد؛ هو دفع فتنة الكفر، فيحصل فيها من المضرة ما هو دونها) [المجموع: ج20/ص52].
وقال: (الشريعة تأمر بالمصالح الخالصة والراجحة، كالإيمان والجهاد، فإن الإيمان مصلحة محضة، والجهاد - وإن كان فيه قتل النفوس - فمصلحته راجحة، وفتنة الكفر أعظم فسادا من القتل، كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217] [المجموع: ج27/ص230].
وقال: (قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ... الآية} [البقرة: 216]، فأمر بالجهاد، وهو مكروه للنفوس، لكن مصلحته ومنفعته راجحة على ما يحصل للنفوس من ألمه، بمنزلة من يشرب الدواء الكريه لتحصل له العافية، فإن مصلحة حصول العافية له؛ راجحة على ألم شرب الدواء) [المجموع: ج24/ص279].
وقال: (الله سبحانه إنما حرم علينا الخبائث لما فيها من المضرة والفساد، وأمرنا بالأعمال الصالحة لما فيها من المنفعة والصلاح لنا، وقد لا تحصل هذه الأعمال إلا بمشقة - كالجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب العلم - فيحتمل تلك المشقة ويُثاب عليها، لما يعقبه من المنفعة) [المجموع: ج25/ص282].
8) الظن بأن الاستسلام للعدو الكافر فيه مصلحة راجحة؛ هو ظن المنافقين:
قال رحمه الله - وهو يقارن بين ما جرى لأهل الشام عند قدوم التتار سنة 699 هـ، وبين غزوة الأحزاب سنة 5 هـ، وحال المنافقين في الواقعتين -: (قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب: 13]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عسكر بالمسلمين عند سلع... فقالت طائفة منهم: "لا مقام لكم هنا لكثرة العدو، فارجعوا إلى المدينة"، وقيل: "لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين الشرك"، وقيل: "لا مقام لكم على القتال فارجعوا إلى الاستئمان والاستجارة بهم").
ثم قال: (وهكذا لما قدم هذا العدو كان من المنافقين من قال: "ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم، فينبغي الدخول في دولة التتار"، وقال بعض الخاصة: "ما بقيت أرض الشام تُسكن، بل ننتقل عنها إما إلى الحجاز واليمن وإما إلى مصر"، وقال بعضهم: "بل المصلحة الاستسلام لهؤلاء، كما قد استسلم لهم أهل العراق، والدخول تحت حكمهم"، فهذه المقالات الثلاث قد قيلت في هذه النازلة، كما قيلت في تلك) [6] [المجموع: ج28/ص450].
9) يجب اتباع النص الشرعي، وإن غاب عن المسلم؛ وجه المصلحة منه:
قال رحمه الله: (الواجب على الخلق؛ اتباع الكتاب والسنة، وإن لم يدركوا ما في ذلك من المصلحة والمفسدة) [الاقتضاء: ص227].
بما تقدم نكون قد أوضحنا معنى "قاعدته العامة"، وانه لم يترك حبلها على غاربه، وإنما قرر ضوابط وقيود تخضع لها ويُعمل بها على وفقها [7]... وبالتالي؛ هو بريء مما ينسبه إليه المعطلون للأوامر، المنتهكون للمحرمات - حتى ولو بلغت تلك المحرمات درجة الكفر الأكبر المخرج من الملة - تحت دعوى تحصيل "المصالح" ودفع "المفاسد".
وفي الختام...
نُذكر المغرر بهم من أتباع المحتجين بهذه الشبهة الشيطانية، بقول الصحابي الجليل رافع بن خديج رضي الله عنه: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان نافعاً لنا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا) [8].
والله أعلم وأحكم
وصلى الله وسلم على نبيه وآله وصحبه وسلم
----------------------------------------
[1] أصول الشرائع: ص307، عن مقال: "الشريعة والمصلحة بين شيخ الأزهر وجون جيرمي بونتام".
[2] معالم تاريخ الإنسانية: ج3/ص896، عن كتاب: "العلمانية، نشأتها وتطورها...".
[3] ولو قلنا "إلغاء" بدل "تعطيل" لما جانبنا الحقيقة، فليس الأمر عند هؤلاء؛ مجرد تعطيل أو تأخير للعمل بالنص الشرعي القاضي بالخروج على الحاكم إذا كفر، إلى أن يستكمل المسلمون الإعداد المعنوي والعسكري اللازم لازالته وتنصيب حاكم مسلم محله، كما قال ابن تيمية: (يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل؛ في وقت سقوطه للعجز، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) [ج28/ص259]، بل هو رفض تام حتى لمجرد الحديث عن واقع ذلك الحاكم الطاغية وجرائمه... فضلاً عن الإعداد للخروج عليه! والأمر كما قال الشيخ أيمن الظواهري: (ليس بيننا كبير خلاف وبين من يدعو إلى عدم الصدام الآن لأن أسبابه لم تتوفر في بلد ما أو منطقة ما، وإذا وجد هذا الخلاف؛ فسينحصر في البحث عن الجدوى وأنسب الوسائل، وقد يكون مصيبا، وقد نكون مصيبين، أما من يحرم الجهاد ضد الحكام العملاء المرتدين، ويعترف بحاكمية الأغلبية ويعتبرها دينه الذي يدين به، ويدين بالانتماء الوطني ويُعليه فوق أخوة الإسلام، ويخضع لتقسيمات "سايكس بيكو"، ويتخلى عن إقامة الخلافة، ويبايع الخونة أعداء الأمة حكاما لبلاد الإسلام، ويتعاون مع الغزاة الصليبيين، ويلعن المجاهدين ويصفهم بالمجرمين، فهذا خلافنا معه ليس خلافا حول الوسائل، بل هو خلاف حول عقيدة الإسلام التي ينسلخ منها).
[4] وهم حتى في هذا - أي تعطيل الجهاد خوفاً من "المفسدة" - يتناقضون أشد التناقض، فهم - على سبيل المثال - يعارضون الجهاد في جزيرة العرب - التي تنطلق منها الجيوش الصليبية لتعيث فساداً في ديار المسلمين - لكونه مفسدة، أدت إلى تدمير مجمعات سكنية - عددها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة! - قُتل فيها عدد من النصارى والمرتدين من الشرط، لكنهم يؤيدون الجهاد في العراق، حتى وإن كانت الأضرار المادية الناتجة عنه كارثية، وأرقام القتلى والمهجرين فلكية! - نعزف عن ذكرها لكونها في ازدياد طردي مع ارتفاع وتيرة العمليات العسكرية ضد المحتل الصليبي وأعوانه - وهم يعارضون الهجوم على اليهود في "طابا" المصرية، لكونه مفسدة أضرت بقطاع "السياحة" وقطعت موارد العاملين في مجال "الدعارة" وبيع التحف! لكنهم يؤيدون هجوم الحزب الإيراني في لبنان على دولة يهود... حتى وإن كان عدد القتلى والجرحى من سكان لبنان قد تجاوز الـ 5 آلاف، وعدد المنازل المهدومة والمتضررة قد تجاوز 40 ألفاً، وبلغت الخسائر المادية ما قيمته 15 مليار دولار! هذا غير خسائر المسلمين داخل فلسطين المحتلة الذين أصابتهم صواريخ الحزب الإيراني، مقابل خسائر تكبدتها دولة يهود لا تصل نسبتها في بعض المجالات 1% من خسائر لبنان في نفس المجال!
ومثل ذلك في تأييدهم للجهاد في الشيشان وفي فلسطين وفي أفغانستان، رغم ان هذه الحروب أتت على اليابس واليابس - إذ لم يكن هناك ما هو أخضر -!
أما دعاة تعطيل الأمر النبوي بالخروج على الحاكم إذا كفر، بحجة "درء المفسدة"... ونخص بالذكر هنا؛ كهنة النظام السعودي، فنجدهم يحرضون مسلمي العراق أشد التحريض على الخروج على صدام حسين بعدما اختلف مع طواغيتهم، وضد "ولي الأمر"! الأفغاني الشيوعي المدعوم من الاتحاد السوفيتي - خصم أمريكا في حينه -... بل وضد كل من خالف طواغيتهم من "ولاة الأمر"! الآخرين - كالقذافي مثلاً - ضاربين بـ "المصلحة" المزعومة عرض الحائط!
أمام هذه الحقائق، نسأل؛ ما هي تلك "المصالح" و "المفاسد" التي تقوم عليها مواقف هذه الطوائف، والتي جعلوا الحكم الشرعي خاضعاً لها؟! لا شك انها ليست "مصلحة المسلمين العامة"، فإن ما ضربناه من أمثلة ينسف تلك الدعوى من جذورها.
[5] في هذا الضابط رد على الذين يرتكبون الموبقات، فإذا اُعترض عليهم، قالوا: ان مصلحة الدعوة تستوجب منهم ذلك! ويمكن عنونة هذا الضابط بـ "الغاية لا تبرر الوسيلة"!
[6] وقد أرسل رحمه الله في تلك النازلة إلى نائب قلعة دمشق يقول له: (لو لم يبق فيها إلا حجر واحد، فلا تسلمهم ذلك إن استطعت) [البداية والنهاية: ج14/ص10]، فأين هذا الموقف من مواقف أصحاب المصالح المزعومة، المنسحقين تحت أقدام العدو؟! ثم بعد ذلك يدعون اقتدائهم بابن تيمية في منهجه...
سارت مشرقة وسرت مغرباً **** شتان بين مشرق ومغرب
[7] وكذلك كل فقيه يستدل المخالفون بأقواله في هذه المسألة، لا بد وأن يكون عنده من القيود والضوابط، التي تجعل من احتجاجهم بأقواله في التنظير لعبثهم بالشريعة؛ افتراءً عليه، وتقويلا له ما لم يقل ولم يخطر على باله يوماً... اللهم إلا أن يكون زنديقاً يتزي بزي أهل العلم وهو يرى أن نصوص الشرع غير ملزمة!
[8] رواه الطبراني في "المعجم الكبير"، برقم: 4161.
فمنهم من كان صريحاً - مع نفسه ومع غيره -؛ فأعلن رفضه لتلك النصوص وعدم تصديقه - أساساً - بكونها إلهية المصدر، واجبة الاتباع.
وكان منهم طوائف أخرى - وهي المعنية بهذا المقال -؛ أدعت إيمانها بتلك النصوص، وأقرت بكونها واجبة الاتباع، إلا انها عند الانتقال من مرحلة التنظير إلى مرحلة التطبيق؛ تلتقي بالفريق الأول في تعطليها وترك العمل بها.
وحجة هؤلاء؛ ان الشريعة الإسلامية "جاءت؛ بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها"، ومن ثم فإذا ما تعارض قول الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، مع "المصلحة"، أو كان العمل بهما؛ مؤدياً إلى "مفسدة"، فالواجب تعطيلهما والعمل بما تمليه عليهم "المصلحة".
وهذه - كما أخبرنا القرآن الكريم - صفة من صفات المنافقين، قال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62 - 63].
يقول الأستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله معلقاً على حجتهم هذه: (... هي دائماً دعوى كل من يحيدون عن الاحتكام إلى منهج الله وشريعته؛ أنهم يريدون اتقاء الإشكالات والمتاعب والمصاعب التي تنشأ من الاحتكام إلى شريعة الله! ويريدون التوفيق بين العناصر المختلفة والاتجاهات المختلفة والعقائد المختلفة! إنها حجة الذين يزعمون الإيمان - وهم غير مؤمنين - وحجة المنافقين الملتوين، هي؛ هي، دائماً وفي كل حين).
والأمثلة من واقع تلك الطوائف كثيرة، بل يمكن القول؛ أنها تتعامل مع جميع النصوص الشرعية بهذه الصورة، إلا ما تعلق من تلك النصوص بـ "فقه العبادات"، على تفاوت بين تلك الطوائف، وقد نالت النصوص المتعلقة بتوحيد الإلوهية - بمعناه الشامل المتضمن لتوحيد الحاكمية ومقتضياته من الولاء والبراء وغير ذلك - والمتعلقة بالجهاد والسياسة الشرعية؛ القسط الأوفر من هذا التعطيل والنبذ... بل والاعتداء على العاملين بها.
وفي مجال استدلالهم على جواز تقديم "المصلحة" على النص الشرعي؛ يحتجون بأقوال لبعض أهل العلم في هذا الباب، من أشهرهم؛ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ويمكن إجمال ما يستدل به أولئك في كلمة واحدة جامعة عنه، يقول فيها: (... القاعدة العامة؛ فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها، فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي - وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة - فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر؛ لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته) [المجموع: ج28/ص129].
إن القارئ لهذا "القاعدة" يجد أنها تؤصل للطريقة التي تتعامل بها تلك الطوائف مع النصوص الشرعية، بل لو قارناها مع كلام منظري الفريق الأول - اللا ديني - لوجدناها تحمل ذات النفس.
فأي فرق بينها وبين قول "فيلسوف التشريع العلماني" - جون جيرمي بونتام - مثلاً: (يجب أن يكون سير الديانة؛ موافقا لمقتضى المنفعة) [1]؟!
أو بينها وبين ما يُعرف في دين النصارى بـ "حق التّحلة"، الذي "يُبيح للكنيسة أن تخرج عن تعاليم الدين، وتتخلى عن الالتزام بها، متى اقتضت المصلحة ذلك" [2].
إذ أن ملخص ما يستدلون به من كلام ابن تيمية رحمه الله يقول؛ "ان للناس عمل ما يرونه أصلح لدنياهم وان خالفت أعمالهم نصوص الشرع"! وحينها فما فائدة الوحي الذي نؤمن - نحن المسلمون - أن جبريل عليه السلام نزل به على النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذا كان الصواب تقديم "المصلحة" عليه؟!
وما قيمة تعاليم الأنبياء التي بلغوها عن الله عز وجل إلى الجنس البشري؛ إذا كانت نجاة وفلاح الإنسان في اتباع مصالحه التي يستطيع معرفتها بعقله المجرد؟!
ولمَ أمرنا الله عز وجل باتباع النصوص الشرعية، كما في قوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3]، وحذر المعرضين عن اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، إذا كان الصواب هو العمل بما تمليه "المصلحة" لا النص إذا ما تعارضا؟!
ولم أخبرنا الله عز وجل أن المتبع لأوامره لا بد وأن يُبتلى ويتضرر في دنياه، كما في قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155]، وقال عن التاركين للعمل بما أمر الله خوفاً من هذا الضرر والابتلاء: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}، إذا كان الصواب ترك العمل بالنص الشرعي عندما يكون العمل به سبباً في ضرر دنيوي؟!
يقول الشوكاني رحمه الله في تفسير هذه الآية: ({وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ}؛ أي في شأن الله ولأجله، كما يفعله أهل الكفر مع أهل الإيمان، وكما يفعله أهل المعاصي مع أهل الطاعات، من إيقاع الأذى عليهم لأجل الإيمان بالله والعمل بما أمر به، {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ}؛ التي هي ما يوقعونه عليه من الأذى {كَعَذَابِ اللَّهِ}؛ أي جزع من أذاهم فلم يصبر عليه، وجعله في الشدة والعظم كعذاب الله، فأطاع الناس كما يطيع الله) [فتح القدير: ج5/ص430].
ألا يرى العاملون بمذهب تقديم المصلحة على النص؛ أنهم يسيرون في طريق طائفة "اللا دينيين" حذو القذة بالقذة - فالخلاف بين الطائفتين هو في "تبرير" تعطيل النصوص، لا في "هل يُعمل بها أو لا يُعمل"، إذ الفريقان متفقان على أصل واحد، وهو ترك العمل بما يتعارض مع مصالحهم من تلك النصوص! وان كانوا يختلفون في تحديد تلك المصالح - وأن مذهبهم هذا يؤدي إلى إبطال الأمر والنهي ونبذ الشرع - الذي يزعمون الإيمان به - تماماً؟!
ففتح مثل هذا الباب؛ يعني إلغاء دين الإسلام... وقبل ذلك هو؛ إلغاء لوجودهم - هم - وإلغاء لمسمياتهم ومناصبهم ومراكزهم التي يمارسون من خلالها "الأستاذية" على بقية المسلمين! فلماذا يحق لهم - هم، وهم وحدهم! - تقدير المصالح التي يدفعون بها في نحر النصوص الشرعية، فيعطلون منها ما شاءوا؟! ولا يحق لغيرهم - كائناً من كان - أن يقدر من المصالح ما يعطل به من النصوص الشرعية التي يلزمه العمل بها؟!... أليس الجميع قد حباهم الله بـ "عقول" تستطيع معرفة الصواب من الخطأ والمصلحة من المفسدة؟! أم انهم قد خُلقوا بأدمغة تختلف عن أدمغة غيرهم من بني الإنسان؟! وحبوا بإلهام وتأييد إلهي لم ينل غيرهم حظاً منه؟!
لمَ يحق لهم؛ تعطيل الأمر بجهاد المرتدين [3] - مثلاً - تحت دعوى "درء المفسدة" [4]، ولا يحق للتاجر؛ أن يمنع الزكاة، تحت ذات الذريعة - أي درء مفسدة نقصان ماله -؟! ولماذا يحق لهم؛ الدخول في موالاة الكفار والمرتدين تحت دعوى "ترجيح المصلحة"، ولا يحق للفقير التعامل بالربا؛ بحجة ترجيح مصلحة الغنى على مفسدة الفقر؟! أو لا يحق للمرأة الاختلاط بالرجال وهي متبرجة في مجال عملها؛ لمصلحة "زيادة الإنتاج"؟! وقل مثل ذلك في كل ما نهى الشرع عنه وكان لبعض الناس في فعله مصلحة دنيوية، أو أمر به وكان لبعضهم في فعله ضرر دنيوي... أليس كل تلك الأوامر والنواهي؛ الآمر بها والناهي عنها واحد؟!
حاشا شيخ الإسلام ابن تيمية أن يُظن به الموافقة على هذا العبث... فضلاً عن تأييده والتأصيل له!
وإذا كان الأمر كذلك... فكيف نفهم "قاعدته العامة" إذن؟!
الجواب؛ نفهمها بضمها إلى غيرها من أقواله في هذه المسألة... حتى نخرج بتصور كامل للمعنى الذي يقصده من قضية الموازنة بين المصالح والمفاسد، والقيود التي تحكم هذه الموازنة التي يدندن حولها في مؤلفاته.
وفيما يلي بعض النقول عنه، تحوي طرفاً من الضوابط والقواعد التي تُعين على فهم مقصوده...
1) ان المصالح والمفاسد المعتبرة تُعرف بالنص الشرعي، لا بالعقل المجرد ولا بالهوى:
قال رحمه الله: (ما اعتقده العقل مصلحة - وإن كان الشرع لم يرد به - فأحد الأمرين لازم له؛ إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر، أو أنه ليس بمصلحة - وإن اعتقده مصلحة - لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال تعالى في الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام وأهل التصوف وأهل الرأي وأهل الملك؛ حسبوه منفعة أو مصلحة نافعا وحقا وصوابا، ولم يكن كذلك، بل كثير من الخارجين عن الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس، يحسب كثير منهم أن ما هم عليه من الاعتقادات والمعاملات والعبادات؛ مصلحة لهم في الدين والدنيا ومنفعة لهم، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، وقد زُين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا، فإذا كان الإنسان يرى حسنا ما هو سيئ؛ كان استحسانه أو استصلاحه قد يكون من هذا الباب) [المجموع: ج11/ص345].
وقال: (كل من فعل ما تريده نفسه، بغير علم يبين أنه مصلحة، فهو متبع هواه، والعلم بالذي هو مصلحة العبد عند الله في الآخرة؛ هو العلم الذي جاءت به الرسل) [المنهاج: ج5/ص331].
وقال: (اعتبار مقادير المصالح والمفاسد؛ هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل إن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام) [المجموع: ج28/ص129].
وقال: (الاعتبار بالمنفعة الخالصة أو الراجحة، وهذا قد عرّفه الله عباده؛ برسله وكتبه) [المجموع: ج14/ص35].
2) ان ما أمر به الشارع هو الوسيلة إلى المصلحة المعتبرة، وما نهى عنه وسيلة إلى المفسدة المعتبرة:
قال رحمه الله: (الله لم يأمرنا إلا بما فيه صلاحنا، ولم ينهنا إلا عما فيه فسادنا) [المجموع: ج25/ص282].
وقال: (الله بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فكل ما أمر الله به ورسوله؛ فمصلحته راجحة على مفسدته، ومنفعته راجحة على المضرة، وإن كرهته النفوس) [المجموع: ج24/ص287].
وقال: (يكفي المؤمن أن يعلم؛ أن ما أمر الله به؛ فهو لمصلحة محضة أو غالبة، وما نهى الله عنه؛ فهو مفسدة محضة أو غالبة، وأن الله لا يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم ولا نهاهم عما نهاهم بخلاً به عليهم، بل أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم) [المجموع: ج27/ص91].
وقال: (القول الجامع؛ أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلم، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك) [المجموع: ج11/ص344].
وقال: (ما نهى الله عنه ورسوله؛ باطل، ممتنع أن يكون مشتملا على منفعة خالصة أو راجحة) [المجموع: ج11/ص348].
وقال: (العمل إذا اشتمل على مصلحة ومفسدة؛ فإن الشارع حكيم، فإن غلبت مصلحته على مفسدته؛ شرعه، وإن غلبت مفسدته على مصلحته؛ لم يشرعه، بل نهى عنه) [المجموع: ج11/ص632].
وقال: (الطاعة والعبادة؛ هي مصلحة العبد التي فيها سعادته ونجاته) [المجموع: ج14/ص34].
وقال: (وهكذا كل ما يأمر الله به، لا بد أن تكون مصلحته راجحة على مفسدته) [المجموع: ج16/ص165].
وقال: (الشرك، والقول على الله بلا علم، والفواحش - ما ظهر منها وما بطن - والظلم؛ لا يكون فيها شيء من المصلحة) [المجموع: ج14/ص476].
وقال: (الشارع؛ أمر كل إنسان بما هو المصلحة له وللمسلمين) [المنهاج: ج4/ص542].
وقال: (الواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة، إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب، والله لا يحب الفساد) [المجموع: ج28/ص126].
3) أن حصول بعض "المصالح" من فعل ما، لا يستلزم كونه جائزاً مباحاً [5]:
قال رحمه الله: (حصول الغرض ببعض الأمور؛ لا يستلزم إباحته، وإن كان الغرض مباحا، فإن ذلك الفعل قد يكون فيه مفسدة راجحة على مصلحته... وإلا فجميع المحرمات - من الشرك والخمر والميسر والفواحش والظلم - قد يحصل لصاحبه به منافع ومقاصد) [المجموع: ج1/ص264].
وقال: (قد يحصل بالكفر والفسوق والعصيان؛ بعض أغراض الإنسان، فلا يحل له ذلك) [المجموع: ج1/ص138].
وقال: (الأمور التي حرمها الله ورسوله - من الشرك والسحر والقتل والزنا وشهادة الزور وشرب الخمر وغير ذلك من المحرمات - قد يكون للنفس فيها حظ مما تعده منفعة أو دفع مضرة، ولولا ذلك ما أقدمت النفوس على المحرمات التي لا خير فيها بحال) [المجموع: ج27/ص90].
4) اعتقاد ان المفاسد المتوقعة نتيجة لتطبيق نصوص الشرع أكبر من المصالح الحاصلة، هو مذهب الجهمية:
قال رحمه الله: (مذهب جمهور المسلمين من السلف والخلف؛ أن ما أمر الله به لا بد أن تكون مصلحته راجحة، ومنفعته راجحة، وأما ما كانت مضرته راجحة؛ فإن الله لا يأمر به، وأما جهم ومن وافقه من الجبرية؛ فيقولون: إن الله قد يأمر بما ليس فيه منفعة ولا مصلحة البتة، بل يكون ضررا محضا إذا فعله المأمور به، وقد وافقهم على ذلك طائفة من متأخري أتباع الأئمة ممن سلك مسلك المتكلمين - أبي الحسن الأشعري وغيره - في مسائل القدر، فنصر مذهب جهم والجبرية) [المجموع: ج16/ص165].
5) معظم الأعمال - ومن ضمنها ما أمر به الشرع - لا تخلو من "مفسدة":
قال رحمه الله: (المصلحة المحضة؛ نادرة، فأكثر الحوادث فيها ما يسوء ويسر، فيشتمل الفعل؛ على ما ينفع ويُحب ويُراد ويُطلب، وعلى ما يضر ويُبغض ويُكره ويُدفع) [المجموع: ج19/ص298].
6) تجويز تحليل الحرام وتحريم الحلال، بناء على ما يراه المرء "مصلحة" أو "مفسدة"؛ هو دين النصارى:
قال رحمه الله: (تقول النصارى؛ من أن المسيح سوغ لعلمائهم أن يحرموا ما رأوا تحريمه مصلحة، ويحلوا ما رأوا تحليله مصلحة، وليس هذا دين المسلمين، ولا كان الصحابة يسوغون ذلك لأنفسهم، ومن اعتقد في الصحابة أنهم كانوا يستحلون ذلك، فإنه يستتاب كما يستتاب أمثاله) [المجموع: ج33/ص94].
7) المصالح المرجوة من القيام بفريضة الجهاد؛ راجحة على المفاسد المتوقعة منه:
قال رحمه الله: (الجهاد وإنفاق الأموال؛ قد تكون مضرة، لكن لما كانت مصلحته راجحة على مفسدته؛ أمر به الشارع) [المجموع: ج1/ص265].
وقال: (الجهاد؛ هو دفع فتنة الكفر، فيحصل فيها من المضرة ما هو دونها) [المجموع: ج20/ص52].
وقال: (الشريعة تأمر بالمصالح الخالصة والراجحة، كالإيمان والجهاد، فإن الإيمان مصلحة محضة، والجهاد - وإن كان فيه قتل النفوس - فمصلحته راجحة، وفتنة الكفر أعظم فسادا من القتل، كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217] [المجموع: ج27/ص230].
وقال: (قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ... الآية} [البقرة: 216]، فأمر بالجهاد، وهو مكروه للنفوس، لكن مصلحته ومنفعته راجحة على ما يحصل للنفوس من ألمه، بمنزلة من يشرب الدواء الكريه لتحصل له العافية، فإن مصلحة حصول العافية له؛ راجحة على ألم شرب الدواء) [المجموع: ج24/ص279].
وقال: (الله سبحانه إنما حرم علينا الخبائث لما فيها من المضرة والفساد، وأمرنا بالأعمال الصالحة لما فيها من المنفعة والصلاح لنا، وقد لا تحصل هذه الأعمال إلا بمشقة - كالجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب العلم - فيحتمل تلك المشقة ويُثاب عليها، لما يعقبه من المنفعة) [المجموع: ج25/ص282].
8) الظن بأن الاستسلام للعدو الكافر فيه مصلحة راجحة؛ هو ظن المنافقين:
قال رحمه الله - وهو يقارن بين ما جرى لأهل الشام عند قدوم التتار سنة 699 هـ، وبين غزوة الأحزاب سنة 5 هـ، وحال المنافقين في الواقعتين -: (قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب: 13]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عسكر بالمسلمين عند سلع... فقالت طائفة منهم: "لا مقام لكم هنا لكثرة العدو، فارجعوا إلى المدينة"، وقيل: "لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين الشرك"، وقيل: "لا مقام لكم على القتال فارجعوا إلى الاستئمان والاستجارة بهم").
ثم قال: (وهكذا لما قدم هذا العدو كان من المنافقين من قال: "ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم، فينبغي الدخول في دولة التتار"، وقال بعض الخاصة: "ما بقيت أرض الشام تُسكن، بل ننتقل عنها إما إلى الحجاز واليمن وإما إلى مصر"، وقال بعضهم: "بل المصلحة الاستسلام لهؤلاء، كما قد استسلم لهم أهل العراق، والدخول تحت حكمهم"، فهذه المقالات الثلاث قد قيلت في هذه النازلة، كما قيلت في تلك) [6] [المجموع: ج28/ص450].
9) يجب اتباع النص الشرعي، وإن غاب عن المسلم؛ وجه المصلحة منه:
قال رحمه الله: (الواجب على الخلق؛ اتباع الكتاب والسنة، وإن لم يدركوا ما في ذلك من المصلحة والمفسدة) [الاقتضاء: ص227].
بما تقدم نكون قد أوضحنا معنى "قاعدته العامة"، وانه لم يترك حبلها على غاربه، وإنما قرر ضوابط وقيود تخضع لها ويُعمل بها على وفقها [7]... وبالتالي؛ هو بريء مما ينسبه إليه المعطلون للأوامر، المنتهكون للمحرمات - حتى ولو بلغت تلك المحرمات درجة الكفر الأكبر المخرج من الملة - تحت دعوى تحصيل "المصالح" ودفع "المفاسد".
وفي الختام...
نُذكر المغرر بهم من أتباع المحتجين بهذه الشبهة الشيطانية، بقول الصحابي الجليل رافع بن خديج رضي الله عنه: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان نافعاً لنا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا) [8].
والله أعلم وأحكم
وصلى الله وسلم على نبيه وآله وصحبه وسلم
----------------------------------------
[1] أصول الشرائع: ص307، عن مقال: "الشريعة والمصلحة بين شيخ الأزهر وجون جيرمي بونتام".
[2] معالم تاريخ الإنسانية: ج3/ص896، عن كتاب: "العلمانية، نشأتها وتطورها...".
[3] ولو قلنا "إلغاء" بدل "تعطيل" لما جانبنا الحقيقة، فليس الأمر عند هؤلاء؛ مجرد تعطيل أو تأخير للعمل بالنص الشرعي القاضي بالخروج على الحاكم إذا كفر، إلى أن يستكمل المسلمون الإعداد المعنوي والعسكري اللازم لازالته وتنصيب حاكم مسلم محله، كما قال ابن تيمية: (يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل؛ في وقت سقوطه للعجز، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) [ج28/ص259]، بل هو رفض تام حتى لمجرد الحديث عن واقع ذلك الحاكم الطاغية وجرائمه... فضلاً عن الإعداد للخروج عليه! والأمر كما قال الشيخ أيمن الظواهري: (ليس بيننا كبير خلاف وبين من يدعو إلى عدم الصدام الآن لأن أسبابه لم تتوفر في بلد ما أو منطقة ما، وإذا وجد هذا الخلاف؛ فسينحصر في البحث عن الجدوى وأنسب الوسائل، وقد يكون مصيبا، وقد نكون مصيبين، أما من يحرم الجهاد ضد الحكام العملاء المرتدين، ويعترف بحاكمية الأغلبية ويعتبرها دينه الذي يدين به، ويدين بالانتماء الوطني ويُعليه فوق أخوة الإسلام، ويخضع لتقسيمات "سايكس بيكو"، ويتخلى عن إقامة الخلافة، ويبايع الخونة أعداء الأمة حكاما لبلاد الإسلام، ويتعاون مع الغزاة الصليبيين، ويلعن المجاهدين ويصفهم بالمجرمين، فهذا خلافنا معه ليس خلافا حول الوسائل، بل هو خلاف حول عقيدة الإسلام التي ينسلخ منها).
[4] وهم حتى في هذا - أي تعطيل الجهاد خوفاً من "المفسدة" - يتناقضون أشد التناقض، فهم - على سبيل المثال - يعارضون الجهاد في جزيرة العرب - التي تنطلق منها الجيوش الصليبية لتعيث فساداً في ديار المسلمين - لكونه مفسدة، أدت إلى تدمير مجمعات سكنية - عددها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة! - قُتل فيها عدد من النصارى والمرتدين من الشرط، لكنهم يؤيدون الجهاد في العراق، حتى وإن كانت الأضرار المادية الناتجة عنه كارثية، وأرقام القتلى والمهجرين فلكية! - نعزف عن ذكرها لكونها في ازدياد طردي مع ارتفاع وتيرة العمليات العسكرية ضد المحتل الصليبي وأعوانه - وهم يعارضون الهجوم على اليهود في "طابا" المصرية، لكونه مفسدة أضرت بقطاع "السياحة" وقطعت موارد العاملين في مجال "الدعارة" وبيع التحف! لكنهم يؤيدون هجوم الحزب الإيراني في لبنان على دولة يهود... حتى وإن كان عدد القتلى والجرحى من سكان لبنان قد تجاوز الـ 5 آلاف، وعدد المنازل المهدومة والمتضررة قد تجاوز 40 ألفاً، وبلغت الخسائر المادية ما قيمته 15 مليار دولار! هذا غير خسائر المسلمين داخل فلسطين المحتلة الذين أصابتهم صواريخ الحزب الإيراني، مقابل خسائر تكبدتها دولة يهود لا تصل نسبتها في بعض المجالات 1% من خسائر لبنان في نفس المجال!
ومثل ذلك في تأييدهم للجهاد في الشيشان وفي فلسطين وفي أفغانستان، رغم ان هذه الحروب أتت على اليابس واليابس - إذ لم يكن هناك ما هو أخضر -!
أما دعاة تعطيل الأمر النبوي بالخروج على الحاكم إذا كفر، بحجة "درء المفسدة"... ونخص بالذكر هنا؛ كهنة النظام السعودي، فنجدهم يحرضون مسلمي العراق أشد التحريض على الخروج على صدام حسين بعدما اختلف مع طواغيتهم، وضد "ولي الأمر"! الأفغاني الشيوعي المدعوم من الاتحاد السوفيتي - خصم أمريكا في حينه -... بل وضد كل من خالف طواغيتهم من "ولاة الأمر"! الآخرين - كالقذافي مثلاً - ضاربين بـ "المصلحة" المزعومة عرض الحائط!
أمام هذه الحقائق، نسأل؛ ما هي تلك "المصالح" و "المفاسد" التي تقوم عليها مواقف هذه الطوائف، والتي جعلوا الحكم الشرعي خاضعاً لها؟! لا شك انها ليست "مصلحة المسلمين العامة"، فإن ما ضربناه من أمثلة ينسف تلك الدعوى من جذورها.
[5] في هذا الضابط رد على الذين يرتكبون الموبقات، فإذا اُعترض عليهم، قالوا: ان مصلحة الدعوة تستوجب منهم ذلك! ويمكن عنونة هذا الضابط بـ "الغاية لا تبرر الوسيلة"!
[6] وقد أرسل رحمه الله في تلك النازلة إلى نائب قلعة دمشق يقول له: (لو لم يبق فيها إلا حجر واحد، فلا تسلمهم ذلك إن استطعت) [البداية والنهاية: ج14/ص10]، فأين هذا الموقف من مواقف أصحاب المصالح المزعومة، المنسحقين تحت أقدام العدو؟! ثم بعد ذلك يدعون اقتدائهم بابن تيمية في منهجه...
سارت مشرقة وسرت مغرباً **** شتان بين مشرق ومغرب
[7] وكذلك كل فقيه يستدل المخالفون بأقواله في هذه المسألة، لا بد وأن يكون عنده من القيود والضوابط، التي تجعل من احتجاجهم بأقواله في التنظير لعبثهم بالشريعة؛ افتراءً عليه، وتقويلا له ما لم يقل ولم يخطر على باله يوماً... اللهم إلا أن يكون زنديقاً يتزي بزي أهل العلم وهو يرى أن نصوص الشرع غير ملزمة!
[8] رواه الطبراني في "المعجم الكبير"، برقم: 4161.
بقلم؛ صادق الكرخي
تعليق