تويت
الحج عن الأسرى.. "جدل فقهي" في فلسطين
محمد الصواف*
الحج عن الأسير ...جدل فقهي
محمد الصواف*
الحج عن الأسير ...جدل فقهي
غزة– هل ممن الممكن أن يؤدي أحدنا فريضة الحج عن أسير غيبته سجون الموت الإسرائيلية لعقود من الزمن وتوارى خلف القضبان، بعد أن حكم عليه مدى الحياة واستحال الأمل في خروجه؟
سؤال أثارت إجابته جدلا فقهيا بين فقهاء فلسطين تحديدا.. ففي وقت أجاز فيه أستاذ أصول الفقه وعميد الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية الدكتور زياد مقداد الحج عن الأسرى الفلسطينيين، خالف فقهاء آخرون فتوى "مقداد" مؤكدين أن الحج قد سقط عنهم ابتداء حتى يخرجوا من سجونهم.
ويقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي أكثر من أحد عشر ألفا وخمسمائة أسير فلسطيني، بينهم المئات ممن يقضون أحكاما عالية تصل إلى مئات السنين وبعضهم يقبع في السجون منذ أكثر من ثلاثين عاما.
د.زياد مقداد أستاذ أصول الفقه والذي انفرد بفتواه عن بقية الفقهاء اللذين استطلعت آراءهم "إسلام أون لاين.نت"، أجاز الحج عن الأسير المحكوم عليه أحكاما عالية، بحيث لا يرجى خروجه إلا بعد انقضاء عمره باعتباره ميتا حكما، وإلحاقا له بالشيخ الهرم أو المريض الذي لا يرجى برؤه، من حيث عدم تمكن هؤلاء من الحج، "ولأن الأصل جواز النيابة في الحج بخلاف النيابة في عبادات أخرى".
ويقيد الدكتور مقداد في حديثه مع "إسلام أون لاين.نت" القول بالجواز بأن يكون الأسير محكوما عليه بمدة طويلة، تستغرق في العادة عمر الإنسان كعدد من المؤبدات أو مدى الحياة، "ولكن إن كانت مدة أسره قصيرة؛ بحيث يرجى خروجه في مدة ليست طويلة، فإن الأسير ليس بحاجة للحج عنه، وينتظر حتى يخرج ويؤدي الحج بنفسه عن نفسه؛ ذلك أن الأصل في العبادات أن يقوم بها بنفسه".
ويستدرك موضحا: "أما إذا كان الأسير محكوما بمدة طويلة، فمثل هؤلاء الأسرى وإن كان قد قال فيهم كثير من العلماء بأنه لا يجوز الحج عنهم باعتبار أنه غير واجب عليهم ابتداء، وباعتبار أنهم وإن كان لا يرجى خروجهم بمقاييس البشر فإنه يمكن أن يخرج بقدرة الله سبحانه".
لماذا نغلق الباب؟
وأضاف: "لكن -برغم احترامي لهذا الرأي- فإنني لا أرى أن نغلق هذا الباب أمام الأسرى اللذين حكم عليهم بمدد طويلة بحيث تستغرق أعمارهم في العادة أو لا يرجى إطلاق سراحهم كالمحكومين مدى الحياة، وعليه نفتي بأنه يجوز الحج عنهم".
وبرر الدكتور مقداد فتواه قائلا: "إنما أقول بذلك لأن باب النيابة بالحج قد فتح في الشريعة الإسلامية عن الميت، وعن المريض الذي لا يرجى برؤه، وعن الشيخ الهرم الذي لا ترجى عودة صحته، وهؤلاء جميعا أجاز العلماء الحج عنهم بالنيابة؛ ولا أدل على ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أمي ماتت ولم تحج، فيجزئ أن أحج عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يجزئ عنها؟ قالت: نعم قال: فدين الله أحق أن يقضى".. بمعنى أنه يجوز الحج في حالات معينة عن الآخر إذا ما وجدت الأسباب.
وأضاف: "إنني أعتقد أن السجن والأسر الطويل الذي ذكرناه يلحق بهذه الأعذار، ويلحق بحال الميت والمريض الذي لا يرجى برؤه، والشيخ الهرم، وكما يجوز الحج عن هؤلاء، فإننا نقول بجواز الحج عن الأسرى".
ويقيد الدكتور مقداد فتواه " بأن الأسير لو تمكن من الخروج من سجنه لسبب ممن الأسباب المفاجئة كتبادل أسرى أو انعقاد صلح أو انهيار الدولة الأسرة، أو أي سبب لا يحدث عادة.. وكان لديه القدرة على الحج صحيا وماليا وماديا، فإن الحج الأول الذي حج غيره عنه فيه يصبح في حقه نافلة ويلزمه الحج من جديد في هذه الحالة".
ويتابع شارحا: "لأنه إنما قلنا بجواز الحج عنه وسقوط الفريضة عنه في حالة ترجح لدينا أنه لا يخرج من السجن، وحرصا منا على أداء شعائر الله من قبل الجميع ومن باب إراحة السجين في سجنه، ولكن إذا ما خرج فإن هذا العذر يسقط ويصبح حكمه كحكم من لم يسبق له حج، فيلزمه أداء الفريضة متى توفرت له الاستطاعة".
الميت والمريض فقط
الدكتور بسام العف أستاذ الفقه في كلية الدعوة بغزة خالف الدكتور مقداد في فتواه، مؤكدا أن الذي عليه كثير من الفقهاء أن النيابة لا تدخل في الحج إلا في حالتين؛ الأولى الميت فيجوز الحج عن الميت لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن امرأة من جهينة، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: (نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟. اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء)". أخرجه البخاري(1754)، وعنه قال: قال رجل: يا رسول الله، إن أبي مات ولم يحج. أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فدين الله أحق. أخرجه النسائي(2639).
الحالة الثانية –وفقا للدكتور العف- الشيخ الكبير الهرم الذي لا يثبت على الراحلة، "وفي معناه المريض مرضا مزمنا مقْعدا لا يرجى شفاؤه كالمشلول، فلا يستطيع أن يسافر لأداء فريضة الحج لا بالسيارة ولا بالطائرة، ولا يمكنه أن يؤدي أركان الحج ماشيا أو راكبا أو محمولا". واستدل بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر قالت يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال نعم وذلك في حجة الوداع". أخرجه مسلم (1334).
وقال شارحا: "فيجوز الحج عن هؤلاء في الحالتين، بشرط أن يكون النائب -من يحج عن غيره- قد حج عن نفسه، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة. قال: "من شبرمة؟". قال: أخٌ لي، أو قريب لي. قال: "حججت عن نفسك؟". قال: لا. قال: "حجَّ عن نفسك ثم حج عن شبرمة". أخرجه أبو داود (1811).
الأسير لا..
ويشدد الدكتور العف أن الأسير لا يدخل في الحالتين السابقتين؛ "فلا يجوز الحج عنه ولو بإذنه ولو كان محكوما عليه بعدة مؤبدات".
ويسوق الدكتور العف مجموعة من المبررات تأييدا لفتواه وهي: "أنه لا يصح قياس الحج عنه على الحج عن الشيخ الكبير أو المريض مرضا مزمنا لا يرجى شفاؤه؛ لأنه يرجى إطلاق سراحه وإن طالت به المدة فإن دوام الحال من المحال، والأمل معقود في فك أسره بخلاف الشيخ الكبير أو المريض مرضا مزمنا لا يرجى شفاؤه".
"و ثانيا لأن الأصل في العبادات -ومنها الحج- المنع والحظر حتى يرد الدليل بالجواز ولا ينظر فيها إلى المعاني والعلل حتى تقاس على المريض مرضا مزمنا والشيخ الكبير؛ فلهذا لا يصح إلحاق الأسير بالشيخ الكبير أو المريض مرضا مزمنا مقْعدا في جواز الحج عنه، وبالتالي فإن القياس في غير موضعه فهو غير صحيح". حسب الدكتور العف.
ويكمل شارحا: "الحج عبادة ذاتية الأصل أن يقوم الإنسان بأدائها بنفسه وبدنه {وأن ليْس للإنسان إلا ما سعى} (النجم39) إلا أن الله تعالى –بفضله وكرمه ورحمته ومنته– رخص في بعض الحالات أن يحج عنه غيره، كأن يموت الإنسان ولم ييسر له أن يؤدي فريضة الحج، لاسيما إذا كان مستطيعا إليه سبيلا ثم قصر، وكذلك حالة المرض والشيخوخة المقعدة كما سبق".
"وإن الأسير غير مستطيع للحج، فلا يجب عليه، لقوله تعالى: "ولله على الناس حج الْبيْت من اسْتطاع إليْه سبيلا" (آل عمران 97)... فإذا مات فإنه يجوز أن يحج عنه من ماله أومن مال غيره تطوعا، ولكن لا يجب لكونه لم يتيسر له الحج حتى وقت وفاته فلم يقصر في تركه، ما لم يكن قد أوجبه على نفسه بنذر مثلا فحينها يجب أن يحج عنه" يتابع العف.
بأي صفة يحجْ عنه!
ويوافق الدكتور ماهر السوسي أستاذ الفقه المقارن ونائب عميد كلية الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية الدكتور العف، مشددا على عدم جواز الحج عن الأسير المحكوم أحكاما عالية للأسباب التالية: "لأن بقاءه في السجن غير متيقن، ولا يتوقع أن يقضي فترة محكومتيه في السجن بناء على سوابق بأن الأسرى يخرجون قبل انتهاء محكومياتهم".د. ماهر السوسي
الأمر الآخر –حسب الدكتور السوسي- أن الله عز وجل اشترط لوجوب الحج الاستطاعة والقدرة، وإما أن تكون مالية أو بدنية؛ وبالتالي الحج لا يجب إلا على من توفرت به القدرة أو من كان مستطيعا لقوله تعالى "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ".
ويوضح أن "الأسير غير قادر على الحج؛ حيث الأسر مانع لأدائه هذه الفريضة، وبالتالي تسقط عنه بسبب هذا المانع، وإن هذا المانع حصل ليس بتقصير منه ولكن بسبب تأديته واجب شرعي وهو الجهاد ومقارعة أعداء الله، وبالتالي فإنه لا يقال إنه يجوز لأحد أن يحج عن الأسير؛ لأن الحج عن الغير لا يكون إلا إذا كان الحج واجبا على هذا الغير".
ويشرح قائلا: "الميت قد يموت والحج يكون قد كتب عليه قبل موته وأدركه الموت قبل أن يدرك هو فريضة الحج، لكن الأسير ليس مستطيعا؛ لأن الميت يكون قد وجب عليه الحج، أما الأسير فانتفي شرط وهو الاستطاعة".
ويتابع قائلا: "ولو نظرنا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سألته المرأة عن أمها التي توفيت، (قال دين الله أحق بالوفاء) بمعنى أن الميت كان مستطيعا فثبت الدين في رقبته فعلي على ورثته أن يحجوا عنه.. أما الأسير فبأي صفة يحجون عنه؟!".
ويتفق الفقيه الفلسطيني الدكتور يونس الأسطل مع سابقيه، مؤكدا عدم جواز الحج عن الأسير "لأن الحج ليس واجبا عليه بحكم عدم الاستطاعة، لأنه منوط بالاستطاعة؛ فإن كان الحج عنه لإسقاط الفريضة فإنه لا يجزئ.. وفي تاريخ السجون الذين حكم عليهم مدى الحياة ثم جاءت ظروف وخرجوا لا يحصون كثرة فهم بعشرات الألوف، فما من محكوم إلا ويطلق سراحه، ما لم يتوف أو يصل به كبر السن أو المرض المزمن إلى حد العجز عن الطواف".
------------------------------
*صحفي فلسطيني
المصدر : إسلام أون لاين .
تعليق