يقول الإمام العلامة أبو الظفر السمعاني (426-489) رحمه الله تعالى:
((ونشتغل الآن بالجواب عن قولهم فيما سبق إن أخبار الآحاد لا تقبل فيما طريقه العلم وهذا رأس شغب المبتدعة في رد الأخبار وطلب الدليل من النظر والاعتبار
فنقول وبالله التوفيق إن الخبر إذا صح عن رسول الله ورواه الثقات والأئمة وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى رسول الله وتلقته الأمة بالقبول فإنه يوجب العلم فيما سبيله العلم
هذا قول عامة أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنة وإنما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال ولابد من نقله بطريق التواتر لوقوع العلم به شيء اخترعته القدرية والمعتزلة وكان قصدهم منه رد الأخبار وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول
ولو أنصَفَت الفرق من الأمة لأقروا بأن خبر الواحد يوجب العلم فإنك تراهم مع اختلافهم في طرائقهم وعقائدهم يستدل كل فريق منهم على صحة ما يذهب إليه بالخبر الواحد
ترى أصحاب القدر يستدلون بقول النبي كل مولود يولد على الفطرة وبقوله خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم
وترى أهل الإرجاء يستدلون بقوله من قال لا إله إلا الله دخل الجنة قالوا وإن زنى وإن سرق قال نعم وإن زنى وإن سرق وترى الرافضة يستدلون بقوله يجاء بقوم من أصحابي فيسلك بهم ذات الشمال فأقول أصيحابي أصيحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم
وترى الخوارج يستدلون بقوله سباب المسلم فسوق وقتاله كفر وبقوله لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن
إلى غير هذا من الأحاديث التي يستدل بها أهل الفرق
ومشهور معلوم استدلال أهل السنة بالأحاديث ورجوعهم إليها فهذا إجماع منهم على القول بأخبار الآحاد
وكذلك أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله عز و جل وفي مسائل القدر والرؤية وأصل الإيمان والشفاعة والحوض وإخراج الموحدين المذنبين من النار وفي صفة الجنة والنار وفي الترغيب والترهيب والوعد والوعيد وفي فضائل النبي ومناقب أصحابه وأخبار الأنبياء المتقدمين عليه وكذلك أخبار الرقائق والعظات وما أشبه ذلك مما يكثر عده وذكره وهذه الأشياء كلها علمية لا عملية وإنما تروى لوقوع علم السامع بها فإذا قلنا إن خبر الواحد بها لا يجوز أن يوجب العلم حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطأ وجعلناهم لاغين هاذين مشتغلين بما لا يفيد أحدا شيئا ولا ينفعه ويصير كأنهم قد دونوا في أمور الدين ما لا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه
وربما يترقى هذا القول إلى أعظم من هذا فإن النبي أدى هذا الدين إلى الواحد فالواحد من أصحابه ليؤدوه إلى الأمة وينقلوا عنه فإذا لم يقبل قول الراوي لأنه واحد رجع هذا العيب إلى المؤدي نعوذ بالله من هذا القول الشنيع والاعتقاد القبيح
ويدل عليه أن الأمر مشتهر في أن النبي بعث الرسل إلى الملوك إلى كسرى وقيصر وملك الإسكندرية وإلى أكيدر دومة وغيرهم من ملوك الأطراف وكتب إليهم كتبا على ما عرف ونقل واشتهر وإنما بعث واحدا واحدا ودعاهم إلى الله تعالى وإلى التصديق برسالته لإلزام الحجة وقطع العذر لقوله عز و جل رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وهذه المعاني لا تحصل إلا بعد وقوع العلم لمن أرسل إليه بالإرسال والمرسل وأن الكتاب من قبله والدعوة منه
وقد كان نبينا بعث إلى الناس كافة وكثير من الأنبياء بعثوا إلى قوم دون قوم وإنما قصد بإرسال الرسل إلى هؤلاء الملوك والكتاب إليهم بث الدعوة في جميع الممالك ودعاء الناس عامة إلى دينه على حسب ما أمره الله تعالى بذلك فلو لم يقع العلم بخبر الواحد في أمور الدين لم يقتصر على إرسال الواحد من أصحابه في هذا الأمر
وكذلك في أمور كثيرة اكتفى بإرسال الواحد من أصحابه منها
أنه بعث عليا رضي الله عنه لينادي في موسم الحج بمنى ألا لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان ومن كان بينه وبين النبي عهد فمدته إلى أربعة أشهر ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ولا بد في هذه الأشياء من وقوع العلم للقوم الذين كان يناديهم حتى إن أقدموا على شيء من هذا بعد سماع هذا القول كان رسول الله مبسوط العذر في قتالهم وقتلهم
وكذلك بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن ليدعوهم إلى الإسلام ويعلمهم إذا أجابوا شرائعه
وبعث إلى أهل خيبر في أمر القتيل واحدا يقول لهم إما أن تدوا أو تؤذنوا بحرب من الله ورسوله
وبعث إلى قريظة أبا لبابة بن عبد المنذر يستنزلهم على حكمه
وجاء أهل قباء واحد وهم في مسجدهم يصلون فأخبرهم بصرف القبلة إلى المسجد الحرام فانصرفوا في صلاتهم واكتفوا بقوله ولابد في مثل هذا من وقوع العلم به وكان النبي يرسل الطلائع والجواسيس في ديار الكفر ويقتصر على الواحد في ذلك ويقبل قوله إذا رجع وربما أقدم عليهم بالقتل والنهب بقوله وحده
ومن تدبر أمور النبي وسيرته لم يخف عليه ما ذكرنا وما يرد هذا إلا معاند مكابر
ولو أنك وضعت في قلبك أنك سمعت الصديق أو الفاروق أو غيرهما من وجوه الصحابة رضي الله عنهم يروي لك حديثا عن النبي في أمر من الاعتقاد مثل جواز الرؤية على الله تعالى أو إثبات القدر أو غير ذلك لوجدت قلبك مطمئنا إلى قوله لا يتداخلك شك في صدقه وثبوت قوله
وفي زماننا هذا ترى الرجل يسمع من أستاذه الذي يختلف إليه ويعتقد فيه التقدمة والصدق أنه سمع أستاذه يخبر عن شيء من عقيدته التي يريد أن يلقى الله تعالى بها ويرى نجاته فيها فيحصل للسامع علم بمذهب من نقل عنه أستاذه ذلك بحيث لا يختلجه شبهة ولا يعتريه شك وكذلك في كثير من الأخبار التي قضيتها العلم توجد بين الناس فيحصل لهم العلم بذلك الخبر ومن رجع إلى نفسه علم ذلك
واعلم أن الخبر وإن كان يحتمل الصدق والكذب وللظن والتجوز فيه مدخل لكن هذا الذي قلناه لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته وأيامه مشتغلا بعلم الحديث والبحث عن سيرة النقلة والرواة ليقف على رسوخهم في هذا العلم وكنه معرفتهم به وصدق ورعهم في أحوالهم وأقوالهم وشدة حذرهم من الطغيان والزلل وما بذلوه من شدة العناية في تمهيد هذا الأمر والبحث عن أحوال الرواة والوقوف على صحيح الأخبار وسقيهما
ولقد كانوا رحمهم الله وأنزل رضوانه عليهم بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحدا في كلمة يتقولها على رسول الله ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم وأدوا على ما أدي عليهم وكانوا في صدق العناية والاهتمام بهذا الشأن بما يجل عن الوصف ويقصر دونه الذكر
وإذا وقف المرء على هذا من شأنهم وعرف حالهم وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه ولم يحتج إلى شيء من هذا الذي قلناه والله ولي التوفيق والمعونة
[الانتصار لأصحاب الحديث]
((ونشتغل الآن بالجواب عن قولهم فيما سبق إن أخبار الآحاد لا تقبل فيما طريقه العلم وهذا رأس شغب المبتدعة في رد الأخبار وطلب الدليل من النظر والاعتبار
فنقول وبالله التوفيق إن الخبر إذا صح عن رسول الله ورواه الثقات والأئمة وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى رسول الله وتلقته الأمة بالقبول فإنه يوجب العلم فيما سبيله العلم
هذا قول عامة أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنة وإنما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال ولابد من نقله بطريق التواتر لوقوع العلم به شيء اخترعته القدرية والمعتزلة وكان قصدهم منه رد الأخبار وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول
ولو أنصَفَت الفرق من الأمة لأقروا بأن خبر الواحد يوجب العلم فإنك تراهم مع اختلافهم في طرائقهم وعقائدهم يستدل كل فريق منهم على صحة ما يذهب إليه بالخبر الواحد
ترى أصحاب القدر يستدلون بقول النبي كل مولود يولد على الفطرة وبقوله خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم
وترى أهل الإرجاء يستدلون بقوله من قال لا إله إلا الله دخل الجنة قالوا وإن زنى وإن سرق قال نعم وإن زنى وإن سرق وترى الرافضة يستدلون بقوله يجاء بقوم من أصحابي فيسلك بهم ذات الشمال فأقول أصيحابي أصيحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم
وترى الخوارج يستدلون بقوله سباب المسلم فسوق وقتاله كفر وبقوله لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن
إلى غير هذا من الأحاديث التي يستدل بها أهل الفرق
ومشهور معلوم استدلال أهل السنة بالأحاديث ورجوعهم إليها فهذا إجماع منهم على القول بأخبار الآحاد
وكذلك أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله عز و جل وفي مسائل القدر والرؤية وأصل الإيمان والشفاعة والحوض وإخراج الموحدين المذنبين من النار وفي صفة الجنة والنار وفي الترغيب والترهيب والوعد والوعيد وفي فضائل النبي ومناقب أصحابه وأخبار الأنبياء المتقدمين عليه وكذلك أخبار الرقائق والعظات وما أشبه ذلك مما يكثر عده وذكره وهذه الأشياء كلها علمية لا عملية وإنما تروى لوقوع علم السامع بها فإذا قلنا إن خبر الواحد بها لا يجوز أن يوجب العلم حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطأ وجعلناهم لاغين هاذين مشتغلين بما لا يفيد أحدا شيئا ولا ينفعه ويصير كأنهم قد دونوا في أمور الدين ما لا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه
وربما يترقى هذا القول إلى أعظم من هذا فإن النبي أدى هذا الدين إلى الواحد فالواحد من أصحابه ليؤدوه إلى الأمة وينقلوا عنه فإذا لم يقبل قول الراوي لأنه واحد رجع هذا العيب إلى المؤدي نعوذ بالله من هذا القول الشنيع والاعتقاد القبيح
ويدل عليه أن الأمر مشتهر في أن النبي بعث الرسل إلى الملوك إلى كسرى وقيصر وملك الإسكندرية وإلى أكيدر دومة وغيرهم من ملوك الأطراف وكتب إليهم كتبا على ما عرف ونقل واشتهر وإنما بعث واحدا واحدا ودعاهم إلى الله تعالى وإلى التصديق برسالته لإلزام الحجة وقطع العذر لقوله عز و جل رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وهذه المعاني لا تحصل إلا بعد وقوع العلم لمن أرسل إليه بالإرسال والمرسل وأن الكتاب من قبله والدعوة منه
وقد كان نبينا بعث إلى الناس كافة وكثير من الأنبياء بعثوا إلى قوم دون قوم وإنما قصد بإرسال الرسل إلى هؤلاء الملوك والكتاب إليهم بث الدعوة في جميع الممالك ودعاء الناس عامة إلى دينه على حسب ما أمره الله تعالى بذلك فلو لم يقع العلم بخبر الواحد في أمور الدين لم يقتصر على إرسال الواحد من أصحابه في هذا الأمر
وكذلك في أمور كثيرة اكتفى بإرسال الواحد من أصحابه منها
أنه بعث عليا رضي الله عنه لينادي في موسم الحج بمنى ألا لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان ومن كان بينه وبين النبي عهد فمدته إلى أربعة أشهر ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ولا بد في هذه الأشياء من وقوع العلم للقوم الذين كان يناديهم حتى إن أقدموا على شيء من هذا بعد سماع هذا القول كان رسول الله مبسوط العذر في قتالهم وقتلهم
وكذلك بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن ليدعوهم إلى الإسلام ويعلمهم إذا أجابوا شرائعه
وبعث إلى أهل خيبر في أمر القتيل واحدا يقول لهم إما أن تدوا أو تؤذنوا بحرب من الله ورسوله
وبعث إلى قريظة أبا لبابة بن عبد المنذر يستنزلهم على حكمه
وجاء أهل قباء واحد وهم في مسجدهم يصلون فأخبرهم بصرف القبلة إلى المسجد الحرام فانصرفوا في صلاتهم واكتفوا بقوله ولابد في مثل هذا من وقوع العلم به وكان النبي يرسل الطلائع والجواسيس في ديار الكفر ويقتصر على الواحد في ذلك ويقبل قوله إذا رجع وربما أقدم عليهم بالقتل والنهب بقوله وحده
ومن تدبر أمور النبي وسيرته لم يخف عليه ما ذكرنا وما يرد هذا إلا معاند مكابر
ولو أنك وضعت في قلبك أنك سمعت الصديق أو الفاروق أو غيرهما من وجوه الصحابة رضي الله عنهم يروي لك حديثا عن النبي في أمر من الاعتقاد مثل جواز الرؤية على الله تعالى أو إثبات القدر أو غير ذلك لوجدت قلبك مطمئنا إلى قوله لا يتداخلك شك في صدقه وثبوت قوله
وفي زماننا هذا ترى الرجل يسمع من أستاذه الذي يختلف إليه ويعتقد فيه التقدمة والصدق أنه سمع أستاذه يخبر عن شيء من عقيدته التي يريد أن يلقى الله تعالى بها ويرى نجاته فيها فيحصل للسامع علم بمذهب من نقل عنه أستاذه ذلك بحيث لا يختلجه شبهة ولا يعتريه شك وكذلك في كثير من الأخبار التي قضيتها العلم توجد بين الناس فيحصل لهم العلم بذلك الخبر ومن رجع إلى نفسه علم ذلك
واعلم أن الخبر وإن كان يحتمل الصدق والكذب وللظن والتجوز فيه مدخل لكن هذا الذي قلناه لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته وأيامه مشتغلا بعلم الحديث والبحث عن سيرة النقلة والرواة ليقف على رسوخهم في هذا العلم وكنه معرفتهم به وصدق ورعهم في أحوالهم وأقوالهم وشدة حذرهم من الطغيان والزلل وما بذلوه من شدة العناية في تمهيد هذا الأمر والبحث عن أحوال الرواة والوقوف على صحيح الأخبار وسقيهما
ولقد كانوا رحمهم الله وأنزل رضوانه عليهم بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحدا في كلمة يتقولها على رسول الله ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم وأدوا على ما أدي عليهم وكانوا في صدق العناية والاهتمام بهذا الشأن بما يجل عن الوصف ويقصر دونه الذكر
وإذا وقف المرء على هذا من شأنهم وعرف حالهم وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه ولم يحتج إلى شيء من هذا الذي قلناه والله ولي التوفيق والمعونة
[الانتصار لأصحاب الحديث]
تعليق