]في طريق إقامة الخلافة : مواصفات الجماعة المبرئة للذمة
من خلال استقراء الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة نجد أن الشارع قد حدد الصفات أو المواصفات التي يجب أن تتصف بها الجماعة التي أخذت على عاتقها العمل للنهوض بالأمة الإسلامية، والخروج بها من هذا الواقع المذل المهين الذي ما برحت تعيش فيه منذ نيف وثمانين عاماً؛ لتعود خير أمة أخرجت للناس، ولتبرئ هذه الجماعة ذمتها أمام الله سبحانه وتعالى. وأهم هذه المواصفات هي:
أولاً: أن تكون هذه الجماعة إسلامية:
أما كون هذه الجماعة يجب أن تكون إسلامية فذلك واضح تماماً في قوله سبحانه وتعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران 104] والخير هو الإسلام قولاً واحداً، روى البخاري عن حذيفة بن اليمان قال: «كان الناس يسألون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟...» الحديث. فالخير الذي جاء به الله سبحانه وتعالى على يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الإسلام. فمعنى يدعون إلى الخير إذن أي يدعون إلى الإسلام. هذا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً أعمال إسلامية من يقوم بها يجب أن يكون مسلماً، ولا يمكن أن يكون غير ذلك. وهكذا تخرج من الحسبان من كونها مبرئة للذمة كل الحركات والجماعات التي كان الأساس في نشأتها الشيوعية، أو العلمانية الرأسمالية الديمقراطية، أو القومية، أو البعثية، أو الوطنية، أو الإثنية، أو المصلحية، وما شابه ذلك من الجماعات التي لم ينـزل الله بها سلطاناً.
ثانياً: أن تكون مبدئية:
أما كونها مبدئية فلا يكفي في الجماعة المبرئة للذمة أن تكون إسلامية فقط تدعو إلى بعض الإسلام، أي إلى بعض فروض الإسلام دون سائر الفروض، كإقامة جماعة تدعو إلى الصلاة، وأخرى تدعو إلى الصيام، وثالثة تدعو إلى الأخلاق... فهذه الأمور وهذه الدعوات وإن كانت من الإسلام إلا أنها لا تبرئ ذمة الجماعة التي تعمل للنهوض بالأمة أمام الله سبحانه وتعالى، بل يجب أن يكون الإسلام هو القاعدة الفكرية التي تنبثق منها جميع الأحكام التي تتبناها هذه الجماعة، وتضبط سلوكها وأعمالها وغاياتها وأهدافها على أساسها، وأن يكون الإسلام هو القاعدة الفكرية التي تبني عليها هذه الجماعة جميع أفكارها. والقاعدة الشرعية «الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي» توجب أن يكون كل فعل وكل تصرف أي كل سلوك، وتوجب أن يكون كل هدف وكل غاية، مستنداً إلى الحكم الشرعي ومشفعاً بالدليل الشرعي، وإلا كانت هذه الجماعة ومع كونها إسلامية إلا أنها ليست مبدئية. قال تعالى: وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر 7 و مَا هنا من صيغ العموم، أي كل ما أتاكم به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وجب عليكم أن تأخذوه أيها المسلمون، وتعملوا على أساسه وتتقيدوا به، وكل ما نهاكم عنه يجب عليكم أن تنتهوا عنه، وما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو القرآن والسنة، فلا اعتبار هنا إذن للمصلحة العقلية أي للهوى، ولا اعتبار للظروف والواقع، أو لموازين القوى والمواقف الدولية، ولا مجال أيضا للانتقاء والتخيّر بين فروض الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة 85] وقال: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة 3] فهذا وذاك أي جعل المصلحة حسب ما يحددها العقل هي الحكم، أو التعذر بالواقع والخضوع لموازين القوى الدولية وغيرها، فهذا وذاك كما أسلفت أيضاً يجعل الجماعة غير مبدئية، وإن كان ما تقوم به من الإسلام أي كونها جماعة إسلامية. وهكذا تخرج من الحسبان أيضاً من كونها مبرئة للذمة كل الحركات أو الجماعات التي لم تجعل من الإسلام، والإسلام فقط، مصدراً لتفكيرها ولم تجعل من الإسلام القاعدة الفكرية الوحيدة التي تنبثق منها جميع أحكامها، وتبنى عليها جميع أفكارها، ولو كانت هذه الجماعات إسلامية لكنها ليست مبدئية، وبالتالي فهي ليست مبرئة للذمة.
ثالثاً: أن تكون سياسية:
وأما كون الجماعة المبرئة للذمة يجب أن تكون سياسية فأدلة ذلك من القرآن والسنة أما القرآن فقوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران 104]. أما كون الأمر في الآية بإيجاد جماعة هو أمر بإقامة أحزاب سياسية فذلك آتٍ من كون الآية عينت عمل هذه الجماعة، وهو الدعوة إلى الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعمل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر جاء عاماً فيشمل أمر الحكام بالمعروف، ونهيهم عن المنكر ،وهذا يعني وجوب محاسبتهم. ومحاسبة الحكام عمل سياسي، تقوم به الأحزاب السياسية،وهو من أهم أعمال الأحزاب السياسية؛ لذلك كانت الآية دالة على إقامة أحزاب سياسية لتدعو إلى الإسلام، ولتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتحاسب الحكام على ما يقومون به من أعمال وتصرفات.
أما السنة فقد جاء في صحيح البخاري عن خباب بن الأرت قال: «شكونا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا. قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون». كما جاء في تفسير ابن كثير عن ابن عباس «أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابه أتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة فقالوا: يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة قال: إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم» وفي الحادثتين كأن بعض الصحابة رضوان الله عليهم إستأخروا النصر، أو استبطأوا طريقة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصراع الفكري والكفاح السياسي في الوصول إلى النصر والتمكين، فأرادوا أن يتحول عليه الصلاة والسلام إلى العمل المادي، وفي كلتا الحادثتين وفي غيرهما أصر (صلى الله عليه وآله وسلم) على السير في نفس الطريقة، بل وغضب ممن أراد أن يثنيه عنها. وإصرار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على القيام بأي أمر رغم تحمله الأذى في سبيله دليل شرعي على أن هذا الأمر فرض في حقه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا دليل على أن الجماعة العاملة لإنهاض الأمة يجب أن تكون جماعة سياسية، وبهذا تخرج من الحسبان أيضا كل جماعة تسعى لتحكيم شرع الله سبحانه وتعالى بغير هذه الطريقة التي سار عليها (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا تعتبر مبرئة للذمة مع الاعتبار وعدم غض الطرف عن أنها إسلامية.
رابعاً: أن تكون عالمية:
وأما كون هذه الجماعة يجب أن تكون عالمية فلا نعني بقولنا هذا إنه يجب أن يكون لهذه الجماعة فروع أو مراكز أو أتباع أو أنصار أو ما شابه ذلك متواجدون أو متمركزون في جميع أنحاء العالم أبداً، لا نعني ذلك، بل نعني أنه يجب أن تكون هذه الجماعة مستهدفة العالم كل العالم، أي تسعى لتحرير الإنسان كل الإنسان من عبودية الإنسان إلى عبودية الله رب الإنسان، وتحرير الأرض كل الأرض من حكم الطاغوت للحكم بما أنزل الله عز وجل، حتى لو كانت هذه الجماعة مازالت تعمل في بقعة صغيرة من الأرض.
قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء 107] وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [سبأ 28] وقال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام 19] وقال: قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف 158] فهذه الآيات، وغيرها الكثير، دالة على أن الإسلام لم يأت لفئة معينة أو قطر معين دون غيره، بل جاء لكل الناس. والدعوة إليه والعمل على إيجاده يجب أن يكون لكل الناس وفي كل مكان. أما أدلة وجوب أن تكون الجماعة عالمية من السنة المطهرة منها ما أوردناه آنفا في حديث الخباب بن الأرت (رضي الله عنه) الذي رواه البخاري في صحيحه «... والله ليُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه...» فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يعذب ويستهزأ به وبدعوته، وأصحابه يعذبون ويقتلون، ورسالته ودعوته لم تخرج من مكة سوى بعض الأفراد الذين آمنوا به وعادوا إلى بلادهم، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينظر بعيداً خارج مكة يستهدف العالم، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمه أبي طالب عندما شكته إليه قريش حيث قال: أريدهم على كلمة واحدة تدين لهم بها العرب، وتؤدي العجم إليهم الجزية والحديث في مسند الإمام أحمد وفي كتب السير: أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم. ووعده (صلى الله عليه وآله وسلم) سراقة بسواري كسرى أثناء هجرته وهو طريد ملاحق من قبل قريش، وجاء أيضاً في مسند الإمام أحمد حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني يحيى بن أبي الأشعث عن إسماعيل ابن إياس بن عفيف الكندي عن أبيه عن جده قال: «كنت امرأً تاجراً، فقدمت الحج، فأتيت العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة، وكان امرأً تاجراً، فوالله إنني لعنده بمنًى إذ خرج رجل من خباء قريب منه فنظر إلى الشمس فلما رآها مالت يعني قام يصلي، قال ثم خرجت امرأةٌ من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل فقامت خلفه تصلي، ثم خرج غلام حين راهق الحلم من ذلك الخباء فقام معه يصلي، قال فقلت للعباس: من هذا يا عباس؟ قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي، قال فقلت: من هذه المرأة؟ قال: هذه امرأته خديجة بنت خويلد. قال قلت: من هذا الفتى؟ قال: هذا علي بن أبي طالب ابن عمه. قال فقلت: فما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلي، وهو يزعم أنه نبي ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الفتى، وهو يزعم أنه سيفتح عليه كنوز كسرى وقيصر. قال: فكان عفيف وهو ابن عم الأشعث بن قيس يقول وأسلم بعد ذلك فحسن إسلامه، لو كان الله رزقني الإسلام يومئذ فأكون ثالثاً مع علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)». فهذه الأحاديث كلها تدل دلالةً واضحةً على أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يستهدف العالم كل العالم من اللحظة الأولى، ولم تكن دعوته قاصرة على مكة وعلى أهل مكة، بل نظرته كانت عالمية واستهدافه كان للعالم ولم يكن لمكة فقط. وفي الحديث الأخير، ورغم أنه لم يكن قد آمن معه إلا ثلاثة نفر، إلا أنه كان يصرح بل يعلن أنه سيفتح كنوز كسرى وقيصر، فهو استهداف للعالم من أول لحظة للدعوة. وهكذا تخرج من الحسبان كل جماعة وكل حركة تقف في دعوتها وفي عملها عند حدود قطر معين أو دولة بذاتها، حتى لو كانت تسعى لإقامة دولة إسلامية في هذا القطر وتغلق على نفسها حدود سايكس بيكو السياسية التي وضعها الكفار عندما هدموا دولة الخلافة العثمانية.
خامساً: أن تعمل لاستئناف الحياة الإسلامية:
وهذا الهدف وهو استئناف الحياة الإسلامية، سواء أعلن صراحة أو عبر عنه بتعابير وأسماء تحمل نفس المعنى، مثل إعلاء كلمة الله، أو العودة إلى الله، أو إعادة مجد المسلمين وعزتهم، أو إحياء الخلافة، أو النهوض بالمسلمين... أو غير ذلك من التعابير، فكلها تدور حول معنى واحد، وهو الهدف الذي يجب أن يسعى إليه جميع المسلمين، وجميع الحركات الإسلامية. وقولنا استئناف الحياة الإسلامية ليس معناه إيجاد حياة إسلامية ابتداءً، وإنما هو استئناف لما كان موجوداً، أي استئناف لما بدأه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث إنه قد أُبعد منذ فترة من الزمن، والعملية الآن هي استئناف لما كان، أي لما بدأه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهدمه أتاتورك، عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ومن البديهي أن هذا الأمر لا يتحقق إلا بوجود سلطان للمسلمين، أي أن يكون للمسلمين خليفة ينوب عنهم في تنفيذ أحكام الشرع المترتبة عليهم مثل إقامة الحدود، ورعاية الشؤون، وحماية الثغور، وحمل الدعوة للعالم؛ لأن ذلك هو الطريقة الوحيدة لتحقيق هذه الأمور والقيام بهذا الواجب. قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء 60-61] وقال عز من قائل: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء 65] وقال: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة 50] وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «حدّ يعمل في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً» [رواه النسائي وابن ماجه]. وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له. ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» [رواه مسلم]. وقال: «إنما الإمام جنّة يقاتل من ورائه ويتقى به» [رواه مسلم]. وقد انعقد إجماع الصحابة، رضوان الله عليهم، على لزوم إقامة خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأجمعوا على إقامة خليفة لأبي بكر ثم لعمر ثم لعثمان ثم لعلي، رضي الله عنهم جميعاً. والقاعدة الشرعية: « ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» تحتم وجود الخليفة؛ لأن إقامة الدين وتنفيذ أحكام الشرع ولمّ شعث المسلمين حول راية الإمام لا تتم دون وجود الخليفة. فهذه الأدلة وكثير غيرها من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة تدل دلالة واضحة على وجوب استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الإسلامية؛ ولذلك يجب شرعاً على الجماعة التي تريد أن تعمل لإنهاض الأمة أن تعمل لإقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية، وهي الطريقة الوحيدة لاستئناف الحياة الإسلامية، وعليه فبراءة الذمة لأي جماعة أمام الله سبحانه وتعالى تقتضي منها أن تعمل لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الدولة الإسلامية.
سادساً: أن تكون طريقتها لذلك شرعية وليست عقلية:
قال تعالى مخاطباً رسوله محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم): قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف 108]. وقال تعالى مخاطباً المؤمنين: وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر 7] كما قال أيضاً: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب 21] وقال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور 63] ولقد خط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطاً مستقيماً على الرمل وجعل على جانبيه خطوطاً متعددة، وقال هذا صراطي مستقيماً، وهذه السبل على رأس كل سبيل منها شيطان يدعو له، وتلا قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام 153]. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [رواه البخاري ومسلم]. وقال: «ألم آت بها بيضاء نقية...» [رواه أحمد والبزار وابن أبي شيبة]. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا: أمرا بيّنا، كتاب الله وسنة نبيه» [سيرة ابن هشام]. فهذه النصوص توجب بوضوح الاقتداء والتقيد بطريقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحمله للدعوة لا نحيد عنها قيد شعرة، ولا نبتعد عنها تحقيقاً لمصلحة، ولا تهرباً من شدة أو بطش، ولا نتركها بحجة اختلاف العصر وتطور الحياة، فهي الطريق القويم، والمحجة البيضاء؛ ولهذا فإن سيرة الرسول وكيفية حمله للدعوة هي الواجبة الاتباع، وهي المقياس لمعرفة الطريق القويم.
سابعاً: أن يكون لها أمير واجب الطاعة:
إن وجود أمير واجب الطاعة له من قبل جميع أفراد الجماعة هو أمر حتمي لا بد منه للجماعة؛ لأن الذي يُبقيها جماعة وهي تعمل هو وجود أمير لها تجب طاعته؛ لأن الشرع أمر كل جماعة بلغت ثلاثة فصاعداً بإقامة أمير لهم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ولا يَحلّ لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم» [رواه أحمد من طريق عبد الله بن عمرو]. يقول ابن تيمية: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم، فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم، كان ذلك تنبيهاً على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك...» فتاوى ابن تيمية.
علاوة على ذلك يجب أن تكون هذه الأحزاب علنية غير سرية؛ لأن الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاسبة الحكام، والعمل للوصول إلى الحكم عن طريق الأمة، تكون علنية وصريحة، ولا تكون في السرِّ والخفاء، حتى تؤدي الغرض المطلوب منها.
هذه هي معظم بل وأهم المواصفات التي يجب أن تتصف بها كل جماعة جعلت النهوض بالأمة الإسلامية قصدها الذي تسعى للوصول إليه وتبغي تحقيقه، لتبرئ ذمتها أمام الله سبحانه وتعالى.
وختاماً نذكر أنفسنا والمسلمين أجمعين بقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور 63].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
من خلال استقراء الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة نجد أن الشارع قد حدد الصفات أو المواصفات التي يجب أن تتصف بها الجماعة التي أخذت على عاتقها العمل للنهوض بالأمة الإسلامية، والخروج بها من هذا الواقع المذل المهين الذي ما برحت تعيش فيه منذ نيف وثمانين عاماً؛ لتعود خير أمة أخرجت للناس، ولتبرئ هذه الجماعة ذمتها أمام الله سبحانه وتعالى. وأهم هذه المواصفات هي:
أولاً: أن تكون هذه الجماعة إسلامية:
أما كون هذه الجماعة يجب أن تكون إسلامية فذلك واضح تماماً في قوله سبحانه وتعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران 104] والخير هو الإسلام قولاً واحداً، روى البخاري عن حذيفة بن اليمان قال: «كان الناس يسألون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟...» الحديث. فالخير الذي جاء به الله سبحانه وتعالى على يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الإسلام. فمعنى يدعون إلى الخير إذن أي يدعون إلى الإسلام. هذا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً أعمال إسلامية من يقوم بها يجب أن يكون مسلماً، ولا يمكن أن يكون غير ذلك. وهكذا تخرج من الحسبان من كونها مبرئة للذمة كل الحركات والجماعات التي كان الأساس في نشأتها الشيوعية، أو العلمانية الرأسمالية الديمقراطية، أو القومية، أو البعثية، أو الوطنية، أو الإثنية، أو المصلحية، وما شابه ذلك من الجماعات التي لم ينـزل الله بها سلطاناً.
ثانياً: أن تكون مبدئية:
أما كونها مبدئية فلا يكفي في الجماعة المبرئة للذمة أن تكون إسلامية فقط تدعو إلى بعض الإسلام، أي إلى بعض فروض الإسلام دون سائر الفروض، كإقامة جماعة تدعو إلى الصلاة، وأخرى تدعو إلى الصيام، وثالثة تدعو إلى الأخلاق... فهذه الأمور وهذه الدعوات وإن كانت من الإسلام إلا أنها لا تبرئ ذمة الجماعة التي تعمل للنهوض بالأمة أمام الله سبحانه وتعالى، بل يجب أن يكون الإسلام هو القاعدة الفكرية التي تنبثق منها جميع الأحكام التي تتبناها هذه الجماعة، وتضبط سلوكها وأعمالها وغاياتها وأهدافها على أساسها، وأن يكون الإسلام هو القاعدة الفكرية التي تبني عليها هذه الجماعة جميع أفكارها. والقاعدة الشرعية «الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي» توجب أن يكون كل فعل وكل تصرف أي كل سلوك، وتوجب أن يكون كل هدف وكل غاية، مستنداً إلى الحكم الشرعي ومشفعاً بالدليل الشرعي، وإلا كانت هذه الجماعة ومع كونها إسلامية إلا أنها ليست مبدئية. قال تعالى: وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر 7 و مَا هنا من صيغ العموم، أي كل ما أتاكم به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وجب عليكم أن تأخذوه أيها المسلمون، وتعملوا على أساسه وتتقيدوا به، وكل ما نهاكم عنه يجب عليكم أن تنتهوا عنه، وما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو القرآن والسنة، فلا اعتبار هنا إذن للمصلحة العقلية أي للهوى، ولا اعتبار للظروف والواقع، أو لموازين القوى والمواقف الدولية، ولا مجال أيضا للانتقاء والتخيّر بين فروض الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة 85] وقال: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة 3] فهذا وذاك أي جعل المصلحة حسب ما يحددها العقل هي الحكم، أو التعذر بالواقع والخضوع لموازين القوى الدولية وغيرها، فهذا وذاك كما أسلفت أيضاً يجعل الجماعة غير مبدئية، وإن كان ما تقوم به من الإسلام أي كونها جماعة إسلامية. وهكذا تخرج من الحسبان أيضاً من كونها مبرئة للذمة كل الحركات أو الجماعات التي لم تجعل من الإسلام، والإسلام فقط، مصدراً لتفكيرها ولم تجعل من الإسلام القاعدة الفكرية الوحيدة التي تنبثق منها جميع أحكامها، وتبنى عليها جميع أفكارها، ولو كانت هذه الجماعات إسلامية لكنها ليست مبدئية، وبالتالي فهي ليست مبرئة للذمة.
ثالثاً: أن تكون سياسية:
وأما كون الجماعة المبرئة للذمة يجب أن تكون سياسية فأدلة ذلك من القرآن والسنة أما القرآن فقوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران 104]. أما كون الأمر في الآية بإيجاد جماعة هو أمر بإقامة أحزاب سياسية فذلك آتٍ من كون الآية عينت عمل هذه الجماعة، وهو الدعوة إلى الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعمل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر جاء عاماً فيشمل أمر الحكام بالمعروف، ونهيهم عن المنكر ،وهذا يعني وجوب محاسبتهم. ومحاسبة الحكام عمل سياسي، تقوم به الأحزاب السياسية،وهو من أهم أعمال الأحزاب السياسية؛ لذلك كانت الآية دالة على إقامة أحزاب سياسية لتدعو إلى الإسلام، ولتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتحاسب الحكام على ما يقومون به من أعمال وتصرفات.
أما السنة فقد جاء في صحيح البخاري عن خباب بن الأرت قال: «شكونا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا. قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون». كما جاء في تفسير ابن كثير عن ابن عباس «أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابه أتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة فقالوا: يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة قال: إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم» وفي الحادثتين كأن بعض الصحابة رضوان الله عليهم إستأخروا النصر، أو استبطأوا طريقة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصراع الفكري والكفاح السياسي في الوصول إلى النصر والتمكين، فأرادوا أن يتحول عليه الصلاة والسلام إلى العمل المادي، وفي كلتا الحادثتين وفي غيرهما أصر (صلى الله عليه وآله وسلم) على السير في نفس الطريقة، بل وغضب ممن أراد أن يثنيه عنها. وإصرار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على القيام بأي أمر رغم تحمله الأذى في سبيله دليل شرعي على أن هذا الأمر فرض في حقه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا دليل على أن الجماعة العاملة لإنهاض الأمة يجب أن تكون جماعة سياسية، وبهذا تخرج من الحسبان أيضا كل جماعة تسعى لتحكيم شرع الله سبحانه وتعالى بغير هذه الطريقة التي سار عليها (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا تعتبر مبرئة للذمة مع الاعتبار وعدم غض الطرف عن أنها إسلامية.
رابعاً: أن تكون عالمية:
وأما كون هذه الجماعة يجب أن تكون عالمية فلا نعني بقولنا هذا إنه يجب أن يكون لهذه الجماعة فروع أو مراكز أو أتباع أو أنصار أو ما شابه ذلك متواجدون أو متمركزون في جميع أنحاء العالم أبداً، لا نعني ذلك، بل نعني أنه يجب أن تكون هذه الجماعة مستهدفة العالم كل العالم، أي تسعى لتحرير الإنسان كل الإنسان من عبودية الإنسان إلى عبودية الله رب الإنسان، وتحرير الأرض كل الأرض من حكم الطاغوت للحكم بما أنزل الله عز وجل، حتى لو كانت هذه الجماعة مازالت تعمل في بقعة صغيرة من الأرض.
قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء 107] وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [سبأ 28] وقال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام 19] وقال: قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف 158] فهذه الآيات، وغيرها الكثير، دالة على أن الإسلام لم يأت لفئة معينة أو قطر معين دون غيره، بل جاء لكل الناس. والدعوة إليه والعمل على إيجاده يجب أن يكون لكل الناس وفي كل مكان. أما أدلة وجوب أن تكون الجماعة عالمية من السنة المطهرة منها ما أوردناه آنفا في حديث الخباب بن الأرت (رضي الله عنه) الذي رواه البخاري في صحيحه «... والله ليُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه...» فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يعذب ويستهزأ به وبدعوته، وأصحابه يعذبون ويقتلون، ورسالته ودعوته لم تخرج من مكة سوى بعض الأفراد الذين آمنوا به وعادوا إلى بلادهم، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينظر بعيداً خارج مكة يستهدف العالم، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمه أبي طالب عندما شكته إليه قريش حيث قال: أريدهم على كلمة واحدة تدين لهم بها العرب، وتؤدي العجم إليهم الجزية والحديث في مسند الإمام أحمد وفي كتب السير: أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم. ووعده (صلى الله عليه وآله وسلم) سراقة بسواري كسرى أثناء هجرته وهو طريد ملاحق من قبل قريش، وجاء أيضاً في مسند الإمام أحمد حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني يحيى بن أبي الأشعث عن إسماعيل ابن إياس بن عفيف الكندي عن أبيه عن جده قال: «كنت امرأً تاجراً، فقدمت الحج، فأتيت العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة، وكان امرأً تاجراً، فوالله إنني لعنده بمنًى إذ خرج رجل من خباء قريب منه فنظر إلى الشمس فلما رآها مالت يعني قام يصلي، قال ثم خرجت امرأةٌ من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل فقامت خلفه تصلي، ثم خرج غلام حين راهق الحلم من ذلك الخباء فقام معه يصلي، قال فقلت للعباس: من هذا يا عباس؟ قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي، قال فقلت: من هذه المرأة؟ قال: هذه امرأته خديجة بنت خويلد. قال قلت: من هذا الفتى؟ قال: هذا علي بن أبي طالب ابن عمه. قال فقلت: فما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلي، وهو يزعم أنه نبي ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الفتى، وهو يزعم أنه سيفتح عليه كنوز كسرى وقيصر. قال: فكان عفيف وهو ابن عم الأشعث بن قيس يقول وأسلم بعد ذلك فحسن إسلامه، لو كان الله رزقني الإسلام يومئذ فأكون ثالثاً مع علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)». فهذه الأحاديث كلها تدل دلالةً واضحةً على أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يستهدف العالم كل العالم من اللحظة الأولى، ولم تكن دعوته قاصرة على مكة وعلى أهل مكة، بل نظرته كانت عالمية واستهدافه كان للعالم ولم يكن لمكة فقط. وفي الحديث الأخير، ورغم أنه لم يكن قد آمن معه إلا ثلاثة نفر، إلا أنه كان يصرح بل يعلن أنه سيفتح كنوز كسرى وقيصر، فهو استهداف للعالم من أول لحظة للدعوة. وهكذا تخرج من الحسبان كل جماعة وكل حركة تقف في دعوتها وفي عملها عند حدود قطر معين أو دولة بذاتها، حتى لو كانت تسعى لإقامة دولة إسلامية في هذا القطر وتغلق على نفسها حدود سايكس بيكو السياسية التي وضعها الكفار عندما هدموا دولة الخلافة العثمانية.
خامساً: أن تعمل لاستئناف الحياة الإسلامية:
وهذا الهدف وهو استئناف الحياة الإسلامية، سواء أعلن صراحة أو عبر عنه بتعابير وأسماء تحمل نفس المعنى، مثل إعلاء كلمة الله، أو العودة إلى الله، أو إعادة مجد المسلمين وعزتهم، أو إحياء الخلافة، أو النهوض بالمسلمين... أو غير ذلك من التعابير، فكلها تدور حول معنى واحد، وهو الهدف الذي يجب أن يسعى إليه جميع المسلمين، وجميع الحركات الإسلامية. وقولنا استئناف الحياة الإسلامية ليس معناه إيجاد حياة إسلامية ابتداءً، وإنما هو استئناف لما كان موجوداً، أي استئناف لما بدأه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث إنه قد أُبعد منذ فترة من الزمن، والعملية الآن هي استئناف لما كان، أي لما بدأه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهدمه أتاتورك، عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ومن البديهي أن هذا الأمر لا يتحقق إلا بوجود سلطان للمسلمين، أي أن يكون للمسلمين خليفة ينوب عنهم في تنفيذ أحكام الشرع المترتبة عليهم مثل إقامة الحدود، ورعاية الشؤون، وحماية الثغور، وحمل الدعوة للعالم؛ لأن ذلك هو الطريقة الوحيدة لتحقيق هذه الأمور والقيام بهذا الواجب. قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء 60-61] وقال عز من قائل: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء 65] وقال: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة 50] وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «حدّ يعمل في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً» [رواه النسائي وابن ماجه]. وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له. ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» [رواه مسلم]. وقال: «إنما الإمام جنّة يقاتل من ورائه ويتقى به» [رواه مسلم]. وقد انعقد إجماع الصحابة، رضوان الله عليهم، على لزوم إقامة خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأجمعوا على إقامة خليفة لأبي بكر ثم لعمر ثم لعثمان ثم لعلي، رضي الله عنهم جميعاً. والقاعدة الشرعية: « ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» تحتم وجود الخليفة؛ لأن إقامة الدين وتنفيذ أحكام الشرع ولمّ شعث المسلمين حول راية الإمام لا تتم دون وجود الخليفة. فهذه الأدلة وكثير غيرها من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة تدل دلالة واضحة على وجوب استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الإسلامية؛ ولذلك يجب شرعاً على الجماعة التي تريد أن تعمل لإنهاض الأمة أن تعمل لإقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية، وهي الطريقة الوحيدة لاستئناف الحياة الإسلامية، وعليه فبراءة الذمة لأي جماعة أمام الله سبحانه وتعالى تقتضي منها أن تعمل لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الدولة الإسلامية.
سادساً: أن تكون طريقتها لذلك شرعية وليست عقلية:
قال تعالى مخاطباً رسوله محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم): قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف 108]. وقال تعالى مخاطباً المؤمنين: وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر 7] كما قال أيضاً: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب 21] وقال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور 63] ولقد خط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطاً مستقيماً على الرمل وجعل على جانبيه خطوطاً متعددة، وقال هذا صراطي مستقيماً، وهذه السبل على رأس كل سبيل منها شيطان يدعو له، وتلا قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام 153]. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [رواه البخاري ومسلم]. وقال: «ألم آت بها بيضاء نقية...» [رواه أحمد والبزار وابن أبي شيبة]. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا: أمرا بيّنا، كتاب الله وسنة نبيه» [سيرة ابن هشام]. فهذه النصوص توجب بوضوح الاقتداء والتقيد بطريقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحمله للدعوة لا نحيد عنها قيد شعرة، ولا نبتعد عنها تحقيقاً لمصلحة، ولا تهرباً من شدة أو بطش، ولا نتركها بحجة اختلاف العصر وتطور الحياة، فهي الطريق القويم، والمحجة البيضاء؛ ولهذا فإن سيرة الرسول وكيفية حمله للدعوة هي الواجبة الاتباع، وهي المقياس لمعرفة الطريق القويم.
سابعاً: أن يكون لها أمير واجب الطاعة:
إن وجود أمير واجب الطاعة له من قبل جميع أفراد الجماعة هو أمر حتمي لا بد منه للجماعة؛ لأن الذي يُبقيها جماعة وهي تعمل هو وجود أمير لها تجب طاعته؛ لأن الشرع أمر كل جماعة بلغت ثلاثة فصاعداً بإقامة أمير لهم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ولا يَحلّ لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم» [رواه أحمد من طريق عبد الله بن عمرو]. يقول ابن تيمية: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم، فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم، كان ذلك تنبيهاً على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك...» فتاوى ابن تيمية.
علاوة على ذلك يجب أن تكون هذه الأحزاب علنية غير سرية؛ لأن الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاسبة الحكام، والعمل للوصول إلى الحكم عن طريق الأمة، تكون علنية وصريحة، ولا تكون في السرِّ والخفاء، حتى تؤدي الغرض المطلوب منها.
هذه هي معظم بل وأهم المواصفات التي يجب أن تتصف بها كل جماعة جعلت النهوض بالأمة الإسلامية قصدها الذي تسعى للوصول إليه وتبغي تحقيقه، لتبرئ ذمتها أمام الله سبحانه وتعالى.
وختاماً نذكر أنفسنا والمسلمين أجمعين بقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور 63].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تعليق