إلا القرآن، يا جبان!!!
الشيخ كمال خطيب - نائب رئيس الحركة الاسلامية
عجيبة هذه الأيام، يتطاول علينا فيها الأقزام، أصبحنا فيها كالأيتام على موائد اللئام، ينظرون إلينا باستخفاف، وأننا قومٌ ضعاف، كلهم علينا يتمادى، ولضرب المسلمين يتنادى، كأن حمى المسلمين مستباح، فلا معتصم ولا صلاح، ولأن في التاريخ عِبرا، فهو الشاهدُ والأثر، إن هذا الصلف الآثم، وهذا العدوان الغاشم، ما كان أبدًا ليكون، وما كان المسلم ليهون، لو كان ردُّنا حازما، واضحا كلماتٍ ومعالِمَاْ، ولو كنا حقًا مسلمين، وبديننا متمسكين.
وإنني إلى التاريخ أعود، إلى مجد الآباء والجدود، حيث العزة والكرامة، والحمية والشهامة، يوم إلى الإسلام انتسبنا، ومن معينه الصافي شربنا، يوم خلف الرسول سِرنا، وبهديه الشريف اقتدينا، يوم راية القرآن حملنا، وفوق ربوع العالمين رفعنا، وكانت لنا دولة، وصولة وجولة، فلم يكن ليتجرأ جبان، أو أن يتطاول علينا إنسان، فإنه يصبح عبرة لمن اعتبر، من الجن والبشر، لأن قادتنا كانوا خير رجال، لا جبناء ولا أنذال، إنهم لم يعرفوا الشجب والتنديد، غير النافع وغير المفيد، وإنما هي الأفعال، والمعامع والنزال، فكان الذي يجرب حظه، يتمنى لو لم تلده أمه، من شديد فعلنا، ومن بطولات رجالنا، فها هي الصفحات العظام، تحدث عن أبطال الإسلام، إنه هارون الرشيد، ذلك الصلب العنيد، إنه صاحب الملك الكبير، والرزق الوفير، وكانت عاصمة ملكه بغداد، صاحبة التاريخ والأمجاد، إنه الذي كان يخاطب الغمامة، كما يخاطب أحدنا غلامه، أمطري أيتها الغمامة عليّ، وإلا فإن رزقك راجع إليّ، أمطري في لبنان، أو في خراسان، أمطري في فلسطين، أو عند حدود الصين، فملكي هناك واصل، في عاجل أو آجل، فسيأتي الجباة، بأموال الزكاة، من خيرك الذي هطل، ومن رزقك الذي نزل.
وكان أن غزا بلاد الروم، ووقع عليهم الحظ المشؤوم، فكان الرشيد رحمه الله، وأنزل عليه عفوه ورضاه، يغزو عامًا ويحج عاما، كذلك كان شأنه ديدنا ونظاما، وكانت تقود الروم امرأة، اسمها إريني الملكة، فأبرمت مع الرشيد السلام، تقول بنوده والكلام، أن تدفع ثلاثمائة ألف دينار، ذهبًا خالصًا ثقيل العيار، تفعل هذا في كل عام، بلا تلعثم ولا كلام، فلما قضت إريني وماتت، ونفذّت ما وعدت وقالت، فحكم الروم ملكٌ مغرور، اسمه نقفور، فنقض العهد الذي كان، واختار بعض الغلمان، وحمّلهم رسالة إلى الرشيد، فيها تهديد ووعيد، "من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب: أما بعد، فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ (طائر خرافي يعرف بالقوة)، وأقامت نفسها مقام البيدق (طائر صغير وضعيف)، فحملت إليك أموالها ما كنت حقيقًا بحمل أضعافه أنت إليها، لكن ذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها وافتدِ نفسك، وإلا فالسيف بيننا وبينك".
فلما قرأ الرشيد الرسالة، وما فيها من حدّة وسفالة، غضب غضبًا شديدًا، كان مميزًا وفريدًا، وكتب إلى نقفور رسالة، فيها العزة والأصالة، "بسم الله الرحمن الرحيم: من هارون الرشيد، أمير المؤمنين، إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه والسلام"، نعم؛ هكذا كانت المضامين، بعزم لا يلين، من هارون إلى نقفور، اسمع يا مغرور، من هارون ملك العرب، إلى نقفور قليل الأدب. وقاد بنفسه الجيوش الجرّارة، ويشرب نقفور كؤوس المرارة، وعاد لدفع الجزية والمال، وقد استسلم للأبطال، ومضت الأيام ودارت، وانقضت السنين واستدارت، وعادت حليمة إلى عادتها القديمة، وكان هذا في زمن المعتصم الخليفة، فقام الروم بفعلة سخيفة، حيث وضعوا المعتصم في امتحان، وعند الامتحان يُكرَم المرء أو يُهان، وهناك عند التخوم، قام نفرٌ من الروم، بسَبْي امرأة مسلمة واحدة، حُرة ً وماجدة، فكان منها النداء، وصل بغداد والسماء، وامعتصماه، واإسلاماه، فبلغت المعتصم استغاثتها، وعلى الفور هبّ لنجدتها، لبيكِ لبيكِ يا أختاه، سأمرغ أنوفهم والجباه، وأرسل إلى الروم رسالة تهديد، لا رسالة شجب ولا تنديد، "من خليفة المسلمين المعتصم إلى كلب الروم، أطلق سراح المرأة المسلمة وإلا فوالذي بعث محمدًا بالحق لأسيّرن لك جيشًا أوله عندك وآخره عندي".
وفعلًا جهّز المعتصم جيشه، وأراد أن يُنفذ وعده، ووصل إلى الروم الخبر، بمثل لمح البصر، ففكوا وثاقها، وأطلقوا سراحها، وإلى بلاد المسلمين عادت كريمة، ومن كل أذى وسوء سليمة، لأن الروم يعرفون أن المسلمين يقولون ويفعلون، ولقد وصف سيد الكلام، الشاعر أبو تمام، ذلك الحدث الشهير، والجيش والنفير، في قصيدته الشهيرة، وكلماته المثيرة، يبدأ بالسيف، والمسير في الصيف:
السيفُ أصدق أنباءً من الكتب --- في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في --- متنهن جلاء الشك والريب
وختمها بالقول:
أبقت بني الأصفر الممراض كاسمهم --- صفر الوجوه وجلت أوجه العرب
وأصبحت هذه المشاهد والمواقف، ميزة ذلك التاريخ السالف، ولكن وبعد أنْ عن الطريق مِلنا، وعن الكتاب والسنة حِدنا، فتسلط علينا الأنذال، والمارقون أشباه الرجال، فاحتلوا أرضنا، وهتكوا عرضنا، وسرقوا الخيرات، ودنسوا المقدسات، ولقد صدق في هذا الحال، وصف الرسول لمّا قال: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها"، قالوا: من قلةٍ نحن يومئذٍ يا رسول الله، قال: "بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن"، قالوا: وما الوهن يا رسول الله، قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".
وفعلًا فقد أصبحنا مثل الغثاء، إنه الزبد على وجه الماء، فتمادى علينا الأعداء، وأذاقونا صنوف البلاء، امتلأت قلوبنا بالوهن، وظهر منا الفساد والعفن، في ذيل القافلة نسير، نناشد أصحاب الضمير، ليعيدوا لنا الكرامة، ويكتبوا لنا السلامة، ونحن مثل الريشة في مهب الريح، ومن ضربات الذل نصيح، فمرة إلى الشرق نميل، ومرة بميزان الغرب نكيل، نهتف بالرأسمالية والاشتراكية، وعيوننا عن الإسلام عمية، وظننا في هذا السلامة، وطريق المجد والكرامة، ولكنه كان طريق الذل والهوان، وسبيل القهر والخسران، ولقد شَمِتَ بنا الأعداء، وتطاول علينا الجبناء، وصوّبوا إلينا السهام، أطلقتها يد اللئام، فمرة سخروا من الحجاب، ومع أنه آية في الكتاب، إلا أنهم قالوا ممنوع، ودخول المدارس غير مشروع، ومرة قالوا إن المآذن ممنوعة، حيث إلى السماء مرفوعة، فمنعوا تشييدها والبناء، ليُضعفوا الأذان والنداء، ومرة همزوا بالرسول القائد، الذي على كل الخلائق شاهد، (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)، سخروا من طه الحبيب، من بذكره الكلام يطيب، تطاولوا على الرسول الخاتم، صاحب الأخلاق والمكارم، شتموا خير البرية، صاحب الطلعة البهية، لمزوا بالحبيب محمد، ومن سار على طريقه يسعد، بل إنه صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، وهو الذي أقسم الله له وقال، بصفات العزة والجلال: "وعزتي وجلالي لو استفتح الناس عليّ كل باب، ولو سلكوا إليّ كل سبيل؛ ما دخلوا جنتي حتى يأتوا خلفك يا محمد"، ولقد رسموا الصور والرسوم، ونسبوها إلى الفن والعلوم، وطبعوها في الصحف والمجلات، وقالوا إنها الحريات، بل إن ذاك الرسام العاهر، من بعدائه للإسلام يجاهر، قد نال الأوسمة والشهادات، وانهالت عليه الرسائل والايميلات، لفعله المشين تـُشجع، ولفعل المزيد تدفع، وكأن مقام الأنبياء، يعبث به الأشقياء، هكذا من غير عتاب، ولا حساب أو عقاب، ولأن حال المسلمين مهين، بل في أسفل سافلين، فلم يكتف أولئك الجبناء، بشتم خاتم الأنبياء، ولا بمنع الحجاب للنساء، بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك، إنها أخطر المسالك، فها هي أسبانيا كذلك، تستفز مشاعرنا، وتصوّب سهمًا مسمومًا إلينا، إنها مكة المكرمة، تلك المدينة المُعظمة، فيفتحون ملهى ومرقص، يسمونه بالاسم المقدس، مكة رمز القداسة، على اسمها وكر النجاسة، هيه يا أندلس، يا مجدًا درس، يا جزيرتنا الخضراء، يا قرطبة وقصر الحمراء، هكذا بعد العز والأمجاد، يتطاول علينا فيك الأوغاد؟!
وفي يوم السبت الأخير 9/11 كانت الذكرى التاسعة لهجمات نيويورك الشهيرة، التي تقول أميركا إن تنظيم القاعدة بقيادة الشيخ أسامة بن لادن تبناها.
وردًا على تلك الهجمات، ومن مظاهر الإحياء والذكريات، فقد أعلن كاهن قسيس، شكله كأنه إبليس، برزت على وجهه الشوارب، كأنها فكّا العقارب، إنه فكر وقدّر، فقُتل كيف قدّر، ولأنه يحب الانتقام، من كل أهل الإسلام، فأراد حرق القرآن، ويشعل فيه النيران، لقد سمعت ذلك المخبول، وهو يصرح ويقول، إن الإسلام من عمل الشيطان، وإنه أسوأ من الأوثان، وحتى وإن تراجع عن تلك الجريمة، فليست نواياه سليمة، لقد قال وصرح، ولسانه بالحقد ينضح، إنه "أراد كشف اللثام، عن الوجه القبيح للإسلام"، لقد زعم صاحب الوجه القبيح، أنه يدافع عن دين المسيح، وقسمًا بالله العظيم، وبحق محمد وعيسى والكليم، لو كان عيسى حاضرًا لقال، مُحالٌ مُحالٌ مُحال، أن يكون هذا الكاهن مني، وأن ينتسب إلى اسمي، فأنا الذي بشّر، وعن أحمد أخبر؛ (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقًا لما بين يدي من التوراة ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحرٌ مبين) (سورة الصف: 6).
فلقد أخبرني جبريل، وورد في التوراة والإنجيل، فاسم محمد مكتوب، وعند كل المؤمنين محبوب؛ (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) (سورة الأعراف: 157).
وأما مريم البتول، والدة عيسى الرسول، فلو كانت حاضرة لصاحت، وفي العالمين نادت: أنا التي قال عني اليهود، وكتبوا في التوراة والتلمود، أنني فتاة زانية، وإنني فاسدة وغانية، فلم ينصفني غيرُ القرآن، وزكّى شرفي وعرضي وصان؛ (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) (سورة مريم: 42).
وأما النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الذي مَدَحَ ومَجَّد، وقال في الحديث الصحيح، يحكي عن أم المسيح: "خير نساء العالمين أربع؛ مريم ابنة عمران، وآسيا زوج فرعون، وخديجة زوج محمد، وفاطمة بنت محمد"، فيا أيها الأفّاك الملعون، أنا مريم الطاهرة المصون، كفّ لسانك الآثم، عن صاحب الأخلاق والمكارم، يا ماكر يا غدار، لا تشعل بالقرآن النّار. وكان الغريب واللافت، ذلك الموقف الباهت، الذي وقفته الإدارة الأمريكية، من تلك الجريمة والقضية، فمنهم من قال إنه عمل غير مناسب، ومنهم من قال إن القانون لا يحاسب، وأما الرئيس "باراك"، ذاك الزعيم الأفاك، فلم يكن حازمًا، ولا واضحًا صارمًا، وإنما اعتبر حرق القرآن، يشكل خطرًا على الجنود الأمريكان، في العراق وأفغانستان، وكان الأحرى به والواجب، أن ذلك المأفون يحاسب، ويصدر الأوامر والقرارات، لمنع تلك الانتهاكات، أما القادة والزعماء، والملوك والرؤساء، فقد ملأوا أفواههم ماء، وانتظروا الفرج من السماء، لأن حرق القرآن، سيضعهم في امتحان، فهذه ماما أمريكا، كانت حليفًا لهم وشريكا، في عقرها والدار، يتطاول الأشرار، على القرآن الكريم، كتاب الله العظيم، يا "تيري" ويا "باراك"، يا كل معتد أفاك، إنكم بفعلكم المشين، وكراهيتكم لدين المسلمين، وحتى لو حرقتم القرآن، وأشعلتم فيه النيران، فالقرآن في الصدور، مغروسٌ ومحفور، فلن تنزعوا حب القرآن من القلوب، ولا أن تطالب بتطبيقه الشعوب، وإنما بفعلكم السافل، ستحرقون جسور التواصل، فتحرروا من الأحقاد، واسلكوا سبيل الرشاد، اقرأوا القرآن بالعقول، لا بالعواطف والميول، وحتمًا سيكون الوصول، إلى النتيجة التي تقول، إنه القرآن، نزل على أشرف إنسان، النبي العدنان، من اهتدى بهداه يسعد، فهلا قلتم يا رب تبنا، يا رب عدنا، والعود أحمد.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي بالمغفرة
(والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
الشيخ كمال خطيب - نائب رئيس الحركة الاسلامية
عجيبة هذه الأيام، يتطاول علينا فيها الأقزام، أصبحنا فيها كالأيتام على موائد اللئام، ينظرون إلينا باستخفاف، وأننا قومٌ ضعاف، كلهم علينا يتمادى، ولضرب المسلمين يتنادى، كأن حمى المسلمين مستباح، فلا معتصم ولا صلاح، ولأن في التاريخ عِبرا، فهو الشاهدُ والأثر، إن هذا الصلف الآثم، وهذا العدوان الغاشم، ما كان أبدًا ليكون، وما كان المسلم ليهون، لو كان ردُّنا حازما، واضحا كلماتٍ ومعالِمَاْ، ولو كنا حقًا مسلمين، وبديننا متمسكين.
وإنني إلى التاريخ أعود، إلى مجد الآباء والجدود، حيث العزة والكرامة، والحمية والشهامة، يوم إلى الإسلام انتسبنا، ومن معينه الصافي شربنا، يوم خلف الرسول سِرنا، وبهديه الشريف اقتدينا، يوم راية القرآن حملنا، وفوق ربوع العالمين رفعنا، وكانت لنا دولة، وصولة وجولة، فلم يكن ليتجرأ جبان، أو أن يتطاول علينا إنسان، فإنه يصبح عبرة لمن اعتبر، من الجن والبشر، لأن قادتنا كانوا خير رجال، لا جبناء ولا أنذال، إنهم لم يعرفوا الشجب والتنديد، غير النافع وغير المفيد، وإنما هي الأفعال، والمعامع والنزال، فكان الذي يجرب حظه، يتمنى لو لم تلده أمه، من شديد فعلنا، ومن بطولات رجالنا، فها هي الصفحات العظام، تحدث عن أبطال الإسلام، إنه هارون الرشيد، ذلك الصلب العنيد، إنه صاحب الملك الكبير، والرزق الوفير، وكانت عاصمة ملكه بغداد، صاحبة التاريخ والأمجاد، إنه الذي كان يخاطب الغمامة، كما يخاطب أحدنا غلامه، أمطري أيتها الغمامة عليّ، وإلا فإن رزقك راجع إليّ، أمطري في لبنان، أو في خراسان، أمطري في فلسطين، أو عند حدود الصين، فملكي هناك واصل، في عاجل أو آجل، فسيأتي الجباة، بأموال الزكاة، من خيرك الذي هطل، ومن رزقك الذي نزل.
وكان أن غزا بلاد الروم، ووقع عليهم الحظ المشؤوم، فكان الرشيد رحمه الله، وأنزل عليه عفوه ورضاه، يغزو عامًا ويحج عاما، كذلك كان شأنه ديدنا ونظاما، وكانت تقود الروم امرأة، اسمها إريني الملكة، فأبرمت مع الرشيد السلام، تقول بنوده والكلام، أن تدفع ثلاثمائة ألف دينار، ذهبًا خالصًا ثقيل العيار، تفعل هذا في كل عام، بلا تلعثم ولا كلام، فلما قضت إريني وماتت، ونفذّت ما وعدت وقالت، فحكم الروم ملكٌ مغرور، اسمه نقفور، فنقض العهد الذي كان، واختار بعض الغلمان، وحمّلهم رسالة إلى الرشيد، فيها تهديد ووعيد، "من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب: أما بعد، فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ (طائر خرافي يعرف بالقوة)، وأقامت نفسها مقام البيدق (طائر صغير وضعيف)، فحملت إليك أموالها ما كنت حقيقًا بحمل أضعافه أنت إليها، لكن ذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها وافتدِ نفسك، وإلا فالسيف بيننا وبينك".
فلما قرأ الرشيد الرسالة، وما فيها من حدّة وسفالة، غضب غضبًا شديدًا، كان مميزًا وفريدًا، وكتب إلى نقفور رسالة، فيها العزة والأصالة، "بسم الله الرحمن الرحيم: من هارون الرشيد، أمير المؤمنين، إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه والسلام"، نعم؛ هكذا كانت المضامين، بعزم لا يلين، من هارون إلى نقفور، اسمع يا مغرور، من هارون ملك العرب، إلى نقفور قليل الأدب. وقاد بنفسه الجيوش الجرّارة، ويشرب نقفور كؤوس المرارة، وعاد لدفع الجزية والمال، وقد استسلم للأبطال، ومضت الأيام ودارت، وانقضت السنين واستدارت، وعادت حليمة إلى عادتها القديمة، وكان هذا في زمن المعتصم الخليفة، فقام الروم بفعلة سخيفة، حيث وضعوا المعتصم في امتحان، وعند الامتحان يُكرَم المرء أو يُهان، وهناك عند التخوم، قام نفرٌ من الروم، بسَبْي امرأة مسلمة واحدة، حُرة ً وماجدة، فكان منها النداء، وصل بغداد والسماء، وامعتصماه، واإسلاماه، فبلغت المعتصم استغاثتها، وعلى الفور هبّ لنجدتها، لبيكِ لبيكِ يا أختاه، سأمرغ أنوفهم والجباه، وأرسل إلى الروم رسالة تهديد، لا رسالة شجب ولا تنديد، "من خليفة المسلمين المعتصم إلى كلب الروم، أطلق سراح المرأة المسلمة وإلا فوالذي بعث محمدًا بالحق لأسيّرن لك جيشًا أوله عندك وآخره عندي".
وفعلًا جهّز المعتصم جيشه، وأراد أن يُنفذ وعده، ووصل إلى الروم الخبر، بمثل لمح البصر، ففكوا وثاقها، وأطلقوا سراحها، وإلى بلاد المسلمين عادت كريمة، ومن كل أذى وسوء سليمة، لأن الروم يعرفون أن المسلمين يقولون ويفعلون، ولقد وصف سيد الكلام، الشاعر أبو تمام، ذلك الحدث الشهير، والجيش والنفير، في قصيدته الشهيرة، وكلماته المثيرة، يبدأ بالسيف، والمسير في الصيف:
السيفُ أصدق أنباءً من الكتب --- في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في --- متنهن جلاء الشك والريب
وختمها بالقول:
أبقت بني الأصفر الممراض كاسمهم --- صفر الوجوه وجلت أوجه العرب
وأصبحت هذه المشاهد والمواقف، ميزة ذلك التاريخ السالف، ولكن وبعد أنْ عن الطريق مِلنا، وعن الكتاب والسنة حِدنا، فتسلط علينا الأنذال، والمارقون أشباه الرجال، فاحتلوا أرضنا، وهتكوا عرضنا، وسرقوا الخيرات، ودنسوا المقدسات، ولقد صدق في هذا الحال، وصف الرسول لمّا قال: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها"، قالوا: من قلةٍ نحن يومئذٍ يا رسول الله، قال: "بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن"، قالوا: وما الوهن يا رسول الله، قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".
وفعلًا فقد أصبحنا مثل الغثاء، إنه الزبد على وجه الماء، فتمادى علينا الأعداء، وأذاقونا صنوف البلاء، امتلأت قلوبنا بالوهن، وظهر منا الفساد والعفن، في ذيل القافلة نسير، نناشد أصحاب الضمير، ليعيدوا لنا الكرامة، ويكتبوا لنا السلامة، ونحن مثل الريشة في مهب الريح، ومن ضربات الذل نصيح، فمرة إلى الشرق نميل، ومرة بميزان الغرب نكيل، نهتف بالرأسمالية والاشتراكية، وعيوننا عن الإسلام عمية، وظننا في هذا السلامة، وطريق المجد والكرامة، ولكنه كان طريق الذل والهوان، وسبيل القهر والخسران، ولقد شَمِتَ بنا الأعداء، وتطاول علينا الجبناء، وصوّبوا إلينا السهام، أطلقتها يد اللئام، فمرة سخروا من الحجاب، ومع أنه آية في الكتاب، إلا أنهم قالوا ممنوع، ودخول المدارس غير مشروع، ومرة قالوا إن المآذن ممنوعة، حيث إلى السماء مرفوعة، فمنعوا تشييدها والبناء، ليُضعفوا الأذان والنداء، ومرة همزوا بالرسول القائد، الذي على كل الخلائق شاهد، (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)، سخروا من طه الحبيب، من بذكره الكلام يطيب، تطاولوا على الرسول الخاتم، صاحب الأخلاق والمكارم، شتموا خير البرية، صاحب الطلعة البهية، لمزوا بالحبيب محمد، ومن سار على طريقه يسعد، بل إنه صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، وهو الذي أقسم الله له وقال، بصفات العزة والجلال: "وعزتي وجلالي لو استفتح الناس عليّ كل باب، ولو سلكوا إليّ كل سبيل؛ ما دخلوا جنتي حتى يأتوا خلفك يا محمد"، ولقد رسموا الصور والرسوم، ونسبوها إلى الفن والعلوم، وطبعوها في الصحف والمجلات، وقالوا إنها الحريات، بل إن ذاك الرسام العاهر، من بعدائه للإسلام يجاهر، قد نال الأوسمة والشهادات، وانهالت عليه الرسائل والايميلات، لفعله المشين تـُشجع، ولفعل المزيد تدفع، وكأن مقام الأنبياء، يعبث به الأشقياء، هكذا من غير عتاب، ولا حساب أو عقاب، ولأن حال المسلمين مهين، بل في أسفل سافلين، فلم يكتف أولئك الجبناء، بشتم خاتم الأنبياء، ولا بمنع الحجاب للنساء، بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك، إنها أخطر المسالك، فها هي أسبانيا كذلك، تستفز مشاعرنا، وتصوّب سهمًا مسمومًا إلينا، إنها مكة المكرمة، تلك المدينة المُعظمة، فيفتحون ملهى ومرقص، يسمونه بالاسم المقدس، مكة رمز القداسة، على اسمها وكر النجاسة، هيه يا أندلس، يا مجدًا درس، يا جزيرتنا الخضراء، يا قرطبة وقصر الحمراء، هكذا بعد العز والأمجاد، يتطاول علينا فيك الأوغاد؟!
وفي يوم السبت الأخير 9/11 كانت الذكرى التاسعة لهجمات نيويورك الشهيرة، التي تقول أميركا إن تنظيم القاعدة بقيادة الشيخ أسامة بن لادن تبناها.
وردًا على تلك الهجمات، ومن مظاهر الإحياء والذكريات، فقد أعلن كاهن قسيس، شكله كأنه إبليس، برزت على وجهه الشوارب، كأنها فكّا العقارب، إنه فكر وقدّر، فقُتل كيف قدّر، ولأنه يحب الانتقام، من كل أهل الإسلام، فأراد حرق القرآن، ويشعل فيه النيران، لقد سمعت ذلك المخبول، وهو يصرح ويقول، إن الإسلام من عمل الشيطان، وإنه أسوأ من الأوثان، وحتى وإن تراجع عن تلك الجريمة، فليست نواياه سليمة، لقد قال وصرح، ولسانه بالحقد ينضح، إنه "أراد كشف اللثام، عن الوجه القبيح للإسلام"، لقد زعم صاحب الوجه القبيح، أنه يدافع عن دين المسيح، وقسمًا بالله العظيم، وبحق محمد وعيسى والكليم، لو كان عيسى حاضرًا لقال، مُحالٌ مُحالٌ مُحال، أن يكون هذا الكاهن مني، وأن ينتسب إلى اسمي، فأنا الذي بشّر، وعن أحمد أخبر؛ (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقًا لما بين يدي من التوراة ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحرٌ مبين) (سورة الصف: 6).
فلقد أخبرني جبريل، وورد في التوراة والإنجيل، فاسم محمد مكتوب، وعند كل المؤمنين محبوب؛ (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) (سورة الأعراف: 157).
وأما مريم البتول، والدة عيسى الرسول، فلو كانت حاضرة لصاحت، وفي العالمين نادت: أنا التي قال عني اليهود، وكتبوا في التوراة والتلمود، أنني فتاة زانية، وإنني فاسدة وغانية، فلم ينصفني غيرُ القرآن، وزكّى شرفي وعرضي وصان؛ (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) (سورة مريم: 42).
وأما النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الذي مَدَحَ ومَجَّد، وقال في الحديث الصحيح، يحكي عن أم المسيح: "خير نساء العالمين أربع؛ مريم ابنة عمران، وآسيا زوج فرعون، وخديجة زوج محمد، وفاطمة بنت محمد"، فيا أيها الأفّاك الملعون، أنا مريم الطاهرة المصون، كفّ لسانك الآثم، عن صاحب الأخلاق والمكارم، يا ماكر يا غدار، لا تشعل بالقرآن النّار. وكان الغريب واللافت، ذلك الموقف الباهت، الذي وقفته الإدارة الأمريكية، من تلك الجريمة والقضية، فمنهم من قال إنه عمل غير مناسب، ومنهم من قال إن القانون لا يحاسب، وأما الرئيس "باراك"، ذاك الزعيم الأفاك، فلم يكن حازمًا، ولا واضحًا صارمًا، وإنما اعتبر حرق القرآن، يشكل خطرًا على الجنود الأمريكان، في العراق وأفغانستان، وكان الأحرى به والواجب، أن ذلك المأفون يحاسب، ويصدر الأوامر والقرارات، لمنع تلك الانتهاكات، أما القادة والزعماء، والملوك والرؤساء، فقد ملأوا أفواههم ماء، وانتظروا الفرج من السماء، لأن حرق القرآن، سيضعهم في امتحان، فهذه ماما أمريكا، كانت حليفًا لهم وشريكا، في عقرها والدار، يتطاول الأشرار، على القرآن الكريم، كتاب الله العظيم، يا "تيري" ويا "باراك"، يا كل معتد أفاك، إنكم بفعلكم المشين، وكراهيتكم لدين المسلمين، وحتى لو حرقتم القرآن، وأشعلتم فيه النيران، فالقرآن في الصدور، مغروسٌ ومحفور، فلن تنزعوا حب القرآن من القلوب، ولا أن تطالب بتطبيقه الشعوب، وإنما بفعلكم السافل، ستحرقون جسور التواصل، فتحرروا من الأحقاد، واسلكوا سبيل الرشاد، اقرأوا القرآن بالعقول، لا بالعواطف والميول، وحتمًا سيكون الوصول، إلى النتيجة التي تقول، إنه القرآن، نزل على أشرف إنسان، النبي العدنان، من اهتدى بهداه يسعد، فهلا قلتم يا رب تبنا، يا رب عدنا، والعود أحمد.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي بالمغفرة
(والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
تعليق