لقد توارى سعيد بن جبير أحد كبار التابعين عن أنظار الحَجاج وأعوانه الذين كانوا يريدونه حياً أو أن يطمأنّوا الى موته المحقق، شأنه في ذلك شأن كل عالم عامل على وجه الأرض قَصَد التغيير ، انها معركة البرامج المتناقضة فللحجاج برنامجه ولسعيد بن جبير برنامجه أيضاً، فهيهات هيهات أن يلتقي البرنامجان .. أو أ ن تتقارب الفكرتان أو أن يتنازل ابن جبير وهو سيد علماء التابعين الذي تتلمذ على يد الامام علي بن الحسن ، وقرأ القران وأخذ التفسير والفقه والحديث عن بن عباس وروى عن أكثر من عشرة من الصحابه .
لقد دار حوار بين سعيد بن جبير وأحد تلاميذه الذي كان متخفياً معه فقد سأل هذا التلميذ أسئلة كما يسأل أي مسلم حر على وجه هذه الأرض عندما يبلغ الاضطهاد بأهل الاسلام مبلغه فيسأل أستاذه بعد موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون وبلسان حزين وبقلب يكاد أن يتفطر على ما وصل اليه العلماء والدعاة من ملاحقة ومطاردة فيقول : ولكن اما لهذا الليل من اخر ؟ أيظلّ الحق كسير الجناح يقتّل دعاته ويعذّب أنصاره بينما الباطل يصعر خديه مختالا بعدده وعدته يحكم في الدماء والاموال والحرمات بما يريد ولا معقّب ولا معارض ؟ أولسنا على الحق وهؤلاء الظلمة على الباطل ؟!
وكأني بهذا التلميذ المبتلى الممتحن في دينه وصبره وثباته يسأل سؤالاً يدور في رأس كل فرد من أبناء الحركة الاسلامية المعاصرة والمحاطون بالظلمة من كل جانب رغم فارق الزمن وبعد الشقة بين الأجيال قبل مئات السنين ، وهنا يستفز العالم الرباني سعيد بن جبير لهذا السؤال الذي لا يجب أن يسال أمثال تلميذه عمير هذا السؤال فيجيبه قائلا : ثكلتك أمك يا عمير أو في شك انت من ذلك ، والله لو قطعونا ارباً ارباً حتى تخطفتنا الطير وتوزعتنا بطون السباع ما شككنا أننا على الحق وهم على الباطل . وهنا يسأل عمير سؤالا وجيها : فما بالهم ينتصرون وينتصرون ونحن ننهزم وننهزم ؟يجيب سعيد وبنبرة فيها حده وكأنها احتجاج على هذا الفهم الخاطئ القاصر لدى البعض من أبناء الدعوة الاسلامية خاصة جيل الشباب : ويحك .. انما ننهزم حقا يوم نشك فيما ندعو اليه من حق فاذا ثبت اهل الحق على حقهم في وجه الباطل المدجج بالسلاح فقد انتصروا حتى وان بدى لقصار النظر غير ذلك.
ولعل هذه المقدمة من احد كبار علماء التابعين والذي عاش نفس الظروف من الاضطهاد والظلم تجيب عن الكثير من التساؤلات ونحن نعيش اوج محنة الشباب المسلم وعلى اكثر من جبهة وفي اكثر من مكان .

اخطأ من ظن ان المجاهد نبيل النتشه -ابا نعيم- يجب ان ننظر اليه بعين الشفقة من باب انه يجب ان ينال حريته فقط لأنه مريض ومصاب بداء السرطان.. اننا عندما نتحدث عن ابي نعيم النتشه فإنما نتحدث عن جيش من الرجال في شخص رجل واحد لا يقل منزلة عن سعيد بن جبير العالم الصابر ثم الشهيد بعد ذلك ,او عن غيره من اخوانه في دار المحنه والابتلاء الذين يعجز القلم عن ذكر اسمائهم في هذه السطور القليلة فمنهم من نعرفه ومنهم من لا نعرفه وحسبهم ان الله يعرفهم ويعرف مقامهم .
ان رجلا في مقام ابي نعيم وهو احد قادة مرج الزهور حيث جمعتنا الغربة في الله كما جمعتنا غرف التحقيق والزنازين وساحات الحبس الاداري واخيرا غرف مجدو وخيام النقب وهو والد الشهيد باسل وشقيق لأسير محكوم بالمؤبد.
لقد ابى (ابن النعمة ) صاحب الاموال الكثيرة إلا ان يكون طباخ الغرفة يصنع بيده الطعام .. يمكث في المطبخ الساعات الطوال ليجهز الطعام لإخوانه الاسرى, لقد رأيت الرجل يوصي ( الكانتينا ) على التمر ليصنع منه حلوى شهيه وشراب لذيذ ثم يصر ان يضع حبة التمر في فم اخوانه واحدا واحدا وهو في غاية السعادة, لقد كان يبحث عن كل ما يدخل السرور الى قلوب اخوانه ويقوم بفعله ...... ابو نعيم كان مدرسه متكاملة في الفكر والصبر والصمود والثبات وتحمل المفاجئات والتضحية والجود والكرم وهذه الصفات قلما تجدها مجتمعة في شخص رجل واحد يضاف اليها الصبر والاحتساب والرضا , فقد حدثني من كان معه انه عندما بلغه استشهاد باسل صبر صبر الرجال ولم يذرف دمعة واحده , لقد كان يبالغ في اكرام زواره من اخوانه واحبائه عندما يأتوا لزيارته في بيته او في غرفته في السجن .
هذا الجبل الشامخ والطود العالي لا نخاف عليه وهو يقدم أنموذجاً في المزج بالصبر على معاناة السجن والم الجسد وفراق الاحبة ومصادرة الاموال .. وهو في مقام اخيه ( سعيد بن جبير ).
ان سعيد بن جبير لما خرج على الحجاج كان يعرف مصيره ويعرف نهايته ولا يسأل في ذلك مهما كانت النتيجة مما استفز شريكه في المحنة عامر الشعبي الذي صرخ قائلا : - يا ابا عبد الله فما نحن الا حريصون عليك وعلى انتفاع الامة بك فالناس محتاجون يا سعيد اليك محتاجون الى علمك وفقهك فيجيب بنفس لسان الواثق الثابت المعلم :
- يا شعبي كما يحتاج الناس الى من يعلمهم الفقه يحتاجون الى من يعلمهم الثبات على الحق في وجه الجبابرة الطغاة .
انها كلمات مدويه لا زال صداها يتردد الى يومنا هذا وحق لنا ان نكتبها بماء الذهب ونحن نرى اخواننا ورجالنا مدارس في الثبات وقدوات في الصبر والاحتمال ونماذج في الصمود ، وبالمقابل تعامل مناهضوهم معهم بقمة الغباء وهم يسومونهم سوء العذاب لا يدركون عاقبة المآل .. لقد مات الحجاج واستشهد سعيد بن جبير كما مات ظلمه كثيرون واستشهد رجال كثيرون من ابناء هذه الدعوة على ايدي جلاديهم فمادا كانت النتيجة ؟؟!! تقدما هائلا للدعوة واهلها ببركة دماء الصالحين والشهداء وصبر وتضحية الصادقين وتراجعاً وانحشاراً في الزاوية وبغضا وكرها في قلوب العباد واحيانا نهاية وسوء مآل لكل الظالمين ولكل من آذى موحدا او ظن انه بإمكانه ان يوقف عجلة التاريخ .
لكن كانت الفرس اذا غضبت على عاقل حبسته مع جاهل اما اليوم فان من ابناء الجلدة من اذا غضب على عاقل سلمه الى أميّ جاهل لا يكاد – يفك الخط – ليذيقه سوء العذاب .
لقد حدثني ابو نعيم شخصياً أن أحد كبار الضباط الإسرائيليين الذي طلب ان يجلس مع ابي نعيم - بعد انتهاء التحقيق معه – قال : انا زرت الخليل واعرف ما تملكه من اموال وعقارات وما لك من مكانة داخل الخليل وفي عائلة النتشة فلماذا لا تعيش حياتك كبقية الناس وتستمتع بأموالك مثل الاخيرين اصحاب رؤوس الاموال ..؟
فأجبت يا ابا نعيم : اننا لا نعيش لنأكل ولا نعيش لنتملّك ولا لنتزعّم وانما اكرمنا الله بما نحن فيه ... فإننا نختلف عن الاخرين باننا اصحاب رساله يجب ان نؤديها كاملة غير منقوصة مهما كلفنا الثمن حتى لو خسرنا تجارتنا واموالنا ..! فقال الضابط "الكبير" : انا سأكتب التقرير التالي: ( ان دعوة بها امثالك وآخرون كثيرون لا يمكن هزيمتها ) .
واخيراً يا أبا نعيم اذا كان سعيد بن جبير وعامر الشعبي واخوانهم من العلماء قد قضوا شهداء دفاعا عن الفكرة والمبدأ وعن حياض الدين فانك واخوانك على نفس طريق وخطى ابن جبير لا زلت تحمل الراية وكأنها راية واحده وفكرة واحدة ومبدأ واحد انطلقت من مدرسة واحدة هي مدرسة الثبات، تعاقبتها أجيال وأجيال ولا تزال ما دام هناك حق وباطل وما دام هناك خلط في المفاهيم وما دامت هناك سنن الهية وقوانين ربانية تكرم الصادقين وتخذل المنافقين وفي النهاية ( تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الارض ولا فساداً، والعاقبة للمتقين) .