كتاب استقالة الدكتور من العمل الدبلوماسي


السيد/ أحمد ماهر
وزيـر الخارجيـة
تحية طيبة وبعد..
لا أظن أنه لم يبق سوى الاستقالة بعد أن أحكمتم الحصار حولي بشكل متعمد بعد أيام من توليكم الوزارة, وكأنه ثأر بينكم وبين المخلصين من أبناء مصر, وقد خيرتموني بين الاستقالة أو الجحيم, وعمدتم إلى تجميدي وإغفال قدراتي تماماً داخل الوزارة, كما فرضتم قدر استطاعتكم طوقاً حولي خارج الوزارة وكأن القضاء عليّ أصبح هماً قومياً لكم, وصرحتم بأن مصدر خطورتي كفاءتي ووضوحي ونزاهتي وقدرتي على الإقناع, ورفضتم مراراً لقائي حتى أستبين منكم مستقبل هذا المخطط الذي أثار المرارة في أعماقي, لكنه عزز لديّ العزم على كشفه, حرصاً على حق مصر في ألا يحول بينها وبين أبنائها القادرين الأكفاء حائل, وأن يتعزز لديهم الانتماء إلى مصلحة هذا الوطن.
السيد الوزير:
مع كل احترامي للتقليد المصري الراسخ وثقافتنا وتراثنا الذي ليس مألوفاً فيه الاستقالة من منصب احتجاجاً على سياسة أو موقف, أكتب إليكم اليوم لأعرب هذه المرة عن يأسي من الإصلاح في الوزارة على يديكم, وحرصي على حق مصر في أن أضحي لإقرار قاعدة أعتقد أنه يغيرها لن يستقيم لنا أمر, واحتجاجاً على إصراركم على قمع الكفاءات والقضاء عليها والتستر على الأخطاء وتجاهل قانون الدولة عمداً, والاستخفاف بالقضاء. لقد أوضحت لسيادتكم مراراً أن الوزارة بحاجة إلى أبنائها القادرين المخلصين, وإلى وضع كل في المكان الذي يتفق مع قدراته والعناية بالتمييز بين الأعمى والبصير, فإذا الأعمى المنحرف هو السيد المترف , والبصير الكفء النزيه هو المطارد والممتهن, فانقلبت قاعدة القيم تماماً مما ضاق به صدري. والحق يا سيادة الوزير أنك نجحت فيما فشل فيه غيرك, وهو استنفاد طاقة الصبر على كل المكاره معك أملاً في أن تثوب إلى الرشد, وأن تكون المصلحة العامة هى مؤشر قراراتك بدلاً من تحويل الوزارة إلى إقطاعية انحسرت فيها سلطة الدولة وتهاوت فيها سيادة القانون, ولكنك سددت ضربة قاضية لحق مصر في الاستفادة من واحد من أخلص أبنائها وأقدرهم على خدمتها في وزارة الخارجية, فقد جعلتني شخصياً, وجعلت سياسة تحجيمي وتجميد قدراتي وتعمد إهانتي محط نظرك, حتى أصبحت أقسى على أبناء وطنك من قسوة شارون على أصحاب الحق في فلسطين, وكأن الجلاد قد أنجب تلاميذ يضارعونه في القسوة والظلم.
ولكنني ياسيادة الوزير أعلن لكم بهذه السطور إحتجاجي على امتهانكم لدستور مصر الذي يؤكد مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص, كما يؤكد على قيمة العلم, ولكني لا حظت أنني كلما ازددت علماً وتأهلاً ازددتم نقمة وسخطاً عليّ, وقد أوضحتم لي صراحة أنه لا يهمكم أن تعلم الرئاسة أو أن ألجأ إلى القضاء الذي يفني العمر, كما تقول دون نوال القصد وإقرار الحق, ولكنني أبرأ إلى الله ممن لا يصونون لوطنهم حرمة ويدفعون أبناءه البررة إلى اليأس والفرار.
إنني استقيل إحتجاجاً على قمة الملهاة, ففي الوقت الذي تبحث فيه الأمم عن الكفاءات والعلماء وتبعد المنافق والفاسد والسطحي عن الصف الأول, يتم إعلان الحرب عليّ, وأن تكون تهمتي الرسمية هى الإفراط العلمي والأكاديمي.
فلا يعقل يا سيادة الوزير أن أكون متخرجاً من كليتي الإقتصاد والحقوق وحاصلاً على ثلاث درجات للدكتوراة من جامعات عالمية, وعلى أعلى درجة علمية عالمية في القانون ومتخصص في الدراسات الإفريقية والعربية والخليجية والدولية والقانونية والتحكيم والدبلوماسية والإسلامية وعضو في عشرات المجالس والمنتديات ومن أعلام الثقافة والفكر, وابن متميز من أبناء الوزارة الشرعيين لأكثر من ثلث قرن, ومع ذلك تجمد كل هذه الطاقات ولا يستخدم منها في الوزارة شئ يذكر, وكأنكم بهذا الموقف تبلغون رسالة واضحة لي وللشعب المصري, وهى أن أصحاب الكفاءات والمؤهلات والقدرات لا قيمة لهم في مصر وأن المطلوب هو عكس ذلك تماماً, وهو – إن صح- يبعث الأسى على مستقبل هذا البلد, بلدنا الذي لابد أن نتصدى فيه لهذه الرسالة المدمرة وحمايته منها, وصيانة قدره وكرامته ورسالته الحضارية, وهى أمانة أعلنها نسلمها لأجيالنا المقبلة, فإذا تواصلت رسالتكم فإن ذلك يثلج صدر أعدائنا, ويشكل ذلك في نظري جريمة الخيانة العظمى, حيث يدفع الشعب من قوته للمنصب العام الكبير وامتيازاته لا لكي يتغول صاحب المنصب على أبنائه القادرين, بل لتجنيدهم في معركة الوطن من أجل التنمية والكرامة.
إنني بهذه السطور لأرجو أن يعلن كل صاحب كفاءة موقفه, مما أظن أنها حملة من الأسماك الميتة لقتل الاسماك الحية, والوطن يئن من اختلال المعادلة لصالح الاسماك الميتة, ولتكن تلك الاستقالة إعلاناً عن رفض الضيم من مواطن يصر على أن يعامل في وطنه بما يليق بقدراته, فليس معقولاً أن يكون له هذه المكانة الثقافيةو العلمية الهائلة في مصر والعالم العربي, وأن يكون ذا رسالة وطنية واضحة, وقدرات تشرف مصر وتفخر بها, وأن يستذل في وطنه, وتهدر طاقاته, وأن تصر أنت يا سيادة الوزبر على أن تنفذ مخطط أعدائنا فيه الذين عجزوا عن النيل منه, وأنا أنزل بهذه الاستقالة إلى محكمة التاريخ وإلى ضمير الرأي العام لكي تبرئ أنت ساحتك أمامه.
إنني لا أستقيل يأساً من مستقبل مصر ولكنه حرص على هذا المستقبل, ودق جرس الخطر لأول مرة بأنه قد بلغ السيل الزبي....., وأتمثل بقول الرسول الكريم: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة, وأدعوا الله أن يجنب مصر وشعبها العربي, وأن يحفظ المخلصين القادرين من أبنائها من كيد العابثين بأقدارها.
إنني إذ أودع رغماً عني وزارتي الحبيبة التي أفنيت فيها سحابة عمري وأهلت نفسي ليوم أنهض فيه بمسئولياتها الجسام وآمالها الكبار, فإن ثقتي في قيادة مصر وقدرتها على التصحيح لا تهتز, وأنا على ثقة أن دلالة هذا العمل لن تخفى عليها وعلى المجتمع المصري الذي أتشرف بالإنتماء إليه وخدمته وتبصيره, وتأكيد على إبائه التاريخي
وأخيراً أرجو أن تكون هذه السطور برداً وسلاماً عليك, ولكنك بذلك أسأت إلى شعبك ووطنك ووزارتك التي وصلت في عهدك إلى أسوأ أوضاعها وأن يزول الكابوس الذي يؤرق مضجعك, واستحللت كل الأساليب البائدة في محاربته ولكني ملاقيك في ساحات أخرى إنتصاراً لحق مصر علينا, كما أني ملاقيك في يوم نمثل معاً أمام الديان يوم الحساب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عبد الله الأشعل
12 اغسطس 2003

كثيرا ما يظهر على قنوات الجزيرة والبي بي سي والعربية