لم تكن الثورات في مصر وتونس حدثا هينا للغرب ولكل القوى الإمبريالية التي لا تزال تنظر للمنطقة العربية على أنها سلة غلال يجب ان تبقى تابعة لضمان استمرار الفارق الحضاري والمادي لصالح الحضارة الغربية. هذه الثورات أدت لهزات عنيفة تسببت في البداية لاهتزاز في الموقف تبعه دعم كامل ومباشر للأنظمة القمعية عدا الخطاب الإعلامي الذي تأرجح ثم استقر لصالح الشعوب لا لشيئ إلا لحفظ ماء الوجه على أن تبقى الإستراتيجية السياسية ثابتة و ضد أي وجود لنظام وطني في المنطقة.
الأنظمة الوطنية كونها تمثل خطرا استراتيجيا على المصالح الغربية في المنطقة وخاصة على ربيب الغرب والحافظ لسيطرته والقاعدة الأولى للإنذار المبكر والتحرك السريع إسرائيل. لذلك أعادت الأنظمة الغربية حساباتها والتي ترتكز اساسا على ولاء المؤسسات العسكرية في المنطقة و ارتباطها العضوي بالغرب و هي تلعب في هذا الأمر على عمل ثورات مضادة تستطيع أن تلتف على الثورات الوطنية ومكاسبها لتحيد بها من خلال وجوه علمانية تابعة تعيد التوازن للمنطقة وجر الدول إلى خانة الإعتدال.
ولذلك سعت الإدارة الأمريكية - كرأس حربة القوى الإمبريالية الغربية - للإلتفاف على الثورة المصرية بالذات واعتمدت على ولاء الجيش وحاولت خلق حالة من الفوضى تسمح بتدخل عسكري غربي يعمل فيما بعد على صنع حالة عراقية في مصر تؤهلها لقيام دويلات متناحرة على اساس طائفي وقومي بحيث تضمن استقرار مصالحها بهذه الفوضى الخلاقة. لكن ما حدث أن المؤسسة العسكرية المصرية رفضت الإنصياع الكامل لهذا المخطط الذي يعمل ضد مكاسب المؤسسة العسكرية في مصر ويؤدي إلى خسارتها على طول الخط وبالتالي أنتهجت نهجا وسطا يتأرجح بين حفظ الداخل المصري معافا سليما مع استمرار مكاسب المؤسسة العسكرية الأساسية وخسارة محدودة وبين ضمان المصالح الغربية في المنطقة وابداء حرصها على حفظ مكتسبات التبعية للفترة السابقة قدر المستطاع, هذه المعادلة التي نجح بها الجيش المصري العبور بالشعب و ثورته إلى بر أمان حافظا للبلاد وحدتها وفي نفس الوقت بشكل يضمن عدم دخولها في معارك لا يحبذ الجيش خوضها من الأساس وفي نفس الوقت يبقي وضعه المميز ومكتسباته قائمة داخل البلاد. وهو في اعتقادي يبشر بدخول مصر في حالة تركية حيث يعاني النظام السياسي من ضغوط عسكرية في خلفية المشهد وربما تدخلات عسكرية صريحة فيما بعد لصالح حفظ مصالح المؤسسة العسكرية المصرية وبالتالي البقاء على مصالح التبعية للغرب.
بعد هذه التوطئة الضرورية لمقاربة الوضع الليبي الحرج الذي يعاني بشدة من لا عقلانية واضحة و أيديولوجية مدمرة بقيت تسيطر على مؤسسته الحاكمة لمدة تتجاوز الأربعين عاما, فقد بدأت الثورة سلمية بيضاء إلا أن العنف المبالغ فيه من قبل النظام الليبي أدى لتغيير الثورة لاسترتيجيتها من النهج السلمي إلى العنف المضاد و بذلك نجح القذافي في أن يجر الشعب إلى خانة العنف حيث يملك هو مفاتح هذه الخانة مدعوما بثورة طائلة و قوة مدمرة و ضعف شديد في المقابل في هذا الجانب من الشعب الليبي. القوى الغربية سعدت للغاية بالخيار الليبي وخيار القذافي وصمتت تماما على هذا الأمر و أعطت الصراع الليبي الوقت اللازم لإحداث الفوضى المطلوبة. فبهذه الصورة يسهل للغاية التدخل في الشأن الليبي بصورة عسكرية تعيد رسم خريطة الدولة الليبية لصالح الأطماع الغربية و تنفيذ المخطط الذي رسم أساسا لمصر على الخريطة الليبية. وهو المخطط الذي تتبدى ملامحه الآن بهذه السخونة في التصريحات المضادة لنظام القذافي مع السماح له بتدمير الشعب الليبي على أساس ان يلين الإئتلاف الليبي في مسألة التدخل الأرضي التي يرفضها الإئتلاف تماما مع إغلاق كل أبواب التراجع أمام نظام القذافي بتجريمه كمجرم حرب ليمضي قدما في دوره المرسوم له طبقا للخطة الغربية في استعمار ليبيا مجددا.
الفوضى الخلاقة في ليبيا تفيد المصالح الغربية في ضمان وصول النفط الليبي بأبخث الأثمان إلى الغرب كما هو الحال في العراق كما أنها تخلق حالة من القلق في الملعب الخلفي للجيوستراتيجية المصرية بحيث تضمن وجود مساحة للضغط على النظام المصري و ضمان ولاء المؤسسة العسكرية المصرية التي سيخلق من أجلها الأعداء في الجوار الليبي بحيث تصبح مصر بين الكيان الصهيوني في الشرق و كيان آخر معادي في الغرب وبالتالي تصبح المنطقة في وضع غير مستقر يعرقل كثيرا من جهود التنمية و التقدم المتوقعة مصريا مع ضمان أن تبقى للمؤسسة العسكرية المصرية سيطرتها على الوضع المصري نظرا لبقاء التهديدات قائمة من الشرق والغرب الجغرافي لمصر كما أنها تعرقل هذا السعي المحموم من الشعوب العربية في اتجاه انظمة حكم و حكومات وطنية.
الإئتلاف الليبي هنا موجود في موقف صعب للغاية فهو بين أربعة أقطاب يضغطون عليه للسماح بالتدخل الغربي الأرضي إلى ليبيا وبالتالي بداية مشروع التقسيم الجديد لليبيا أو صنع ليبيا الغربية الجديدة التابعة أيضا للغرب. الإئتلاف الليبي يواجه التفوق الغربي المادي وحاجته لهذا التفوق في حسم معركته حقنا لدماء الشعب , و يواجه القفزة الإنتحارية للنظام الليبي الذي يريد أن ينهي المعركة لصالح بقائه و استمراره , و يواجه التخاذل العربي الذي يريد أن يبقى وضع التبعية قائما في ليبيا لإستقرار كراسيهم بالتخويف من "الفتنة الليبية" والتي تسبب بها "المطالبة بالتغيير" , و يواجه الصمت العسكري المصري الذي يريد أن يصنع حالة من التهديد من حوله لتبقي الحاجة له شعبيا داخل مصر. ليس للإئتلاف من داعم سوى الدعم الشعبي المصري و التونسي عبر الحدود والذي ينحصر في الدعم اللوجيستي اللاعسكري والتعاطف الشعبي الذي لا يصنع تأثيرا على مجريات الأمور نظرا لإنشغال الشعوب بأحداث التغيير وثورتها الداخلية.
المتوقع ألا تتدخل القوى الغربية و تراهن على دخول القذافي إلى بنغازي وقضاؤه على رؤوس المقاومة الشعبية قيامه بمجزرة دموية بمعنى الكلمة تؤهل لإستغاثة ليبية للعالم بالتدخل "بأي صورة" ودون "قيد أو شرط" سيقابل ذلك إخلاص القذافي في الإمعان قتل شعبه و الصمت المخزي من العرب و المؤسسة العسكرية المصرية و التونسية كذلك.
إذن ماذا يملك الإئتلاف الليبي ليخرج من هذا الموقف العصيب؟
المتابع للوضع الليبي لابد أن يوقن أن المخرج ليس بيد أي طرف خارجي وأن مصلحة الوطن الليبي تتمثل في صمود بنغازي و معاقل الثورة وكل المدن التي بين يد الثورة وعدم سقوطها ورفض التدخل الأرضي الغربي بكل صوره مهما حدث على أن تخرج بقية المدن الليبية في ثورة شعبية معتمدة على إرادتها وانتزاع السلاح من كتائب القذافي وتوسيع رقعة العمليات العسكرية على الكتائب لتخفيف الضغط على بنغازي وبقية معاقل الثورة بكل صورة ممكنة. إن ليبيا حفاظا على كل الثورات العربية يجب أن تصمد ولا تسقط ولا تسمح بالتدخل الأرضي الغربي بأي صورة ممكنة. بل وإني أدعو كل شباب الدول المجاورة للحدود الليبية إلى عدم الإعتماد على مناشدة المؤسسات العسكرية القومية بالتدخل بل يعمدوا إلى دعم الثورة الليبية بكل صورة ممكنة على أن ينشط تهريب السلاح و توسيع دائرة الإمداد إلى الدعم اللوجستي العسكري ولو تطلب الأمر إلى تسليح أنفسهم والإنضمام إلى الثوار الليبين والمعركة الدائرة هناك للدفاع عن مكتسبات ثوراتهم الوطنية كأول سبب للإنضمام في دائرة الدفاع عن ليبيا.
إن الصراع في منطقتنا يتنامى ويبلغ مداه بهذه الثورات المباركة ويجب الحفاظ على مكتسبات هذه الثورات بكل الوسائل المتحة و الممكنة ولو تطلب الامر مزيدا من الدماء ليروي بلادنا العطشى للحرية وفي حفظ الثورات في ليبيا واليمن و سوريا وما سيليهم من دول هو ضمانة إستقرار لكل الثورات العربية الناجحة والتي ستنجح بإذن الله فيما بعد وعلى رأسها ثورتي تونس ومصر.
تعليق