هناك حيث كان بيتنا الطيني وتحت أشعة الشمس التي غزلت خيوطها الذهبيه على وجه جدتي الجعد وجسمها النحيل هناك حيث كانت تسند جدتي رحمها الله ظهرها على ذاك الجدار القديم ما كنت لأضع تلك الحقيبه عن ظهري الصغير إلا وأخرج كتبي ودفاتري كلها فأنثرها أمامها وأمسك بالقلم وأقول هيا بدء الدرس الآن
تسألني بلهفه أي حرف تعلمت اليوم ؟
فأجيب بثقة حرف السين ياجدتي أُمسك بالقلم وكأني ممسك بسيف في مقارعة الأعداء فأكتبه أمامها وهي تنظر بشغف أو هكذا كنت أتخيل ثم أبدأ بتلقينها الحرف سين سين وتردد خلفي سين سين
هيا أنظري ياجدتي سأكتب سين هنا فوق هذه النقاط فتحاول جاهده استراق النظر وتقول جيد يابني أنت جيد
كان ذلك يحصل يومياً وجدتي تسأل طفلها أين حرف الباء فأشير هذا هو إذن أين الفاء فأضع إصبعها المجعد هاهو حرف الفاء فتتظاهر أنها تعرف وكل يوم تفتح هي أي دفتر يقع في يدها وتشير بأصبعها ماهذا ؟ وكيف هذا؟ وكم يساوي هذا ؟
فأجيب بثقه وتعالي وهكذا استمر الحال لسنوات قبل أن أدرك بأن جدتي أميه لا تقرأ ولا تكتب ولم تذهب للكُتابِ يوماً
لم يكن يمر يوم إلا وتسألني كيف كان يومك يابني وكيف التعليم ؟ وتوصيني ذاكر واجتهد وحُل واجباتك حتى في دراستي الجامعيه كانت تسأل دوماً كيف "المدرسه" فأقبل رأسها وأقول الحمد لله يا جدتي فترد وفقك الله يابني
ماذا أقول عن مُعلمتي الأميه ومُربيتي التي لا تُفرق بين الأرقام والحروف وكيف أكتب عنها وأي مدرسةٍ هي وقد اجتمعت فيها كل النقائض فالحكمه والسذاجه الشيخوخه والبراءة أحبت الحياه بحُلوها ومُرها فبادلتها الحياه حُبا بحُب فمنحتها ذلك العمر المديد لم أسمعها يوماً تشتكي أو تتذمر لم يكن لليأس مكاناً عندها كانت تعطي ولا تنتظر المقابل
كبرتُ وكبِرت جدتي لكني مازلت طفلها الصغير فتخصني بالحلوى المخبأه في الأدراج رغم مرور أكثر من ثلاثين عاما على لقاءنا الأول لاأدري لماذا طرقت باب الذكريات الآن بل لا أدري ان كنت طرقته فعلا أم كان الباب مفتوحاً على مصراعيه ينتظر زائره فيسمعني صريره في كل نبضه قلب ومع كل طرفة عين فيقع صريره مني كقعقعة اللجام برأس مُهري فأستجديه رد تحيهٍ لعل رده نافعي
ماأقسى لحظات الفراق تلك التي حفرت أخاديداً مؤلمة في أغوار الذاكرة بمعاني الفقد والرحيل
سِفراً من الحكمه ألقاه الرجال من على أكتافهم على عتبات السماء وغيمه من نور تزملت بثرى قاعِ سرمدي لتُحدث العالم عن تعانق الأرض والسماء
تعليق