قال الله تعالى :{يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 30] وقال:{ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} [الأنبياء: 47] وقال :{ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً} [الكهف: 49] وقال :{يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} [الزلزلة: 6-8] فاقتضت هذه الآيات وما أشبهها خطر الحساب في الآخرة.
وتحقق أرباب البصائر أنهم لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة لأنفسهم وصدق المراقبة، فمن حاسب نفسه في الدنيا، خف في القيامة حسابه، وحسن منقبله، ومن أهمل المحاسبة دامت حسراته، فلما علموا أنهم لا ينجيهم إلا الطاعة وقد أمرهم الله تعالى بالصبر والمرابطة فقال :{يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا} [آل عمران: 200] فرابطوا أنفسهم أولاً بالمشارطة، ثم المراقبة، ثم بالمحاسبة، ثم بالمعاقبة، ثم بالمجاهدة، ثم بالمعاتبة، فكانت لهم في المرابطة ست مقامات، وأصلها المحاسبة، ولكن كل حساب يكون بعد مشارطة ومراقبة، ويتبعه عند الخسران المعاتبة والمعاقبة، ولابد من شرح ذلك المقام.
فإذا فرغ العبد من فريضة الصبح، ينبغي أن يفرغ قلبه ساعة لمشارطة نفسه فيقول للنفس: ما لى بضاعة إلا العمر، فإذا فني منى رأس المال وقع اليأس من التجارة، وطلب الربح، وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه، وأخر أجلى، وأنعم على به، ولو توفانى لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا حتى أعمل فيه صالحاً، فاحسبي يا نفس أنك قد توفيت ثم رددت، فإياك أن تضيعي هذا اليوم، وأعلمي أن اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، وأن العبد ينشر له بكل يوم أربع وعشرون خزانة مصفوفة، فيفتح له منها خزانة، فيراها مملوءة نوراً من حسناته التي عملها في تلك الساعة، فيحصل له من السرور، بشاهدة تلك الأنوار ما لو وزع على أهل النار لأدهشتهم عن الإحساس بألم النار، ويفتح له خزانة أخرى سوداء مظلمة يفوح ريحها ويغشاه ظلامها، وهى الساعة التي عصا الله تعالى فيها، فيحصل له من الفزع والخزى ما لو قسم على أهل الجنة لنغص عليهم نعيمهم، ويفتح له خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسوؤه ولا يسره، وهى الساعة التي نام فيها أو غفل أو اشتغل بشيء من المباح، ويتحسر على خلوها، ويناله ما نال القادر على الربح الكثير إذا أهمله حتى فاته، وعلى هذا تعرض عليه خزائن أوقاته طول عمره فيقول لنفسه، اجتهدي اليوم في أن تعمري خزانتك، ولا تدعيها فارغة، ولا تميلي إلى الكسل والدعة والاستراحة، فيفوتك من درجات عليين ما يدركه غيرك.
قال بعضهم: هب أن المسيء قد عفي عنه، أليس قد فاته ثواب المحسنين؟ فهذه وصيته في نفسه وفي أوقاته، ثم يستأنف لها وصية أخرى في أعضائه السبعة، وهى: العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل، وتسليمها إلى النفس، فإنها رعايا خادمة لها في هذه التجارة المخلدة، بها يتم أعمالها، ويعملها أن أبواب جهنم سبعة على عدد هذه الأعضاء، فتعيين تلك الأبواب لمن عصى الله تعالى بهذه الأعضاء، فيوصيها بحفظها عن معاصيها.
أما العين فيحفظها عن النظر إلى ما لا يحل النظر إليه، أو إلى مسلم بعين الاحتقار، وعن كل فضول مستغنى عنه، ويشغلها بما فيه تجارتها وربحها، وهو النظر إلى ما خلقت له من عجائب صنع الله تعالى بعين الاعتبار، والنظر إلى أعمال الخير للاقتداء والنظر إلى كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومطالعة كتب الحكم للاتعاظ والاستفادة.وهكذا ينبغي أن يتقدم إلى كل عضو بالوصية، بما يليق به، ولا سيما اللسان والبطن، وقد ذكرنا آفات اللسان فيما تقدم، فيشغله بما خلق له، من الذكر والتذكير، وتكرار العلم والتعليم، وإرشاد عباد الله تعالى إلى طريق الله، وإصلاح ذات البين، إلى غير ذلك من الخير.
وأما البطن، فيكلفه ترك الشرة، واجتناب الشبهات والشهوات، ويقتصر على قدر الضرورة، ويشترط على نفسه إذا خالفت شيئاً من ذلك أن يعاقبها بالمنع من شهوات البطن، ليفوتها أكثر مما نالت بشهوتها، وهكذا في جميع الأعضاء، واسقصاء ذلك يطول، وكذلك ما تخفى طاعات الأعضاء ومعاصيها.
ثم يستأنف وصيتها في وظائف العبادات التي تتكرر في اليوم والليلة، في النوافل التي يقدر عليها، وعلى الاستكثار منها، وهذه شروط يفتقر إليها كل يوم إلى أن تتعود النفس ذلك، فيستغني عن المشارطة، ولكن لا يخلو كل يوم من حادثة لها حكم جديد لله تعالى عليه في ذلك حق، ويكثر هذا على من يشتغل بشيء من أعمال الدنيا، من ولاية أو تجارة أو نحو ذلك، إذ قل أن يخلو يوم عن واقعة جديدة يحتاج إلى أن يقضى حق الله فيها، فعليه أن يشرط نفسه الاستقامة فيها، والانقياد للحق.
وعن شداد بن أوس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الأماني" (2) .
وقال عمر رضى الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيؤوا للعرض الأكبر {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} [الحاقة: 18]
وينبغى أن يراقب الإنسان نفسه قبل العمل وفى العمل، هل حركه عليه هوى النفس أو المحرك له هو الله تعالى خاصة؟ فإن كان الله تعالى، أمضاه وإلا تركه، وهذا هو الإخلاص.
قال الحسن: رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر.
فهذه مراقبة العبد في الطاعة وهو أن يكون مخلصاً فيها، ومراقبته في المعصية تكون بالتوبة والندم والإقلاع، ومراقبته في المباح تكون بمراعاة الأدب، والشكر على النعم، فإنه لا يخلو من نعمة لابد له من الشكر عليها، ولا يخلو من بلية لابد من الصبر عليها، وكل ذلك من المراقبة.
وقال وهب من منبه في حكمة آل داود: حق على العاقل أن لا يشغل عن أربع ساعات، ساعة يناجى فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه، ويصدقونه على نفسه، وساعة يخلو بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ولا يحرم، فإن هذه الساعة عون على الساعات وجمام للقوة.
وهذه الساعة التي هو مشغول فيها بالمطعم والمشرب، لا ينبغي أن تخلو عن عمل هو أفضل الأعمال، وهو الذكر والفكر، فإن الطعام الذي يتناوله فيه من العجائب ما لو تفكر فيه كان أفضل من كثير من أعمال الجوارح.
وقال الحسن: المؤمن قوّام على نفسه، يحاسب نفسه، وقال: إن المؤمن يفجؤه الشيء يعجبه فيقول: والله إنى لأشتهيك وإنك لمن حاجتى، ولكن والله ما من حيلة إليك، هيهات حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول : ما أردت إلى هذا، ما لى ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبداً إن شاء.
إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا، يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه، وفى بصره، وفى لسانه، وفى جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله.
واعلم: أن العبد كما ينبغي أن يكون له وقت في أول النهار يشارط فيه نفسه، كذلك ينبغي أن يكون له ساعة يطالب فيها نفسه في آخر النهار، ويحاسبها على جميع ما كان منها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو يوم.
ومعنى المحاسبة أن ينظر في رأس المال، وفى الربح، وفى الخسران لتتبين له الزيادة من النقصان، فرأس المال في دينه الفرائض، وربحه النوافل والفضائل، وخسرانه المعاصي، وليحاسبها أولاً على الفرائض، وإن ارتكب معصية اشتغل بعقابها ومعاقبتها ليستوفى منها ما فرط.
قيل: كان توبة بن الصمة بالرقة، وكان محاسباً لنفسه، فحسب يوماً فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: يا ويلتا! ألقى الملك بأحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب! كيف وفى كل يوم عشرة آلاف ذنب!! ثم خر مغشياً عليه فإذا هو ميت، فسمعوا قائلاً يقول: يا لها ركضة إلى الفردوس الأعلى!
فهكذا ينبغي للعبد أن يحاسب نفسه على الأنفاس وعلى معصية القلب والجوارح في كل ساعة، فإن الإنسان لو رمي بكل معصية يفعلها حجراً في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي وهى مثبتة {أحصاه الله ونسوه}.
وكما روى عن عمر رضى الله عنه: أنه خرج إلى حائط له، ثم رجع وقد صلى الناس العصر، فقال: إنما خرجت إلى حائطي، ورجعت وقد صلى الناس العصر، حائطي صدقة على المساكين. قال الليث: إنما فاتته الجماعة.
وروينا عنه أنه شغله أمر عن المغرب حتى طلع نجمان، فلما صلاها أعتق رقبتين.
وحكى أن تميم الداري رضى الله عنه نام ليلة لم يقم يتهجد فيها حتى أصبح، فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع.
ومرّ حسان بن سنان بغرفة فقال: متى بنيت هذه؟ ثم أقبل على نفسه فقال: تسألين عما لا يعنيك! لأعاقبنك بصوم سنة، فصامها.
فأما العقوبات بغير ذلك مما لا يحل، فيحرم عليه فعله، مثال ذلك: ما حكى أن رجلاً من بنى إسرائيل، وضع يده على فخذ امرأة، فوضعها في النار حتى شلت، وأن آخر حوّل رجله لينزل إلى امرأة، ففكر وقال: ماذا أردت أن أصنع؟ فلما أراد أن يعيد رجله قال: هيهات رجل خرجت إلى معصية الله لا ترجع معى، فتركها حتى تقطعت بالمطر والرياح، وأن آخر نظر إلى امرأة فقلع عينيه، فهذا كله محرم، وإنما كان جائزاً في شريعتهم، وقد سلك نحو ذلك خلق من أهل ملتنا، حملهم على ذلك الجهل بالعلم، كما حكى عن غزوان الزاهد: أنه نظر إلى امرأة، فلطم عينه حتى نفرت.
وروينا عن بعضهم : أنه أصابته جنابة وكان البرد شديداً، وأنه وجد في نفسه توقفاً عن الغسل، فآلي ألا يغتسل إلا في مرقعته، ألا ينزعها ولا يعصرها، فكانت شديدة الكثافة تزيد على عشرين رطلاً. وقد ذكرت كثيراً من هذا الفن الصادر عن المتعبدين على الجهل في كتابي المسمى بـ"تلبيس إبليس"
وقال ابن المبارك: إن الصالحين كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفواً، وإن أنفسنا لا تواتينا إلا كرهاً.
ومما يستعان به عليها أن يسمعها أخبار المجتهدين، وما ورد في فضلهم، ويصحب من يقدر عليه منهم، فيقتدي بأفعاله.
قال بعضهم: كنت إذا اعترتني فترة في العبادة نظرت إلى وجه محمد بن واسع وإلى اجتهاده؟ فعملت على ذلك اسبوعاً. وقد كان عامر بن عبد قيس يصلى كل يوم ألف ركعة. وكان الأسود بن يزيد يصوم حتى يخضر ويصفر، وحج مسروق فما نام إلا ساجداً، وكان داود الطائى يشرب الفتيت مكان الخبز، ويقرأ بينهما خمسين آية، وكان كرز بن وبرة يختم كل يوم ثلاث ختمات، وكان عمر بن عبد العزيز وفتح الموصلي يبكيان الدم، وصلى أربعون نفساً من القدماء الفجر بوضوء العتمة، وجاور أبو محمد الحريري سنة فلم ينم ولم يتكلم، ولم يستند إلى حائط، ولم يمد رجله، فقال له أبو بكر الكتاني: بم قدرت على هذا؟ قال: علم صدق باطني فأعانني على ظاهري.
ودخلوا على زحلة العابدة فكلموها بالرفق بنفسها فقالت: إنما هي أيام مبادرة، فمن فاته اليوم شئ لم يدركه غداً والله يا إخوتاه! لأصلين لله ما أقلتني جوارحي، ولأصومن له في أيام حياتي، ولأبكين ما حملت الماء عيناي.
ومن أراد أن ينظر في سير القوم، ويتفرج فى بساتين مجاهداتهم، فلينظر فى كتابي المسمى بـ "صفة الصفوة" فإنه يرى من أخبار القوم ما يعد نفسه بالإضافة إليهم من الموتى، بل من أخبار المتعبدات من النسوة ما يحتقر نفسه عند سماعه.
وقال أنس رضى الله عنه : سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه ودخل حائطاً فسمعته يقول وبيني وبينه جدار: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك.
وقال البخترى بن حارثة: دخلت على عابد فإذا بين يديه نار قد أججها وهو يعاتب نفسه، فلم يزل يعاتبها حتى مات.
وكان بعضهم يقول إذا ذكر الصالحون: فأف لى وتف. واعلم: أن أعدى عدوٍ لك نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء،ميالة إلى الشر، وقد أمرت بتقويمها وتزكيتها وفطامها عن مواردها، وأن تقودها بسلاسل الدهر إلى عبادة ربها، فإن أهملتها جمحت وشردت، ولم تظفر بها بعد ذلك، وإن لزمها بالتوبيخ رجونا أن تصير مطمئنة، فلا تغفلن عن تذكيرها. وسبيلك أن تقبل عليها، فتقرر عندها جهلها وغباوتها وتقول: يا نفس، ما أعظم جهلك، تدعين الذكاء والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقاً، أما تعلمين أنك صائرة إلى الجنة أو النار؟ فكيف يلهو من لا يدرى إلى أيتهما يصير؟! وربما اختطف فى يومه أو فى غده! أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب، وأن الموت يأتى بغتة من غير موعد، ولا يتوقف على سن دون سن، بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة، وإن لم يكن الموت فجأة كان المرض فجأة، ثم يفضي إلى الموت. فمالك لا تستعدين للموت وهو قريب منك؟! يا نفس، إن كانت جرأتك على معصية الله تعالى لاعتقادك أن الله لا يراك فما أعظم كفرك، وإن كانت مع علمك باطلاعه عليك، فما أشد رقاعتك، وأقل حياءك! ألك طاقة على عذابه؟ جربى ذلك بالقعود ساعة فى الحمام، فاطلبي الشهوات الباقية الصافية عن الكدر، ورب أكلة منعت أكلات. وما قولك فى عقل مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء ثلاثة أيام ليصح ويتهيأ لشربه طول العمر؟ فما مقتضى العقل فى قضاء حق الشهوة؟ أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم إلى الأبد الذي هو مدة نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أقل من ثلاثة أيام بالإضافة إلى جميع العمر، بل أقل من لحظة بالإضافة إلى عمر الدنيا. وليت شعري! ألم الصبر عن الشهوات أشد وأطول، أم النار فى الدركات؟ فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة، كيف يطيق ألم العذاب فى الآخرة؟ أشغلك حب الجاه؟ أما بعد ستين سنه أو نحوها، لا تبقين أنت ولا من كان لك عنده جاه. هلا تركت الدنيا لخسة شركائها، وكثرة عنائها وخوفاً من سرعة فنائها؟ أتستبدلين بجوار رب العالمين صف النعال فى صحبة الحمقى؟ قد ضاع أكثر البضاعة، وقد بقيت من العمر صبابة، ولو استدركت ندمت على ما ضاع، فكيف إذا أضفت الأخير إلى الأول؟ اعملي فى أيام قصار لأيام طول، وأعدى الجواب للسؤل. أخرجي من الدنيا خروج الأحرار قبل أن تكون خروج اضطرار إنه من كانت مطيته الليل والنهار سير به وإن لم يسر. تفكري فى هذه الموعظة، فإن عدمت تأثيرها، فابكي على ما أصبت به فمستقى الدمع من بحر الرحمة.
منقول عن كتاب مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي لتحميل الكتاب كاملاً
وتحقق أرباب البصائر أنهم لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة لأنفسهم وصدق المراقبة، فمن حاسب نفسه في الدنيا، خف في القيامة حسابه، وحسن منقبله، ومن أهمل المحاسبة دامت حسراته، فلما علموا أنهم لا ينجيهم إلا الطاعة وقد أمرهم الله تعالى بالصبر والمرابطة فقال :{يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا} [آل عمران: 200] فرابطوا أنفسهم أولاً بالمشارطة، ثم المراقبة، ثم بالمحاسبة، ثم بالمعاقبة، ثم بالمجاهدة، ثم بالمعاتبة، فكانت لهم في المرابطة ست مقامات، وأصلها المحاسبة، ولكن كل حساب يكون بعد مشارطة ومراقبة، ويتبعه عند الخسران المعاتبة والمعاقبة، ولابد من شرح ذلك المقام.
المقام الأول: المشارطة
اعلم: أن التاجر كما يستعين بشريكه في التجارة طلباً للربح، ويشارطه ويحاسبه، كذلك العقل يحتاج إلى مشاركة النفس، ويوظف عليها الوظائف، ويشرط عليها الشروط، ويرشدها إلى طريق الفلاح، ثم لا يغفل عن مراقبتها، فإنه لا يأمن خيانتها وتضييعها رأس المال، ثم بعد الفراغ ينبغي أن يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط عليها، فإن هذه التجارة ربحها الفردوس الأعلى، فتدقيق الحساب في هذا مع النفس أهم من تدقيقه بكثير من أرباح الدنيا، فحتم على ذي عزم آمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه، والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها، فإن كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها. فإذا فرغ العبد من فريضة الصبح، ينبغي أن يفرغ قلبه ساعة لمشارطة نفسه فيقول للنفس: ما لى بضاعة إلا العمر، فإذا فني منى رأس المال وقع اليأس من التجارة، وطلب الربح، وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه، وأخر أجلى، وأنعم على به، ولو توفانى لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا حتى أعمل فيه صالحاً، فاحسبي يا نفس أنك قد توفيت ثم رددت، فإياك أن تضيعي هذا اليوم، وأعلمي أن اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، وأن العبد ينشر له بكل يوم أربع وعشرون خزانة مصفوفة، فيفتح له منها خزانة، فيراها مملوءة نوراً من حسناته التي عملها في تلك الساعة، فيحصل له من السرور، بشاهدة تلك الأنوار ما لو وزع على أهل النار لأدهشتهم عن الإحساس بألم النار، ويفتح له خزانة أخرى سوداء مظلمة يفوح ريحها ويغشاه ظلامها، وهى الساعة التي عصا الله تعالى فيها، فيحصل له من الفزع والخزى ما لو قسم على أهل الجنة لنغص عليهم نعيمهم، ويفتح له خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسوؤه ولا يسره، وهى الساعة التي نام فيها أو غفل أو اشتغل بشيء من المباح، ويتحسر على خلوها، ويناله ما نال القادر على الربح الكثير إذا أهمله حتى فاته، وعلى هذا تعرض عليه خزائن أوقاته طول عمره فيقول لنفسه، اجتهدي اليوم في أن تعمري خزانتك، ولا تدعيها فارغة، ولا تميلي إلى الكسل والدعة والاستراحة، فيفوتك من درجات عليين ما يدركه غيرك.
قال بعضهم: هب أن المسيء قد عفي عنه، أليس قد فاته ثواب المحسنين؟ فهذه وصيته في نفسه وفي أوقاته، ثم يستأنف لها وصية أخرى في أعضائه السبعة، وهى: العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل، وتسليمها إلى النفس، فإنها رعايا خادمة لها في هذه التجارة المخلدة، بها يتم أعمالها، ويعملها أن أبواب جهنم سبعة على عدد هذه الأعضاء، فتعيين تلك الأبواب لمن عصى الله تعالى بهذه الأعضاء، فيوصيها بحفظها عن معاصيها.
أما العين فيحفظها عن النظر إلى ما لا يحل النظر إليه، أو إلى مسلم بعين الاحتقار، وعن كل فضول مستغنى عنه، ويشغلها بما فيه تجارتها وربحها، وهو النظر إلى ما خلقت له من عجائب صنع الله تعالى بعين الاعتبار، والنظر إلى أعمال الخير للاقتداء والنظر إلى كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومطالعة كتب الحكم للاتعاظ والاستفادة.وهكذا ينبغي أن يتقدم إلى كل عضو بالوصية، بما يليق به، ولا سيما اللسان والبطن، وقد ذكرنا آفات اللسان فيما تقدم، فيشغله بما خلق له، من الذكر والتذكير، وتكرار العلم والتعليم، وإرشاد عباد الله تعالى إلى طريق الله، وإصلاح ذات البين، إلى غير ذلك من الخير.
وأما البطن، فيكلفه ترك الشرة، واجتناب الشبهات والشهوات، ويقتصر على قدر الضرورة، ويشترط على نفسه إذا خالفت شيئاً من ذلك أن يعاقبها بالمنع من شهوات البطن، ليفوتها أكثر مما نالت بشهوتها، وهكذا في جميع الأعضاء، واسقصاء ذلك يطول، وكذلك ما تخفى طاعات الأعضاء ومعاصيها.
ثم يستأنف وصيتها في وظائف العبادات التي تتكرر في اليوم والليلة، في النوافل التي يقدر عليها، وعلى الاستكثار منها، وهذه شروط يفتقر إليها كل يوم إلى أن تتعود النفس ذلك، فيستغني عن المشارطة، ولكن لا يخلو كل يوم من حادثة لها حكم جديد لله تعالى عليه في ذلك حق، ويكثر هذا على من يشتغل بشيء من أعمال الدنيا، من ولاية أو تجارة أو نحو ذلك، إذ قل أن يخلو يوم عن واقعة جديدة يحتاج إلى أن يقضى حق الله فيها، فعليه أن يشرط نفسه الاستقامة فيها، والانقياد للحق.
وعن شداد بن أوس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الأماني" (2) .
وقال عمر رضى الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيؤوا للعرض الأكبر {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} [الحاقة: 18]
المقام الثاني: المراقبة
إذا أوصى الإنسان نفسه، وشرط عليها ما ذكرناه، لم يبق إلا المراقبة لها وملاحظتها، وفى الحديث الصحيح في تفسير الإحسان، لما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :"أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" أرد بذلك استحضار عظمة الله ومراقبته في حال العبادة. قيل: دخل الشبلىعلى ابن أبى الحسين النورى (3) وهو قاعد ساكن، لا يتحرك من ظاهر شئ، فقال له: ممن أخذت هذه المراقبة والسكون؟ فقال: من سنور كانت لنا، إذا أرادت الصيد رابطت رأس الحجر حتى لا يتحرك لها شعرة. وينبغى أن يراقب الإنسان نفسه قبل العمل وفى العمل، هل حركه عليه هوى النفس أو المحرك له هو الله تعالى خاصة؟ فإن كان الله تعالى، أمضاه وإلا تركه، وهذا هو الإخلاص.
قال الحسن: رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر.
فهذه مراقبة العبد في الطاعة وهو أن يكون مخلصاً فيها، ومراقبته في المعصية تكون بالتوبة والندم والإقلاع، ومراقبته في المباح تكون بمراعاة الأدب، والشكر على النعم، فإنه لا يخلو من نعمة لابد له من الشكر عليها، ولا يخلو من بلية لابد من الصبر عليها، وكل ذلك من المراقبة.
وقال وهب من منبه في حكمة آل داود: حق على العاقل أن لا يشغل عن أربع ساعات، ساعة يناجى فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه، ويصدقونه على نفسه، وساعة يخلو بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ولا يحرم، فإن هذه الساعة عون على الساعات وجمام للقوة.
وهذه الساعة التي هو مشغول فيها بالمطعم والمشرب، لا ينبغي أن تخلو عن عمل هو أفضل الأعمال، وهو الذكر والفكر، فإن الطعام الذي يتناوله فيه من العجائب ما لو تفكر فيه كان أفضل من كثير من أعمال الجوارح.
المقام الثالث: المحاسبة بعد العمل
قال الله تعالى :{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد} [الحشر: 18] وهذه إشارة إلى المحاسبة بعد العمل، ولذلك قال عمر رضى الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا. وقال الحسن: المؤمن قوّام على نفسه، يحاسب نفسه، وقال: إن المؤمن يفجؤه الشيء يعجبه فيقول: والله إنى لأشتهيك وإنك لمن حاجتى، ولكن والله ما من حيلة إليك، هيهات حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول : ما أردت إلى هذا، ما لى ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبداً إن شاء.
إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا، يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه، وفى بصره، وفى لسانه، وفى جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله.
واعلم: أن العبد كما ينبغي أن يكون له وقت في أول النهار يشارط فيه نفسه، كذلك ينبغي أن يكون له ساعة يطالب فيها نفسه في آخر النهار، ويحاسبها على جميع ما كان منها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو يوم.
ومعنى المحاسبة أن ينظر في رأس المال، وفى الربح، وفى الخسران لتتبين له الزيادة من النقصان، فرأس المال في دينه الفرائض، وربحه النوافل والفضائل، وخسرانه المعاصي، وليحاسبها أولاً على الفرائض، وإن ارتكب معصية اشتغل بعقابها ومعاقبتها ليستوفى منها ما فرط.
قيل: كان توبة بن الصمة بالرقة، وكان محاسباً لنفسه، فحسب يوماً فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: يا ويلتا! ألقى الملك بأحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب! كيف وفى كل يوم عشرة آلاف ذنب!! ثم خر مغشياً عليه فإذا هو ميت، فسمعوا قائلاً يقول: يا لها ركضة إلى الفردوس الأعلى!
فهكذا ينبغي للعبد أن يحاسب نفسه على الأنفاس وعلى معصية القلب والجوارح في كل ساعة، فإن الإنسان لو رمي بكل معصية يفعلها حجراً في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي وهى مثبتة {أحصاه الله ونسوه}.
المقام الرابع : معاقبة النفس على تقصيرها :
اعلم: أن المريد إذا حاسب نفسه فرأى منها تقصيراً، أو فعلت شيئاً من المعاصي فلا ينبغي أن يمهلها، فإنه يسهل عليه حينئذ مفارقة الذنوب ويعسر عليه فطامها، بل ينبغي أن يعاقبها عقوبة مباحة كما يعاقب أهله وولده. وكما روى عن عمر رضى الله عنه: أنه خرج إلى حائط له، ثم رجع وقد صلى الناس العصر، فقال: إنما خرجت إلى حائطي، ورجعت وقد صلى الناس العصر، حائطي صدقة على المساكين. قال الليث: إنما فاتته الجماعة.
وروينا عنه أنه شغله أمر عن المغرب حتى طلع نجمان، فلما صلاها أعتق رقبتين.
وحكى أن تميم الداري رضى الله عنه نام ليلة لم يقم يتهجد فيها حتى أصبح، فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع.
ومرّ حسان بن سنان بغرفة فقال: متى بنيت هذه؟ ثم أقبل على نفسه فقال: تسألين عما لا يعنيك! لأعاقبنك بصوم سنة، فصامها.
فأما العقوبات بغير ذلك مما لا يحل، فيحرم عليه فعله، مثال ذلك: ما حكى أن رجلاً من بنى إسرائيل، وضع يده على فخذ امرأة، فوضعها في النار حتى شلت، وأن آخر حوّل رجله لينزل إلى امرأة، ففكر وقال: ماذا أردت أن أصنع؟ فلما أراد أن يعيد رجله قال: هيهات رجل خرجت إلى معصية الله لا ترجع معى، فتركها حتى تقطعت بالمطر والرياح، وأن آخر نظر إلى امرأة فقلع عينيه، فهذا كله محرم، وإنما كان جائزاً في شريعتهم، وقد سلك نحو ذلك خلق من أهل ملتنا، حملهم على ذلك الجهل بالعلم، كما حكى عن غزوان الزاهد: أنه نظر إلى امرأة، فلطم عينه حتى نفرت.
وروينا عن بعضهم : أنه أصابته جنابة وكان البرد شديداً، وأنه وجد في نفسه توقفاً عن الغسل، فآلي ألا يغتسل إلا في مرقعته، ألا ينزعها ولا يعصرها، فكانت شديدة الكثافة تزيد على عشرين رطلاً. وقد ذكرت كثيراً من هذا الفن الصادر عن المتعبدين على الجهل في كتابي المسمى بـ"تلبيس إبليس"
المقام الخامس: المجاهدة
وهو أنه إذا حاسب نفسه، فينبغي إذا رآها قد قارفت معصية أن يعاقبها كما سبق، فإن رآها تتوانى بحكم الكسل بى شئ من الفضائل، أو ورد من الأوراد، فينبغي أن يؤدبها بتثقيل الأوراد عليها، كما ورد عن ابن عمر رضى الله عنه أنه فاتته صلاة في جماعة، فأحيا الليل كله تلك الليلة، وإذا لم تطاوعه نفسه على الأوراد، فإنه يجاهدها ويكرهها ما استطاع. وقال ابن المبارك: إن الصالحين كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفواً، وإن أنفسنا لا تواتينا إلا كرهاً.
ومما يستعان به عليها أن يسمعها أخبار المجتهدين، وما ورد في فضلهم، ويصحب من يقدر عليه منهم، فيقتدي بأفعاله.
قال بعضهم: كنت إذا اعترتني فترة في العبادة نظرت إلى وجه محمد بن واسع وإلى اجتهاده؟ فعملت على ذلك اسبوعاً. وقد كان عامر بن عبد قيس يصلى كل يوم ألف ركعة. وكان الأسود بن يزيد يصوم حتى يخضر ويصفر، وحج مسروق فما نام إلا ساجداً، وكان داود الطائى يشرب الفتيت مكان الخبز، ويقرأ بينهما خمسين آية، وكان كرز بن وبرة يختم كل يوم ثلاث ختمات، وكان عمر بن عبد العزيز وفتح الموصلي يبكيان الدم، وصلى أربعون نفساً من القدماء الفجر بوضوء العتمة، وجاور أبو محمد الحريري سنة فلم ينم ولم يتكلم، ولم يستند إلى حائط، ولم يمد رجله، فقال له أبو بكر الكتاني: بم قدرت على هذا؟ قال: علم صدق باطني فأعانني على ظاهري.
ودخلوا على زحلة العابدة فكلموها بالرفق بنفسها فقالت: إنما هي أيام مبادرة، فمن فاته اليوم شئ لم يدركه غداً والله يا إخوتاه! لأصلين لله ما أقلتني جوارحي، ولأصومن له في أيام حياتي، ولأبكين ما حملت الماء عيناي.
ومن أراد أن ينظر في سير القوم، ويتفرج فى بساتين مجاهداتهم، فلينظر فى كتابي المسمى بـ "صفة الصفوة" فإنه يرى من أخبار القوم ما يعد نفسه بالإضافة إليهم من الموتى، بل من أخبار المتعبدات من النسوة ما يحتقر نفسه عند سماعه.
المقام السادس: فى معاتبة النفس وتوبيخها
قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه : من مقت نفسه فى ذات الله آمنه الله من مقته. وقال أنس رضى الله عنه : سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه ودخل حائطاً فسمعته يقول وبيني وبينه جدار: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك.
وقال البخترى بن حارثة: دخلت على عابد فإذا بين يديه نار قد أججها وهو يعاتب نفسه، فلم يزل يعاتبها حتى مات.
وكان بعضهم يقول إذا ذكر الصالحون: فأف لى وتف. واعلم: أن أعدى عدوٍ لك نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء،ميالة إلى الشر، وقد أمرت بتقويمها وتزكيتها وفطامها عن مواردها، وأن تقودها بسلاسل الدهر إلى عبادة ربها، فإن أهملتها جمحت وشردت، ولم تظفر بها بعد ذلك، وإن لزمها بالتوبيخ رجونا أن تصير مطمئنة، فلا تغفلن عن تذكيرها. وسبيلك أن تقبل عليها، فتقرر عندها جهلها وغباوتها وتقول: يا نفس، ما أعظم جهلك، تدعين الذكاء والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقاً، أما تعلمين أنك صائرة إلى الجنة أو النار؟ فكيف يلهو من لا يدرى إلى أيتهما يصير؟! وربما اختطف فى يومه أو فى غده! أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب، وأن الموت يأتى بغتة من غير موعد، ولا يتوقف على سن دون سن، بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة، وإن لم يكن الموت فجأة كان المرض فجأة، ثم يفضي إلى الموت. فمالك لا تستعدين للموت وهو قريب منك؟! يا نفس، إن كانت جرأتك على معصية الله تعالى لاعتقادك أن الله لا يراك فما أعظم كفرك، وإن كانت مع علمك باطلاعه عليك، فما أشد رقاعتك، وأقل حياءك! ألك طاقة على عذابه؟ جربى ذلك بالقعود ساعة فى الحمام، فاطلبي الشهوات الباقية الصافية عن الكدر، ورب أكلة منعت أكلات. وما قولك فى عقل مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء ثلاثة أيام ليصح ويتهيأ لشربه طول العمر؟ فما مقتضى العقل فى قضاء حق الشهوة؟ أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم إلى الأبد الذي هو مدة نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أقل من ثلاثة أيام بالإضافة إلى جميع العمر، بل أقل من لحظة بالإضافة إلى عمر الدنيا. وليت شعري! ألم الصبر عن الشهوات أشد وأطول، أم النار فى الدركات؟ فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة، كيف يطيق ألم العذاب فى الآخرة؟ أشغلك حب الجاه؟ أما بعد ستين سنه أو نحوها، لا تبقين أنت ولا من كان لك عنده جاه. هلا تركت الدنيا لخسة شركائها، وكثرة عنائها وخوفاً من سرعة فنائها؟ أتستبدلين بجوار رب العالمين صف النعال فى صحبة الحمقى؟ قد ضاع أكثر البضاعة، وقد بقيت من العمر صبابة، ولو استدركت ندمت على ما ضاع، فكيف إذا أضفت الأخير إلى الأول؟ اعملي فى أيام قصار لأيام طول، وأعدى الجواب للسؤل. أخرجي من الدنيا خروج الأحرار قبل أن تكون خروج اضطرار إنه من كانت مطيته الليل والنهار سير به وإن لم يسر. تفكري فى هذه الموعظة، فإن عدمت تأثيرها، فابكي على ما أصبت به فمستقى الدمع من بحر الرحمة.
منقول عن كتاب مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي لتحميل الكتاب كاملاً