إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مشكلات الخطاب الإسلامي المعاصر - راشد الغنوشي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مشكلات الخطاب الإسلامي المعاصر - راشد الغنوشي

    مشكلات الخطاب الإسلامي المعاصر


    راشد الغنوشي

    رغم أن إنتاج القمح ونضح الماء ومقاومة الآفات وترويض الطغاة حتى يذعنوا لإرادة شعوبهم ورد الأعداء على أعقابهم خاسئين. وأمثالها لا يتم إلا بأعمال مثابرة ومنظمة وتضحيات جسام كفيلة بتغيير مجرى التاريخ، يبقى للكلام الصادق المسدد في اتجاه العمل الصالح دوره في حركة التاريخ باعتبار الإنسان كائنا ناطقا. وباعتبار أن الخطاب الإسلامي هو اليوم أوسع الخطابات سامعا، كان قمينا بأهله وبمن داخله قبل غيرهم أن يفحصوا إشكالياته سبيلا لتطويره من قبيل "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا".

    وعندما نتحدث عن إشكاليات الخطاب الإسلامي المعاصر لا بد أن نأخذ في الاعتبار النقطتين التاليتين:
    أ‌- لا نكون معنيين هنا بالحديث إلاّ عن جوانب الخلل والنّقص في هذا الخطاب، وليس عن جوانب التفوق والنّجاح التي هيّأته ليكون الأقرب إلى قلوب النّاس وفهومهم، والحامل الأكبر لهموم القطاع الأوسع من الجماهير وطموحاتها في العدل والحرية والكرامة واستعادة العزّة المهيضة والوحدة والاستقلال وتحرير فلسطين والعراق وكل شبر محتل من دار الإسلام.

    ب- لسنا معنيين كذلك بالحديث عن كلّ تلوينات هذا الخطاب، وإنّما نحن معنيون فقط بالحديث عن صنف واحد من الخطاب الإسلامي هو خطاب التيار الوسطي في الحركة الإسلامية وهو التيّار الرئيس فيها. فما هي أهم جوانب الخلل في خطاب هذا التيار الوسطي في التيار الإسلامي؟

    1- هو خطاب تغلب عليه المنازع القطرية، التي نجحت الدّولة القطرية -التي زرعها الاحتلال في أمتنا- في التحوّل من كونها أمرا واقعا فرض على الأمة بالحديد والنّار إلى كونها ثقافة مقبولة، اتخذت لها مواقع تزداد عمقا واتساعا في عقولنا وقلوبنا ومواقفنا وخططنا، لدرجة تهدّد بإمكان أن يتكرّر في الدائرة الإسلامية ما كان قد حدث في الدائرة القومية عندما حكم حزب البعث في القطرين الجارين: العراق وسوريا، فلم يكن ذلك الطريق الأقرب لوحدة القطرين، وإنّما لاندلاع عداوة قاتلة وقطيعة تامّة لم يقع تجاوزها إلاّ بعد سقوط بعث العراق على يد قوات الاحتلال، فأمكن لأوّل مرّة تبادل السفراء بين القطرين.

    وإذن فليس حتما لازبا أن يتم مثلا تجاوز النزاع حول الصحراء الغربية بين المغرب والجزائر فيما لو حكم الإسلاميون في القطرين، ولا النزاع حول حلايب، ولا يبعد أن يكون موقف إسلاميي الهند إزاء النّزاع على كشمير مختلفا عن موقف إسلاميي باكستان. وفي الأردن واضح في العموم تمايز مواقف الفلسطينيين عن مواقف الشرق أردنيين. وإنّ ما أحدثته مقابلة كروية بين الجزائر ومصر من شرخ عميق ليس هناك ما يؤكّد أن ذلك لم يمس من قريب أو بعيد الإسلاميين في القطرين، والأمثلة كثيرة، بما يوجب على رجال الفكر والتربية في الحركة الإسلامية أن يتنبهوا إلى خطر تغلغل سرطان التجزئة في الثقافة الإسلامية المعاصرة بما يمس مبدأ عظيما من مبادئ الإسلام مبدأ وحدة الأمّة التي هي الترجمة الاجتماعية والسياسية لعقيدة التوحيد "وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون". الأنبياء/92.

    كما يمثّل تهديدا لمصلحة إستراتيجية للإسلام وأمّته في زمن يتجه إلى التكتلات الدّولية وتجاوز الأوضاع القطرية الضيقة التي غدت أعجز من أن تضمن تحقيق مقومات الأمن القومي لأي قطر من أقطارنا على انفراد، ولذلك أقدمت الدول التي صدّرت لنا بل فرضت علينا هذه الدويلات القزمية العاجزة على تليين مقدس سيادة الدولة لصالح الانخراط في تكتلات عظمى.

    وبدل أن نطوّر نظام الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي في اتجاه تكتلات مصالح اقتصادية ودفاعية تراجعنا إلى الوراء، فلم يعد أحد يتحدّث عن مؤتمر لوزراء الدفاع أو الاقتصاد، العرب أو المسلمين أو المغاربيين، وأفرغت مؤسسات الوحدة القائمة من كلّ محتوى وحدوي، فما بقي منها غير ألقاب في غير موضعها كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد، فلا تحضر لا في الحرب ولا في السلم. حتى عندما فاوضوا العدو الإسرائيلي فاوضوه فرادى، فكان الاستسلام الذليل ثمرة زقّوما من ثمار الدولة القطرية.

    2-هو خطاب يتضخّم فيه الجانب العقدي التربوي معزولا أو يكاد عن محمولاته الاجتماعية السياسية. وبسبب أهمية العقيدة والتربية في بناء الإسلام فإنّ أثرهما ينبغي أن يمتدّ ليغطّي ليس السلوك الفردي للمسلم وحسب، وإنّما يجب أن يتجاوزه ليلوّن كل مواقفه الاجتماعية والسياسية، وإلاّ وقعنا في ضرب من العلمنة والنفاق وازدواج الشخصية في اتجاه تفريغ الإسلام من مقاصده الكبرى في العدل والشورى والوحدة التي جاء ليرسيها في الأرض.

    وخلافا لما أفضت إليه المجادلات الكلامية التي جاءت ردّا على فتنة الخوارج في تكفير المسلم بالذنب واستباحته جملة، من الفصل بين الإيمان وبين العمل، على نحو لا يضرّ إيمان من نطق بالشّهادتين، عمل، أيا كان، على خلاف ذلك جاء تعريف الإيمان حيث ورد في القرآن مقترنا بالعمل بدءا من سورة البقرة (1و2) وسورة الأنفال (1و2) والحج (الآية 32) والمؤمنون (من الآية 1 حتى 7) والحجرات (الآية 14) والمعارج (من الآية 21 حتى 34).

    ولقد حمل القرآن من أوّله إلى آخره على النموذج الفرعوني للحكم، الجامع بين التأله العقدي والاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي في تحالفه مع قارون، وعلى أكلة أموال الناس بالباطل على يد الحكام ورجال الدين، وذلك انتصارا لإيمان مقترن بالحرية والعدالة، وظهر ذلك أجلى ما يكون في قصار السّور التي هي في متناول كل المسلمين.

    اقرأ مثلا سورة الهمزة، وسورة الماعون حيث يأتي تعريف الدّين تعريفا اجتماعيا، فالمكذّب بالدّين ليس هو من لا يؤمن بالله واليوم الآخر كما هو التعريف العقدي الكلامي، وإنّما هو أيضا من يحتقر اليتيم ولا يبالي بالمسكين ويمتنع عن بذل العون للمحتاج، فلا تنفعه إذن صلاة يرائي بها.

    خلاصة ذلك أنّ الإيمان لا يرد في القرآن إلاّ مقترنا بالعمل الصّالح، وكذلك الأمر في عموم السنّة، إلاّ أن ضروبا من الفتن أفضت إلى تفريغ الإيمان من محمولاته المجتمعية السياسية والاقتصادية خاصة، وفي أحسن الحالات تم اختزال العمل الصّالح في الأعمال الروحية والفردية، في حين أن عموم الخطاب القرآني موجه إلى جماعة وأمة ممثلة في دولة، لا يمكن للإسلام أن يعمل عمله في الأرض دون قيامهما، ولذلك ما فتئ صاحب الدّعوة يوصي حتى أيّامه الأخيرة بالجماعة، ويحذّر من النّكوص إلى الجاهلية "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية".

    هذا البعد الاجتماعي للإسلام هو الذي بدأ يتصرّم صبيحة وفاة صاحب الدّعوة عليه السلام، إذ اندلعت الردّة في عموم قبائل العرب ليس عودا إلى عبادة الأصنام بل ليس حتى رفضا للجانب الروحي الفردي من الإسلام الذي ترمز إليه الصلاة، وإنّما رفضا للبعد المجتمعي ممثلا في نظام الدولة وواجبها في جباية الزّكاة، وهو ما أوقع العديد من الأصحاب في الحيرة والاضطراب اعتراضا على الخليفة الصدّيق الذي قرّر شنّ حرب لا هوادة فيها ضدّ هذا النّكوص العلماني الجاهلي، معلنا أنّه سيقاتل كلّ من أقدم على تشطير الإسلام وتجزئته -مستمسكا بجانب فردي روحي من الإسلام- رافضا قرينه ولازمه الاجتماعي السياسي الاقتصادي، فكانت أوّل حرب في التّاريخ تشنّ دفاعا عن حق الفقراء.

    ورغم أن الجيوش السّبعة التي رمى بها الخليفة الراشد المرتدين تباعا قد نجحت في إخماد ذلك التمرّد المسلّح، وتمّ إنقاذ الإسلام من إستراتيجية تمسيح مبكر، فما لبثت رياح التّاريخ العاتية أن سفت أتربتها الكالحة على ثورة الإسلام التحرّرية، فأودى الإنقلاب الأموي بدولة الشورى، دولة الفقراء، وبدأت زاوية الانفراج بين العقيدة والسياسة تنفرج وتتسع، واستغرق تحقق الانفصال الكامل السّافر أزيد من عشرة قرون، ولم يعلن عنه إلاّ مع سقوط آخر شكل من أشكال الدّولة الإسلامية "الخلافة العثمانية" فقامت الحركات الإسلامية على امتداد عالم الإسلام داعية إلى استعادة الوصل رافعة شعار الإسلام: دين ودولة، دين وحضارة.

    ورغم الاتساع المتواصل لهذه الثقافة الإسلامية المجتمعية الثّائرة، فإنّ ثقافة الانحطاط التجزيئية لا تزال منغرزة في الضمير الجمعي الذي لا يزال الصلاح عنده مرتبطا بالتديّن الفردي، بل في كثير من الأحيان حتى بالدروشة، ومهما تحرّرت الحركة الإسلامية من هذا التراث الإنحطاطي لا تنفكّ عن كونها منتوجا لبيئتها مهما ادّعت خلاف ذلك، لا سيما وبضاعة التثقيف السياسي المجتمعي في السّاحة الإسلامية لا تزال ضحلة، بما يفسح المجال أمام جماعات إسلامية لتنتهج سياسات في منتهى التناقض، ظهر ذلك سافرا في الجزائر صبيحة الانقلاب على الديمقراطية وعلى الإسلام من طرف طغمة عسكرية مدعومة من جهات لا تخفي عداءها للإسلام، فكان من الجماعات الإسلامية من أعلن الجهاد، وجماعات أخرى حالفت الطغمة وأخرى اكتفت بالمعارضة السياسية، وأخطر من ذلك وأدهى ما حصل في العراق إزاء الإحتلال، حيث قدّمت جماعات إسلامية على ظهر دباباته، وحرصت أخرى على الحصول على نصيب من المغنم، وثالثة أعلنت الجهاد.

    دلالة ذلك واضحة فيما دعاه بعض المفكرين الإسلاميين (د. حاكم المطيري) بغياب العقيدة السياسية في ثقافة الإسلاميين، بما يجعل مسالكهم السياسية قابلة لكل صورة تقريبا، ثقافة تبريرية ذرائعية يمكن أن تستخرج منها أشدّ المواقف تناقضا، وهو أمر خطير ومعيب.

    ومن قبيل تضخم الجوانب العقدية معزولة عن محمولاتها المجتمعية ومقاصدها العامة، الاكتفاء من الدول من أجل تمتّعها بالصّفة الإسلامية أن تحلّي دساتيرها بالإسلام، وتحرص في المناسبات على حضور عمائم، لا يضر انتماءها بعد ذلك أي خيانة تقترفها في حق مقومات الأمن القومي للأمّة، إذ توالي أعداء الأمّة وتتورط في الكيد لشعب مسلم وتفرض الحصار عليه، أو تقترف جريمة التعذيب حتى الموت، أو تمارس النّهب الواسع لثروات الشعب وأقوات عامة الناس، أو تخرج بناتها يرقصن في استقبال جنرال محتل.

    3- غلبة خطاب الزجر والعقاب: إن تفريغ الإسلام من محتوياته المجتمعية (العدل والشورى والوحدة) كاد أن لا يبقي للشريعة من معنى غير كونها نظاما عقابيا (إقامة الحدود) في غفلة عن أن هذه العقوبات إنّما هي جزء بسيط من الشريعة لا يلتجأ إليه إلا ّفي حالات استثنائية، بعد أن تكون شريعة العدل ومناهج التربية والتثقيف قد وفرت لكل مواطن ظروف العيش الكريم والتربية السليمة، فإذا أقدمت بعد ذلك نفوس مريضة بالطمع، على العدوان وجب ردعها، والرّدع هو الوظيفة الأساسية لهذه العقوبات "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب" (البقرة/179)، بما يجعل هدف الشريعة ليس إيقاع هذه العقوبات، وإنّما درؤها بأي شبهة،"ادرؤوا الحدود بالشبهات"، وذلك من طريق ما توفره شريعة العدل من مناخات وظروف عافية واستقامة وتقوى.

    وعندما عملت آليات الإسلام مجتمعة في العهد النّبوي والرّاشدي لم نر الأيدي والأرجل مكدّسة، ولا أسواط الجلاّدين، ولا المشانق منتصبة في كل حي بالمدينة، بل كادت وظيفة التقاضي تختفي لانعدام الحاجة إليها، حتى أنّ حوادث إقامة الحدود القليلة جدّا إنّما كانت بطلب ملحّ متكرر من الواقعين فيها ابتغاء التطهّر الذاتي، مثل ما حصل من الصحابيين ماعز والغامدية، التي أثنى النّبي عليه السلام عليها فقال "قد تابت توبة لو وزّعت على أهل المدينة لوسعتهم"، وذلك تأكيدا لحقيقة أن طبيعة المشروع الإسلامي أنّه قبل كلّ شيء مشروع تربوي مجتمعي، قبل أن يكون مشروعا سلطويا، مشروعا تربويا يتّجه إلى النّفوس وإلى العلاقات لإصلاحها من طريق الإقناع والحضور الإلهي والقدوة الحسنة، وتوفير حاجات الناس الأساسية وتوفير المناخات النّظيفة المعينة على الصلاح.

    فالإنسان المؤمن والمجتمع القوي المتماسك لهما الأولوية على السلطة والحكم، خلافا لمشاريع التّحديث التي عوّلت في الإصلاح على الدّولة وأجهزتها، أي على القمع والتسلط. ولأن المشروع الإسلامي كان ولا يزال ضحية لتسلّط مشاريع الدولة العلمانية التي فرضت على شعوبنا بالحديد والنار، فلا عجب أن يتضخّم حضور الدولة في الثقافة الإسلامية المعاصرة، لا سيما وقد برزت خطابات حتى من داخل الإسلام بأثر الغزو الأجنبي تنكر موقع الدولة في الإسلام، وتؤكّد أن الإسلام مثل غيره من الديانات ليس سوى رسالة روحية، وأنّ رسوله لم يكن سوى مبلّغ عن ربّه، وليست الدولة من جوهر تلك الرّسالة، وإنّما هي أمر ملحق مستحدث.

    فكان ذلك سببا آخر بدافع رد الفعل لتضخم خطاب الدولة في فكر الإسلاميين المعاصرين وبخاصة فكر سيد قطب والمودودي. ومن أثر هذا التضخم تمحور المشروع الإسلامي حول الشّريعة واختزال الشّريعة في فقه الحدود، بينما الشّريعة هي معنى آخر من معاني الإسلام فهي عقائد وشعائر ونظم وأخلاقيات، هي عقائد وأحكام وتزكية، هذا الاختزال هو الذي جعل إسلاميي السودان الذين غلبت على مشروعهم الصبغة القانونية ممثلة في الشريعة، أن يلفوا أنفسهم في النّهاية أمام خيار صعب، بين التمسّك بالشّريعة بهذا المعنى أو التمسّك بوحدة السودان، إذ رفض الجنوبيون البقاء في دولة تحكمها "الشريعة"، وهكذا قاد الفهم المبتسر للشريعة إلى تمزيق وطن استلمه الإسلاميون موحّدا، سواء في زمن احتلاله أو استقلاله، ليتمزق بين أيديهم بأثر هذا الوضع المشوّه للشريعة، على أنّها جملة من العقوبات والنقيض للوحدة، مع أنّ الوحدة من أعظم مقاصدها وليست وحسب جزءا منها وبعدا من أبعادها.

    4- خطاب يعطي الأولية للظواهر والجزئيات: وهذا المعنى المبتسر للشريعة باعتبارها عقوبات وزواجر جعله:

    أ‌- يضيق بالحريات الفردية والجماعية ويعمل على تضييقها إلى أبعد الحدود، لدرجة أن بعض الإسلاميين نفوا إسلامية هذا المفهوم من شريعة الإسلام، رافعين مثل حزب التحرير شعارا بغيضا "لا حرّية في الإسلام" بل تقيّد بالشريعة، وهكذا وضعوا الإسلام مقابلا ونقيضا للحرّية، في زمن ثورات الشعوب ضد قوى الاستبداد والهيمنة، وبينما الإسلام وأهله أكبر ضحايا الاستبداد وأكثر المستفيدين من الحرّية لدرجة أنّهم يفرّون من أوطان إسلامية باحثين عن ملجأ في كنف دول غير إسلامية أصلا، تدين بالدّيمقراطية العلمانية.

    وبسبب الارتباط التّاريخي في البيئات الغربية بين الديمقراطية والعلمانية، مع أنه ارتباط ليس ضروريا ولا محتما، فقد كفروا بالديمقراطية، متغافلين عن طبيعة الإسلام أنّه ثورة ضد الفراعين والقوارين، وأنّ النّبي عليه السّلام إنّما هاجر أحبّ بلاد الله عليه أسيفا، بسبب استبداد أهلها، ورفضهم دعوته، أو التخلية بينه وبين النّاس، وأنّ الإسلام يزدهر حيث تزدهر الحرّية، وتنكمش دعوته في ظلّ الاستبداد، بما يجعل الحرّية ليست مجرّد مطلب من مطالبه الضرورية لدعوته، بل هي مقصد من مقاصد شريعته، كما أكد علماء مقاصد الشريعة (ابن عاشور).

    ب- التركيز على الظواهر والجزئيات بدل الكليات والمقاصد، وهو ما جعل المعارك حول قضايا الحجاب والنّقاب واللّحية والأثواب والخمور تحتلّ الصّدارة لدى قطاع واسع من أصحاب المشروع الإسلامي، فيبادرون بمجرّد استلامهم للسلطة في أي قطر إلى تجسيد مشروعهم هذا الشّكلاني، فيفرضون على النساء الحجاب أو النقاب، ويغلقون الخمّارات ونوادي الترفيه، وقد يبلغ تشدّدهم حد غلق دكاكين الحلاقة ودور السينما، بل قد يطردون النّساء من مواقع العمل.

    ولقد رأينا في مجتمع يطبق الشريعة بهذا المعنى الشكلاني الزجري كيف يتفلت النساء بالجملة من هذه القيود بمجرد أن ترتفع بهن الطائرة في اتجاه أوروبا، وكيف يحتدم صراع لا يفتر بين البوليس الأخلاقي أو جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين مجتمعات ضائقة ذرعا بالقيود التي لا تأتي الناس من الداخل، من باب حرّياتهم، وإنّما من الخارج بواسطة الزجر والترهيب، في ذهول عن أن النّاس مفطورون على الحرّية، مبغضون لكلّ ما يفرض عليهم فرضا مهما كان في مصلحتهم، وأن الإسلام لو كان رصيده في الحياة والاستمرار الدولة لانتهى وأقفرت سوقه، وقد انتهت السلطة إلى خصومه غالبا، فكيف يفسر الإقبال المتزايد عليه وامتداده في العالم رغم ما يلفاه من مقاومة خصومه؟ إن جزئيات الشريعة مثل قضايا الأزياء والمظاهر هي جزء من الشريعة، ولكن موقعه منها بمثابة موقع الديكور من البيت ليس الأساس فيه ولا الأركان ولا السقف.

    مهمّ جدا أن يحتل فقه الأولويات كما تحدث عنه الشيخ العلامة القرضاوي مكانه في ثقافة المسلم المعاصر، حتى لا تختلط عليه الأوزان المختلفة للشريعة، فيقدم الخفيف على الثقيل، والأقل أهمية على المهم والباطن على الظاهر. بينما القرآن صريح في التوجيه إلى هذا التمييز. قال تعإلى "أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله وأولئك هم الفائزون". (التوبة/18 و19).

    5- خطاب وعظي تمجيدي دفاعي: معظم المنتوج الثقافي الإسلامي المعاصر ذو منزع دفاعي عن الإسلام ردا على منتقديه وتمجيدا له ولتاريخه. وإذا كان ذلك مفهوما في مرحلة اشتداد الغزو الثقافي الأجنبي والاختراق الواسع للأجيال الجديدة ولعالم النخبة وانحسار الحركة الإسلامية حتى الربع الأخير من القرن العشرين، فإن ذلك لم يعد مستساغا مع تراجع مد الفكر الغربي وتصاعد مد الإسلام، لم يعد مستساغا الاكتفاء باجترار أدبيات تمدح الإسلام وتمجّد تاريخه دونما إضافة تذكر لما أنتج الروّاد جيل الجامعة الإسلامية، والجيل الذي تلاهم.

    فالفكر النّقدي غريب، والدّراسات الميدانية لأوضاع العالم الإسلامي ضئيلة جدا، اكتفاء بحديث غالبه مكرور عن عقائد الإسلام، وعن المرأة في الإسلام، والاقتصاد في الإسلام والحكم في الإسلام والتربية في الإسلام والبيئة في الإسلام. أمّا الدّراسات الميدانية لاقتصاد هذا البلد أو ذاك أو لأوضاعه التربوية أو لأوضاعه السياسية والقانونية والاجتماعية ولتاريخه ولعلاقاته الدولية ولشبابه ونسائه ولثقافته... إلخ.

    مثل هذه الدّراسات قليلة جدّا، ربما بسبب غلبة التخصّصات الفنّية والعلمية التي تستقطب معظم النخبة الإسلامية أطباء ومهندسين وفنيين وموظفين ومدرّسين. وذلك على حساب التخصّصات في العلوم الإنسانية والآداب والفنون، وهو ما يهدّد الخطاب الإسلامي بالسطحية والشكلانية والتكرار، الأمر الذي ربّما أسهم في تزهيد الأجيال الإسلامية في المطالعة الجادّة مكتفية بما تضخه وسائل الإعلام الحديثة حتى غدت المكتبات في البيوت مجرّد قطعة من الأثاث وصور تزيينية، وجعل الجدل يحتدم بين تيارات الصّحوة بسبب غلبة التسطيح والتمجيد، ونتج عن ذلك أيضا صعوبة الحوار بين تيّارات الصحوة بسبب غلبة منزع التبسيط والشكلانية.

    6- خطاب عابس مباشر: رغم أن معجزة الإسلام القرآن هي قبل كلّ شيء، من طبيعة بيانية جمالية، احتلّ فيه القصص مكانا متميزا، ورغم اجتهاد كتب التفسير في إبراز معالم من هذه المعجزة البيانية، إلاّ أن الفقه التشريعي مثّل القسم الأعظم من أقسام الثقافة الإسلامية، في حين أنه من بين أكثر من ست آلاف آية لم تزد آيات التشريع عن ست مائة.

    صحيح أنّه قد نمت إلى جانب علوم الفقه علوم كونية وتاريخية وأدب رحلات ودواوين شعرية -القليل منها هو ما كان يمتح صوره من القرآن الكريم وقيمه وليس من صور وقيم وأغراض الشعر الجاهلي-، ومع ذلك ظلّ الخطاب الإسلامي أساسا خطابا مباشرا ذا طبيعة وعظية، بينما ظلّ إنتاج الإسلاميين في كثير من الفنون الجميلة ضعيفا أو ضئيلا مثل الدراما والتصوير والموسيقى والشعر، ربّما بسبب عوائق، حيث ظلّ الخلط قائما بين عدد من الفنون وبين المناخات العلمانية أو الماجنة التي تلبست بها، ما زهدّ الصالحين فيها ونفّرهم منها فاجتهدوا في الصّرف عنها وتشديد النّكير على المشتغلين بها أو المستهلكين لها مفوّتين على الإسلام وصحوته أبوابا واسعة للخير والدّعوة.

    وليس يجهل منصف ما كان لفيلم "الرّسالة" من أثر عظيم في الدّعوة إلى الإسلام، مع أنّ الفنّ الإسلامي في هذا المجال، أي ما يمكن تسميته بالسينما الإسلامية أو الدراما الإسلامية ما ينبغي أن يقتصرا على رواية التاريخ الإسلامي، فالفنّ الإسلامي كما بيّن الأستاذ محمد قطب في "منهج الفن الإسلامي" ليس هو بالضرورة الذي يتحدّث عن الإسلام ورموزه، وإنّما هو كلّ فنّ ينطلق من قيم الإسلام في الإيمان ونصرة الحق والعدل والخير ومحاربة الشر والفساد والظلم.

    ومع أن فتاوى لأعلام الفقه الإسلامي المعاصر مثل فتاوى الشيخ القرضاوي ميّزت بين أصل الحلال في الموسيقى والتصوير ومشاركة المرأة في مجال الفنون وهو الأصل، وبين ما يمكن أن يلابس ذلك من منكرات تخرجها عن الأصل، فلا يزال قدر غير قليل من التجهم في الوسط الإسلامي إزاء الفنون الجميلة، بينما القناعة تزداد بضرورة تقديم البديل الإسلامي للاستخدام المعادي للفنون من قبل أعداء الإسلام.

    إن نمو الإنشاد الإسلامي بما في ذلك الذي يستخدم الآلات، ودخول جريئين ميدان الدراما كما حصل في رمضان الماضي مع مسلسل "القعقاع" واعتزام آخرين تقديم مسلسل عن الخليفة الفاروق، وآخرين تقديم فيلم عالمي عن حياة الرسول الأعظم عليه السّلام. خطوات مهمّة على طريق تطوير الخطاب الإسلامي المعاصر ليملأ فراغا خطيرا في الثقافة الإسلامية المعاصرة، بما يحقق شروط النهوض الشامل وموعودات الله ورسوله في اندياح عدل الإسلام ورحمته في العالمين "والله متمّ نوره ولو كره الكافرون".


    المصدر: الجزيرة نت

  • #2
    رد : مشكلات الخطاب الإسلامي المعاصر - راشد الغنوشي

    حيا الله أستاذنا الكبير راشد الغنوشي. لي تعقيب:

    1- الخطاب القطري لدى الحركات الإسلامية هو نتاج المجتمع والفكر السائد وتأثر الحركات الإسلامية بها، وليس جزءاً أصيلاً من تفكيرها. فالحركات الإسلامية تتعرض لضغوط من الدولة ومن منافسيها ومن المجتمع نفسه تدفعها لتبني طروحات قطرية لدرء الاتهام عن نفسها.

    أمثلة على ذلك: اتهام الإخوان المسلمين في فلسطين (وحماس لاحقاً) بأنها لا تهتم بالشأن الفلسطيني وأن أجندتهم غير فلسطينية بسبب تأيدهم للجهاد الأفغاني ضد السوفيات.
    الاتهام الحكومي المصري والذي تردده أحزاب سياسية بأن الإخوان المسلمين في مصر يتبنون مواقف تضر بالأمن القومي المصري، ويقصدون تلك المواقف التي تتضامن مع القضايا الإسلامية العامة، وكأنها تهدد الأمن القومي.
    في الأردن يرفع الشعار الأردن أولاً من أجل الضفط على الإخوان المسلمين لكي يتخلو عن القضية الفلسطينية.


    2- أؤكد على ما ذكره الأستاذ الغنوشي حول سطحية النظرة للمشروع الإسلامي، وعلى عدم تجاوزه في كثير من الأحيان القشور أو التاكيد المبالغ به على الطابع القانوني والتشريعات، وهو خطاب طغى على الخطاب الإسلامي منذ الستينات وسيد قطب، وأراه خطاب وفكر دخيل على الفكر الإسلامي، وأنا أراه وافد على الفكر الإسلامي من الفكر القومي الفرنسي الذي يعتبر الدولة مسؤولة عن تشكيل المجتمع وبناءه فكرياً وعقائدياً (والدولة التركية الأتاتوركية هي تلميذ وفي للفكر القومي الفرنسي) ومن الفكر الماركسي الذي كان لامعاً في فترة الستينات، والذي كان يتكلم عن تحكم الدولة في حياة الناس بكل كبيرة وصغيرة.

    أما الدولة الإسلامية منذ عهد النبوة إلى الدولة العثمانية فكانت دولة لامركزية، لا تتدخل بتفاصيل حياة الناس، وكان المجتمع قوياً وتنتشر فيه التشكيلات غير الحكومية مثل الأوقاف بأشكالها المختلفة (اليوم الأوقاف تتحكم بها الحكومة حصرياً)، والإسلام كان ينتشر وتتصاعد قوته من خلال وسائل مختلفة كثيرة (والحكم كان مجرد وسيلة من الوسائل وليس الوسيلة الوحيدة والمهيمنة).

    ومثلما قال أستاذنا الغنوشي لو ارتبط وجود الاسلام بالدولة لاختفى الاسلام منذ زمن بعيد، ففي عهد الاستعمار الأوروبي وما بعدها اختفت الدولة الإسلامية تماماً، ما حافظ على الإسلام هو الجماعات الإسلامية والمجتمع الإسلامي، بدون قوانين وبدون تشريعات وبدون فرض مظاهر الحياة الإسلامية بالقوة.


    3- هنالك قيم إسلامية مفقودة من مجتمعاتنا اليوم، وينظر إليها عموم الناس ومن بينهم تيارات واسعة في الحركات الإسلامية باحتقار ودونية مقارنة بنظرتهم تجاه قضايا مثل الحجاب والنقاب وبناء المآذن، وهي قيم هامة وضرورية لنهضة المجتمع، مثل: قيمة العمل واتقان العمل، وقيمة الصدق، وقيمة الاهتمام بالمصلحة العامة، وقيمة العمل المشترك والتعاون من أجل المصلحة العامة، وتحريم الواسطة والمحسوبيات.

    هذه قيم نؤمن بها نظرياً، لكن واقعياً تطبيقها تقريباً صفر، ولا نرى مساع لنشر هذه القيم، بل على العكس نرى إهمالاً لها لحساب قضايا مثل الحجاب والنقاب والقضايا السياسية العامة، ويجب على الحركات الإسلامية أن تتبنى هذه القيم وتسعى لنشرها والترويج لها والتشديد على أهميتها في الحياة الإسلامية.

    اعتقد أن نجاح تجربة أردوغان في تركيا تعود بالدرجة الأولى إلى تبني حزبه هذه القيم الإسلامية (وأشدد على أنها إسلامية في الصميم)، مما دفع التجربة إلى النجاح الذي ساعدهم بالنجاح في قضايا أخرى مثل الحجاب وإلغاء قرارات منع الحجاب وغيرها من المواقف.

    وأتذكر هنا مقولة الشيخ محمد عبده الذي وصف واقع حال المجتمعات الغربية بأنه رأى إسلاماً بدون مسلمين (ويقصد الاهتمام بالمواطن واحترام المصلحة العامة والاهتمام بالضعفاء)، ووصف حال المجتمعات الاسلامية بأنه يرى فيها مسلمين بدون إسلام (ويقصد ضعف الالتزام بالقيم الإسلامية).

    تعليق


    • #3
      رد : مشكلات الخطاب الإسلامي المعاصر - راشد الغنوشي

      كلام رائع جداً

      تعليق


      • #4
        رد : مشكلات الخطاب الإسلامي المعاصر - راشد الغنوشي

        بارك الله في الأستاذ المفكر راشد الغنوشي ، أتفق مع جل الطرح الذي تقدم به وأثمنه عاليا ، وأختلف معه في الموضوع السوداني ، وسأبين ذلك ، ولكن في البداية أحب أن أنوه لفكرة مهمة ودقيقة وذات تأثير كبير في رسم توجهات وأفكار وتصورات أبناء الحركة الإسلامية ، كنت قد أثبتها في مشاركة لي في هذه الشبكة قبل ما يقرب من ثلاثة أشهر ، مضمون الفكرة أن أبناء المشرق بما فيهم أبناء الحركة الإسلامية هم نتاج للبيئة التي يعيشون فيها فمهما حاولوا الإنفكاك عما تمليه هذه البيئة ، سيظل هناك أثر لهذه البيئة في سلوكهم وتصوراتهم وطرائق تفكيرهم يقل أو يكثر وبنسب متفاوتة ، وقد أتى ألأستاذ راشد على ذكر ذات الفكرة بمضمونها ،

        المشاركة الأصلية بواسطة كمال جابر مشاهدة المشاركة
        ، وبالمناسبة فإنه أي الكاتب ، والطفل العربي ، وأنا وأنت كلنا نتاج بيئة التراجع وثقافة الإنهزام ، بيد أن الأمر متفاوت ونسبي ، فهل ننجح في التحلل من إسارها ، وننطلق في الحياة بعيدا عن المحددات التي تنسجها لنا ونحن نخطو في صحرائها ؟
        المشاركة الأصلية بواسطة راشد الغنوشي مشاهدة المشاركة
        ورغم الاتساع المتواصل لهذه الثقافة الإسلامية المجتمعية الثّائرة، فإنّ ثقافة الانحطاط التجزيئية لا تزال منغرزة في الضمير الجمعي الذي لا يزال الصلاح عنده مرتبطا بالتديّن الفردي، بل في كثير من الأحيان حتى بالدروشة، ومهما تحرّرت الحركة الإسلامية من هذا التراث الإنحطاطي لا تنفكّ عن كونها منتوجا لبيئتها مهما ادّعت خلاف ذلك،[/FONT]
        أما ما يتعلق بالموضوع السوداني ..

        المشاركة الأصلية بواسطة راشد الغنوشي مشاهدة المشاركة
        فكان ذلك سببا آخر بدافع رد الفعل لتضخم خطاب الدولة في فكر الإسلاميين المعاصرين وبخاصة فكر سيد قطب والمودودي. ومن أثر هذا التضخم تمحور المشروع الإسلامي حول الشّريعة واختزال الشّريعة في فقه الحدود، بينما الشّريعة هي معنى آخر من معاني الإسلام فهي عقائد وشعائر ونظم وأخلاقيات، هي عقائد وأحكام وتزكية، هذا الاختزال هو الذي جعل إسلاميي السودان الذين غلبت على مشروعهم الصبغة القانونية ممثلة في الشريعة، أن يلفوا أنفسهم في النّهاية أمام خيار صعب، بين التمسّك بالشّريعة بهذا المعنى أو التمسّك بوحدة السودان، إذ رفض الجنوبيون البقاء في دولة تحكمها "الشريعة"، وهكذا قاد الفهم المبتسر للشريعة إلى تمزيق وطن استلمه الإسلاميون موحّدا، سواء في زمن احتلاله أو استقلاله، ليتمزق بين أيديهم بأثر هذا الوضع المشوّه للشريعة، على أنّها جملة من العقوبات والنقيض للوحدة، مع أنّ الوحدة من أعظم مقاصدها وليست وحسب جزءا منها وبعدا من أبعادها.

        ][/FONT]
        أعتقد أن الأستاذ الغنوشي هو الأقدر على تقييم تجارب الإسلاميين على غالب امتداد الخارطة الإسلامية ، بحكم تجاربه الثرية ، وطريقة تفكيره الناضجة ، واطلاعه على الكثير من الأمور ودقائقها التي ربما لا يتاح للجميع الإطلاع على فحواها ، كل ذلك يجعل من تقييمه للأمور أقرب للدقة والصواب ، ومع ذلك فإنني أظن أن خطاب الحركة الإسلامية السودانية كان وما يزال من أكثر النماذج انفتاحا وسعة في الطرح ، وأن معظم ما أثبته المفكر الغنوشي من مزايا الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر ( وهو صحيح بالتأكيد)قد لا ينطبق في الجملة على الحالة السودانية ، وفي ظني أن التجربة الإسلامية السودانية من الممكن أن تأتي بعد تجربة أربكان ومن بعده أردوغان في تركيا من حيث الإنفتاح والتركيز على المضمون لا الشكل ، وإن كنت آمل أن يتطرق الكاتب الكبير لموضوع الحركة الإسلامية السودانية من نافذة الإنقسام المؤسف الذي اجتاحها قبل ما يزيد على العقد من الآن وأن يربط ذلك بموضوع الخطاب السياسي العام الذي تتبناه الحركة الإسلامية ، أما ربط تطلع الحركة الإسلامية السودانية لتطبيق الشريعة بموضوع الإنفصال بين الشمال والجنوب ، فأرى أن الكاتب لم يكن موفقا في ذلك للآتي :-

        إن عمر المشكلة في جنوب السودان يسبق وصول الحركة الإسلامية السودانية للسلطة بما يقرب من أربعة عقود ، وهذا يتضمن أن مطالبات الجنوبيين للإنفصال بمؤازرة قوى دولية وإقليمية سابق بالضرورة لوصول الإسلاميين لسدة الحكم ، بمعنى أن مخطط تجزيء السودان لا علاقة له بمطالبة الحركة الإسلامية السودانية بتطبيق الشريعة الإسلامية ، وهذا يعني بالضرورة أن مخططات تقسيم السودان ستمضي قدما حتى لو خسرت الحركة الإسلامية الحكم في هذا البلد أو تخلت عن السعي لتطبيق الشريعة جدلا، لقد كان من الممكن نقد تجربة الحركة الإسلامية السودانية من أبواب كثيرة ، ومن ذلك نصيبها في المسؤولية عن الإنفصال إن تم ولا أراه إلا واقعا ، وهو أمر واجب في حق المفكرين وأصحاب التجارب ، أما هذا الربط بين المطالبات بالإنفصال والمطالبة بتطبيق الشريعة ، فلا أرى له سندا ، حتى لو كانت طريقة المطالبة هذه فيها ما يقال سواء من جهة التوقيت أو من جهة الضيق في الرؤية ، والحقيقة أن المخططات التي تستهدف منطقتنا تسير على قدم وساق وفق جداول زمنية مضبوطة ومتحكم بها إلى حد ما ، وأن الأفعال المضادة التي تقودها الحركة الإسلامية قد تسفر عن تداخل في النجاحات الجزئية لكل من المخططات أو ما يعاكسها من فعل الحركة ، عندها لا ينبغي إغفال السياق التاريخي للمخطط المتصاعد وإلقاء اللوم على الحركة الإسلامية ، حتى لو كان في رؤيتها شيء من الدخن وفي مسيرتها شيء من العجلة ، فكل ذلك لا علاقة له بموضوع سعي الجنوبيين للإنفصال ، وثمة مثال آخر بدأت إرهاصاته تلوح في الأفق منذ مدة وها هي تتصاعد الآن وفي مصر تحديدا ، والتي سيأتي دورها بعد الإنتهاء من امر السودان وفقا لأصحاب الخطط والأجندة التفتيتية، وقد يسبق الخطوات النهائية للمخططات الشريرة وصول الحركة الإسلامية المصرية لسدة الحكم ، فعندها سيكون الرد الدولي ناضجا وجاهزا لجعل تفتيت القطر وتجزأته واقعا ، فهل يصح أن نقول عندها ، إن الحركة الإسلامية تسببت في تقسيم مصر لأنها تطالب بتطبيق الشريعة؟؟ وهذا لا ينفي بالطبع ضرورة نقد وتقييم تجربة الحركة الإسلامية في كل من السودان ومصر وكل الأقطار ، مع ضرورة الإنتباه لعدم الخلط بين المعطيات المستقلة عن بعضها البعض .

        تعليق


        • #5
          رد : مشكلات الخطاب الإسلامي المعاصر - راشد الغنوشي

          رائع المقال .. ومن حق أفتقد هذه الرؤية و القدرة على التحليل و التأصيل و السير في غور الواقع حتى أدق التفاصيل بنماذج تفسيرية إسلامية مركبة يحمل النقد الإيجابي فيها هذا الإهتمام و الجراءة. ولا أنكر انني استمتع فكريا بقراءة الأستاذ الغنوشي بشكل أقارنه بأيام القراءة اليسارية

          أخي ياسين,
          2- أؤكد على ما ذكره الأستاذ الغنوشي حول سطحية النظرة للمشروع الإسلامي، وعلى عدم تجاوزه في كثير من الأحيان القشور أو التاكيد المبالغ به على الطابع القانوني والتشريعات، وهو خطاب طغى على الخطاب الإسلامي منذ الستينات وسيد قطب، وأراه خطاب وفكر دخيل على الفكر الإسلامي، وأنا أراه وافد على الفكر الإسلامي من الفكر القومي الفرنسي الذي يعتبر الدولة مسؤولة عن تشكيل المجتمع وبناءه فكرياً وعقائدياً (والدولة التركية الأتاتوركية هي تلميذ وفي للفكر القومي الفرنسي) ومن الفكر الماركسي الذي كان لامعاً في فترة الستينات، والذي كان يتكلم عن تحكم الدولة في حياة الناس بكل كبيرة وصغيرة.
          هنا لا أتفق معك في مسألة انه فكر مستورد وبالتالي نرد الحالة الإسلامية في فهمها الضيق في هذه الناحية للغرب وربما أراه منهج تبريري أكثر منه تفسيري, فالمفترض ان يجتهد الإسلاميون لوقتهم والمفترض أن يتناولوا العلوم الغربية بالنظر و المراجعة لانتقاء ما ينفعهم.

          أعتقد أنني اتفق أكثر مع رؤية الاستاذ الغنوشي في أن هذا لتناول السطحي راجع إلى اننا فقدنا مرونتنا الفكرية نتيجة ابعادنا عن خانة الممارسة السياسية لفترة من الزمن و طغيان المنهج الدفاعي على انتاجنا الأدبي و الفكري و الفلسفي نتيجة كم الشكوك و التضليل المبثوث إتجاه فلسفتنا الإسلامية بالعموم للنيل منها و اسقاطها بغير رجعة..

          وأصدق دليل على ذلك أن من ضمن ألمع المفكرين و المنظرين لهذا الدين قد سخرهم الله من خلفية يسارية بحتة فهم لم يورثوا الفكر المتسلط للدولة بعد عودتهم الفكرية للدين الإسلامي بل يمكن الزعم أن كونهم لم يولدوا من رحم حركاتنا الإسلامية كان هذا السبب في تحررهم من قيود الكمون الدفاعي الفكري فوجدنا عبدالوهاب المسيري في مجال الفلسفة و الفكر العقلاني و الأستاذ محمد جلال كشك في مجال فلسفة التاريخ بل وأظهر الإحتكاك المباشر بهذه الثقافات و المدارس الفكرية الغربية الحاجة للإسلام داخل المجتمعات الغربية فنتج من المسلمين هناك عقليات منفتحة و قادرة على استغلال الأدوات الغربية لصالح الإسلام مثل الدكتور علي عزت بيجوفيتش و السفير الألماني مراد هوفمان على سبيل المثال لا الحصر .. وهو ما جعل هؤلاء الأفذاذ يسخرون نفس الأدوات الغربية العقلانية - التي أراك تتهمها أعلاه - لانتاج نماذج فكرية إسلامية رائعة و شديدة الحبكة و قادرة على المنافسة الفكرية و الفلسفية بشكل منقطع لنظير .. إذن لا أظن ان تفسير الفكر التسلطي راجع لتأثرنا بالمدارس الغربية بل راجع لضعف النتاج الفكري المقدم من ابناء التيار الإسلامي وعجزه عن التواصل مع الواقع القائم و بالتالي غلبة المنطق الدفاعي على حساب التجارب الفكرية و الإجتهاد خارج الأطر التي وضعها السابقون لمجتمعاتهم.
          التعديل الأخير تم بواسطة أندلسي_مصر; 31/10/2010, 09:06 PM.

          تعليق


          • #6
            رد : مشكلات الخطاب الإسلامي المعاصر - راشد الغنوشي

            أخي أندلسي أنا أتكلم عن الدولة الشمولية، وليس الدولة المستبدة (وإن كانت الدولة الشمولية عادة ما ينتهي بها المطاف إلى الاستبداد).

            الدولة المسؤولة عن كل كبيرة وصغيرة. لاحظ الناس اليوم لما يشوفوا شيء خطأ في مجتمعهم يقولوا أين الحكومة لتخطط لنا؟ أين الحكومة لتحارب هذه الظاهرة؟ أين الحكومة لتفعل كذا وكذا؟ كل شيء اليوم معلق بالحكومة. لا يوجد مكان للمبادرة الشخصية أو الذاتية أو الجماعية.

            هذا مفهوم اعتبره دخيلاً على الفكر الإسلامي وعلى مجتمعاتنا المسلمة.

            على سبيل المثال: الحجاب كان اللباس السائد في الدول الإسلامية منذ عهد النبوة حتى عهد قريب، وتقريباً لم تكن تجرؤ امرأة واحدة على الخروج من منزلها بدون حجاب، ولم يكن طوال هذا الوقت أي قانون يلزم بالحجاب ولم تكن الدولة تلاحق الناس لتتاكد من لبسهم للحجاب. كان فيه مجتمع يطبق الحجاب وقيم اجتماعية ومنظومة اجتماعية تحفظ الحجاب ودوره في المجتمع.

            المثال الآخر: الأوقاف كانت لحد بدايات عهود الاستعمار الأوروبي مستقلة عن الدولة، يقوم صاحب الملك بوقف ملكه على اقاربه أو للمصلحة العامة ويكلف من يعتني بالوقف ومن يتأكد من سير عمل الوقف، بدون تدخل مباشر من الدولة التي كان تدخلها يقتصر على المحاكم للبت في النزاعات القضائية. جاء الاستعمار وأمم الأوقاف وجعلها تابعة للحكومة والأنظمة ما بعد الاستقلال حافظت على هذا الشيء، وأصبحت الدولة مسؤولة عن الإدارة المباشرة أملاك واسعة للأوقاف وبدلاً من أن تكون الأوقاف سبباً في تحسين أوضاع المجتمعات الإسلامية ومؤسسات خيرية غير حكومية، أصبحت جزء من منظومة الفساد الحكومي.

            لو أخذنا ممتلكات الأوقاف في فلسطين قام البريطانيون بتأميمها ليحرموا الحاج أمين الحسيني من دخلها، والذي كان يوجه لمعارضة بريطانية، وورثت كل الحكومات ذلك، والصهاينة استغلوا ذلك بتحويل ممتلكات الأوقاف داخل فلسطين المحتلة عام 1948م إلى ملكية الوكالة اليهودية وغيرها من المؤسسات الصهيونية، والسلطة اليوم تدير أملاكاً طائلة للأوقاف لو أديرت بشكل حسن لدرت دخلاً معبتراً على السلطة، لكنها غير مستغلة ومتروكة للفاسدين والمفسدين من موظفي السلطة.

            الأوقاف طوال العهود الإسلامية كانت مؤسسات خيرية غير حكومية (بلغة عصرنا).

            فما انتقده هو الفهم الشمولي للدولة وعدم الاهتمام بدور المجتمع أو دور الأفراد بالإصلاح والتغيير، وهذا نرى أبرز أشكاله عند حزب التحرير الذي يلغي كل شيء إلى حين قيام دولة الخلافة الاسلامية والتي يعلق عليها كل شيء.

            تعليق


            • #7
              رد : مشكلات الخطاب الإسلامي المعاصر - راشد الغنوشي

              المشاركة الأصلية بواسطة ياسين عز الدين مشاهدة المشاركة
              أخي أندلسي أنا أتكلم عن الدولة الشمولية، وليس الدولة المستبدة (وإن كانت الدولة الشمولية عادة ما ينتهي بها المطاف إلى الاستبداد).

              الدولة المسؤولة عن كل كبيرة وصغيرة. لاحظ الناس اليوم لما يشوفوا شيء خطأ في مجتمعهم يقولوا أين الحكومة لتخطط لنا؟ أين الحكومة لتحارب هذه الظاهرة؟ أين الحكومة لتفعل كذا وكذا؟ كل شيء اليوم معلق بالحكومة. لا يوجد مكان للمبادرة الشخصية أو الذاتية أو الجماعية.

              هذا مفهوم اعتبره دخيلاً على الفكر الإسلامي وعلى مجتمعاتنا المسلمة.

              على سبيل المثال: الحجاب كان اللباس السائد في الدول الإسلامية منذ عهد النبوة حتى عهد قريب، وتقريباً لم تكن تجرؤ امرأة واحدة على الخروج من منزلها بدون حجاب، ولم يكن طوال هذا الوقت أي قانون يلزم بالحجاب ولم تكن الدولة تلاحق الناس لتتاكد من لبسهم للحجاب. كان فيه مجتمع يطبق الحجاب وقيم اجتماعية ومنظومة اجتماعية تحفظ الحجاب ودوره في المجتمع.

              المثال الآخر: الأوقاف كانت لحد بدايات عهود الاستعمار الأوروبي مستقلة عن الدولة، يقوم صاحب الملك بوقف ملكه على اقاربه أو للمصلحة العامة ويكلف من يعتني بالوقف ومن يتأكد من سير عمل الوقف، بدون تدخل مباشر من الدولة التي كان تدخلها يقتصر على المحاكم للبت في النزاعات القضائية. جاء الاستعمار وأمم الأوقاف وجعلها تابعة للحكومة والأنظمة ما بعد الاستقلال حافظت على هذا الشيء، وأصبحت الدولة مسؤولة عن الإدارة المباشرة أملاك واسعة للأوقاف وبدلاً من أن تكون الأوقاف سبباً في تحسين أوضاع المجتمعات الإسلامية ومؤسسات خيرية غير حكومية، أصبحت جزء من منظومة الفساد الحكومي.

              لو أخذنا ممتلكات الأوقاف في فلسطين قام البريطانيون بتأميمها ليحرموا الحاج أمين الحسيني من دخلها، والذي كان يوجه لمعارضة بريطانية، وورثت كل الحكومات ذلك، والصهاينة استغلوا ذلك بتحويل ممتلكات الأوقاف داخل فلسطين المحتلة عام 1948م إلى ملكية الوكالة اليهودية وغيرها من المؤسسات الصهيونية، والسلطة اليوم تدير أملاكاً طائلة للأوقاف لو أديرت بشكل حسن لدرت دخلاً معبتراً على السلطة، لكنها غير مستغلة ومتروكة للفاسدين والمفسدين من موظفي السلطة.

              الأوقاف طوال العهود الإسلامية كانت مؤسسات خيرية غير حكومية (بلغة عصرنا).

              فما انتقده هو الفهم الشمولي للدولة وعدم الاهتمام بدور المجتمع أو دور الأفراد بالإصلاح والتغيير، وهذا نرى أبرز أشكاله عند حزب التحرير الذي يلغي كل شيء إلى حين قيام دولة الخلافة الاسلامية والتي يعلق عليها كل شيء.

              هنا أنا اعتذر لسوء فهمي .. ووصل إلى مقصدك أخي الكريم .. انت تتحدث عن دور الأفراد داخل الدولة .. ولغة الخطاب السياسي التي تعتبر أن الأفراد هم "مسئولية" الدولة بالكامل وتلغي دور الأفراد والمؤسسات اللاحكومية و التشكيلات الإجتماعية جملة.

              تعليق


              • #8
                رد : مشكلات الخطاب الإسلامي المعاصر - راشد الغنوشي

                مقال مفيد ورائع وليت العديد من المفكرين الاسلاميين يتجهون ناحية البحث عن مواطن الخلل لتقويم المسيرة التي تمر بما تمر به كل مسيرة نهضوية تحتاج لمراجعة وتقييم في كل فترة لنزع التخلف والسذاجة في الآليات والتفكير

                تعليق


                • #9
                  رد : مشكلات الخطاب الإسلامي المعاصر - راشد الغنوشي

                  كلام من ذهب

                  تابعوا الشيخ راشد الغنوشي يوميا على قناة الحوار الفضائية

                  تعليق


                  • #10
                    رد : مشكلات الخطاب الإسلامي المعاصر - راشد الغنوشي

                    بارك الله فيكم اخي

                    تعليق

                    جاري التحميل ..
                    X