غزة- سعد الدين الأعرج
لم تكن حكاية التهجير القسري للفلسطينيين عام ثمانيةٍ وأربعين، يوما لغزا تتطلب معرفته الكثير من التدقيق والبحث، خاصة وأن الكتب والأعمال التلفزيونية أبرزت العديد من الأحداث "العادية" لسكان القرى الفلسطينية، منتقلة معهم إلى "نكسة" التهجير ومصائبه، ولا أدلَّ على ذلك من المسلسل التلفزيوني الذي حمل عنوان "التغريبة الفلسطينية" وتحدث بتفصيل عن الحياة ما قبل النكبة وأثنائها وبعدها.
"فلسطين" بحثت عن مذكرات "النكبة" في عقل رجل ثمانيني من قطاع غزة، كان له دوره التعليمي والعسكري بعد النكبة، ويحمل في ذاكرته الكثير من أحداث التهجير وما قبلها.. وفي التقرير التالي نتوقف على أهم محطات التاريخ الفلسطيني الذي عاشها ضيفنا..
إبراهيم حماد، مُدرس لغة عربية قديم، ولد في قرية نعليا الفلسطينية عام 1931، وعاش في طفولته الثورة الفلسطينية الكبرى في 1936م، ودرس في كتاتيب ومدارس فلسطينية، ما بين قريته ومدينة المجدل، وهاجر مع المنكوبين من القرى بعمر الثامنة عشر، وعمل مدرسا في مدارس الخيام، وشارك في الجبهة الوطنية المتحدة، وعلى إثرها اعتقل ثلاث مرات، ومن ثم اعتزل النضال المسلح، مكتفيا بالنضال الفكري..
ألواح صفيح.. وكتاتيب
لم يكن التعليم في القرى الفلسطينية قبل الهجرة على قدر عالٍ من الإتقان والجودة، إذ انتشرت الكتاتيب، وكانت كُل قريةٍ فلسطينية تملك مدرسة ابتدائية باسمها.. لكن الناس تفضل أن يدرس أبناؤها في الكتاتيب، تبعا لحماد، الذي أشار إلى أنه درس عاما واحدا في الكتاتيب.
انتقل حماد إلى المدرسة الابتدائية التي تعلم فيها اللغة العربية أكثر، وكان من أصحاب التحصيل العلميّ الجيد، إذ كانت المدارس تطرد المتأخرين في موادهم عامين متتالين، ويسمح للطالب بـ"الرسوب" مرة واحدة فقط
يقول :" كان الأستاذ في الكتاتيب يعتمد على أسلوب العقاب الجسدي في التعامل مع الطلاب، وكانت الفلكة سلاح جيد لترهيب الطلاب وإجبارهم على الحفظ والقراءة، إذ كنا ندرس الحساب والقراءة والقرآن في الكتاتيب"، و"الفلكة" بالمناسبة عصىً يربط طرفيها خيط تعلق قدم الطالب الكسول فيها، ويُضرب بأخرى.
بعد عام انتقل حماد إلى المدرسة الابتدائية التي تعلم فيها اللغة العربية أكثر، وكان من أصحاب التحصيل العلميّ الجيد، إذ كانت المدارس تطرد المتأخرين في موادهم عامين متتالين، ويسمح للطالب بـ"الرسوب" مرة واحدة فقط.
مدرسة "نعليا" الابتدائية شملت المراحل الأولى من الدراسة، وكانت عبارة عن غرفة واحدة، فيها ما يقارب الثلاثين طالبا، جميعهم يحمل لوحة من "التنك".. يقول :" دفاترنا كانت قطعة تنك مربعة نقصها من علب الزيت، وأقلامنا عصاة من البوص ومحبرة.. وكان أستاذنا يكتب على اللوح جملة واحدة نرددها خلفه ونكتبها، ولما نحفظها ننتقل إلى الجملة الأخرى، خاصة في تعليم القرآن الكريم، وكان طلاب المدرسة يستخدمون حجار "لسان البحر" كممحاة لألواحهم".
بعد اجتياز الطلاب في نعليا والقرى الفلسطينية المجاورة دراستهم الابتدائية، يتابع من يرغب منهم دراسته، ويعمل من لا يرغب مزارعا كأهله.. ضيفنا حماد كان من النوع الأول، لذلك انتقل للدراسة في مدينة المجدل.
الأوضاع السياسية في القرى الفلسطينية كانت مستقرة في ذلك الوقت، فأهلها لا يعرفون اليهود، ولكن كانوا على دراية جيدة بالتحالفات العالمية وأهم موازين القوى في المنطقة.. خاصة وأن الحرب العالمية الثانية كانت قد انتهت بانتصار الحلفاء على المحور في ذلك الوقت، عن ذلك يقول :" ما أذكره أن طائرات كتبت بالانجليزية عبارات نصر في سماء فلسطين، تؤكد على هزيمة الاتحاد السوفيتي، وانتصار أمريكا".
القوات العربية.. أخطأت!!
ورجوعا إلى أحداث الثورة الفلسطينية الكبرى، كان حماد يبلغ السابعة من العمر آنذاك، ويذكر بعض الأحداث التي تتلخص بـ" أن القوات الإنجليزية اعتقلت الشباب، وجمعتهم في ساحة واسعة، وكانت مصفّحاتهم تسير خلف المعتقلين الفلسطينيين من القرى"، ومما لا ينساه ضيفنا أن جماعة من المقاومين في مدينة المجدل التي كان يدرس بها تلك الفترة، قتلوا رجلا اُتهم بـ"العمالة" مع القوات الإنجليزية.
إذن كان الوعي الفلسطيني إبان الثورة وبعدها ملحوظاً، وكانت المقاومة الفلسطينية الشعبية تُميز العملاء والمتعاونين مع الإنجليز ويكون جزاؤه "القتل" ولكن بتحفظ.. فالناس لا تتهم بعضها بذلك.. على عكس ما حدث لما حضرت القوات العربية إلى فلسطين بهدف حمايتها قبل النكبة.
عن ذلك يقول حماد :"القوات العربية ارتكبت خطأ كبيرا بإطلاقها تهمة التعاون مع اليهود على الفلسطينيين الذين تظهر علامات العلاج بالكي على أجسادهم، إذ كان الجنود يعزفون عن التعامل مع أي فلسطيني في وجهه وجسده آثار الكي، وكانوا يحاربونه نفسيا باتهاماتهم له، وإذا ما سار أحد بمرآة اتهموه باستخدامها لتوجيه الطائرات إلى مكان الجنود".
لم يكن هذا الخطأ الوحيد الذي ارتكبته القوات العربية، حسبما شاع تلك الفترة، إذ إنها بتعيينها الضابط البريطاني غلوب باشا قائداً للجيش العربي الأردني أثارت حفيظة الفلسطينيين وحنقهم.
أصاب الناس فقر "كافر" فصاروا يتهافتون على المساعدات التي تأتيهم على عربات (U.N) حتى أن بعضهم تطوع بجرها ليحصل على طعام أكثر لعائلته.. وانتشرت الخيام التي حوت الكثير من العائلات المنكوبة
يُضيف حماد :" حاولت القوات العربية مصادرة سلاحنا، وأذاعوا أنهم احتلوا القرى الفلسطينية، وحرروها من اليهود، في الوقت الذي لم تكن فيه كذلك، فاليهود لم يدخلوا القرى بعد، ونحن استقبلنا القوات العربية بأسلحتنا ورحبنا بهم".
الفلسطينيون بعد طلب القوات العربية منهم تسليم أسلحتهم لها، وفق حماد، كونوا سرايا من شباب القرى، يكتب على كتف كُل منهم عبارة " مناضلين نعليا، حماية، المجدل.. وهكذا".
"سرقونا"
لما تقدمت الجماعات الإسرائيلية، وضربت بمدافعها القرى، أشيع أنهم ذبحوا النساء وقتلوا الأطفال وبقروا الحوامل، الأمر الذي زرع الرعب في قلوب أهالي القرى الأخرى، وزاد الرعب والذعر لما انسحبت القوات العربية.. إذ آثر الناس الانسحاب وراءهم، متأملين العودة لقراهم بعد يوم أو اثنين.
يقول حماد :" خرجنا من منزلنا تاركين خلفنا الكثير من الجمال والأوز والحمام والدجاج والأبقار، ورحلت أحمل على أكتافي 15 رطل قمح، إذ إن الإسرائيليين سرقوا حلالنا، وقتلوا الحمير، والدواب، ولا أبالغ إن قلت إن أكثر من ألف حمار قُتل في الثمانية وأربعين".
أغلب الناس تركوا خلفهم محاصيلهم الزراعية، وغلالهم ودوابهم ومالهم، وكُلها سرقتها الجماعات الإسرائيلية، تبعا لحماد الذي أكد أن اثنين من الجنود ضربوا والدته وسرقوا منها وزتين كانت تجرهما خلفها في آخر قوافل المهاجرين.
واصل المهاجرون رحلتهم أياما وليالي، لا تغفى أعينهم، ولا ينامون خوفا من غدر (إسرائيلي) مُتوقع، رغم وجود القوات العربية، حتى وصلت جموعهم إلى مشارف قريتي بيت حانون وبين لاهيا.. وهناك استقبل أهل القطاع المهجرين، وآووهم، فمن لم يسكن عند الناس فرش الأرض والتحف مع أبنائه السماء.
أصاب الناس فقر "كافر" فصاروا يتهافتون على المساعدات التي تأتيهم على عربات (U.N) حتى أن بعضهم تطوع بجرها ليحصل على طعام أكثر لعائلته.. وانتشرت الخيام التي حوت الكثير من العائلات المنكوبة.
عن ذلك يقول :" فقد الناس الأمل بالعودة، وصار كل منهم يبحث عن فرصة للنجاة، فبعضهم عمل لدى أهل غزة الأصليين، والبعض الآخر بحث عن فرصة للسفر، خاصة وأن قناة السويس كانت تُحفر.. فسافر العديد إلى مصر مشيا على الأقدام، ومنهم من مات جوعا وعطشا، والمحظوظ رزقه الله بفرصة للسفر إلى دول الخليج للعمل".
مدارس الخيام
الحال في المخيمات الجديدة استقر، ونصبت خيام الدراسة، فالناس أيقنوا أنه بعد ضياع الأرض والأملاك لا فرصة لهم سوى التعليم..
حماد عمل مدرسا في ذلك الوقت، وعن ذلك يقول :" بداية درس أبناء المُهجرين في المدارس الحجرية في القطاع، في فترات مسائية، ولكن لكثرة عددهم نصبنا الخيام، وكان الطلاب يدرسون جالسين على الأرض، وألواح الفصول مُعلقة في أعمدة الخيمة، وكان ذلك بعد الهجرة بعام".
بعد عامين، أي عام 1950 اتجهت أنظار الناس إلى الجامعات في مصر، فدرس عدد لا بأس به من أبناء المخيمات في مصر بدون رسوم، وكان منهم حماد الذي عاد إلى معسكر جباليا، قبل العدوان الثلاثي على مصر.
فقد الناس الأمل بالعودة، وصار كل منهم يبحث عن فرصة للنجاة، فبعضهم عمل لدى أهل غزة الأصليين، والبعض الآخر بحث عن فرصة للسفر، خاصة وأن قناة السويس كانت تُحفر.. فسافر العديد إلى مصر مشيا على الأقدام، ومنهم من مات جوعا وعطشا
تشكلت في المخيمات الفلسطينية جماعات مسلحة، كانت تنفذ عمليات عسكرية بسيطة، وكان حماد واحدا منها، عن مذكراته الأقسى في تلك الفترة، قال :" بعد تدمير إسرائيل للمطار المصري، أشيع في غزة أن دبابات عراقية جاءت لنجدتها، فخرجت مع 12 شاباً من رفقائي في مجموعة مسلحة صغيرة كُنا قد كوناها بعد رجوعي من مصر لاستقبال القوات العراقية التي دخلت محفوفة بمباركة القوات المصرية في غزة".
وتابع :" ما إن اقتربنا بأسلحتنا من الدبابات، حتى حدث إطلاق نار قُتل فيه أصدقائي برصاص في الوجه والرأس، ومن لم يمت مباشرة نزف حتى يصفى دمه، ونجاني الله من ذلك.. إذ كانت القوات التي دخلت القطاع إسرائيلية مُتنكرة".
ثلاث اعتقالات
لم يكتفِ اليهود بقتل المقاومين في طريقهم، إذ إنهم قتلوا الناس المُرحبين، ومنهم امرأة وطفلها على باب منزلها كانت "تُزغرد" فرحة بدخول القوات العربية كما كانت تظن.
ولما حاول أهل المخيمات الرد على القوات الإسرائيلية، خاصة في "معكسر جباليا"، أمطروه بالقذائف، فخرج الناس مذعورين، وزاد ذعرهم لما حرقَ "اليهود" عددا من الجنود المصريين بعد قتلهم، وانتشرت رائحة اللحم المحروق في المعكسر، تبعا لحماد.
بعد المجزرة التي عاشها أهالي القطاع في الـ"56"، قرر حماد وكثير من شباب المخيمات الانتساب إلى جبهة وطنية كانت حديثة الإنشاء، وتُدعى "الجبهة الوطنية المتحدة".. ومن مؤسسيها حيدر عبد الشافي ومنير الريس.
عكف أبناء الجبهة الوطنية على كتابة وطباعة "المنشورات" التي تدعو الناس إلى الصبر والصمود والحذر من العملاء والمندسين، حتى عرفت (إسرائيل) بهوية المشاركين فيها، واعتقلتهم، وعلى رأسهم حماد.
استخدمت (إسرائيل) التعذيب لتجبر المقاومين على الاعتراف، وكانت غرفة 4 في أحد سجونهم هي غرفة التعذيب الأكثر شراسة، إذ إن المقاومين يربطون فيها من أرجلهم عُراة، ويضربون حتى ينزفون دما، تبعا لحماد الذي تعرض لذات التعذيب.
بعد شهر امتنع فيه ضيفنا عن الاعتراف، أفرج عنه لكنه واصل العمل في الجبهة، حتى اعتقاله للمرة الثانية في الـ"68"، والثالثة في السبعين..
الجبهة الوطنية المتحدة استمرت بعملها جنبا إلى جنب مع عدد من الجماعات المسلحة، على رأسها الجبهة الشعبية، وفي عام 1970، اعتقل عدد كبير منهم، وكان حماد أحدهم، وتعرض لمراحل تعذيب أكثر وأشد قسوة، لكنه لما خرج اعتزل العمل النضالي المسلح واكتفى بالفكري منه، إذ إنه التفت إلى التدريس، وكتابة المقالات الناقدة للوضع، والساخرة منه.. وتولى وكالة أكثر من مجلة عربية، كتبها وباعها في القطاع.
المصدر:
فلسطين اون لاين
لم تكن حكاية التهجير القسري للفلسطينيين عام ثمانيةٍ وأربعين، يوما لغزا تتطلب معرفته الكثير من التدقيق والبحث، خاصة وأن الكتب والأعمال التلفزيونية أبرزت العديد من الأحداث "العادية" لسكان القرى الفلسطينية، منتقلة معهم إلى "نكسة" التهجير ومصائبه، ولا أدلَّ على ذلك من المسلسل التلفزيوني الذي حمل عنوان "التغريبة الفلسطينية" وتحدث بتفصيل عن الحياة ما قبل النكبة وأثنائها وبعدها.
"فلسطين" بحثت عن مذكرات "النكبة" في عقل رجل ثمانيني من قطاع غزة، كان له دوره التعليمي والعسكري بعد النكبة، ويحمل في ذاكرته الكثير من أحداث التهجير وما قبلها.. وفي التقرير التالي نتوقف على أهم محطات التاريخ الفلسطيني الذي عاشها ضيفنا..
إبراهيم حماد، مُدرس لغة عربية قديم، ولد في قرية نعليا الفلسطينية عام 1931، وعاش في طفولته الثورة الفلسطينية الكبرى في 1936م، ودرس في كتاتيب ومدارس فلسطينية، ما بين قريته ومدينة المجدل، وهاجر مع المنكوبين من القرى بعمر الثامنة عشر، وعمل مدرسا في مدارس الخيام، وشارك في الجبهة الوطنية المتحدة، وعلى إثرها اعتقل ثلاث مرات، ومن ثم اعتزل النضال المسلح، مكتفيا بالنضال الفكري..
ألواح صفيح.. وكتاتيب
لم يكن التعليم في القرى الفلسطينية قبل الهجرة على قدر عالٍ من الإتقان والجودة، إذ انتشرت الكتاتيب، وكانت كُل قريةٍ فلسطينية تملك مدرسة ابتدائية باسمها.. لكن الناس تفضل أن يدرس أبناؤها في الكتاتيب، تبعا لحماد، الذي أشار إلى أنه درس عاما واحدا في الكتاتيب.
انتقل حماد إلى المدرسة الابتدائية التي تعلم فيها اللغة العربية أكثر، وكان من أصحاب التحصيل العلميّ الجيد، إذ كانت المدارس تطرد المتأخرين في موادهم عامين متتالين، ويسمح للطالب بـ"الرسوب" مرة واحدة فقط
يقول :" كان الأستاذ في الكتاتيب يعتمد على أسلوب العقاب الجسدي في التعامل مع الطلاب، وكانت الفلكة سلاح جيد لترهيب الطلاب وإجبارهم على الحفظ والقراءة، إذ كنا ندرس الحساب والقراءة والقرآن في الكتاتيب"، و"الفلكة" بالمناسبة عصىً يربط طرفيها خيط تعلق قدم الطالب الكسول فيها، ويُضرب بأخرى.
بعد عام انتقل حماد إلى المدرسة الابتدائية التي تعلم فيها اللغة العربية أكثر، وكان من أصحاب التحصيل العلميّ الجيد، إذ كانت المدارس تطرد المتأخرين في موادهم عامين متتالين، ويسمح للطالب بـ"الرسوب" مرة واحدة فقط.
مدرسة "نعليا" الابتدائية شملت المراحل الأولى من الدراسة، وكانت عبارة عن غرفة واحدة، فيها ما يقارب الثلاثين طالبا، جميعهم يحمل لوحة من "التنك".. يقول :" دفاترنا كانت قطعة تنك مربعة نقصها من علب الزيت، وأقلامنا عصاة من البوص ومحبرة.. وكان أستاذنا يكتب على اللوح جملة واحدة نرددها خلفه ونكتبها، ولما نحفظها ننتقل إلى الجملة الأخرى، خاصة في تعليم القرآن الكريم، وكان طلاب المدرسة يستخدمون حجار "لسان البحر" كممحاة لألواحهم".
بعد اجتياز الطلاب في نعليا والقرى الفلسطينية المجاورة دراستهم الابتدائية، يتابع من يرغب منهم دراسته، ويعمل من لا يرغب مزارعا كأهله.. ضيفنا حماد كان من النوع الأول، لذلك انتقل للدراسة في مدينة المجدل.
الأوضاع السياسية في القرى الفلسطينية كانت مستقرة في ذلك الوقت، فأهلها لا يعرفون اليهود، ولكن كانوا على دراية جيدة بالتحالفات العالمية وأهم موازين القوى في المنطقة.. خاصة وأن الحرب العالمية الثانية كانت قد انتهت بانتصار الحلفاء على المحور في ذلك الوقت، عن ذلك يقول :" ما أذكره أن طائرات كتبت بالانجليزية عبارات نصر في سماء فلسطين، تؤكد على هزيمة الاتحاد السوفيتي، وانتصار أمريكا".
القوات العربية.. أخطأت!!
ورجوعا إلى أحداث الثورة الفلسطينية الكبرى، كان حماد يبلغ السابعة من العمر آنذاك، ويذكر بعض الأحداث التي تتلخص بـ" أن القوات الإنجليزية اعتقلت الشباب، وجمعتهم في ساحة واسعة، وكانت مصفّحاتهم تسير خلف المعتقلين الفلسطينيين من القرى"، ومما لا ينساه ضيفنا أن جماعة من المقاومين في مدينة المجدل التي كان يدرس بها تلك الفترة، قتلوا رجلا اُتهم بـ"العمالة" مع القوات الإنجليزية.
إذن كان الوعي الفلسطيني إبان الثورة وبعدها ملحوظاً، وكانت المقاومة الفلسطينية الشعبية تُميز العملاء والمتعاونين مع الإنجليز ويكون جزاؤه "القتل" ولكن بتحفظ.. فالناس لا تتهم بعضها بذلك.. على عكس ما حدث لما حضرت القوات العربية إلى فلسطين بهدف حمايتها قبل النكبة.
عن ذلك يقول حماد :"القوات العربية ارتكبت خطأ كبيرا بإطلاقها تهمة التعاون مع اليهود على الفلسطينيين الذين تظهر علامات العلاج بالكي على أجسادهم، إذ كان الجنود يعزفون عن التعامل مع أي فلسطيني في وجهه وجسده آثار الكي، وكانوا يحاربونه نفسيا باتهاماتهم له، وإذا ما سار أحد بمرآة اتهموه باستخدامها لتوجيه الطائرات إلى مكان الجنود".
لم يكن هذا الخطأ الوحيد الذي ارتكبته القوات العربية، حسبما شاع تلك الفترة، إذ إنها بتعيينها الضابط البريطاني غلوب باشا قائداً للجيش العربي الأردني أثارت حفيظة الفلسطينيين وحنقهم.
أصاب الناس فقر "كافر" فصاروا يتهافتون على المساعدات التي تأتيهم على عربات (U.N) حتى أن بعضهم تطوع بجرها ليحصل على طعام أكثر لعائلته.. وانتشرت الخيام التي حوت الكثير من العائلات المنكوبة
يُضيف حماد :" حاولت القوات العربية مصادرة سلاحنا، وأذاعوا أنهم احتلوا القرى الفلسطينية، وحرروها من اليهود، في الوقت الذي لم تكن فيه كذلك، فاليهود لم يدخلوا القرى بعد، ونحن استقبلنا القوات العربية بأسلحتنا ورحبنا بهم".
الفلسطينيون بعد طلب القوات العربية منهم تسليم أسلحتهم لها، وفق حماد، كونوا سرايا من شباب القرى، يكتب على كتف كُل منهم عبارة " مناضلين نعليا، حماية، المجدل.. وهكذا".
"سرقونا"
لما تقدمت الجماعات الإسرائيلية، وضربت بمدافعها القرى، أشيع أنهم ذبحوا النساء وقتلوا الأطفال وبقروا الحوامل، الأمر الذي زرع الرعب في قلوب أهالي القرى الأخرى، وزاد الرعب والذعر لما انسحبت القوات العربية.. إذ آثر الناس الانسحاب وراءهم، متأملين العودة لقراهم بعد يوم أو اثنين.
يقول حماد :" خرجنا من منزلنا تاركين خلفنا الكثير من الجمال والأوز والحمام والدجاج والأبقار، ورحلت أحمل على أكتافي 15 رطل قمح، إذ إن الإسرائيليين سرقوا حلالنا، وقتلوا الحمير، والدواب، ولا أبالغ إن قلت إن أكثر من ألف حمار قُتل في الثمانية وأربعين".
أغلب الناس تركوا خلفهم محاصيلهم الزراعية، وغلالهم ودوابهم ومالهم، وكُلها سرقتها الجماعات الإسرائيلية، تبعا لحماد الذي أكد أن اثنين من الجنود ضربوا والدته وسرقوا منها وزتين كانت تجرهما خلفها في آخر قوافل المهاجرين.
واصل المهاجرون رحلتهم أياما وليالي، لا تغفى أعينهم، ولا ينامون خوفا من غدر (إسرائيلي) مُتوقع، رغم وجود القوات العربية، حتى وصلت جموعهم إلى مشارف قريتي بيت حانون وبين لاهيا.. وهناك استقبل أهل القطاع المهجرين، وآووهم، فمن لم يسكن عند الناس فرش الأرض والتحف مع أبنائه السماء.
أصاب الناس فقر "كافر" فصاروا يتهافتون على المساعدات التي تأتيهم على عربات (U.N) حتى أن بعضهم تطوع بجرها ليحصل على طعام أكثر لعائلته.. وانتشرت الخيام التي حوت الكثير من العائلات المنكوبة.
عن ذلك يقول :" فقد الناس الأمل بالعودة، وصار كل منهم يبحث عن فرصة للنجاة، فبعضهم عمل لدى أهل غزة الأصليين، والبعض الآخر بحث عن فرصة للسفر، خاصة وأن قناة السويس كانت تُحفر.. فسافر العديد إلى مصر مشيا على الأقدام، ومنهم من مات جوعا وعطشا، والمحظوظ رزقه الله بفرصة للسفر إلى دول الخليج للعمل".
مدارس الخيام
الحال في المخيمات الجديدة استقر، ونصبت خيام الدراسة، فالناس أيقنوا أنه بعد ضياع الأرض والأملاك لا فرصة لهم سوى التعليم..
حماد عمل مدرسا في ذلك الوقت، وعن ذلك يقول :" بداية درس أبناء المُهجرين في المدارس الحجرية في القطاع، في فترات مسائية، ولكن لكثرة عددهم نصبنا الخيام، وكان الطلاب يدرسون جالسين على الأرض، وألواح الفصول مُعلقة في أعمدة الخيمة، وكان ذلك بعد الهجرة بعام".
بعد عامين، أي عام 1950 اتجهت أنظار الناس إلى الجامعات في مصر، فدرس عدد لا بأس به من أبناء المخيمات في مصر بدون رسوم، وكان منهم حماد الذي عاد إلى معسكر جباليا، قبل العدوان الثلاثي على مصر.
فقد الناس الأمل بالعودة، وصار كل منهم يبحث عن فرصة للنجاة، فبعضهم عمل لدى أهل غزة الأصليين، والبعض الآخر بحث عن فرصة للسفر، خاصة وأن قناة السويس كانت تُحفر.. فسافر العديد إلى مصر مشيا على الأقدام، ومنهم من مات جوعا وعطشا
تشكلت في المخيمات الفلسطينية جماعات مسلحة، كانت تنفذ عمليات عسكرية بسيطة، وكان حماد واحدا منها، عن مذكراته الأقسى في تلك الفترة، قال :" بعد تدمير إسرائيل للمطار المصري، أشيع في غزة أن دبابات عراقية جاءت لنجدتها، فخرجت مع 12 شاباً من رفقائي في مجموعة مسلحة صغيرة كُنا قد كوناها بعد رجوعي من مصر لاستقبال القوات العراقية التي دخلت محفوفة بمباركة القوات المصرية في غزة".
وتابع :" ما إن اقتربنا بأسلحتنا من الدبابات، حتى حدث إطلاق نار قُتل فيه أصدقائي برصاص في الوجه والرأس، ومن لم يمت مباشرة نزف حتى يصفى دمه، ونجاني الله من ذلك.. إذ كانت القوات التي دخلت القطاع إسرائيلية مُتنكرة".
ثلاث اعتقالات
لم يكتفِ اليهود بقتل المقاومين في طريقهم، إذ إنهم قتلوا الناس المُرحبين، ومنهم امرأة وطفلها على باب منزلها كانت "تُزغرد" فرحة بدخول القوات العربية كما كانت تظن.
ولما حاول أهل المخيمات الرد على القوات الإسرائيلية، خاصة في "معكسر جباليا"، أمطروه بالقذائف، فخرج الناس مذعورين، وزاد ذعرهم لما حرقَ "اليهود" عددا من الجنود المصريين بعد قتلهم، وانتشرت رائحة اللحم المحروق في المعكسر، تبعا لحماد.
بعد المجزرة التي عاشها أهالي القطاع في الـ"56"، قرر حماد وكثير من شباب المخيمات الانتساب إلى جبهة وطنية كانت حديثة الإنشاء، وتُدعى "الجبهة الوطنية المتحدة".. ومن مؤسسيها حيدر عبد الشافي ومنير الريس.
عكف أبناء الجبهة الوطنية على كتابة وطباعة "المنشورات" التي تدعو الناس إلى الصبر والصمود والحذر من العملاء والمندسين، حتى عرفت (إسرائيل) بهوية المشاركين فيها، واعتقلتهم، وعلى رأسهم حماد.
استخدمت (إسرائيل) التعذيب لتجبر المقاومين على الاعتراف، وكانت غرفة 4 في أحد سجونهم هي غرفة التعذيب الأكثر شراسة، إذ إن المقاومين يربطون فيها من أرجلهم عُراة، ويضربون حتى ينزفون دما، تبعا لحماد الذي تعرض لذات التعذيب.
بعد شهر امتنع فيه ضيفنا عن الاعتراف، أفرج عنه لكنه واصل العمل في الجبهة، حتى اعتقاله للمرة الثانية في الـ"68"، والثالثة في السبعين..
الجبهة الوطنية المتحدة استمرت بعملها جنبا إلى جنب مع عدد من الجماعات المسلحة، على رأسها الجبهة الشعبية، وفي عام 1970، اعتقل عدد كبير منهم، وكان حماد أحدهم، وتعرض لمراحل تعذيب أكثر وأشد قسوة، لكنه لما خرج اعتزل العمل النضالي المسلح واكتفى بالفكري منه، إذ إنه التفت إلى التدريس، وكتابة المقالات الناقدة للوضع، والساخرة منه.. وتولى وكالة أكثر من مجلة عربية، كتبها وباعها في القطاع.
المصدر:
فلسطين اون لاين
تعليق