طموحات الرئاسة وراء تصعيد المواجهة بين «فتح» و «حماس»
الكاتب / فهمي هويدي - المصدر : الشرق الأوسط - التاريخ 21/10/2002 :
لا يستطيع المرء أن يخفي قلقه البالغ مما يجري في غزة ، و الذي يبدو في ظاهره تصعيداً للمواجهة بين «فتح» و «حماس» ، بينما هو في حقيقته تمهيد لحرب أهلية يراد لها أن تشعل حريقاً كبيراً في القطاع ، سوف يحقّق لشارون ما يريده من تصفية للانتفاضة و المقاومة هناك ، الأمر الذي يجنبه كلفة المغامرة باحتلال القطاع لكي يبسط عليه هيمنته ، كما فعل في الضفة الغربية .
لقد أفاضت التقارير الصحافية في عرض ما جرى في القطاع إثر مقتل العقيد راجح أبو لحية على يد شاب ينتمي إلى حركة «حماس» (عماد عقل) ، أخذاً بثأر شقيق له (يوسف عقل) كان قد قتل أثناء إطلاق الشرطة الفلسطينية النار على تظاهرة احتجاجية لطلاب الجامعة الإسلامية في غزة قبل أكثر من عام ، و كان الذي أمر بإطلاق النار هو العقيد أبو لحية ، الأمر الذي أدّى إلى مقتل ثلاثة من الفلسطينيين و جرح العشرات من الطلاب ، ذلك أن عماد الذي قرّر أن يثأر لموت شقيقه تربّص مع نفر من أهله و أصحابه بالعقيد أبو لحية ثم استدرجوه و قاموا بقتله ، و رغم أن العملية لم يكن لها أي طابع تنظيمي ، فلا القتل كان مرتباً من جانب «حماس» ، و لا العقيد أبو لحية كان من عناصر «فتح» ، رغم ذلك فقد تحوّل الموقف بسرعة إلى مواجهة بين التنظيمين ، أدّت إلى اشتباك مسلح بينهما قتل فيه خمسة فلسطينيين ، برصاص فلسطيني للأسف الشديد ، و هو ما يثير أسئلة عديدة و يبعث على الشك و الارتياب ، ذلك أن الأمر ما كان له أن يصعّد و يصل إلى تلك الذروة الدامية لولا أن هناك أطرافاً أخرى سعت إلى ذلك و كانت لها مصلحة فيه .
لقد كان التوقيت الذي وقع فيه حادث القتل بالغ السوء على الجبهة الفلسطينية ، إذ ما كان يتصوّر أحد أن يتواصل الهجوم الصهيوني الشرس على غزة ، في حين يلجأ طرف فلسطيني إلى تصفية أحد قيادات الشرطة الفلسطينية . و اختيار هذا التوقيت السيئ دالّ على أن عملية القتل انبنت على حسابات شخصية بحتة ، و لم يكن لحركة «حماس» أي دور فيها أو علاقة بها .
ليس ذلك فحسب ، و إنما كانت كل الدلائل تشير إلى أن «حماس» خارج الموضوع تماماً ، ذلك أن الحركة اعتبرت من البداية أن الدم الفلسطيني خطّاً أحمر لا يجوز الاقتراب منه تحت أي ظرف ، لذلك فلم يعرَف أنها قامت بأي عملية اغتيال ضد أي عنصر فلسطيني ، بمن في ذلك رجال السلطة الذين ارتكب بعضهم بحقها جرائم تراوحت بين القتل و تسهيل القتل و الاختطاف و تسليم الخلايا ، و هناك قصص شهيرة في هذا الصدد يعرفها كل من اقترب من المشهد الفلسطيني ، و للعقيد جبريل الرجوب الذي كان رئيساً للأمن الوقائي ، دوره المحزن في تلك الممارسات ، و «حماس» لم تردّ و أغلب الظن أن ذلك كان بوسعها .
يحسب لـ «حماس» أيضاً في هذا السياق أنها توقّفت عن إعدام العملاء الذين ألحقوا برجالها و أقرانهم من رجال المقاومة أضراراً بالغة ، و كانت تكتفي بإلقاء القبض عليهم و تسليمهم للسلطة ، حتى تتحمّل من جانبها مسؤولية حسابهم ، في حين أن كتائب الأقصى التابعة لحركة «فتح» قامت بإعدام من وقع بأيديها من العملاء أثناء المقاومة .
برغم تلك الشواهد فإن بعض عناصر السلطة تحرّكت في اتجاهين ، فهي من ناحية طالبت حركة «حماس» بإدانة قتل العقيد أبو لحية و تسليم القاتل ، و من ناحية ثانية دأبت تلك العناصر على استنفار أعضاء حركة «فتح» ، و تأليبهم ضد «حماس» .
حشر «حماس» في المشكلة كان مقصوداً في ما يبدو ، سواء لإضعاف موقفها في غزة ، التي تتمتع فيها بقواعد عريضة و قوية ، أو لإظهارها بمظهر المتحدّي للسلطة ، الذي يتعين «كسر أنفه» و تحجيم قدرته و دوره .
و لو أن الأمر مقصور على إدانة عملية القتل لهان ، لكنه في حالة العقيد أبو لحية كان له وضع خاص ، فالرجل الذي شغل منصب قائد قوات التدخل السريع (لمكافحة الشغب) ، لم يكن يتمتع برصيد إيجابي من أي نوع في غزة ، و إذا كان هو من أمر بإطلاق النار على طلاب جامعة غزة الذين خرجوا احتجاجاً على السياسة الأميركية في أعقاب ما حدث في 11 سبتمبر (أيلول) ، فإنه يذكر له أيضاً أنه من أمر بإطلاق الرصاص على المصلين في مسجد فلسطين عام 94 ، مما أدّى إلى مقتل 18 فلسطينياً ، الأمر الذي أجّج مشاعر الغضب و الثورة في غزة ضد السلطة آنذاك .
هذا السجل السيئ ليس غائباً عن الإدراك الفلسطيني في غزة . و كما قال لي بعض من اتصلت بهم هاتفياً هناك ، فإن الرجل ارتكب جريمته تلك و لم يحاسبه أحد على فعلته ، في حين أن الذين ثأروا منه طالبت السلطة بتقديمهم للعدالة .
اللافت للنظر أن الدور القمعي الذي مارسته الشرطة في غزة (20 ألفاً) ضد المتظاهرين من أبنائها ضد الاحتلال أو ضد الأميركيين ، لم يرَ له أثر في مواجهة الاجتياحات الصهيونية لمدن القطاع و قراه ، حتى أن أحد الأصدقاء سأل متعجباً : "لماذا لا تظهر بنادق الشرطة إلا في مواجهة الفلسطينيين في حين تخلى المقرات و يلزم الجميع بيوتهم عند الهجوم الصهيوني ؟ و هل يتصرّف الجنود على ذلك النحو بناء على اجتهادهم الشخصي ؟ أم أنهم يطلقون الرصاص على الشباب الفلسطيني بناء على الأوامر و يغادرون المقرات و يحتمون ببيوتهم ، أيضاً بناء على أوامر ؟" !! .
استنفار «فتح» في غزة على النحو الذي حدث في موضوع قتل العقيد أبو لحية ، لم يكن له ما يبرره ، لأن الرجل لم يكن عضواً في الحركة كما ذكرت ، ثم إن العملية ذاتها وجّهت إلى شخصه ، و لم توجّه إلى الحركة ، و لذلك فإن ذلك الاستنفار الذي أدّى إلى إدخال «فتح» كطرفٍ أساسي في الموضوع ، كانت له أهداف أخرى أبعد من الحادث و ملابساته.
و نحن نستطيع أن نستشفّ تلك الأبعاد من التصريحات «الصقورية» التي صدرت عن العقيد محمد دحلان مسؤول الأمن الوقائي السابق في القطاع ، الذي قيل إنه قدّم استقالته مؤخراً في وظيفة مستشار الأمن القومي التي كان قد عين فيها ، و قد نشِرت تلك التصريحات على نطاق واسع ، و فيها هدّد دحلان بحرق مقار «حماس» في غزة ، و لوّح باستخدام البلطجية لكي يردّوا بدورهم على (بلطجية) «حماس» ، كما هدّد بقتل بعض قيادات حركة «حماس» ، إلى غير ذلك من التلويحات «الشارونية» ، التي نفاها العقيد دحلان في بيان صدر في وقت لاحق ، و لكن تواتر الروايات التي نقلت عنه نفس الكلام أبطل مفعول النفي . و كان الأستاذ جهاد الخازن قد نشر في زاويته بصحيفة «الحياة» (يوم 10/16) أنه سمع بأذنه هذا الكلام من مسؤول في السلطة لم يذكر اسمه ، لكننا عرفنا من النشر الموازي في أماكن أخرى و صحف أخرى أن العقيد دحلان هو صاحب التصريحات و التهديدات .
لا يستطيع مراقب أن يغفل نبرة تحريض الفتحاويين في تصريحات دحلان ، كما لا يستطيع أن يتجاهل اللهجة الصقورية التي يتحدّث بها ، و هذا و ذاك لا نستطيع أن نعزله عن التصريحات التي نقلها على لسانه راديو لندن صبيحة يوم السبت الماضي 19/10 ، و انتقد فيها الرئيس عرفات ، بحجة أنه لم يتقدّم في مسيرة الاصلاحات ، و لم ينجح في وقف العمليات الاستشهادية أو الانتفاضة ، ذلك أن هناك خيوطاً تربط بين هذه الإشارات ، التي تلاحقت في أعقاب مقتل العقيد أبو لحية . و هذه الخيوط تتمثل في ما يلي :
يستثير دحلان الفتحاويين في غزة موحياً لهم بأن ما جرى موجّه ضد نفوذهم و وجودهم في الساحة الفلسطينية بوجه عام ، و في غزة بوجه أخص . و استنفار العصبية الفتحاوية يراد له أن يشكّل ضغطاً على الرئيس عرفات و هو بصدد تشكيل حكومة جديدة ، لكي يرد الاعتبار لـ «فتح» التي صوّرت بحسبانها معتدى عليها و «جريحة» ، و من ثم يعطيها الحصة الأكبر في الحكومة ، و إذا ما تحقّق لها ذلك فإن أغلبيتها في الحكومة إذا وضعت إلى جوار أغلبيتها في المجلس التشريعي (55 من 85) ، فذلك معناه سيطرة «فتح» على إدارة الوضع الفلسطيني في المرحلة المقبلة ، و تهميش أدوار الفصائل الأخرى .
حين يلوّح دحلان بإحراق مقار «حماس» و إطلاق (البلطجية) عليهم و قتل بعض قياداتهم ، فإنه يقدّم نفسه باعتباره الرجل القوي و الحازم ، القادر على تحدّي «حماس» و إيقافها عند حدها ، و هو الدور الذي لم يستطع عرفات أن يقوم به ، حيث يصوّر في المشهد الراهن و كأنه أقل حزماً و أضعف من أن يقوم بمواجهة شاملة لـ «حماس» مثل تلك التي توعّد بها دحلان .
ثم إنه حين يعلن استقالته و يجهر بانتقاداته تلك لعرفات ، فإنه يبعث برسالة إلى كل من يهمه الأمر خلاصتها أنه غير راضٍ عن العمليات الفدائية و عن استمرار الانتفاضة أو بطء الإصلاحات ، ثم يقدّم نفسه في الوقت ذاته ، باعتباره رجل تلك المهام الكبيرة التي فشل غيره في النهوض بها .
و لأن الأمر كذلك ، فإننا لا نستغرب ما نشرته صحيفة «معاريف» العبرية في عدد 15/10 ، حين ذكرت أنه عقب استقالة دحلان أعلن سكرتير حزب العمل (الإسرائيلي) ، النائب أوفير بيلس أن تلك الخطوة جديرة بالتقدير ، خصوصاً أن دحلان انتقد عدم تنفيذ الإصلاحات في السلطة ، الأمر الذي يضعه كبديل قيادي لعرفات .
الكاتب / فهمي هويدي - المصدر : الشرق الأوسط - التاريخ 21/10/2002 :
لا يستطيع المرء أن يخفي قلقه البالغ مما يجري في غزة ، و الذي يبدو في ظاهره تصعيداً للمواجهة بين «فتح» و «حماس» ، بينما هو في حقيقته تمهيد لحرب أهلية يراد لها أن تشعل حريقاً كبيراً في القطاع ، سوف يحقّق لشارون ما يريده من تصفية للانتفاضة و المقاومة هناك ، الأمر الذي يجنبه كلفة المغامرة باحتلال القطاع لكي يبسط عليه هيمنته ، كما فعل في الضفة الغربية .
لقد أفاضت التقارير الصحافية في عرض ما جرى في القطاع إثر مقتل العقيد راجح أبو لحية على يد شاب ينتمي إلى حركة «حماس» (عماد عقل) ، أخذاً بثأر شقيق له (يوسف عقل) كان قد قتل أثناء إطلاق الشرطة الفلسطينية النار على تظاهرة احتجاجية لطلاب الجامعة الإسلامية في غزة قبل أكثر من عام ، و كان الذي أمر بإطلاق النار هو العقيد أبو لحية ، الأمر الذي أدّى إلى مقتل ثلاثة من الفلسطينيين و جرح العشرات من الطلاب ، ذلك أن عماد الذي قرّر أن يثأر لموت شقيقه تربّص مع نفر من أهله و أصحابه بالعقيد أبو لحية ثم استدرجوه و قاموا بقتله ، و رغم أن العملية لم يكن لها أي طابع تنظيمي ، فلا القتل كان مرتباً من جانب «حماس» ، و لا العقيد أبو لحية كان من عناصر «فتح» ، رغم ذلك فقد تحوّل الموقف بسرعة إلى مواجهة بين التنظيمين ، أدّت إلى اشتباك مسلح بينهما قتل فيه خمسة فلسطينيين ، برصاص فلسطيني للأسف الشديد ، و هو ما يثير أسئلة عديدة و يبعث على الشك و الارتياب ، ذلك أن الأمر ما كان له أن يصعّد و يصل إلى تلك الذروة الدامية لولا أن هناك أطرافاً أخرى سعت إلى ذلك و كانت لها مصلحة فيه .
لقد كان التوقيت الذي وقع فيه حادث القتل بالغ السوء على الجبهة الفلسطينية ، إذ ما كان يتصوّر أحد أن يتواصل الهجوم الصهيوني الشرس على غزة ، في حين يلجأ طرف فلسطيني إلى تصفية أحد قيادات الشرطة الفلسطينية . و اختيار هذا التوقيت السيئ دالّ على أن عملية القتل انبنت على حسابات شخصية بحتة ، و لم يكن لحركة «حماس» أي دور فيها أو علاقة بها .
ليس ذلك فحسب ، و إنما كانت كل الدلائل تشير إلى أن «حماس» خارج الموضوع تماماً ، ذلك أن الحركة اعتبرت من البداية أن الدم الفلسطيني خطّاً أحمر لا يجوز الاقتراب منه تحت أي ظرف ، لذلك فلم يعرَف أنها قامت بأي عملية اغتيال ضد أي عنصر فلسطيني ، بمن في ذلك رجال السلطة الذين ارتكب بعضهم بحقها جرائم تراوحت بين القتل و تسهيل القتل و الاختطاف و تسليم الخلايا ، و هناك قصص شهيرة في هذا الصدد يعرفها كل من اقترب من المشهد الفلسطيني ، و للعقيد جبريل الرجوب الذي كان رئيساً للأمن الوقائي ، دوره المحزن في تلك الممارسات ، و «حماس» لم تردّ و أغلب الظن أن ذلك كان بوسعها .
يحسب لـ «حماس» أيضاً في هذا السياق أنها توقّفت عن إعدام العملاء الذين ألحقوا برجالها و أقرانهم من رجال المقاومة أضراراً بالغة ، و كانت تكتفي بإلقاء القبض عليهم و تسليمهم للسلطة ، حتى تتحمّل من جانبها مسؤولية حسابهم ، في حين أن كتائب الأقصى التابعة لحركة «فتح» قامت بإعدام من وقع بأيديها من العملاء أثناء المقاومة .
برغم تلك الشواهد فإن بعض عناصر السلطة تحرّكت في اتجاهين ، فهي من ناحية طالبت حركة «حماس» بإدانة قتل العقيد أبو لحية و تسليم القاتل ، و من ناحية ثانية دأبت تلك العناصر على استنفار أعضاء حركة «فتح» ، و تأليبهم ضد «حماس» .
حشر «حماس» في المشكلة كان مقصوداً في ما يبدو ، سواء لإضعاف موقفها في غزة ، التي تتمتع فيها بقواعد عريضة و قوية ، أو لإظهارها بمظهر المتحدّي للسلطة ، الذي يتعين «كسر أنفه» و تحجيم قدرته و دوره .
و لو أن الأمر مقصور على إدانة عملية القتل لهان ، لكنه في حالة العقيد أبو لحية كان له وضع خاص ، فالرجل الذي شغل منصب قائد قوات التدخل السريع (لمكافحة الشغب) ، لم يكن يتمتع برصيد إيجابي من أي نوع في غزة ، و إذا كان هو من أمر بإطلاق النار على طلاب جامعة غزة الذين خرجوا احتجاجاً على السياسة الأميركية في أعقاب ما حدث في 11 سبتمبر (أيلول) ، فإنه يذكر له أيضاً أنه من أمر بإطلاق الرصاص على المصلين في مسجد فلسطين عام 94 ، مما أدّى إلى مقتل 18 فلسطينياً ، الأمر الذي أجّج مشاعر الغضب و الثورة في غزة ضد السلطة آنذاك .
هذا السجل السيئ ليس غائباً عن الإدراك الفلسطيني في غزة . و كما قال لي بعض من اتصلت بهم هاتفياً هناك ، فإن الرجل ارتكب جريمته تلك و لم يحاسبه أحد على فعلته ، في حين أن الذين ثأروا منه طالبت السلطة بتقديمهم للعدالة .
اللافت للنظر أن الدور القمعي الذي مارسته الشرطة في غزة (20 ألفاً) ضد المتظاهرين من أبنائها ضد الاحتلال أو ضد الأميركيين ، لم يرَ له أثر في مواجهة الاجتياحات الصهيونية لمدن القطاع و قراه ، حتى أن أحد الأصدقاء سأل متعجباً : "لماذا لا تظهر بنادق الشرطة إلا في مواجهة الفلسطينيين في حين تخلى المقرات و يلزم الجميع بيوتهم عند الهجوم الصهيوني ؟ و هل يتصرّف الجنود على ذلك النحو بناء على اجتهادهم الشخصي ؟ أم أنهم يطلقون الرصاص على الشباب الفلسطيني بناء على الأوامر و يغادرون المقرات و يحتمون ببيوتهم ، أيضاً بناء على أوامر ؟" !! .
استنفار «فتح» في غزة على النحو الذي حدث في موضوع قتل العقيد أبو لحية ، لم يكن له ما يبرره ، لأن الرجل لم يكن عضواً في الحركة كما ذكرت ، ثم إن العملية ذاتها وجّهت إلى شخصه ، و لم توجّه إلى الحركة ، و لذلك فإن ذلك الاستنفار الذي أدّى إلى إدخال «فتح» كطرفٍ أساسي في الموضوع ، كانت له أهداف أخرى أبعد من الحادث و ملابساته.
و نحن نستطيع أن نستشفّ تلك الأبعاد من التصريحات «الصقورية» التي صدرت عن العقيد محمد دحلان مسؤول الأمن الوقائي السابق في القطاع ، الذي قيل إنه قدّم استقالته مؤخراً في وظيفة مستشار الأمن القومي التي كان قد عين فيها ، و قد نشِرت تلك التصريحات على نطاق واسع ، و فيها هدّد دحلان بحرق مقار «حماس» في غزة ، و لوّح باستخدام البلطجية لكي يردّوا بدورهم على (بلطجية) «حماس» ، كما هدّد بقتل بعض قيادات حركة «حماس» ، إلى غير ذلك من التلويحات «الشارونية» ، التي نفاها العقيد دحلان في بيان صدر في وقت لاحق ، و لكن تواتر الروايات التي نقلت عنه نفس الكلام أبطل مفعول النفي . و كان الأستاذ جهاد الخازن قد نشر في زاويته بصحيفة «الحياة» (يوم 10/16) أنه سمع بأذنه هذا الكلام من مسؤول في السلطة لم يذكر اسمه ، لكننا عرفنا من النشر الموازي في أماكن أخرى و صحف أخرى أن العقيد دحلان هو صاحب التصريحات و التهديدات .
لا يستطيع مراقب أن يغفل نبرة تحريض الفتحاويين في تصريحات دحلان ، كما لا يستطيع أن يتجاهل اللهجة الصقورية التي يتحدّث بها ، و هذا و ذاك لا نستطيع أن نعزله عن التصريحات التي نقلها على لسانه راديو لندن صبيحة يوم السبت الماضي 19/10 ، و انتقد فيها الرئيس عرفات ، بحجة أنه لم يتقدّم في مسيرة الاصلاحات ، و لم ينجح في وقف العمليات الاستشهادية أو الانتفاضة ، ذلك أن هناك خيوطاً تربط بين هذه الإشارات ، التي تلاحقت في أعقاب مقتل العقيد أبو لحية . و هذه الخيوط تتمثل في ما يلي :
يستثير دحلان الفتحاويين في غزة موحياً لهم بأن ما جرى موجّه ضد نفوذهم و وجودهم في الساحة الفلسطينية بوجه عام ، و في غزة بوجه أخص . و استنفار العصبية الفتحاوية يراد له أن يشكّل ضغطاً على الرئيس عرفات و هو بصدد تشكيل حكومة جديدة ، لكي يرد الاعتبار لـ «فتح» التي صوّرت بحسبانها معتدى عليها و «جريحة» ، و من ثم يعطيها الحصة الأكبر في الحكومة ، و إذا ما تحقّق لها ذلك فإن أغلبيتها في الحكومة إذا وضعت إلى جوار أغلبيتها في المجلس التشريعي (55 من 85) ، فذلك معناه سيطرة «فتح» على إدارة الوضع الفلسطيني في المرحلة المقبلة ، و تهميش أدوار الفصائل الأخرى .
حين يلوّح دحلان بإحراق مقار «حماس» و إطلاق (البلطجية) عليهم و قتل بعض قياداتهم ، فإنه يقدّم نفسه باعتباره الرجل القوي و الحازم ، القادر على تحدّي «حماس» و إيقافها عند حدها ، و هو الدور الذي لم يستطع عرفات أن يقوم به ، حيث يصوّر في المشهد الراهن و كأنه أقل حزماً و أضعف من أن يقوم بمواجهة شاملة لـ «حماس» مثل تلك التي توعّد بها دحلان .
ثم إنه حين يعلن استقالته و يجهر بانتقاداته تلك لعرفات ، فإنه يبعث برسالة إلى كل من يهمه الأمر خلاصتها أنه غير راضٍ عن العمليات الفدائية و عن استمرار الانتفاضة أو بطء الإصلاحات ، ثم يقدّم نفسه في الوقت ذاته ، باعتباره رجل تلك المهام الكبيرة التي فشل غيره في النهوض بها .
و لأن الأمر كذلك ، فإننا لا نستغرب ما نشرته صحيفة «معاريف» العبرية في عدد 15/10 ، حين ذكرت أنه عقب استقالة دحلان أعلن سكرتير حزب العمل (الإسرائيلي) ، النائب أوفير بيلس أن تلك الخطوة جديرة بالتقدير ، خصوصاً أن دحلان انتقد عدم تنفيذ الإصلاحات في السلطة ، الأمر الذي يضعه كبديل قيادي لعرفات .
تعليق