اتمنا منكم بارك الله فيكم ان تدمجوا موضوعي هذا مع موضوعي الأول
تأويـل نبــوءة المسيح الدجــال(2)
الفهم اللغوي المباشر للنبوءة لا يفيد في تفسير طبيعة الفتنة التي لن تشهد الأرض لها مثيلاً ، فحين يأتي رجل أعور محدد الملامح بشكل تفصيلي وتحدث في عهده تحولات كونية ويكون مكتوبـاً بين عينيه كافر يقرؤها حتى الأمي ، ثم يطلع الناس على صورته التفصيلية وأخباره الحية معروضة في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهل يكون هذا مدعاة للغواية والشبهات وخفاء الدجال ، أم مدعاة لليقين والتصديق بصدق الرسالة وعلامة حاسمة من علامات النبوة ؟!. الأمر ليس فيه إكراه ، بل فيه شبهات وشهوات وقدرات . وبالتالي فحين يأتي رجل ويطرح ما شاء من الشبهات والشهـوات والقدرات ثم يجد المرء وصفاً تفصيلياً لكامل المشهد بمجرد بدء حدوثه ، فهل سيكون هذا مدعاة للشك والحيرة والخلط بين هذا الرجل وبين الله ، أم معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم تستبق أفعال الدجال وتخبر بها وتمكن المرء من معرفتها حتى قبل أن تحدث ؟!.
إذا رأى المرء رجلاً أعور محدد الملامح على النحو التفصيلي الوارد في الأحاديث وشاهده يركب حماراً بين أذنيه أربعين ذراعاً ، فهل سيفتتن المرء بهذا الرجل وبحماره أم سيصدق بمن خلق هذا الرجل وهذا الحمار ووضع هذا المشهد بين أيدي الناس قبل حدوثه ؟!.
لا شك أن هناك من يتبعون أي ناعق ويقعون في حبائل أهل الشعوذات والسحر والخرافات ، ولكن أن يصبح هذا الوضع الذي يصلح للبسطاء والمجموعات المنقطعة في إحدى بقاع الأرض وضعاً عالمياً يفتن المسلمين كما لم يفتنوا من قبل فهو وضع يفتقر إلى الكثير من المنطق ويصادم الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها .
بالمثل سيأتي الدجال بجنتين أو نهرين أو واديين أو مـاء ونار . وطالما أنه ليس في الأمر إكراه وإجبار ، فما الذي سيدعو الناس إلى العزوف عن كل الحدائق والأنهار والأودية في بلاد الله والتحاشد على حديقتي الدجال أو وادييه أو نهريه ، بينما أبسطهم تعليماً يستطيع أن يقرأ هذه الصورة في الأحاديث وينذر عباد الله حتى لمجرد تنبيههم إلى أن هذا هو المسيح الدجال !!. أي أن الأمر سيدعوهم على الأقل إلى اكتشاف أمر الدجال . إلى معرفة الدجال !!.
ذات الملاحظة يمكن أن تقال بشأن كل التفاصيل الواردة في النبوءة . ثم ماذا يمكن أن تمثل فتنة فرد خلال أربعين يوماً في مقابل الفتنة التي أحدثتها التجربة الغربية على مدى ثلاثة أو أربعة قرون وباستخدام إمكانات مجموعة من الأمم والشعوب ؟!.
إن الفهم اللغوي المباشر لنبوءة المسيح الدجال يقتضي أن يكون ما سيقدمه هذا الرجل أكثر فتنة مما قدمته التجربة الغربية من العجائب والشبهات والشهوات . أليس هذا هو مقتضى كون فتنة المسيح الدجال هي أكبر فتنة تحدث في الأرض ؟!.
الفهم اللغوي المباشر لنبوءة المسيح الدجال يقتضي اندثار بعض أهم التطورات التي شهدتها الحياة البشرية ، كوسائل النقل والاتصال وأدوات الحروب ، بحيث يعود الناس إلى الخيول والحمير والسيوف والرماح . وهذا شيء غير مستحيل عقلاً ومقبول شرعاً ، ولكن الجانب الذي لا يتنبه إليه الكثيرون هو أن اندثار التطورات الأساسية الحديثة سيقود إلى كارثة كبرى تحل بالبشر . ذلك أن الحياة في العصر الحديث لأكثر من ستة مليارات من البشر ليست ممكنة على الإطلاق لولا التطورات الأساسية الحديثة مثل وسائل النقل والاتصال والكهرباء .
نستطيع أن نكتب مطولات حول هذا الأمر ونستدل بحقائق العلم والعقل ، ولكننا سنكتفي بعرض مثال مختصر يلخص الفكرة .
لنبتعد عن القـارات والدول والمدن الكبرى ولنتحدث عن مدينة متوسطة الحجم كمدينة الرياض التي يعيش فيها حالياً نحو خمسة ملايين إنسان . إذ ما الذي يمكن توقع حدوثه لو أن وسائل النقل الحديثة اختفت واندثرت وعدنا إلى استخدام الجمال والحمير والخيول ؟.
ببساطة ، ستتعطل الحياة وستصبح جحيماً لا يطاق خلال بضعة أيام . فإذا كان مقر عمل الإنسان يقع في أقصى شمال الرياض وهو يسكن في أقصى جنوبه فسيحتاج إلى نصف يوم للوصول إلى العمل على حماره أو جمله وسيحتاج إلى النصف الآخر للعودة . أي أن يومه بكامله سينقضي في الذهاب والمجيء دون أن يتمكن من أداء العمل . عمال البلدية الذين يجمعون المخلفات والبقايا من شوارع الرياض يومياً سيحتاجون إلى أسبوع أو شهر لجمع المخلفات والبقايا من حي واحد ونقلها على حميرهم وجمالهم إلى خارج النطاق العمراني لإتلافها . الطلاب والطالبات في المدارس والجامعات سينقضي وقتهم في الذهاب والمجيء . ثم أين هي الحمير والجمال التي ستكفي لتنقلات خمسة ملايين إنسان يعيشون في الرياض ؟!.
سيحتاج الأمـر على الأقل إلى مليون جمل وحمـار ، وهذه الجمال والحمير ستملأ مخلفاتها الشوارع والأحياء وسيتطلب الأمر التخلص من هذه المخلفات يومياً !!. ستحتاج هذه الجمال والحمير إلى أعلاف تكفي لسد حاجتها يومياً ، وسيؤتى بالأعلاف من المناطق الزراعية خارج الرياض وسيتم نقلها على جمال وحمير أيضاً .... وهكذا .
ماذا إن تحدثنا عن الكهرباء وما سيحل بالمستشفيات والمستودعات وأجهزة التبريد والتكييف والحاسبات والمطابع وكل الأجهزة التي تعتمد على الكهرباء ؟!. ماذا إن تحدثنا عن المياه التي تصل إلى الرياض على مدار الساعة من الساحل الشرقي بعد تحليتها من البحر ؟!. ماذا إن تحدثنا عن الهاتف والفاكس والإنترنت وكل أدوات الاتصال الحديثة ؟!. ماذا إن تحدثنا عن المواد الغذائية والطبية التي تؤمن حاجة خمسة ملايين إنسان وتصلهم يومياً عبر السفن والطائرات والقطارات والشاحنات ؟!. ماذا سيحل بأعمال الأجهزة الحكومية والشركات والمؤسسات ؟!
مشكلة الفهم اللغوي المباشر للنبوءات أنه يجعل المسلم غير مكترث بالتطورات الأساسية الحديثة وغير مدرك لأهميتها وضرورتها لبقاء واستمرار الحياة ذاتها . وهانحن تحدثنا عن الرياض فقط ، فكيف لو تحدثنا عن الجزيرة العربية ثم العالم العربي ثم آسيا ثم العالم ؟!. كيف ستستمر حياة أكثر من ستة مليارات من البشر ؟!.
المؤكد أن كارثة غذائية وصحية وبيئية وإدارية وتعليمية ستحل بالعالم خلال أيام معدودة لو اندثرت التطورات الأساسية الحديثة مثل وسائل النقل والاتصال والكهرباء .
فلنفترض أن الكارثة قد حلت لا قدر الله ، وذهب معظم البشر ولم يبق سوى عدد محدود تكفي أساليب الحياة القديمة لبقائه على قيد الحياة ، ثم ظهر حينئذ الدجـال وأيضاً لم يعرفه الناس ولم يكتشفوه . حينها أيهما أعظم فتنة : ذلك الظهور للدجال بعد الكارثة وبين عدد محدود من البشر في ظل وسائل الحياة القديمة ، أم الحياة الموَّارة المليئة بالعجائب التي كانت موجودة قبل حدوث الكارثة وقبل اندثار التطورات الأساسية الحديثة ؟!.
ألا تستحق التطورات التي غيرت وجه العالم تحت راية الإلحاد أو فصل الدين عن الحياة على مدى ثلاثة أو أربعة قرون أية إشارة في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ؟!. وألا تستحق الكارثة التي ستحل بالبشر إذا ما اندثرت التطورات الأساسية الحديثة أي إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم ؟!. هل ستكون أعجب العجائب وأعظم الفتن هي ظهور ذلك الرجـل الأعور خلال أربعـين يوماً بعد اندثار التطورات وحدوث الكارثة ؟!. ثم ألا يمكن تصور الدين إلا في ظل شكل الحياة البسيطة الذي كان سائداً قبل قرون ؟. ألا يصلح الدين للحياة الحديثة ؟!.
إذا كان عيسى عليه السلام سيعود في ظل شكل الحياة القديم ( حياة الجمال والحمير والسيوف كما يدل عليه الفهم اللغوي المباشر للنبوءات ) وسيظهر المهدي قبله في ظل شكل الحياة القديم أيضاً ، وإذا كان لن يقوم للمسلمين قائمة قبل ذلك الظهور ، فهذا يعني أن كل التطورات الحديثة ظهرت وانتشرت وستندثر في وقت يكون فيه المسلمون في أسوأ أحوالهم وأوضاعهم . هذا يعني أن أصحاب الفهم اللغوي المباشر للنبوءات يؤكدون من جديد بأن الدين لا يناسب التطورات الحديثة ولن تقوم للمسلمين قائمة في ظل هذه التطورات ، وهذه والله قناعة غير صحيحة ومضرة بالدين وحجة بيد المجابهين له والمدعين بأنه لا يناسب العصر ولا يصلح له .
وفضلاً عما سبق فإن الاستدلالات العقلية والمنطقية البسيطة تثبت أن الحياة لن تعود إلى شكلها الذي كان سائداً قبل ظهور التجربة الغربية إلا إذا كان ذلك لفترة بسيطة يتم فيها التعافي من آثار كارثة قد تحل بالأرض ، وسرعان ما يعاود الناس بعدها الانتقال نحو الحياة الحديثة . ذلك أن التطورات العلمية والتقنية انتقلت إلى حيز المعرفة الإنسانية بمجرد اكتشافها وأصبح ممكناً إعادة إنتاجها طالما أن المعرفة قد وجدت واستقرت . وهانحن شاهدنا كيف استطاعت ألمانيا التي دمرت في أواخر الحرب العالمية الثانية أن تعود وتسبق كل جيرانها الأوروبيين .
لقد تمكنت من العودة بفضل الإنجازات العلمية والتقنية التي أصبحت معلومة ودخلت ضمن حيز المعرفة البشرية ، وبالتالي فمتى ما وجدت المهارة والاستعداد والتوجه نحو البناء فالمعطيات العلمية والمعرفية موجودة .
وهكذا فإنه لا صحة للاعتقاد بأن التطورات الأساسية الحديثة ستندثر وتعود الحياة إلى سابق عهدها إلا إذا كان ذلك لفترة مؤقتة ريثما تتم استعادة القدرة على البناء وإعادة إنتاج المخترعات التي انتقلت معطياتها إلى حيز المعرفة البشرية ولم تعد من الأسرار .
لننتقل إلى أهم ما في نبوءة المسيح الدجال ، وهي القدرات . فهذا الرجل الأعور سيحيي الموتى ويأمر السماء فتمطر ويأمر الأرض فتنبت ويمر بالخرائب فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها . سيأتي بجنة ونار ، ولكن الناس سيرون الجنة ناراً والنار جنة . سيمر بأهل الحي فيستجيبون له فتتحسن أحوالهم وأحوال مواشيهم ويمر بأهل الحي فيصدونه فتسوء أحوالهم . ستكون سرعته كالريح وسيطوي الأرض كطي الفروة وسيكون معه حماراً عجيباً بين أذنيه أربعين ذراعاً . وطالما أن سرعة الدجـال ستكون كالريح فيبدو أنه سيستخدم هذا الحمار للانتقال ، وهذا يعني أن سرعة الحمار ستكون كالريح . ولولا أنه لا يوجد في الأرض غير هذا الحمار لما ذكر في النبوءة . أي أن في الأمر معجزة جديدة أو كرامة جديدة بتغيير سنن خلق أحد الحمير دون غيره ليفتن به الدجال الناس ويضلهم عن سبيل الله !!.
هذه المعجزات أعظم من كل المعجزات المادية التي أتى بها الأنبياء والرسل ، فمعجزات الدجال عامـة وعالمية ومتعددة . فماذا سيفعل بهذه المعجزات ؟!.
سيستخدمها في إضـلال الناس وإغوائهم !!. والواقع أنه كان يمكن أن نفهم ونقبل الفهم اللغوي المباشر لهذه القدرات لو أن من سنن الله إعطاء المعجزات للدجال وأمثاله ، ولو أن من سنن الله تسخير المعجزات لإضلال الناس وإغوائهم .
الفهم اللغوي المباشر هنا يصادم ويناقض حقائق الشرع ، فالقرآن الكريم صرح في آيات عديدة بأن سنن الله في الأمم السابقة لن تتبدل ولن تتغير . ومن أبرز سنن الله في الأمم السابقة ( الذين خلوا من قبل ) سنة تأييد الرسل والأنبياء والصالحين بالمعجزات وحجبها عن الكافرين ، وسنة جعل المعجزات أدوات للإرشاد إلى الخالق والدلالة عليه وترسيخ الإيمان به والانتصار للمؤمنين وليس جعلها أدوات لإضلال الناس وغوايتهم وصدهم عن الخالق ونصرة الكافرين .يقول تعالى ( سُنَّةَ مَنْ قَـدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ) ([5]) ويقـول تعالى ( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ) ([6]) ويقول تعالى ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ) ([7]) ويقول تعالى (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ) ([8]) .
هل أعطيت المعجزات لنوح أم لقومه ؟ لإبراهيم أم لقومه ؟ لهود وصالح أم لقومهما ؟ لفرعون وهامان وجنودهما أم لموسى ؟ لسليمان وداود أم للكافرين من قومهما ؟ لعيسى وأمه أم للكافرين بهما من اليهود ؟ لمحمد أم لأبي جهل وأبي لهب ؟.
ماذا كانت وظيفة المعجزات طوال التاريخ ؟. هل هي تقديم الدلائل على الخالق أم تحديه والحلول محله ؟!.
حين يظهر رجل ويدعي الألوهية فيعطيه الله معجزات عالمية عديدة وكبيرة ليستخدمها في إضـلال الناس وصدهم عن الخالـق فهذا قلب لسنن الله رأساً على عقب . فما الداعي لهذا الانقلاب ؟!. فقط لأننا نفسر نبوءة المسيح الدجـال تفسيراً قاموسياً ، بينما لو غيرنا طريقة التفسير لاختلف الموضـوع تماماً ولانسجم فهمنا مـع حقائق الشرع الراسخة حول المعجزات ووظيفتها .
هل نحتج على المعجزات ووظيفتها بآيات القرآن الكريم وقصص الرسل والأنبياء والصالحين أم بقصة الدجـال ؟. هل المرجع في فهم المعجزات ووظيفتها هم الرسل والأنبياء والصالحون أم الدجال ؟!. هل وصل أمر الفتنة إلى حد حدوث هذا الخلط في فهم بعض الحقائق الثابتة في القرآن الكريم عن المعجزات ووظيفتها ؟!.
لا معجزات لدى المسيح الدجال بحسب الفهم التأويلي ، فالأمر مجرد تشبيه للمكتشفات والمخترعات بالمعجزات . هذه المخترعات والمكتشفات من حيث غرابتها وقوة تأثيرها وفعلها تشبه المعجزات ، أما من الناحية الموضوعية فهي نقيض المعجزات ، إذ أنه لا خرق فيها للسنن كما هو الحال في المعجزات ، بل فيها تقيد شديد بالسنن وبراعة شديدة في اكتشافها واستخدامها . وفتنة الدجال تحدث من هذا الالتباس واختلاط الأمور وسوء الفهم .
دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس سيتغير . وهذا أمر ليس مستحيلاً ، ولكنه إن تغير على النحو الفجائي والتفصيلي الذي يدل عليه التفسير اللغوي المباشر فستحدث كارثة بشرية هائلة في أول يوم .
يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وباقي الأيام كأيامنا !!. فما الذي سيحل بالحياة والأحياء على وجه الأرض لو استمر أحد الأيام لمدة سنة ؟!. ماذا تقول حقائق العلم لو استمر أحد الأيام لمدة سنة كاملة ؟!.
ماذا سيحدث لنصف الكرة الأرضية الذي سيستمر فيه النهار عاماً كاملاً ، وماذا سيحدث لنصف الكرة الذي سيستمر فيه الليل عاماً كاملاً ؟!. ماذا لو استمرت شمس الصيف اللاهبة في الجزيرة العربية لمدة أسبوع واحد ، خصوصاً وأن التفسير اللغوي المباشر للنبوءة يفترض اندثار التطورات بما فيها أجهزة التكييف والتبريد ؟!.
ماذا سيحل بالنباتات والمياه والحيوانات والناس تحت الشمس دون كهرباء أو وسائل نقل واتصال حديثة لمدة عـام ؟. وماذا سيحل بهم في الظلام دون كهرباء أو وسائل نقل واتصال لمدة عـام ؟!. هـل هذه مؤشرات فتنة قوامها الشبهات والشهوات والإغراء والإغـواء ، أم مؤشرات كارثة كونية لن تبقي ولن تـذر ؟!. والمفارقة أنه رغم هذا التحول الكوني الهائل فإن الناس لن يعرفوا الدجـال ولن يكتشفوه ، وسيرفضون التصديق بوجـوده حين يقال لهم إنه موجود !!.
مكتوب بين عيني الدجال " كافـر " يقرؤها كل مؤمن سواء كان متعلماً أو أمياً !!. هنا معلومة لا تصح منطقياً ، فالأمي هو بالتعريف من لا يقرأ ، مثلما أن الأعمى لا يرى والأصم لا يسمع . فهل ستنقلب حتى قواعد وبدهيات المنطق ؟!.
الأمر كما نفهمه بموجب التأويل ليس أمر قراءة ، فالأمي لا يقرأ ، بل المقصود هو تأكيد وضوح وظهور وافتضاح كفر الدجال لكل الناس ، سواء كانوا متعلمين أو أميين . ثم كيف تكون هذه الكتابة بين العينين ؟. كم تبلغ المساحة بين العينين لكي تستوعب الكتابـة ؟. وبأية لغة ستكون الكتابة ؟. بلغة واحـدة أم بكل لغات الأرض ؟!. وإذا كان الخطاب موجهاً للمؤمنين ، فكم عدد اللغات التي يتحدثون بها في عصرنا ؟!. هل سيظهر الدجال في زمن يتوحد فيه المسلمون في إطـار لغة واحدة وهم الذين لم ينجحوا في ذلك قبل الفتنة ؟!. وحتى لو توحدوا فإن السؤال المنطقي لازال مطروحاً ، وهو : كيف يقرأ الأمي ؟!.
مع الدجال ماء ونار أو جنتين أو واديين أو نهرين أو كمثال الجنة والنار . لماذا هذا التعدد في الوصف ؟. هل هي ماء ونار ، أم جنتين أم واديين أم نهرين أم أنهما كمثال الجنة والنار ؟!. ألا يدل التعدد في الوصف على أن في الأمر تشبيه ؟. وكلمة " كمثال " الجنة والنار ، ألا تدل مباشرة على التشبيه ؟!. ورغم ذلك فسواء تعلق الأمر بجنتين أو واديين أو نهرين فهو في النهاية يدور أيضاً حول المعجزات . وهذه بموجب قواعد الشرع وسيرة كل الأنبياء والرسل والصالحين لا تعطى لأهل الكفر ولا تسخر لإضلال الناس وإغوائهم . وإن لم يكن في الأمر معجزات فكيف سيصل الدجال بهذين النهرين أو الواديين إلى جميع الناس ويفتنهم بهما ؟. هل سيحملهما معه ؟. وكيف يحمل النهر أو الوادي ؟!. هل سيحمل النهرين أو الواديين ويدخل بهما من بلد إلى بلد ويتخطى الحدود وسلطات الدول وحواجز البحار والمحيطات ويدور بالنهرين أو الواديين على كل مدينة وقرية ليصل إلى مليارات البشر ويفتنهم خلال أربعين يوماً ؟!.
بدون المعجزات لن يحمل الدجال نهراً ولا وادياً . وإذا كان لن يحملهما ويطوف بهما فإن البديل هو أن يأتي الناس إليه ليدخلوا أحد النهرين أو الواديين . فأين سيكون مقر هذين الواديين أو النهرين ؟!. الأحاديث لا تثبت مقراً للدجال . إنها تشير إلى أماكن خروجه فقط ، أما بعد خروجه فإنه سيكون طوافاً يطأ كل مكان في الأرض ويطوي الأرض كطي الفروة ، وهذا يعيدنا من جديد إلى حكاية انتقال النهرين أو الواديين معه في طوافه بالأرض . أي يعيدنا إلى قضية المعجزات !!.
هـذا الرجل الأعور الأفحج المتنافر الملامح سيكون فاتناً للنساء بصورة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً ، إلى حد أن الرجـل سيعمد إلى زوجته وأخته وعمته وابنته فيوثقهن مخافة خروجهن للدجـال !!.
هذا شيء غير منطقي وغير سائغ وغير مفهوم على الإطلاق . إذ كيف يمكن أن تفتتن النساء إلى هذا الحد برجل أعور متناقض الملامح ؟!. ثم هب أن النساء غشاهن الغباء وانقلبت مقاييسهن وانعدم ذوقهن ودفعهن الهيام بهذا الرجل الأعور إلى عدم إقامة أي وزن للدين والأخلاق ، فما الذي يمكن أن تشكله هذه الفتنة التي ستدوم أربعين يوماً ( أو عاماً وشهرين ) في مقابل الفتنة الهائلة التي أحدثها الغرب الحديث على صعيد قضية المرأة خلال ما يقرب من قرنين من الزمان ؟!.
ما الذي سيغريهن به الدجال ؟!. هل سيغريهن بالمساواة والاستقلال عن الرجال وإثبات وجودهن ونيل حقوقهن السياسية والاقتصادية والتعليمية والصحية ، أم سيغريهن بالزنا والانحلال وعروض ومسابقات الأجساد والبث الحي للرذيلة على مدار الساعة وزواج الرجال بالرجال والنساء بالنساء ؟!.
سواء كان هذا أو ذاك فيا لتواضع وضآلة فتنته ، فالغرب وصل بهذه الفتن إلى حدود تفوق أي خيال . ومن ثم فقد كان من الأولى الإشارة إلى فتنة التجربة الغربية على النساء وليس فتنة رجل أعور أفحج لن يستطيع أن يفعل نقطة في بحر ما فعلته تلك التجربة !!.
النبي صلى الله عليه وسلم بشر المسلمين بأنهم سيغزون الدجال ويفتحونه !!. ونحن إذ نفسر الغزو والفتح هنا بأنه غزو وفتح ثقافي ومعرفي فإننا نسأل : ترى كيف يمكن لأهل الفهم اللغوي المباشر أن يفسروا تبشير المسلمين بأنهم سيغزون رجلاً ويفتحونه ؟!. لن يكون أمامهم سوى اللجوء إلى المجاز أو التأويل الذي يرفضونه !!.
لننظر إلى السياق الوصفي للخبر . تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله ( الوضع الجاهلي العربي ) ثم تغزون فارس فيفتحها الله ( الإمبراطورية الفارسية ) ثم تغزون الروم فيفتحها الله ( الإمبراطورية الرومانية ) ثم ..... هنا سينتقل السياق من غزو وفتـح المناطق والإمبراطوريات إلى غزو وفتح رجل !! ثم تغزون الدجال فيفتحه الله !!.
لننظر إلى السياق التاريخي للخبر . الوضع الثقافي والاجتماعي الذي واجهه المسلمون في البداية هو الوضع الجاهلي العربي ، وقد بشرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم سيقضون على هذا الوضع . ثم واجه المسلمون الإمبراطورية الفارسية ، وبشرهم بأنهم سيفتحونها . ثم واجهوا الإمبراطورية الرومانية ، وبشرهم بأنهم سيفتحونها . بعد ذلك لم يواجه المسلمون سوى الدول والإمبراطوريات الغربية الحديثة ، وقد كانت أشد فتنة ووطأة على المسلمين من كل الإمبراطوريات التي سبقتها ، وتم احتلال معظم بلدانهم واستتباعهم ثقافياً واقتصادياً وعلمياً وأدبياً . ولكن هذا الوضع لم يستحق أية إشارة ، فالحديث بموجب الفهم اللغوي المباشر سيتجاهل الدول والإمبراطوريات الغربية الحديثة وسيقفز إلى تبشير المسلمين بغزو رجل وفتحه !!.
الفارق الأساسي والحاسم بين الله وبين الدجال هو أن الدجال أعور والله ليس بأعور !!. هذا وصف تكرر في أحاديث كثيرة ، وتم التشديد عليه حتى أصبح رمزاً للمسيح الدجـال بحيث أصبح يسمى في الكثير من الأحاديث " الأعور " الدجال . أي أن العينين لن تكونا وسيلة للتمييز بين أحد الرجال وغيره ، بل ستكونان أهم وسائل التمييز بين أحد الرجال وبين الله !!. وكما ورد في الأحاديث فقد قـال الرسول صلى الله عليه وسلم " فإن ألبس عليكم فاعلموا أن الدجال أعور وأن ربكم ليس بأعور " . أي إذا اختلط الأمر على المسلمين ولم يستطيعوا التمييز بين الدجال وبين الله فلينظروا إلى العينين ، فالدجال أعور والله ليس بأعور . وإن فعلوا ذلك فسيزول الخلط !!.
هل يعقل هذا ؟!. هل يمكن أن يكون هذا حديثاً عن عينين بشريتين ؟!. هل العينان هما وسيلة المقارنة بين الله وبين أحد البشر أو بين الطريق إلى الله والطريق إلى فتنة أحد البشر ؟!. وهل وسيلة معرفة الله هي التنبه إلى أنه ليس بأعور ؟!.
معظم البشر سليمي الأعين ، والكثير من البشر فقدوا إحدى عينيهم ، فلماذا القفز بهذه الصفة البشرية العادية والواسعة الانتشار إلى حد جعلها وسيلة حاسمة للتمييز بين الله وبين أحد البشر ؟. هل يمكن لأي إنسان أن يرى الله ويقوم بالتمييز بين عينيه ( تعالى الله عن ذلك ) وبين رجل أعور مكتوب بين عينيه " كافر " ؟!.
حاشا لله أن يصح الفهم اللغوي المباشر الذي يقود إلى هذه المقارنة التي لا تصح ديناً ولا عقلاً ولا منطقاً . الأمر ليس أمر عينين بشريتين للدجال ، وإلا لما ورد هذا الوصف وهذه المقارنات . الأمر يتعلق بشيء يشبه العينين ولله به علاقة ( الوحي ) . أي بمصادر الرؤية والمعرفة والعلم . ومصادر المعرفة بالنسبة لتجارب النهوض هي كالعيون بالنسبة للإنسان . والواقع أنه لم يوجد تجربة نهضوية طوال التاريخ البشري قدست العقل ورفضت الوحي كالتجربة الغربية . هذه أصبحت سمة كبرى من سمات تلك التجربة وفارقاً أساسياً بينها وبين غيرها من التجارب .
لقد عرضنا الأدلة القرآنية والنبوية التي تؤكد وجود التصوير الرمزي والتشبيهي في النبوءات المتعلقة بالفتن على وجه الخصوص ، وعرضنا الأدلة التي تقتضي الانتقال من المعنى اللغوي المباشر الذي تدل عليه النصوص الواردة بشأن فتنة المسيح الدجال إلى المعنى المجازي ، وبقي أن نتحدث عن كيفية الاستدلال على صحة ودقة التأويل الذي أشرنا إليه ( الغرب الحديث أو التجربة النهضوية الغربية ) .
بإمكان الكثيرين اقتطاع بعض الملامح والصفات التي تمكنهم من الزعم بأن المسيح الدجال هو أمريكا أو روسيا أو الهند أو الصين . ويمكن للبعض استخدام التأويل لتفكيك المضمون الغيبي وإلغائه وهدمه بدل استخدامه في تحسين فهم الصورة الغيبية وتجسيد مضامينها . ومثال ذلك ما طرحه البعض من أن فتنة المسيح الدجال هي كناية عن الشر والضلال أو أن المهدي هو كناية عن الخير والهداية . هذا تأويل يهدف إلى تفكيك المضمون وإلغائه . وهناك فارق جوهري بين تأويل الصورة وبين إلغاء المضمون . يوجد دجال حقيقي ويوجد مهدي حقيقي ، والكلام هو عن الصورة التفصيلية ، هل يوجد فيها تقريب وتشبيه بدرجات متفاوتة أم لا ؟.
إن الضابط الأساسي لصحة ودقة أي تأويل هو انطباق كل ملامح وتفاصيل النبوءة على الصورة الواقعية التي يدعي صاحب التأويل أنها هي المقصودة . أي أنه لا بد عند تأويل نبوءة المسيح الدجال من وجـود مقابل أو تجسيد واقعي يعكس التسمية والملامح والقـدرات بكل جوانبها والفتنة العامة وفتنة النساء وأماكن الخروج والعلاقة ببني تميم والعلاقة بسـورة الكهف ، وغير ذلك من التفاصيل .
في مسألة التسمية ( المسيح الدجال ) لا بد أن يكون للصورة الواقعية علاقة ملتبسة بالمسيحية أو بالمسيح عليه السلام . في مسألة العينين لا بد أن يوجد في الصورة الواقعية تجسيد نموذجي صارخ ينسجم مع تأكيد الأحاديث على أهمية هذا الملمح وكونه يمثل الفارق الجوهري بين الله وبين الدجال أو بين الطريق إلى الله والطريق إلى الضلال . في مسألة بقية الملامح ، وبما أننا انتهينا إلى المعنى المجازي ، فلا بد للصورة الواقعية أن تكون ملفتة وجامعة بين المتناقضات على نحو ينقل المعنى اللغوي المباشر إلى معنى تأويلي ملموس . في مسألة القدرات لا بد أن يوجد في الصورة الواقعية تجسيد نموذجي وهائل للقدرات بما يمنع انطباقها على غير تلك الصورة . في مسألة الفتنة لا بد من إثبات أنه لا يمكن أن تشهد الأرض فتنة توازي الفتنة التي أحدثتها الصورة الواقعية . لا بد أن تكون الصورة الواقعية مجسدة لأماكن الخروج والعلاقة ببني تميم والعلاقة بسورة الكهف ، وغير ذلك .
لننظر إلى القدرات ، فالبعض قد يرى بأنه لا يوجد ما يمنع من ظهور تجربة نهضوية جديدة في المستقبل تجسد قدرات تفوق ما قدمته التجربة الغربية . والواقع أنه لا يوجد ما يحول دون حدوث هذه الفرضية ، ولكن إذا ربطنا الأمر بمفهوم ومعنى الفتنة فإنه لن يشهد التاريخ البشري قدرات مترابطة مع معنى الفتنة كالتي جسدتها التجربة الغربية ، نظراً لأن فتنة القدرات ترتبط بمرحلة بداياتها وظهورها البطيء ومقدار مصادمتها للوعي السائد والقناعات السائدة .
من هذه الزاوية لن توجد تجربة نهضوية توازي التجربة الغربية ، ففتنة قدراتها ارتبطت بالبدايات المتفرقة والبطيئة والتدريجية التي شكلت بداية التحـول من شكل الحياة القديم إلى شكل الحياة الحديث . لا يوجد شيء يمكن أن يفتن الناس مثل ظهور أفكار تصادم قناعاتهم الراسخة ومعلوماتهم المستقرة ومسلماتهم ومعتقداتهم دون أن يكون لديهم القدرة على تحجيمها أو مواجهتها أو تقديم البديل عنها . والتجربة النهضوية الغربية كانت نموذجية على هذا الصعيد ، ومهما ظهر من تجارب مادية جديدة فإنها لا يمكن أن تقدم ما هو أكثر من استثمار وتطوير الأسس والاختراقات التي أحدثتها التجربة الغربية .
لننظر على سبيل المثال إلى معلومة مثل كروية الأرض ودورانها حول نفسها وحول الشمس . هذه المعلومة أصبحت عادية ولا تكاد تثير أحداً ويدرسها أطفالنا كإحدى المسلمات التي لا غرابة فيها . أما في بداية ظهورها وخلال رحلة إثباتها والتدليل عليها واستثمارها فقد كانت معلومة مدوية هزت الثقافة السائدة وأثارت الكثير من الهواجس والتساؤلات والشبهات والنظريات والفلسفات المصادمة للدين . حين تم اختراع أول محرك ثم أول قاطرة وأول سيارة وأول هاتف وأول تلغراف وأول طائرة امتلأ الناس بالدهشة وراجعوا ثقافاتهم السائدة وتشككوا فيها وطرحوا ألف سؤال وسؤال وألف شبهة وشبهة بشأنها . حين حط أول إنسان على سطح القمر كانت لحظة مدوية في تاريخ الأرض .
المشكلة هي أن رحلة التطور الغربي كانت تتم في إطار الصدام مع الدين كما عرفته أوروبا في القرون الوسطى ، باعتباره هو التحدي الحقيقي الذي واجه الحركة العلمية وحاول وأدها . وبالتالي فقد وظفت الكشوف والمخترعات في مواجهة الدين وفي إطار الرغبة في إيجاد البديل عنه . وهذه أوضـاع لا يمكن أن تتكرر مرة أخرى . لقد ظهرت المكتشفات والمخترعات بشكل بطيء ومتدرج ، واتسمت بشدة مصادمتها للأوضاع والثقافات السائدة وبظهورها في جو الصراع والصدام المحتدم مع الدين . وهذه أوضاع وظروف لا يمكن أن تحدث مرة أخرى بذات الدرجة . وهانحن نشاهد في العقود الأخيرة كيف أن المخترعات والمكتشفات أصبحت متسارعة إلى حدود مذهلة ، ورغم ذلك فإنها لم تعد تحدث لدى الناس عشر معشار الفتنة والتساؤلات التي كان يحدثها أي اكتشاف أو اختراع خلال فترة ظهور وشيوع منتجات التجربة الغربية الحديثة .
أجدادنا قرأوا على الهاتف حين شاهدوه أول مرة ، وكان أبناء المدن والقرى يتقاطرون خلف السيارة والطائرة ويتحاشدون لرؤية التلفاز أو سماع المذياع أو مشاهدة الصور وكأنهم يدخلون أحد العوالم السحرية .
هـذا الوضع انتهى ، وأطفالنا وبعض عجائزنا أصبحوا يستهلكون أحدث الأجهزة التقنية دون التساؤل إلا عن كيفية الاستخدام ومزايا تلك الأجهزة وخدمات الصيانة وما بعد البيع .
المركبات المأهولة وغير المأهولة تطوف الفضاء وتصل إلى المريخ وإلى حدود المجموعة الشمسية ، والأقمار الصناعية تحيط بالأرض وتنقل الصور والأحاديث لألوف القنوات التلفازية والإذاعية وملايين الخطوط الهاتفية ، والناس لم يعد يشغلهم سوى كيفية الاستهلاك وماهية الخدمات الجديدة .
فتنة المكتشفات والمخترعات حدثت خلال مرحلة التحول نحو الحياة الحديثة ، وكل النظريات والأفكار الإلحادية الكبرى ارتبطت بتلك المرحلة وكانت مسكونة بالصدام مع الدين ومبنية على أجزاء أولية من الحقائق العلمية التي سرعان ما تبعتها أجزاء وشواهد ودلائل نقضت أو عدلت أسس تلك النظريات والأفكار . وهانحن نشاهد كيف أن وتيرة المكتشفات والمخترعات تتسارع بصورة هائلة إلى حد أن ما أصبح يظهر منها خلال عقد أو عقدين يفوق ما كان يظهر خلال قرون , ورغم ذلك فإن ما واكب هذه الوتيرة المتسارعة هو عودة الإحياء الديني وتراجع النظرة والأفكار الإلحادية حتى في البيئات الغربية ذاتها .
لم تعد أداة الصدام مع الدين هي المكتشفات والمخترعات ، بل أصبح الصدام يدور حول نمط الحياة والسلوك ( النظام السياسي ، النظام القانوني ، النظام الأخلاقي ، أوضاع المرأة ، أوضاع الأقليات ...... ) . وبالتالي فمرحلة توظيف المخترعات والمكتشفات في خدمة الإلحاد قد ولت وانقضت وفقدت معظم دوافعها وقابليتها للتبني أو الشيوع الواسع . أما الأفكار المتعلقة بنمط الحياة والسلوك فالأديان لم تعد تملك سوى التعايش مع الفكرة العلمانية ، عدا الدين الإسلامي الذي يحمل مضموناً دنيوياً . وأتباع هذا الدين قد واجهوا الفتنة مع التجربة الغربية ولن يكون أمام أية تجربة جديدة سوى استهلاك وإعادة إنتاج مقولات التجربة الغربية ، وهو وضع لا يمكن أن يثير فتنة تستحق الذكر .
وهكذا فإن فتنة التجربة النهضوية الغربية على صعيد المكتشفات والمخترعات والشبهات والشهوات لا يمكن أن تتكرر بذات الدرجة ، فهي وليدة فترة التحول نحو الحياة الحديثة ووليدة الملابسات والظروف التي ارتبطت بتلك الفترة . وإذا صح ذلك فإنه يبقى أن تنطبق كل نصوص نبوءة المسيح الدجال دون استثناء على الصورة الواقعية للتجربة النهضوية الغربية .
فلنبدأ بتحديد أهم ملامح الغرب الحديث وأبرز ما يميز تجربته النهضوية عن غيرها من التجارب ، ثم لنحاول إدخال تلك الملامح والجوانب الفريدة إلى عالم التشبيه ، وذلك من خلال خلعها على كائن بشري . وهانحن نحاول فعل ذلك ، علماً أن كل ملامح الغرب الحديث وجوانب تجربته النهضوية التي سيتم تحديدها مستقاة من الصـورة التشبيهية التي وردت في الأحاديث النبوية .
الغرب الحديث ينتسب بالإسم دون المضمون إلى رسالة المسيح عليه السلام .
التجربة النهضوية التي شهدها الغرب الحديث تعترف بمصدر وحيد للمعرفة وهو المصدر المادي وترفض الوحي وما وراء المادة . وهذا هو وجه الاختلاف الجوهري بينهـا وبين كل التجارب البشرية السابقة التي عرفت ثنائية مصادر المعرفة ( المصدر المادي والوحي ) ( المصدر المادي والسحر ) ( المصدر المادي والعرافة أو الكهانة أو الخرافة أو الأسطورة ) .
هي تجربة ملفتة ومثيرة وتجمع بين كل المتناقضات .
تطرح بديلاً عن الله أو الخالق وهو الطبيعة .
كان لهذه التجربة إرهاصات ومخاضات ومحاولات واختراقات علمية ومعرفية قديمة ، إلا أن انطلاقتها الفاصلة والعملاقة والنهائية حدثت من خلال الثورة الفرنسية .
خروجها على الدين واضح وجلي وظاهر لكل مؤمن سواء كان متعلماً أو أمياً .
مواقف الناس تجاهها تتسم في عمومها إما بالإفراط أو التفريط ، فهناك انجراف شبه كامل وتبعية شبه تامة وغلو في التبني والتمكين لها من قبل قسم من الناس ، وهناك نفور شديد ورفض كبير وحساسية مفرطة تجاهها من قبل قسم آخر من الناس .
في هذه التجربة كل ما هو جذاب ومبهر وأخاذ إلى حدود تكاد تفوق الخيال ، وفيها ما هو سيء ومنفر ومقزز إلى حدود بعيدة . ومن هنا قوة فتنتها والتباسها على الناس .
فتنت النساء وأغرتهم وغيرت أوضاعهم على نحو لم يشهد له التاريخ مثيلاً .
هي تجربة التخصص بكل امتياز . فكل التجارب قبلها كانت تجارب موسوعية شاملة تختلط فيها التخصصات العلمية بالتخصصات الأدبية ويجمع العلماء فيها بين ما ينسب إلى العلوم العلمية وما ينسب إلى العلوم الأدبية . أما في التجربة الغربية فحدث لأول مرة تمييز واضح بين العلوم والآداب وتم تعميم هذا التمييز في مختلف أنحاء العالم . أصبحنا في التعليم الثانوي نميز ونفصل بين القسم العلمي أو الأقسام العلمية وبين القسم الأدبي أو الأقسام الأدبية . في الجامعات نميز بين التخصصات العلمية والتخصصات الأدبية . في الإبداعات نميز بين الإنتاج العلمي والإنتاج الأدبي . كل إنتاجات وإبداعات التجربة الغربية التي وصلت إلى جميع الناس وأبهرتهم أو صدتهم تصب في هذين المسارين الكبيرين ، وهما مسار العلوم ومسار الآداب .
الشيء الصعب والمجهد والجاف في هذه التجربة هو ما يندرج في إطار مسار العلوم ، أما الشيء السهل والمريح والمغري فهو ما يندرج في إطار مسار الآداب .
الأماكن التي شهدت أكثر وجوه وملامح التجربة الغربية فتنة هي أوروبا علمياً وثقافياً وفلسطين عسكرياً واستعمارياً وأمريكا سياسياً واقتصادياً وإعلامياً وفنياً ، وأبرز ما في هذا الوجه هو النفوذ اليهودي الهائل .
هي تجربة فريدة للغاية على مستوى المخترعات والمكتشفات التي غيرت وجه الحياة على الأرض ومكنت الإنسان من استخراج ما في باطن الأرض وتسخير واستثمار طاقات الكون .
مكنت البشر لأول مرة ( عن طريق التصوير ) من رؤية وسماع الأموات .
من أبرز المشاهد الفاتنة التي يمكن أن يشاهدها المرء رؤية الطائرة وهي تطير . والأكثر فتنة رؤيتها وهي تطير من البحر . ولكن ليس من على الماء ، بل من فوق حاملة طائرات عملاقة !!
طورت وسائل المواصلات بصورة هائلة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً حتى أصبح بإمكان الإنسان أن يطوف الأرض خلال جزء من اليوم .
طورت وسائل الاتصالات إلى حد أدى إلى تسريع وتيرة الزمن بصورة مدهشة ، حتى أصبح بإمكان الإنسان أن يتحدث مباشرة مع من يسكن في أطراف الأرض ومشاهدة ما يحدث في أية بقعة من بقاع الدنيا في ذات لحظة الحدث وشراء احتياجاته من أية بقعة في العالم دون أن يغادر منـزله والوصول إلى أمواله والتصرف فيها أينما كان والدخول على مكتبات العالم وصحفه وكتبه من المنـزل . كل هذا أدى إلى التسريع التدريجي لوتيرة الزمن حتى أصبح ما يحدث في عقد يعادل ما كان يحدث في قرون .
وصل أبناء هذه التجربة إلى كل بقعة مأهولة في العالم إما استعماراً واستيطاناً أو زيارة وسياحة وعملاً عدا مكة والمدينة .
قبول وسائل وأدوات ومخترعات هذه التجربة يسمح بتحسن أوضاع وأحوال وقدرات الأفراد والمجتمعات ، ورفضها يؤدي إلى تردي أوضاعهم وأحوالهم وقدراتهم .
الدول الأكثر تمثيلاً لهذه التجربة تملك الكثير من الثروات والوسائل والأدوات للتأثير على بقية الدول ، بما في ذلك استخدام المؤسسات الدولية ( هيئة الأمم المتحدة ، البنك الدولي ، صندوق النقد الدولي ، منظمة التجارة العالمية ) للثواب والعقاب ، للمساعدات والمنح والقروض وللمقاطعة والحصار وشن الحروب .
أوسع وأطول رفض للأفكار والتغييرات التي أحدثتها هذه التجربة حدث في قلب الجزيرة العربية وفي إطار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب .
وإذا كانت الصورة التي قدمناها هي فعلاً صورة الغرب الحديث وأهم ملامح التجربة النهضوية التي شهدها والتي لا زالت تدهش وتصدم بعض المعايشين لها ، فماذا إن أردنا تقديم هذه الصورة لأهل العصر الماضي وحرصنا على أن تكون الصورة المقدمة مفهومة وقابلة للاستيعاب ومانعة من كشف الصورة المجسدة للغيب ؟!
فقط لنأخذ الصورة الواقعية التي تملأ الدنيا وتشغل الناس منذ ما يقرب من ثلاثة قرون ، ولندخلها إلى عالم التشبيه . لنتصور من باب التشبيه أنها رجل ، ولنخلع عليه ملامحها وأفعالها وقدراتها . لنأخذ صورة الغرب الحديث وإبداعاته وكشوفه ومخترعاته وأفعال ممثليه ولنضع أمام كل ذلك كلمة واحدة هي كلمة " كأن " ثم لننسب الصورة إلى رجل .
لنُدخِل أحادية الرؤية إلى عالم التشبيه . لنُدخِل الشكل المثير والملفت والجامـع بين المتناقضات إلى عالم التشبيه . لنُدخِل الثورة الفرنسية إلى عـالم التشبيه ولننظر إلى مقابلها في عالم الأفراد . لنُدخِل فكرة الطبيعة والتبعية العمياء والنفور الشديد ومسألة وضوح وجلاء خروج الغرب الحديث عن الدين واجتماع ما هو جذاب ومبهر وما هو سيء ومنفر والسجالات والصراعات بشأن أوضاع النساء ومسار العلوم ومسار الآداب إلى عالم التشبيه . لنُدخِل الوجـه العلمي الذي تمثله أوروبا ودور يهود أمريكا والوجـه الاستعماري الذي تعكسه فلسطين إلى عالم التشبيه . لنُدخِل التطورات في عالم الاتصالات والمواصلات وعلاقة العالم بالغرب والمكتشفات والمخترعات والتصوير والطائرة أو حاملة الطائرات وصدامات المنتسبين إلى مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب مع منتجات التجربة الغربية إلى عالم التشبيه . وبعد أن نقوم بذلك على المستوى الذهني يمكننا أن نجد كامل الصورة التشبيهية في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن فتنة المسيح الدجال . وهاهي معطيات الأحاديث مرتبة على النحو الذي حددنا من خلالـه صورة الغرب الحديث وملامح تجربته النهضوية .
الانتساب الزائف إلى المسيح عليه السلام ( هو المسيح الدجال ) .
أحادية الرؤية . ومصادر المعرفة بالنسبة للتجارب النهضوية هي كالعيون بالنسبة للإنسان ( أعور يخلط الناس بينه وبين الله . وقد حظيت العينان بوصف متكرر ومفصل ، وأشارت الأحاديث إلى أن الوسيلة الحاسمة للخروج من الخلط الذي سيحدث هي التنبه إلى أن المسيح الدجال أعور وأن الله ليس بأعور ) والمقصود هنا هو التمييز بين الطريق المؤدي إلى فتنة المسيح الدجال والطريق المؤدي إلى الإيمان بالله .
الشكل الملفت والمثير والجامع بين المتناقضات ( رجل شاب جسيم أحمر خالص البياض قصير منحـن متباعد الرجلين جعـد الرأس أجلى الجبهة عريض النحر عينه اليمنى ممسوحة وطافئة وعينه اليسرى كأنها كوكب دري ورأسه كأنه رأس حية عظيمة ) . وقد وردت هذه التفاصيل في رؤى منامية رآها الرسول صلى الله عليه وسلم بحسب ما تضمنته معظم الروايات .
فكرة الطبيعة ( يبدأ فيقول أنا ربكم ، وبعض المفتونين يعاملونه معاملة الإلـه ) . وعلى مستوى العطاء العلمي لا يوجد في التجربة الغربية سوى فكرة الطبيعة ، أما الإيمان بالخالق من قبل بعض العلماء فهو لا يكاد يتجاوز دائرة القناعات الشخصية .
الانطلاقة من خلال الثورة الفرنسية (يخرج من غضبة يغضبها ) ([9]).
وضوح وجلاء الخروج عن الدين حتى للمؤمنين الأميين ( مكتوب بين عيني الدجال كافر يقرؤها كل مؤمن من كاتب وغير كاتب ) .
انقسام الناس بين التبعية شبه التامة ( الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه لكثرة ما يثيره من الشبهات ) والنفور الشديد ( ليفرن الناس من الدجال في الجبال ) .
تداخـل ما هو مبهر وجذاب مع ما هو سيء ومنفر ، واستمرار ذلك على مدى ما يقرب من ثلاثة قرون وباستخدام إمكانات مجموعة من الأمم والشعوب . وهذا أمر لا يمكن لفتنة فرد أن تبلغ عشر معشاره ( أكبر فتنة منذ خلق آدم إلى قيـام الساعة ) .
تغيير أوضاع النساء وطغيان ما هو سلبي ( شدة فتنته على النساء ، حتى أن الرجل يعمد إلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقهن مخافة أن يخرجن إلى الدجال ) .
مسار العلوم ومسار الآداب ( معه ماء ونار أو نهران أو واديان يفتن بهما الناس ) .
الإنتاجات الأدبية سهلة ومريحة ومغرية ( إحداهما جنته ) والإنتاجات العلمية مجهدة ومكلفة وجافة ( والأخرى ناره ) .
لا مشكلة في العلوم بل في الآداب ( الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي المسلمين بدخول نار الدجال وتجنب جنته ) .
الوجه العلمي والثقافي الذي عكسته أوروبا ( يخرج من خراسان ) ([10]). والوجه العلمي والثقافي لخراسان في التجربة النهضوية الإسلامية هو أكثر الوجوه شبهاً بالوجه العلمي والثقافي الذي عكسته أوروبا ، فقد كانت خراسان تتشكل من أجزاء من إيران وأفغانستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان وكان بها عدد من أشهر المدن الثقافية الإسلامية مثل مرو وبلخ ونيسابور وبخارى وسمرقند ومنها خرجت أكبر مجموعة من العلماء والمحدثين والمفكرين والأدباء على امتـداد التاريخ الإسلامي .
نفوذ يهود أمريكا الممتدة عن أوروبا ( يتبعه سبعون ألفاً من يهود أصفهان ) . وقد كان ليهود أصفهان الممتدة عن خراسان نفوذ كبير منذ وجودهم بها بعد تحررهم من الأسر البابلي .
تأسيس ودعم وحماية الوجـود العسكري والاستعماري في فلسطين ( يكون لـه خروج من خلة - فتحة أو منفذ - بين العراق والشام فيعيث يميناً وشمالاً ، ألا يا عباد الله فاثبتوا ) . والصورة الجغرافية المثلثة لفلسطين والفاصلة بين قارتين هي أشبه بالفتحة أو المنفذ ، ولكن ليس بين العراق والشام ، بل عند أقرب نقطة إلى المكان التشبيهي والتقريبي الذي تم تحديده . أما الطابع العسكري والاستعماري لذلك الخروج فتعكسه الإشارة إلى العيث يميناً وشمالاً والتوجيه بالثبات .
المكتشفات والمخترعات التي ساعدت على استثمار موارد الأرض وطاقات الكون ( يأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت ، ويمر بالأراضي الخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كمجموعات النحل ) . والتشابه بين المكتشفات والمخترعات وبين المعجزات نابع من الغرابة وقوة التأثير والمصداقية التي توفرها لمن يقدمها ، أما الفـارق بينهما فيتمثل في أن المعجزات هي خروج على السنن وخرق لطبائع الأشياء ، بينما لا يوجد في المكتشفات والمخترعات خروج على السنن أو خرق للطبائع ، بل يوجد فيها تقيد شديد بالسنن وبراعة في اكتشاف الطبائع وتسخيرها .
التصوير الذي يسمح برؤية وسماع الأموات ( يحيي الآباء والأمهات )
الطائرة وما بين جناحيها من مسافة أو حاملة الطائرات وفوقها الطائرة ( من فتنته أنه يركب حماراً بين أذنيه أربعين ذراعاً ) وهذا التصوير يصدق على كل من الطائرة وحاملة الطائرات .
التطور الهائل في وسائل المواصلات والاتصالات وتأثيرها على قضايا الزمان والمكان ( سرعته كالغيث استدبرته الريح ، ويطوي الأرض كطي الفروة ، ويمكث في الأرض أربعين يوماً ، وهذه الأيام كالسنة ثم كالشهر ثم كالجمعة ثم كاليوم ثم كالشرر لسرعتها ) .
نزول الغربيين في كل بقعة مأهولة عدا مكة والمدينة ( يطأ كل البقـاع عدا مكة وطرقات المدينة ) .
أثر قبول المكتشفات والمخترعات أو رفضها ورضا الدول الغربية أو غضبها ، سواء من خلال العلاقات الثنائية أو من خلال المؤسسات الدولية ( معه أنهار ماء وجبال خبز ، ويمر بأهل الحي فيكذبونه فتسوء أحوالهم وأحوال أراضيهم وماشيتهم ويمر بأهل الحي فيصدقونه فتتحسن أحوالهم وأحوال أراضيهم وماشيتهم ) .
المفهوم الموسع للبدعة في إطار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، والذي امتد إلى الأشياء الدنيوية وأوجد رفضاً تلقائياً للكثير من معطيات التجربة الغربية ، حتى وإن كانت تلك المعطيات مطلوبة وإنسانية وغير مخالفة للدين ( بنو تميم هم أشد الناس على الدجال ) ([12]). وهذه الإشارة تدل على أن أحاديث قرن الشيطان لا تنصرف إلى مجمل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وتراث مدرسته ، بل تنصرف فقط إلى مجموعات التكفير والعنف التي تظهر بين وقت وآخر .
اجتنـاب الأخطاء الكبرى التي يحملها العطـاء الفلسفي الغربي ( الرسول أوصى بقراءة آيـات من أوائل سـورة الكهف ، وفي بعض الروايـات : من أواخرها ، لاجتنـاب فتنـة المسيح الدجال ) . وسيتم التعريف بالآيـات المقصودة أثناء تناولنا لموضوع العلوم الدينية .
ونتوقف عن تأويل الأحداث التي لم تقـع بعد ، نظراً لصعوبة تحديد طبيعة التشبيه والتقريب ودرجتهما مالم تتحقق تلك الأحداث على أرض الواقـع . ورغم ذلك فإنه يهمنا أن نشير إلى ما ورد في بعض الأحاديث من أن عيسى عليه السلام سوف يقتل المسيح الدجال بباب لد في فلسطين ، فنحن نرجح أن ذلك يعـد من قبيل التصوير التشبيهي لما ستؤدي إليه عـودة عيسى عليه السلام من تجاوز الثقافة الغربية في آخر معقل من معاقلها . وفي تقديرنا فإنه يوجد أحاديث أخرى تؤكد هذا المعنى ، مثل إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأن المسلمين سيغزون الدجال فيفتحه الله ، وإخباره بأن الإسلام سيعود إلى الانتشار في كل أنحاء الأرض ([13]).
إن في التجربة الغربية خير عظيم وواسع وهائل ، وهو ما تعكسه وتجسده المنجزات العلمية والتقنية والنماذج السياسية المعبرة عن الفكر الليبرالي ، وفي تلك التجربة مكامن خلل وقصور كبرى تنبع من النظرة الإلحادية للكون والإنسان والحياة ، والتي تكاد تنعكس على كل شيء . والفتنة تكمن في أن الجانبين مندمجان ومتلازمان .
في العطاء العلمي الغربي لا يوجد سوى فكرة الطبيعة إلا على مستوى القناعات الشخصية للعلماء ، وفي السياسة والاقتصاد والاجتماع يوجد إما الإلحاد وإما فصل الدين عن الحياة . ومن ثم فإن الجهد المطلوب للخروج من الفتنة هو التمييز بين ما هو حضاري إنساني في محيط التجربة الغربية وبين ما هـو ثقافي غربي . وقد قلنا من قبل وسنكرر القول في مواضع عديدة بأن تطور العلم البشري كان أمراً مقدراً وضرورياً ، ولو لم يحدث على أيدي الغربيين لحدث على أيدي غيرهم ، فالمسار الذي اتخذته الأحداث والعوامل القدرية منذ اكتمال نزول الوحي وختم الرسالات يدفع بهذا الاتجاه ويعززه ويقود إليه . وكما ذكرنا فـإن الأحاديث الواردة بشأن فتنة المسيح الدجال توجه المؤمنين بدخول نار المسيح الدجال ( العلوم ) وتجنب جنته ( الآداب ) ، كما أن بعض الآيات التي تضمنتها سورة الكهف والتي سيتم عرضها لاحقاً تبين المنهج الرشيد الذي ينبغي اتباعه لتجنب مكامن الخلل الكبرى التي يمكن أن تكتنف أي طرح فلسفي .
بقي أن نشير إلى أن الأحاديث التي وصفت وصوَّرت قدرات المسيح الدجال نسبت استخدام تلك القدرات إليه بطريقة استثنائية ، في حين أن استخدامها هو أمر متاح لكل الناس ومتحقق من قبل معظمهم ، وبعض الدول الشرق آسيوية تقدم على الصعيد التقني منذ عقود إبداعات ومنجزات تفوق ما تقدمه معظم الدول الغربية . فلماذا حدث التصوير الاستثنائي لقدرات المسيح الدجال وكأنها متعلقة به ومستخدمة من قبله دون سائر البشر ؟!
نعتقد أن ذلك كان من لوازم التصوير التقريبي لنبوءة المسيح الدجال ، إذ لو تم إخبار الصحابة وعموم الناس الذين عاشوا قبل ظهور معطيات العصر الحديث بأن القدرات المشار إليها في النبوءة ستكون متاحة لكل البشر وأن هذه هي الحالة العامة التي سيكون عليها شكل الحياة في المستقبل لصادم ذلك مداركهم ولما أمكن قبوله . ونحن نعلم أن بعض من دخلوا الإسلام في عصر النبوة قد ارتـدوا بسبب حادثة الإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس في جزء من ليلة . وبالتالي فإن التصوير الاستثنائي لقدرات المسيح الدجال وصرف القدرات والاستخدام إليه دون سائر البشر كان أدعى لقبول ما تنبئ عنه الأحاديث والسماح بالنظر إلى تلك القدرات كمسألة استثنائية يمكن أن تدخلها الاحتمالات وتتعدد التفسيرات بشأنها وتنعدم دواعي جعلها مسألة محورية يُبنى عليها قبول أو رفض الوحي .
لقد قمنا بتأويل كل من فتنة قرن الشيطان وفتنة المسيح الدجال ، ليس فقط لارتباطهما بعصرنا أو لأهمية وإلحاح الخروج من هاتين الفتنتين ، بل أيضاً لأنهما تجسدان وتترجمان كل القواعد والأسس التي تسمح بإعادة فهم قضايا الغيب .
لم يكن بإمكان أي بشر تأويل فتنة قرن الشيطان أو فتنة المسيح الدجال قبل وقوعهما ، وهذا يؤكد مدلول اختصاص الله بعلم الغيب وسر النفي المتكرر لقدرة أي مخلوق على الإحاطة بأي أمر غيبي .
لا شك أن النبوءتين تتسمان بعمق وكثافة درجة التصوير المجازي لأحداثهما ، وذلك نظراً لتعلقهما بالفتن . ومن ثم فإن التصوير المجازي يقل وتنخفض درجته في النبوءات التي لا تدور حول الفتن مثل ظهور المهدي المنتظر وعودة عيسى عليه السلام . هنا لا يمتد التصوير المجازي والتشبيهي إلى الشخصيات بل يقف عند شكل الحياة المتغير والسياق الزماني والمكاني وبعض الملامح ، وذلك بالقدر الذي يحفظ الطابع الغيبي للأحداث والأوضاع المستقبلية .
لقد سبق أن أشرنا إلى أن القرآن الكريم يضم بعض النصوص الجامعة التي تسمح بإعادة فهم القضايا ذات الطابـع الإشكالي . وفي تقديرنا فإنه يوجد نص قرآني جامـع يؤكد ما طرحناه حول التصوير الجزئي أو العام أو التقريبي للأحداث والأوضاع والصور الغيبية الدنيوية . وقبل عرض ذلك النص نود التذكير بما سبق إيضاحه من أن نصوص القرآن الكريم تصرح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب الدنيوي . ولننظر في ضوء ذلك إلى قوله تعالى (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ] نفي العلم هنا ينصرف إلى قرب الوعد وبُعده ، لا إلى الوعد ذاته ، وبمعنى آخر فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم عمر هذه الدنيا ، قصير هـو أم طويل [عَـالِمُ الْغَيْبِ ] غيب الدنيا ، إذ أن الجملة جملة بيانية [ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا . إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَـدًا ] أي أن الله يحيط ذلك الغيب بالحوافظ أو الحرس ) ([14]). فما معنى إحاطة الله للغيب الدنيوي بالحوافظ أو الحرس ؟.
إن أقرب المعاني المعقولـة هي أن ذلك الغيب محـاط بالأسيجة أو الأدوات أو الوسائل اللغويـة ( الجزئية ، التجريد ، الرموز ، الأمثلة ، التشبيهات ) التي تحول دون العلم به قبل تحققه ، وبذلك يظل الغيب الدنيوي - حالة كونه غيباً - بمنأى عن علم البشر جميعاً ([15]).
هذا عن النبوءات التي تحملها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم . أما بالنسبة للنبوءات التي تحملها الآيات القرآنية فإنه يغلب عليها التأكيد على الحقائق المجـردة للغيب الدنيوي . ومثال ذلك عودة عيسى عليه السلام التي ذكرت في عـدة آيات وهي :
قولـه تعالى ( وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ([16])
وقولـه تعالى ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ....... )
ونحن نعلم أن عيسى عليه السلام قد رفع وهو في سن الرجولـة ، وبالتالي فإنه لفظ " كهلاً " يشير إلى عودته . وهذا هو ما يجعل كلامه في مرحلة الكهولة معجزة تضاف إلى معجزة الكلام في المهد .... [ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ].
وقولـه تعالى عن عيسى عليه السـلام ( وَإِنَّـهُ لَعِلْمٌ لِلسَّـاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُـونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) ([18]) أي أن عيسى عليه السلام من علامات الساعة ، وفي ذلك إشارة إلى عودته .
وقولـه تعالى ( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُـولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَـاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا . بَلْ رَفَعَـهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيـزًا حَكِيمًا . وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَـوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ) ([19]). وإيمان أهـل الكتاب به قبل موته لا يكون إلا بعد عودته .
انتهى ,,,,
كل هذا الكلام يا أخواني الكرام منقول من كتاب (تجديد فهم الوحي) للكاتب سعيد الكثيري أو زائر الوسطية والأسمين هما لنفس الشخص والكتاب رائع بما تعنيه الكلمة
وهذا رابط الكتاب
تأويـل نبــوءة المسيح الدجــال(2)
الفهم اللغوي المباشر للنبوءة لا يفيد في تفسير طبيعة الفتنة التي لن تشهد الأرض لها مثيلاً ، فحين يأتي رجل أعور محدد الملامح بشكل تفصيلي وتحدث في عهده تحولات كونية ويكون مكتوبـاً بين عينيه كافر يقرؤها حتى الأمي ، ثم يطلع الناس على صورته التفصيلية وأخباره الحية معروضة في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهل يكون هذا مدعاة للغواية والشبهات وخفاء الدجال ، أم مدعاة لليقين والتصديق بصدق الرسالة وعلامة حاسمة من علامات النبوة ؟!. الأمر ليس فيه إكراه ، بل فيه شبهات وشهوات وقدرات . وبالتالي فحين يأتي رجل ويطرح ما شاء من الشبهات والشهـوات والقدرات ثم يجد المرء وصفاً تفصيلياً لكامل المشهد بمجرد بدء حدوثه ، فهل سيكون هذا مدعاة للشك والحيرة والخلط بين هذا الرجل وبين الله ، أم معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم تستبق أفعال الدجال وتخبر بها وتمكن المرء من معرفتها حتى قبل أن تحدث ؟!.
إذا رأى المرء رجلاً أعور محدد الملامح على النحو التفصيلي الوارد في الأحاديث وشاهده يركب حماراً بين أذنيه أربعين ذراعاً ، فهل سيفتتن المرء بهذا الرجل وبحماره أم سيصدق بمن خلق هذا الرجل وهذا الحمار ووضع هذا المشهد بين أيدي الناس قبل حدوثه ؟!.
لا شك أن هناك من يتبعون أي ناعق ويقعون في حبائل أهل الشعوذات والسحر والخرافات ، ولكن أن يصبح هذا الوضع الذي يصلح للبسطاء والمجموعات المنقطعة في إحدى بقاع الأرض وضعاً عالمياً يفتن المسلمين كما لم يفتنوا من قبل فهو وضع يفتقر إلى الكثير من المنطق ويصادم الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها .
بالمثل سيأتي الدجال بجنتين أو نهرين أو واديين أو مـاء ونار . وطالما أنه ليس في الأمر إكراه وإجبار ، فما الذي سيدعو الناس إلى العزوف عن كل الحدائق والأنهار والأودية في بلاد الله والتحاشد على حديقتي الدجال أو وادييه أو نهريه ، بينما أبسطهم تعليماً يستطيع أن يقرأ هذه الصورة في الأحاديث وينذر عباد الله حتى لمجرد تنبيههم إلى أن هذا هو المسيح الدجال !!. أي أن الأمر سيدعوهم على الأقل إلى اكتشاف أمر الدجال . إلى معرفة الدجال !!.
ذات الملاحظة يمكن أن تقال بشأن كل التفاصيل الواردة في النبوءة . ثم ماذا يمكن أن تمثل فتنة فرد خلال أربعين يوماً في مقابل الفتنة التي أحدثتها التجربة الغربية على مدى ثلاثة أو أربعة قرون وباستخدام إمكانات مجموعة من الأمم والشعوب ؟!.
إن الفهم اللغوي المباشر لنبوءة المسيح الدجال يقتضي أن يكون ما سيقدمه هذا الرجل أكثر فتنة مما قدمته التجربة الغربية من العجائب والشبهات والشهوات . أليس هذا هو مقتضى كون فتنة المسيح الدجال هي أكبر فتنة تحدث في الأرض ؟!.
الفهم اللغوي المباشر لنبوءة المسيح الدجال يقتضي اندثار بعض أهم التطورات التي شهدتها الحياة البشرية ، كوسائل النقل والاتصال وأدوات الحروب ، بحيث يعود الناس إلى الخيول والحمير والسيوف والرماح . وهذا شيء غير مستحيل عقلاً ومقبول شرعاً ، ولكن الجانب الذي لا يتنبه إليه الكثيرون هو أن اندثار التطورات الأساسية الحديثة سيقود إلى كارثة كبرى تحل بالبشر . ذلك أن الحياة في العصر الحديث لأكثر من ستة مليارات من البشر ليست ممكنة على الإطلاق لولا التطورات الأساسية الحديثة مثل وسائل النقل والاتصال والكهرباء .
نستطيع أن نكتب مطولات حول هذا الأمر ونستدل بحقائق العلم والعقل ، ولكننا سنكتفي بعرض مثال مختصر يلخص الفكرة .
لنبتعد عن القـارات والدول والمدن الكبرى ولنتحدث عن مدينة متوسطة الحجم كمدينة الرياض التي يعيش فيها حالياً نحو خمسة ملايين إنسان . إذ ما الذي يمكن توقع حدوثه لو أن وسائل النقل الحديثة اختفت واندثرت وعدنا إلى استخدام الجمال والحمير والخيول ؟.
ببساطة ، ستتعطل الحياة وستصبح جحيماً لا يطاق خلال بضعة أيام . فإذا كان مقر عمل الإنسان يقع في أقصى شمال الرياض وهو يسكن في أقصى جنوبه فسيحتاج إلى نصف يوم للوصول إلى العمل على حماره أو جمله وسيحتاج إلى النصف الآخر للعودة . أي أن يومه بكامله سينقضي في الذهاب والمجيء دون أن يتمكن من أداء العمل . عمال البلدية الذين يجمعون المخلفات والبقايا من شوارع الرياض يومياً سيحتاجون إلى أسبوع أو شهر لجمع المخلفات والبقايا من حي واحد ونقلها على حميرهم وجمالهم إلى خارج النطاق العمراني لإتلافها . الطلاب والطالبات في المدارس والجامعات سينقضي وقتهم في الذهاب والمجيء . ثم أين هي الحمير والجمال التي ستكفي لتنقلات خمسة ملايين إنسان يعيشون في الرياض ؟!.
سيحتاج الأمـر على الأقل إلى مليون جمل وحمـار ، وهذه الجمال والحمير ستملأ مخلفاتها الشوارع والأحياء وسيتطلب الأمر التخلص من هذه المخلفات يومياً !!. ستحتاج هذه الجمال والحمير إلى أعلاف تكفي لسد حاجتها يومياً ، وسيؤتى بالأعلاف من المناطق الزراعية خارج الرياض وسيتم نقلها على جمال وحمير أيضاً .... وهكذا .
ماذا إن تحدثنا عن الكهرباء وما سيحل بالمستشفيات والمستودعات وأجهزة التبريد والتكييف والحاسبات والمطابع وكل الأجهزة التي تعتمد على الكهرباء ؟!. ماذا إن تحدثنا عن المياه التي تصل إلى الرياض على مدار الساعة من الساحل الشرقي بعد تحليتها من البحر ؟!. ماذا إن تحدثنا عن الهاتف والفاكس والإنترنت وكل أدوات الاتصال الحديثة ؟!. ماذا إن تحدثنا عن المواد الغذائية والطبية التي تؤمن حاجة خمسة ملايين إنسان وتصلهم يومياً عبر السفن والطائرات والقطارات والشاحنات ؟!. ماذا سيحل بأعمال الأجهزة الحكومية والشركات والمؤسسات ؟!
مشكلة الفهم اللغوي المباشر للنبوءات أنه يجعل المسلم غير مكترث بالتطورات الأساسية الحديثة وغير مدرك لأهميتها وضرورتها لبقاء واستمرار الحياة ذاتها . وهانحن تحدثنا عن الرياض فقط ، فكيف لو تحدثنا عن الجزيرة العربية ثم العالم العربي ثم آسيا ثم العالم ؟!. كيف ستستمر حياة أكثر من ستة مليارات من البشر ؟!.
المؤكد أن كارثة غذائية وصحية وبيئية وإدارية وتعليمية ستحل بالعالم خلال أيام معدودة لو اندثرت التطورات الأساسية الحديثة مثل وسائل النقل والاتصال والكهرباء .
فلنفترض أن الكارثة قد حلت لا قدر الله ، وذهب معظم البشر ولم يبق سوى عدد محدود تكفي أساليب الحياة القديمة لبقائه على قيد الحياة ، ثم ظهر حينئذ الدجـال وأيضاً لم يعرفه الناس ولم يكتشفوه . حينها أيهما أعظم فتنة : ذلك الظهور للدجال بعد الكارثة وبين عدد محدود من البشر في ظل وسائل الحياة القديمة ، أم الحياة الموَّارة المليئة بالعجائب التي كانت موجودة قبل حدوث الكارثة وقبل اندثار التطورات الأساسية الحديثة ؟!.
ألا تستحق التطورات التي غيرت وجه العالم تحت راية الإلحاد أو فصل الدين عن الحياة على مدى ثلاثة أو أربعة قرون أية إشارة في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ؟!. وألا تستحق الكارثة التي ستحل بالبشر إذا ما اندثرت التطورات الأساسية الحديثة أي إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم ؟!. هل ستكون أعجب العجائب وأعظم الفتن هي ظهور ذلك الرجـل الأعور خلال أربعـين يوماً بعد اندثار التطورات وحدوث الكارثة ؟!. ثم ألا يمكن تصور الدين إلا في ظل شكل الحياة البسيطة الذي كان سائداً قبل قرون ؟. ألا يصلح الدين للحياة الحديثة ؟!.
إذا كان عيسى عليه السلام سيعود في ظل شكل الحياة القديم ( حياة الجمال والحمير والسيوف كما يدل عليه الفهم اللغوي المباشر للنبوءات ) وسيظهر المهدي قبله في ظل شكل الحياة القديم أيضاً ، وإذا كان لن يقوم للمسلمين قائمة قبل ذلك الظهور ، فهذا يعني أن كل التطورات الحديثة ظهرت وانتشرت وستندثر في وقت يكون فيه المسلمون في أسوأ أحوالهم وأوضاعهم . هذا يعني أن أصحاب الفهم اللغوي المباشر للنبوءات يؤكدون من جديد بأن الدين لا يناسب التطورات الحديثة ولن تقوم للمسلمين قائمة في ظل هذه التطورات ، وهذه والله قناعة غير صحيحة ومضرة بالدين وحجة بيد المجابهين له والمدعين بأنه لا يناسب العصر ولا يصلح له .
وفضلاً عما سبق فإن الاستدلالات العقلية والمنطقية البسيطة تثبت أن الحياة لن تعود إلى شكلها الذي كان سائداً قبل ظهور التجربة الغربية إلا إذا كان ذلك لفترة بسيطة يتم فيها التعافي من آثار كارثة قد تحل بالأرض ، وسرعان ما يعاود الناس بعدها الانتقال نحو الحياة الحديثة . ذلك أن التطورات العلمية والتقنية انتقلت إلى حيز المعرفة الإنسانية بمجرد اكتشافها وأصبح ممكناً إعادة إنتاجها طالما أن المعرفة قد وجدت واستقرت . وهانحن شاهدنا كيف استطاعت ألمانيا التي دمرت في أواخر الحرب العالمية الثانية أن تعود وتسبق كل جيرانها الأوروبيين .
لقد تمكنت من العودة بفضل الإنجازات العلمية والتقنية التي أصبحت معلومة ودخلت ضمن حيز المعرفة البشرية ، وبالتالي فمتى ما وجدت المهارة والاستعداد والتوجه نحو البناء فالمعطيات العلمية والمعرفية موجودة .
وهكذا فإنه لا صحة للاعتقاد بأن التطورات الأساسية الحديثة ستندثر وتعود الحياة إلى سابق عهدها إلا إذا كان ذلك لفترة مؤقتة ريثما تتم استعادة القدرة على البناء وإعادة إنتاج المخترعات التي انتقلت معطياتها إلى حيز المعرفة البشرية ولم تعد من الأسرار .
لننتقل إلى أهم ما في نبوءة المسيح الدجال ، وهي القدرات . فهذا الرجل الأعور سيحيي الموتى ويأمر السماء فتمطر ويأمر الأرض فتنبت ويمر بالخرائب فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها . سيأتي بجنة ونار ، ولكن الناس سيرون الجنة ناراً والنار جنة . سيمر بأهل الحي فيستجيبون له فتتحسن أحوالهم وأحوال مواشيهم ويمر بأهل الحي فيصدونه فتسوء أحوالهم . ستكون سرعته كالريح وسيطوي الأرض كطي الفروة وسيكون معه حماراً عجيباً بين أذنيه أربعين ذراعاً . وطالما أن سرعة الدجـال ستكون كالريح فيبدو أنه سيستخدم هذا الحمار للانتقال ، وهذا يعني أن سرعة الحمار ستكون كالريح . ولولا أنه لا يوجد في الأرض غير هذا الحمار لما ذكر في النبوءة . أي أن في الأمر معجزة جديدة أو كرامة جديدة بتغيير سنن خلق أحد الحمير دون غيره ليفتن به الدجال الناس ويضلهم عن سبيل الله !!.
هذه المعجزات أعظم من كل المعجزات المادية التي أتى بها الأنبياء والرسل ، فمعجزات الدجال عامـة وعالمية ومتعددة . فماذا سيفعل بهذه المعجزات ؟!.
سيستخدمها في إضـلال الناس وإغوائهم !!. والواقع أنه كان يمكن أن نفهم ونقبل الفهم اللغوي المباشر لهذه القدرات لو أن من سنن الله إعطاء المعجزات للدجال وأمثاله ، ولو أن من سنن الله تسخير المعجزات لإضلال الناس وإغوائهم .
الفهم اللغوي المباشر هنا يصادم ويناقض حقائق الشرع ، فالقرآن الكريم صرح في آيات عديدة بأن سنن الله في الأمم السابقة لن تتبدل ولن تتغير . ومن أبرز سنن الله في الأمم السابقة ( الذين خلوا من قبل ) سنة تأييد الرسل والأنبياء والصالحين بالمعجزات وحجبها عن الكافرين ، وسنة جعل المعجزات أدوات للإرشاد إلى الخالق والدلالة عليه وترسيخ الإيمان به والانتصار للمؤمنين وليس جعلها أدوات لإضلال الناس وغوايتهم وصدهم عن الخالق ونصرة الكافرين .يقول تعالى ( سُنَّةَ مَنْ قَـدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ) ([5]) ويقـول تعالى ( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ) ([6]) ويقول تعالى ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ) ([7]) ويقول تعالى (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ) ([8]) .
هل أعطيت المعجزات لنوح أم لقومه ؟ لإبراهيم أم لقومه ؟ لهود وصالح أم لقومهما ؟ لفرعون وهامان وجنودهما أم لموسى ؟ لسليمان وداود أم للكافرين من قومهما ؟ لعيسى وأمه أم للكافرين بهما من اليهود ؟ لمحمد أم لأبي جهل وأبي لهب ؟.
ماذا كانت وظيفة المعجزات طوال التاريخ ؟. هل هي تقديم الدلائل على الخالق أم تحديه والحلول محله ؟!.
حين يظهر رجل ويدعي الألوهية فيعطيه الله معجزات عالمية عديدة وكبيرة ليستخدمها في إضـلال الناس وصدهم عن الخالـق فهذا قلب لسنن الله رأساً على عقب . فما الداعي لهذا الانقلاب ؟!. فقط لأننا نفسر نبوءة المسيح الدجـال تفسيراً قاموسياً ، بينما لو غيرنا طريقة التفسير لاختلف الموضـوع تماماً ولانسجم فهمنا مـع حقائق الشرع الراسخة حول المعجزات ووظيفتها .
هل نحتج على المعجزات ووظيفتها بآيات القرآن الكريم وقصص الرسل والأنبياء والصالحين أم بقصة الدجـال ؟. هل المرجع في فهم المعجزات ووظيفتها هم الرسل والأنبياء والصالحون أم الدجال ؟!. هل وصل أمر الفتنة إلى حد حدوث هذا الخلط في فهم بعض الحقائق الثابتة في القرآن الكريم عن المعجزات ووظيفتها ؟!.
لا معجزات لدى المسيح الدجال بحسب الفهم التأويلي ، فالأمر مجرد تشبيه للمكتشفات والمخترعات بالمعجزات . هذه المخترعات والمكتشفات من حيث غرابتها وقوة تأثيرها وفعلها تشبه المعجزات ، أما من الناحية الموضوعية فهي نقيض المعجزات ، إذ أنه لا خرق فيها للسنن كما هو الحال في المعجزات ، بل فيها تقيد شديد بالسنن وبراعة شديدة في اكتشافها واستخدامها . وفتنة الدجال تحدث من هذا الالتباس واختلاط الأمور وسوء الفهم .
دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس سيتغير . وهذا أمر ليس مستحيلاً ، ولكنه إن تغير على النحو الفجائي والتفصيلي الذي يدل عليه التفسير اللغوي المباشر فستحدث كارثة بشرية هائلة في أول يوم .
يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وباقي الأيام كأيامنا !!. فما الذي سيحل بالحياة والأحياء على وجه الأرض لو استمر أحد الأيام لمدة سنة ؟!. ماذا تقول حقائق العلم لو استمر أحد الأيام لمدة سنة كاملة ؟!.
ماذا سيحدث لنصف الكرة الأرضية الذي سيستمر فيه النهار عاماً كاملاً ، وماذا سيحدث لنصف الكرة الذي سيستمر فيه الليل عاماً كاملاً ؟!. ماذا لو استمرت شمس الصيف اللاهبة في الجزيرة العربية لمدة أسبوع واحد ، خصوصاً وأن التفسير اللغوي المباشر للنبوءة يفترض اندثار التطورات بما فيها أجهزة التكييف والتبريد ؟!.
ماذا سيحل بالنباتات والمياه والحيوانات والناس تحت الشمس دون كهرباء أو وسائل نقل واتصال حديثة لمدة عـام ؟. وماذا سيحل بهم في الظلام دون كهرباء أو وسائل نقل واتصال لمدة عـام ؟!. هـل هذه مؤشرات فتنة قوامها الشبهات والشهوات والإغراء والإغـواء ، أم مؤشرات كارثة كونية لن تبقي ولن تـذر ؟!. والمفارقة أنه رغم هذا التحول الكوني الهائل فإن الناس لن يعرفوا الدجـال ولن يكتشفوه ، وسيرفضون التصديق بوجـوده حين يقال لهم إنه موجود !!.
مكتوب بين عيني الدجال " كافـر " يقرؤها كل مؤمن سواء كان متعلماً أو أمياً !!. هنا معلومة لا تصح منطقياً ، فالأمي هو بالتعريف من لا يقرأ ، مثلما أن الأعمى لا يرى والأصم لا يسمع . فهل ستنقلب حتى قواعد وبدهيات المنطق ؟!.
الأمر كما نفهمه بموجب التأويل ليس أمر قراءة ، فالأمي لا يقرأ ، بل المقصود هو تأكيد وضوح وظهور وافتضاح كفر الدجال لكل الناس ، سواء كانوا متعلمين أو أميين . ثم كيف تكون هذه الكتابة بين العينين ؟. كم تبلغ المساحة بين العينين لكي تستوعب الكتابـة ؟. وبأية لغة ستكون الكتابة ؟. بلغة واحـدة أم بكل لغات الأرض ؟!. وإذا كان الخطاب موجهاً للمؤمنين ، فكم عدد اللغات التي يتحدثون بها في عصرنا ؟!. هل سيظهر الدجال في زمن يتوحد فيه المسلمون في إطـار لغة واحدة وهم الذين لم ينجحوا في ذلك قبل الفتنة ؟!. وحتى لو توحدوا فإن السؤال المنطقي لازال مطروحاً ، وهو : كيف يقرأ الأمي ؟!.
مع الدجال ماء ونار أو جنتين أو واديين أو نهرين أو كمثال الجنة والنار . لماذا هذا التعدد في الوصف ؟. هل هي ماء ونار ، أم جنتين أم واديين أم نهرين أم أنهما كمثال الجنة والنار ؟!. ألا يدل التعدد في الوصف على أن في الأمر تشبيه ؟. وكلمة " كمثال " الجنة والنار ، ألا تدل مباشرة على التشبيه ؟!. ورغم ذلك فسواء تعلق الأمر بجنتين أو واديين أو نهرين فهو في النهاية يدور أيضاً حول المعجزات . وهذه بموجب قواعد الشرع وسيرة كل الأنبياء والرسل والصالحين لا تعطى لأهل الكفر ولا تسخر لإضلال الناس وإغوائهم . وإن لم يكن في الأمر معجزات فكيف سيصل الدجال بهذين النهرين أو الواديين إلى جميع الناس ويفتنهم بهما ؟. هل سيحملهما معه ؟. وكيف يحمل النهر أو الوادي ؟!. هل سيحمل النهرين أو الواديين ويدخل بهما من بلد إلى بلد ويتخطى الحدود وسلطات الدول وحواجز البحار والمحيطات ويدور بالنهرين أو الواديين على كل مدينة وقرية ليصل إلى مليارات البشر ويفتنهم خلال أربعين يوماً ؟!.
بدون المعجزات لن يحمل الدجال نهراً ولا وادياً . وإذا كان لن يحملهما ويطوف بهما فإن البديل هو أن يأتي الناس إليه ليدخلوا أحد النهرين أو الواديين . فأين سيكون مقر هذين الواديين أو النهرين ؟!. الأحاديث لا تثبت مقراً للدجال . إنها تشير إلى أماكن خروجه فقط ، أما بعد خروجه فإنه سيكون طوافاً يطأ كل مكان في الأرض ويطوي الأرض كطي الفروة ، وهذا يعيدنا من جديد إلى حكاية انتقال النهرين أو الواديين معه في طوافه بالأرض . أي يعيدنا إلى قضية المعجزات !!.
هـذا الرجل الأعور الأفحج المتنافر الملامح سيكون فاتناً للنساء بصورة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً ، إلى حد أن الرجـل سيعمد إلى زوجته وأخته وعمته وابنته فيوثقهن مخافة خروجهن للدجـال !!.
هذا شيء غير منطقي وغير سائغ وغير مفهوم على الإطلاق . إذ كيف يمكن أن تفتتن النساء إلى هذا الحد برجل أعور متناقض الملامح ؟!. ثم هب أن النساء غشاهن الغباء وانقلبت مقاييسهن وانعدم ذوقهن ودفعهن الهيام بهذا الرجل الأعور إلى عدم إقامة أي وزن للدين والأخلاق ، فما الذي يمكن أن تشكله هذه الفتنة التي ستدوم أربعين يوماً ( أو عاماً وشهرين ) في مقابل الفتنة الهائلة التي أحدثها الغرب الحديث على صعيد قضية المرأة خلال ما يقرب من قرنين من الزمان ؟!.
ما الذي سيغريهن به الدجال ؟!. هل سيغريهن بالمساواة والاستقلال عن الرجال وإثبات وجودهن ونيل حقوقهن السياسية والاقتصادية والتعليمية والصحية ، أم سيغريهن بالزنا والانحلال وعروض ومسابقات الأجساد والبث الحي للرذيلة على مدار الساعة وزواج الرجال بالرجال والنساء بالنساء ؟!.
سواء كان هذا أو ذاك فيا لتواضع وضآلة فتنته ، فالغرب وصل بهذه الفتن إلى حدود تفوق أي خيال . ومن ثم فقد كان من الأولى الإشارة إلى فتنة التجربة الغربية على النساء وليس فتنة رجل أعور أفحج لن يستطيع أن يفعل نقطة في بحر ما فعلته تلك التجربة !!.
النبي صلى الله عليه وسلم بشر المسلمين بأنهم سيغزون الدجال ويفتحونه !!. ونحن إذ نفسر الغزو والفتح هنا بأنه غزو وفتح ثقافي ومعرفي فإننا نسأل : ترى كيف يمكن لأهل الفهم اللغوي المباشر أن يفسروا تبشير المسلمين بأنهم سيغزون رجلاً ويفتحونه ؟!. لن يكون أمامهم سوى اللجوء إلى المجاز أو التأويل الذي يرفضونه !!.
لننظر إلى السياق الوصفي للخبر . تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله ( الوضع الجاهلي العربي ) ثم تغزون فارس فيفتحها الله ( الإمبراطورية الفارسية ) ثم تغزون الروم فيفتحها الله ( الإمبراطورية الرومانية ) ثم ..... هنا سينتقل السياق من غزو وفتـح المناطق والإمبراطوريات إلى غزو وفتح رجل !! ثم تغزون الدجال فيفتحه الله !!.
لننظر إلى السياق التاريخي للخبر . الوضع الثقافي والاجتماعي الذي واجهه المسلمون في البداية هو الوضع الجاهلي العربي ، وقد بشرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم سيقضون على هذا الوضع . ثم واجه المسلمون الإمبراطورية الفارسية ، وبشرهم بأنهم سيفتحونها . ثم واجهوا الإمبراطورية الرومانية ، وبشرهم بأنهم سيفتحونها . بعد ذلك لم يواجه المسلمون سوى الدول والإمبراطوريات الغربية الحديثة ، وقد كانت أشد فتنة ووطأة على المسلمين من كل الإمبراطوريات التي سبقتها ، وتم احتلال معظم بلدانهم واستتباعهم ثقافياً واقتصادياً وعلمياً وأدبياً . ولكن هذا الوضع لم يستحق أية إشارة ، فالحديث بموجب الفهم اللغوي المباشر سيتجاهل الدول والإمبراطوريات الغربية الحديثة وسيقفز إلى تبشير المسلمين بغزو رجل وفتحه !!.
الفارق الأساسي والحاسم بين الله وبين الدجال هو أن الدجال أعور والله ليس بأعور !!. هذا وصف تكرر في أحاديث كثيرة ، وتم التشديد عليه حتى أصبح رمزاً للمسيح الدجـال بحيث أصبح يسمى في الكثير من الأحاديث " الأعور " الدجال . أي أن العينين لن تكونا وسيلة للتمييز بين أحد الرجال وغيره ، بل ستكونان أهم وسائل التمييز بين أحد الرجال وبين الله !!. وكما ورد في الأحاديث فقد قـال الرسول صلى الله عليه وسلم " فإن ألبس عليكم فاعلموا أن الدجال أعور وأن ربكم ليس بأعور " . أي إذا اختلط الأمر على المسلمين ولم يستطيعوا التمييز بين الدجال وبين الله فلينظروا إلى العينين ، فالدجال أعور والله ليس بأعور . وإن فعلوا ذلك فسيزول الخلط !!.
هل يعقل هذا ؟!. هل يمكن أن يكون هذا حديثاً عن عينين بشريتين ؟!. هل العينان هما وسيلة المقارنة بين الله وبين أحد البشر أو بين الطريق إلى الله والطريق إلى فتنة أحد البشر ؟!. وهل وسيلة معرفة الله هي التنبه إلى أنه ليس بأعور ؟!.
معظم البشر سليمي الأعين ، والكثير من البشر فقدوا إحدى عينيهم ، فلماذا القفز بهذه الصفة البشرية العادية والواسعة الانتشار إلى حد جعلها وسيلة حاسمة للتمييز بين الله وبين أحد البشر ؟. هل يمكن لأي إنسان أن يرى الله ويقوم بالتمييز بين عينيه ( تعالى الله عن ذلك ) وبين رجل أعور مكتوب بين عينيه " كافر " ؟!.
حاشا لله أن يصح الفهم اللغوي المباشر الذي يقود إلى هذه المقارنة التي لا تصح ديناً ولا عقلاً ولا منطقاً . الأمر ليس أمر عينين بشريتين للدجال ، وإلا لما ورد هذا الوصف وهذه المقارنات . الأمر يتعلق بشيء يشبه العينين ولله به علاقة ( الوحي ) . أي بمصادر الرؤية والمعرفة والعلم . ومصادر المعرفة بالنسبة لتجارب النهوض هي كالعيون بالنسبة للإنسان . والواقع أنه لم يوجد تجربة نهضوية طوال التاريخ البشري قدست العقل ورفضت الوحي كالتجربة الغربية . هذه أصبحت سمة كبرى من سمات تلك التجربة وفارقاً أساسياً بينها وبين غيرها من التجارب .
لقد عرضنا الأدلة القرآنية والنبوية التي تؤكد وجود التصوير الرمزي والتشبيهي في النبوءات المتعلقة بالفتن على وجه الخصوص ، وعرضنا الأدلة التي تقتضي الانتقال من المعنى اللغوي المباشر الذي تدل عليه النصوص الواردة بشأن فتنة المسيح الدجال إلى المعنى المجازي ، وبقي أن نتحدث عن كيفية الاستدلال على صحة ودقة التأويل الذي أشرنا إليه ( الغرب الحديث أو التجربة النهضوية الغربية ) .
بإمكان الكثيرين اقتطاع بعض الملامح والصفات التي تمكنهم من الزعم بأن المسيح الدجال هو أمريكا أو روسيا أو الهند أو الصين . ويمكن للبعض استخدام التأويل لتفكيك المضمون الغيبي وإلغائه وهدمه بدل استخدامه في تحسين فهم الصورة الغيبية وتجسيد مضامينها . ومثال ذلك ما طرحه البعض من أن فتنة المسيح الدجال هي كناية عن الشر والضلال أو أن المهدي هو كناية عن الخير والهداية . هذا تأويل يهدف إلى تفكيك المضمون وإلغائه . وهناك فارق جوهري بين تأويل الصورة وبين إلغاء المضمون . يوجد دجال حقيقي ويوجد مهدي حقيقي ، والكلام هو عن الصورة التفصيلية ، هل يوجد فيها تقريب وتشبيه بدرجات متفاوتة أم لا ؟.
إن الضابط الأساسي لصحة ودقة أي تأويل هو انطباق كل ملامح وتفاصيل النبوءة على الصورة الواقعية التي يدعي صاحب التأويل أنها هي المقصودة . أي أنه لا بد عند تأويل نبوءة المسيح الدجال من وجـود مقابل أو تجسيد واقعي يعكس التسمية والملامح والقـدرات بكل جوانبها والفتنة العامة وفتنة النساء وأماكن الخروج والعلاقة ببني تميم والعلاقة بسـورة الكهف ، وغير ذلك من التفاصيل .
في مسألة التسمية ( المسيح الدجال ) لا بد أن يكون للصورة الواقعية علاقة ملتبسة بالمسيحية أو بالمسيح عليه السلام . في مسألة العينين لا بد أن يوجد في الصورة الواقعية تجسيد نموذجي صارخ ينسجم مع تأكيد الأحاديث على أهمية هذا الملمح وكونه يمثل الفارق الجوهري بين الله وبين الدجال أو بين الطريق إلى الله والطريق إلى الضلال . في مسألة بقية الملامح ، وبما أننا انتهينا إلى المعنى المجازي ، فلا بد للصورة الواقعية أن تكون ملفتة وجامعة بين المتناقضات على نحو ينقل المعنى اللغوي المباشر إلى معنى تأويلي ملموس . في مسألة القدرات لا بد أن يوجد في الصورة الواقعية تجسيد نموذجي وهائل للقدرات بما يمنع انطباقها على غير تلك الصورة . في مسألة الفتنة لا بد من إثبات أنه لا يمكن أن تشهد الأرض فتنة توازي الفتنة التي أحدثتها الصورة الواقعية . لا بد أن تكون الصورة الواقعية مجسدة لأماكن الخروج والعلاقة ببني تميم والعلاقة بسورة الكهف ، وغير ذلك .
لننظر إلى القدرات ، فالبعض قد يرى بأنه لا يوجد ما يمنع من ظهور تجربة نهضوية جديدة في المستقبل تجسد قدرات تفوق ما قدمته التجربة الغربية . والواقع أنه لا يوجد ما يحول دون حدوث هذه الفرضية ، ولكن إذا ربطنا الأمر بمفهوم ومعنى الفتنة فإنه لن يشهد التاريخ البشري قدرات مترابطة مع معنى الفتنة كالتي جسدتها التجربة الغربية ، نظراً لأن فتنة القدرات ترتبط بمرحلة بداياتها وظهورها البطيء ومقدار مصادمتها للوعي السائد والقناعات السائدة .
من هذه الزاوية لن توجد تجربة نهضوية توازي التجربة الغربية ، ففتنة قدراتها ارتبطت بالبدايات المتفرقة والبطيئة والتدريجية التي شكلت بداية التحـول من شكل الحياة القديم إلى شكل الحياة الحديث . لا يوجد شيء يمكن أن يفتن الناس مثل ظهور أفكار تصادم قناعاتهم الراسخة ومعلوماتهم المستقرة ومسلماتهم ومعتقداتهم دون أن يكون لديهم القدرة على تحجيمها أو مواجهتها أو تقديم البديل عنها . والتجربة النهضوية الغربية كانت نموذجية على هذا الصعيد ، ومهما ظهر من تجارب مادية جديدة فإنها لا يمكن أن تقدم ما هو أكثر من استثمار وتطوير الأسس والاختراقات التي أحدثتها التجربة الغربية .
لننظر على سبيل المثال إلى معلومة مثل كروية الأرض ودورانها حول نفسها وحول الشمس . هذه المعلومة أصبحت عادية ولا تكاد تثير أحداً ويدرسها أطفالنا كإحدى المسلمات التي لا غرابة فيها . أما في بداية ظهورها وخلال رحلة إثباتها والتدليل عليها واستثمارها فقد كانت معلومة مدوية هزت الثقافة السائدة وأثارت الكثير من الهواجس والتساؤلات والشبهات والنظريات والفلسفات المصادمة للدين . حين تم اختراع أول محرك ثم أول قاطرة وأول سيارة وأول هاتف وأول تلغراف وأول طائرة امتلأ الناس بالدهشة وراجعوا ثقافاتهم السائدة وتشككوا فيها وطرحوا ألف سؤال وسؤال وألف شبهة وشبهة بشأنها . حين حط أول إنسان على سطح القمر كانت لحظة مدوية في تاريخ الأرض .
المشكلة هي أن رحلة التطور الغربي كانت تتم في إطار الصدام مع الدين كما عرفته أوروبا في القرون الوسطى ، باعتباره هو التحدي الحقيقي الذي واجه الحركة العلمية وحاول وأدها . وبالتالي فقد وظفت الكشوف والمخترعات في مواجهة الدين وفي إطار الرغبة في إيجاد البديل عنه . وهذه أوضـاع لا يمكن أن تتكرر مرة أخرى . لقد ظهرت المكتشفات والمخترعات بشكل بطيء ومتدرج ، واتسمت بشدة مصادمتها للأوضاع والثقافات السائدة وبظهورها في جو الصراع والصدام المحتدم مع الدين . وهذه أوضاع وظروف لا يمكن أن تحدث مرة أخرى بذات الدرجة . وهانحن نشاهد في العقود الأخيرة كيف أن المخترعات والمكتشفات أصبحت متسارعة إلى حدود مذهلة ، ورغم ذلك فإنها لم تعد تحدث لدى الناس عشر معشار الفتنة والتساؤلات التي كان يحدثها أي اكتشاف أو اختراع خلال فترة ظهور وشيوع منتجات التجربة الغربية الحديثة .
أجدادنا قرأوا على الهاتف حين شاهدوه أول مرة ، وكان أبناء المدن والقرى يتقاطرون خلف السيارة والطائرة ويتحاشدون لرؤية التلفاز أو سماع المذياع أو مشاهدة الصور وكأنهم يدخلون أحد العوالم السحرية .
هـذا الوضع انتهى ، وأطفالنا وبعض عجائزنا أصبحوا يستهلكون أحدث الأجهزة التقنية دون التساؤل إلا عن كيفية الاستخدام ومزايا تلك الأجهزة وخدمات الصيانة وما بعد البيع .
المركبات المأهولة وغير المأهولة تطوف الفضاء وتصل إلى المريخ وإلى حدود المجموعة الشمسية ، والأقمار الصناعية تحيط بالأرض وتنقل الصور والأحاديث لألوف القنوات التلفازية والإذاعية وملايين الخطوط الهاتفية ، والناس لم يعد يشغلهم سوى كيفية الاستهلاك وماهية الخدمات الجديدة .
فتنة المكتشفات والمخترعات حدثت خلال مرحلة التحول نحو الحياة الحديثة ، وكل النظريات والأفكار الإلحادية الكبرى ارتبطت بتلك المرحلة وكانت مسكونة بالصدام مع الدين ومبنية على أجزاء أولية من الحقائق العلمية التي سرعان ما تبعتها أجزاء وشواهد ودلائل نقضت أو عدلت أسس تلك النظريات والأفكار . وهانحن نشاهد كيف أن وتيرة المكتشفات والمخترعات تتسارع بصورة هائلة إلى حد أن ما أصبح يظهر منها خلال عقد أو عقدين يفوق ما كان يظهر خلال قرون , ورغم ذلك فإن ما واكب هذه الوتيرة المتسارعة هو عودة الإحياء الديني وتراجع النظرة والأفكار الإلحادية حتى في البيئات الغربية ذاتها .
لم تعد أداة الصدام مع الدين هي المكتشفات والمخترعات ، بل أصبح الصدام يدور حول نمط الحياة والسلوك ( النظام السياسي ، النظام القانوني ، النظام الأخلاقي ، أوضاع المرأة ، أوضاع الأقليات ...... ) . وبالتالي فمرحلة توظيف المخترعات والمكتشفات في خدمة الإلحاد قد ولت وانقضت وفقدت معظم دوافعها وقابليتها للتبني أو الشيوع الواسع . أما الأفكار المتعلقة بنمط الحياة والسلوك فالأديان لم تعد تملك سوى التعايش مع الفكرة العلمانية ، عدا الدين الإسلامي الذي يحمل مضموناً دنيوياً . وأتباع هذا الدين قد واجهوا الفتنة مع التجربة الغربية ولن يكون أمام أية تجربة جديدة سوى استهلاك وإعادة إنتاج مقولات التجربة الغربية ، وهو وضع لا يمكن أن يثير فتنة تستحق الذكر .
وهكذا فإن فتنة التجربة النهضوية الغربية على صعيد المكتشفات والمخترعات والشبهات والشهوات لا يمكن أن تتكرر بذات الدرجة ، فهي وليدة فترة التحول نحو الحياة الحديثة ووليدة الملابسات والظروف التي ارتبطت بتلك الفترة . وإذا صح ذلك فإنه يبقى أن تنطبق كل نصوص نبوءة المسيح الدجال دون استثناء على الصورة الواقعية للتجربة النهضوية الغربية .
فلنبدأ بتحديد أهم ملامح الغرب الحديث وأبرز ما يميز تجربته النهضوية عن غيرها من التجارب ، ثم لنحاول إدخال تلك الملامح والجوانب الفريدة إلى عالم التشبيه ، وذلك من خلال خلعها على كائن بشري . وهانحن نحاول فعل ذلك ، علماً أن كل ملامح الغرب الحديث وجوانب تجربته النهضوية التي سيتم تحديدها مستقاة من الصـورة التشبيهية التي وردت في الأحاديث النبوية .
الغرب الحديث ينتسب بالإسم دون المضمون إلى رسالة المسيح عليه السلام .
التجربة النهضوية التي شهدها الغرب الحديث تعترف بمصدر وحيد للمعرفة وهو المصدر المادي وترفض الوحي وما وراء المادة . وهذا هو وجه الاختلاف الجوهري بينهـا وبين كل التجارب البشرية السابقة التي عرفت ثنائية مصادر المعرفة ( المصدر المادي والوحي ) ( المصدر المادي والسحر ) ( المصدر المادي والعرافة أو الكهانة أو الخرافة أو الأسطورة ) .
هي تجربة ملفتة ومثيرة وتجمع بين كل المتناقضات .
تطرح بديلاً عن الله أو الخالق وهو الطبيعة .
كان لهذه التجربة إرهاصات ومخاضات ومحاولات واختراقات علمية ومعرفية قديمة ، إلا أن انطلاقتها الفاصلة والعملاقة والنهائية حدثت من خلال الثورة الفرنسية .
خروجها على الدين واضح وجلي وظاهر لكل مؤمن سواء كان متعلماً أو أمياً .
مواقف الناس تجاهها تتسم في عمومها إما بالإفراط أو التفريط ، فهناك انجراف شبه كامل وتبعية شبه تامة وغلو في التبني والتمكين لها من قبل قسم من الناس ، وهناك نفور شديد ورفض كبير وحساسية مفرطة تجاهها من قبل قسم آخر من الناس .
في هذه التجربة كل ما هو جذاب ومبهر وأخاذ إلى حدود تكاد تفوق الخيال ، وفيها ما هو سيء ومنفر ومقزز إلى حدود بعيدة . ومن هنا قوة فتنتها والتباسها على الناس .
فتنت النساء وأغرتهم وغيرت أوضاعهم على نحو لم يشهد له التاريخ مثيلاً .
هي تجربة التخصص بكل امتياز . فكل التجارب قبلها كانت تجارب موسوعية شاملة تختلط فيها التخصصات العلمية بالتخصصات الأدبية ويجمع العلماء فيها بين ما ينسب إلى العلوم العلمية وما ينسب إلى العلوم الأدبية . أما في التجربة الغربية فحدث لأول مرة تمييز واضح بين العلوم والآداب وتم تعميم هذا التمييز في مختلف أنحاء العالم . أصبحنا في التعليم الثانوي نميز ونفصل بين القسم العلمي أو الأقسام العلمية وبين القسم الأدبي أو الأقسام الأدبية . في الجامعات نميز بين التخصصات العلمية والتخصصات الأدبية . في الإبداعات نميز بين الإنتاج العلمي والإنتاج الأدبي . كل إنتاجات وإبداعات التجربة الغربية التي وصلت إلى جميع الناس وأبهرتهم أو صدتهم تصب في هذين المسارين الكبيرين ، وهما مسار العلوم ومسار الآداب .
الشيء الصعب والمجهد والجاف في هذه التجربة هو ما يندرج في إطار مسار العلوم ، أما الشيء السهل والمريح والمغري فهو ما يندرج في إطار مسار الآداب .
الأماكن التي شهدت أكثر وجوه وملامح التجربة الغربية فتنة هي أوروبا علمياً وثقافياً وفلسطين عسكرياً واستعمارياً وأمريكا سياسياً واقتصادياً وإعلامياً وفنياً ، وأبرز ما في هذا الوجه هو النفوذ اليهودي الهائل .
هي تجربة فريدة للغاية على مستوى المخترعات والمكتشفات التي غيرت وجه الحياة على الأرض ومكنت الإنسان من استخراج ما في باطن الأرض وتسخير واستثمار طاقات الكون .
مكنت البشر لأول مرة ( عن طريق التصوير ) من رؤية وسماع الأموات .
من أبرز المشاهد الفاتنة التي يمكن أن يشاهدها المرء رؤية الطائرة وهي تطير . والأكثر فتنة رؤيتها وهي تطير من البحر . ولكن ليس من على الماء ، بل من فوق حاملة طائرات عملاقة !!
طورت وسائل المواصلات بصورة هائلة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً حتى أصبح بإمكان الإنسان أن يطوف الأرض خلال جزء من اليوم .
طورت وسائل الاتصالات إلى حد أدى إلى تسريع وتيرة الزمن بصورة مدهشة ، حتى أصبح بإمكان الإنسان أن يتحدث مباشرة مع من يسكن في أطراف الأرض ومشاهدة ما يحدث في أية بقعة من بقاع الدنيا في ذات لحظة الحدث وشراء احتياجاته من أية بقعة في العالم دون أن يغادر منـزله والوصول إلى أمواله والتصرف فيها أينما كان والدخول على مكتبات العالم وصحفه وكتبه من المنـزل . كل هذا أدى إلى التسريع التدريجي لوتيرة الزمن حتى أصبح ما يحدث في عقد يعادل ما كان يحدث في قرون .
وصل أبناء هذه التجربة إلى كل بقعة مأهولة في العالم إما استعماراً واستيطاناً أو زيارة وسياحة وعملاً عدا مكة والمدينة .
قبول وسائل وأدوات ومخترعات هذه التجربة يسمح بتحسن أوضاع وأحوال وقدرات الأفراد والمجتمعات ، ورفضها يؤدي إلى تردي أوضاعهم وأحوالهم وقدراتهم .
الدول الأكثر تمثيلاً لهذه التجربة تملك الكثير من الثروات والوسائل والأدوات للتأثير على بقية الدول ، بما في ذلك استخدام المؤسسات الدولية ( هيئة الأمم المتحدة ، البنك الدولي ، صندوق النقد الدولي ، منظمة التجارة العالمية ) للثواب والعقاب ، للمساعدات والمنح والقروض وللمقاطعة والحصار وشن الحروب .
أوسع وأطول رفض للأفكار والتغييرات التي أحدثتها هذه التجربة حدث في قلب الجزيرة العربية وفي إطار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب .
وإذا كانت الصورة التي قدمناها هي فعلاً صورة الغرب الحديث وأهم ملامح التجربة النهضوية التي شهدها والتي لا زالت تدهش وتصدم بعض المعايشين لها ، فماذا إن أردنا تقديم هذه الصورة لأهل العصر الماضي وحرصنا على أن تكون الصورة المقدمة مفهومة وقابلة للاستيعاب ومانعة من كشف الصورة المجسدة للغيب ؟!
فقط لنأخذ الصورة الواقعية التي تملأ الدنيا وتشغل الناس منذ ما يقرب من ثلاثة قرون ، ولندخلها إلى عالم التشبيه . لنتصور من باب التشبيه أنها رجل ، ولنخلع عليه ملامحها وأفعالها وقدراتها . لنأخذ صورة الغرب الحديث وإبداعاته وكشوفه ومخترعاته وأفعال ممثليه ولنضع أمام كل ذلك كلمة واحدة هي كلمة " كأن " ثم لننسب الصورة إلى رجل .
لنُدخِل أحادية الرؤية إلى عالم التشبيه . لنُدخِل الشكل المثير والملفت والجامـع بين المتناقضات إلى عالم التشبيه . لنُدخِل الثورة الفرنسية إلى عـالم التشبيه ولننظر إلى مقابلها في عالم الأفراد . لنُدخِل فكرة الطبيعة والتبعية العمياء والنفور الشديد ومسألة وضوح وجلاء خروج الغرب الحديث عن الدين واجتماع ما هو جذاب ومبهر وما هو سيء ومنفر والسجالات والصراعات بشأن أوضاع النساء ومسار العلوم ومسار الآداب إلى عالم التشبيه . لنُدخِل الوجـه العلمي الذي تمثله أوروبا ودور يهود أمريكا والوجـه الاستعماري الذي تعكسه فلسطين إلى عالم التشبيه . لنُدخِل التطورات في عالم الاتصالات والمواصلات وعلاقة العالم بالغرب والمكتشفات والمخترعات والتصوير والطائرة أو حاملة الطائرات وصدامات المنتسبين إلى مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب مع منتجات التجربة الغربية إلى عالم التشبيه . وبعد أن نقوم بذلك على المستوى الذهني يمكننا أن نجد كامل الصورة التشبيهية في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن فتنة المسيح الدجال . وهاهي معطيات الأحاديث مرتبة على النحو الذي حددنا من خلالـه صورة الغرب الحديث وملامح تجربته النهضوية .
الانتساب الزائف إلى المسيح عليه السلام ( هو المسيح الدجال ) .
أحادية الرؤية . ومصادر المعرفة بالنسبة للتجارب النهضوية هي كالعيون بالنسبة للإنسان ( أعور يخلط الناس بينه وبين الله . وقد حظيت العينان بوصف متكرر ومفصل ، وأشارت الأحاديث إلى أن الوسيلة الحاسمة للخروج من الخلط الذي سيحدث هي التنبه إلى أن المسيح الدجال أعور وأن الله ليس بأعور ) والمقصود هنا هو التمييز بين الطريق المؤدي إلى فتنة المسيح الدجال والطريق المؤدي إلى الإيمان بالله .
الشكل الملفت والمثير والجامع بين المتناقضات ( رجل شاب جسيم أحمر خالص البياض قصير منحـن متباعد الرجلين جعـد الرأس أجلى الجبهة عريض النحر عينه اليمنى ممسوحة وطافئة وعينه اليسرى كأنها كوكب دري ورأسه كأنه رأس حية عظيمة ) . وقد وردت هذه التفاصيل في رؤى منامية رآها الرسول صلى الله عليه وسلم بحسب ما تضمنته معظم الروايات .
فكرة الطبيعة ( يبدأ فيقول أنا ربكم ، وبعض المفتونين يعاملونه معاملة الإلـه ) . وعلى مستوى العطاء العلمي لا يوجد في التجربة الغربية سوى فكرة الطبيعة ، أما الإيمان بالخالق من قبل بعض العلماء فهو لا يكاد يتجاوز دائرة القناعات الشخصية .
الانطلاقة من خلال الثورة الفرنسية (يخرج من غضبة يغضبها ) ([9]).
وضوح وجلاء الخروج عن الدين حتى للمؤمنين الأميين ( مكتوب بين عيني الدجال كافر يقرؤها كل مؤمن من كاتب وغير كاتب ) .
انقسام الناس بين التبعية شبه التامة ( الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه لكثرة ما يثيره من الشبهات ) والنفور الشديد ( ليفرن الناس من الدجال في الجبال ) .
تداخـل ما هو مبهر وجذاب مع ما هو سيء ومنفر ، واستمرار ذلك على مدى ما يقرب من ثلاثة قرون وباستخدام إمكانات مجموعة من الأمم والشعوب . وهذا أمر لا يمكن لفتنة فرد أن تبلغ عشر معشاره ( أكبر فتنة منذ خلق آدم إلى قيـام الساعة ) .
تغيير أوضاع النساء وطغيان ما هو سلبي ( شدة فتنته على النساء ، حتى أن الرجل يعمد إلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقهن مخافة أن يخرجن إلى الدجال ) .
مسار العلوم ومسار الآداب ( معه ماء ونار أو نهران أو واديان يفتن بهما الناس ) .
الإنتاجات الأدبية سهلة ومريحة ومغرية ( إحداهما جنته ) والإنتاجات العلمية مجهدة ومكلفة وجافة ( والأخرى ناره ) .
لا مشكلة في العلوم بل في الآداب ( الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي المسلمين بدخول نار الدجال وتجنب جنته ) .
الوجه العلمي والثقافي الذي عكسته أوروبا ( يخرج من خراسان ) ([10]). والوجه العلمي والثقافي لخراسان في التجربة النهضوية الإسلامية هو أكثر الوجوه شبهاً بالوجه العلمي والثقافي الذي عكسته أوروبا ، فقد كانت خراسان تتشكل من أجزاء من إيران وأفغانستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان وكان بها عدد من أشهر المدن الثقافية الإسلامية مثل مرو وبلخ ونيسابور وبخارى وسمرقند ومنها خرجت أكبر مجموعة من العلماء والمحدثين والمفكرين والأدباء على امتـداد التاريخ الإسلامي .
نفوذ يهود أمريكا الممتدة عن أوروبا ( يتبعه سبعون ألفاً من يهود أصفهان ) . وقد كان ليهود أصفهان الممتدة عن خراسان نفوذ كبير منذ وجودهم بها بعد تحررهم من الأسر البابلي .
تأسيس ودعم وحماية الوجـود العسكري والاستعماري في فلسطين ( يكون لـه خروج من خلة - فتحة أو منفذ - بين العراق والشام فيعيث يميناً وشمالاً ، ألا يا عباد الله فاثبتوا ) . والصورة الجغرافية المثلثة لفلسطين والفاصلة بين قارتين هي أشبه بالفتحة أو المنفذ ، ولكن ليس بين العراق والشام ، بل عند أقرب نقطة إلى المكان التشبيهي والتقريبي الذي تم تحديده . أما الطابع العسكري والاستعماري لذلك الخروج فتعكسه الإشارة إلى العيث يميناً وشمالاً والتوجيه بالثبات .
المكتشفات والمخترعات التي ساعدت على استثمار موارد الأرض وطاقات الكون ( يأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت ، ويمر بالأراضي الخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كمجموعات النحل ) . والتشابه بين المكتشفات والمخترعات وبين المعجزات نابع من الغرابة وقوة التأثير والمصداقية التي توفرها لمن يقدمها ، أما الفـارق بينهما فيتمثل في أن المعجزات هي خروج على السنن وخرق لطبائع الأشياء ، بينما لا يوجد في المكتشفات والمخترعات خروج على السنن أو خرق للطبائع ، بل يوجد فيها تقيد شديد بالسنن وبراعة في اكتشاف الطبائع وتسخيرها .
التصوير الذي يسمح برؤية وسماع الأموات ( يحيي الآباء والأمهات )
الطائرة وما بين جناحيها من مسافة أو حاملة الطائرات وفوقها الطائرة ( من فتنته أنه يركب حماراً بين أذنيه أربعين ذراعاً ) وهذا التصوير يصدق على كل من الطائرة وحاملة الطائرات .
التطور الهائل في وسائل المواصلات والاتصالات وتأثيرها على قضايا الزمان والمكان ( سرعته كالغيث استدبرته الريح ، ويطوي الأرض كطي الفروة ، ويمكث في الأرض أربعين يوماً ، وهذه الأيام كالسنة ثم كالشهر ثم كالجمعة ثم كاليوم ثم كالشرر لسرعتها ) .
نزول الغربيين في كل بقعة مأهولة عدا مكة والمدينة ( يطأ كل البقـاع عدا مكة وطرقات المدينة ) .
أثر قبول المكتشفات والمخترعات أو رفضها ورضا الدول الغربية أو غضبها ، سواء من خلال العلاقات الثنائية أو من خلال المؤسسات الدولية ( معه أنهار ماء وجبال خبز ، ويمر بأهل الحي فيكذبونه فتسوء أحوالهم وأحوال أراضيهم وماشيتهم ويمر بأهل الحي فيصدقونه فتتحسن أحوالهم وأحوال أراضيهم وماشيتهم ) .
المفهوم الموسع للبدعة في إطار مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، والذي امتد إلى الأشياء الدنيوية وأوجد رفضاً تلقائياً للكثير من معطيات التجربة الغربية ، حتى وإن كانت تلك المعطيات مطلوبة وإنسانية وغير مخالفة للدين ( بنو تميم هم أشد الناس على الدجال ) ([12]). وهذه الإشارة تدل على أن أحاديث قرن الشيطان لا تنصرف إلى مجمل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وتراث مدرسته ، بل تنصرف فقط إلى مجموعات التكفير والعنف التي تظهر بين وقت وآخر .
اجتنـاب الأخطاء الكبرى التي يحملها العطـاء الفلسفي الغربي ( الرسول أوصى بقراءة آيـات من أوائل سـورة الكهف ، وفي بعض الروايـات : من أواخرها ، لاجتنـاب فتنـة المسيح الدجال ) . وسيتم التعريف بالآيـات المقصودة أثناء تناولنا لموضوع العلوم الدينية .
ونتوقف عن تأويل الأحداث التي لم تقـع بعد ، نظراً لصعوبة تحديد طبيعة التشبيه والتقريب ودرجتهما مالم تتحقق تلك الأحداث على أرض الواقـع . ورغم ذلك فإنه يهمنا أن نشير إلى ما ورد في بعض الأحاديث من أن عيسى عليه السلام سوف يقتل المسيح الدجال بباب لد في فلسطين ، فنحن نرجح أن ذلك يعـد من قبيل التصوير التشبيهي لما ستؤدي إليه عـودة عيسى عليه السلام من تجاوز الثقافة الغربية في آخر معقل من معاقلها . وفي تقديرنا فإنه يوجد أحاديث أخرى تؤكد هذا المعنى ، مثل إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأن المسلمين سيغزون الدجال فيفتحه الله ، وإخباره بأن الإسلام سيعود إلى الانتشار في كل أنحاء الأرض ([13]).
إن في التجربة الغربية خير عظيم وواسع وهائل ، وهو ما تعكسه وتجسده المنجزات العلمية والتقنية والنماذج السياسية المعبرة عن الفكر الليبرالي ، وفي تلك التجربة مكامن خلل وقصور كبرى تنبع من النظرة الإلحادية للكون والإنسان والحياة ، والتي تكاد تنعكس على كل شيء . والفتنة تكمن في أن الجانبين مندمجان ومتلازمان .
في العطاء العلمي الغربي لا يوجد سوى فكرة الطبيعة إلا على مستوى القناعات الشخصية للعلماء ، وفي السياسة والاقتصاد والاجتماع يوجد إما الإلحاد وإما فصل الدين عن الحياة . ومن ثم فإن الجهد المطلوب للخروج من الفتنة هو التمييز بين ما هو حضاري إنساني في محيط التجربة الغربية وبين ما هـو ثقافي غربي . وقد قلنا من قبل وسنكرر القول في مواضع عديدة بأن تطور العلم البشري كان أمراً مقدراً وضرورياً ، ولو لم يحدث على أيدي الغربيين لحدث على أيدي غيرهم ، فالمسار الذي اتخذته الأحداث والعوامل القدرية منذ اكتمال نزول الوحي وختم الرسالات يدفع بهذا الاتجاه ويعززه ويقود إليه . وكما ذكرنا فـإن الأحاديث الواردة بشأن فتنة المسيح الدجال توجه المؤمنين بدخول نار المسيح الدجال ( العلوم ) وتجنب جنته ( الآداب ) ، كما أن بعض الآيات التي تضمنتها سورة الكهف والتي سيتم عرضها لاحقاً تبين المنهج الرشيد الذي ينبغي اتباعه لتجنب مكامن الخلل الكبرى التي يمكن أن تكتنف أي طرح فلسفي .
بقي أن نشير إلى أن الأحاديث التي وصفت وصوَّرت قدرات المسيح الدجال نسبت استخدام تلك القدرات إليه بطريقة استثنائية ، في حين أن استخدامها هو أمر متاح لكل الناس ومتحقق من قبل معظمهم ، وبعض الدول الشرق آسيوية تقدم على الصعيد التقني منذ عقود إبداعات ومنجزات تفوق ما تقدمه معظم الدول الغربية . فلماذا حدث التصوير الاستثنائي لقدرات المسيح الدجال وكأنها متعلقة به ومستخدمة من قبله دون سائر البشر ؟!
نعتقد أن ذلك كان من لوازم التصوير التقريبي لنبوءة المسيح الدجال ، إذ لو تم إخبار الصحابة وعموم الناس الذين عاشوا قبل ظهور معطيات العصر الحديث بأن القدرات المشار إليها في النبوءة ستكون متاحة لكل البشر وأن هذه هي الحالة العامة التي سيكون عليها شكل الحياة في المستقبل لصادم ذلك مداركهم ولما أمكن قبوله . ونحن نعلم أن بعض من دخلوا الإسلام في عصر النبوة قد ارتـدوا بسبب حادثة الإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس في جزء من ليلة . وبالتالي فإن التصوير الاستثنائي لقدرات المسيح الدجال وصرف القدرات والاستخدام إليه دون سائر البشر كان أدعى لقبول ما تنبئ عنه الأحاديث والسماح بالنظر إلى تلك القدرات كمسألة استثنائية يمكن أن تدخلها الاحتمالات وتتعدد التفسيرات بشأنها وتنعدم دواعي جعلها مسألة محورية يُبنى عليها قبول أو رفض الوحي .
لقد قمنا بتأويل كل من فتنة قرن الشيطان وفتنة المسيح الدجال ، ليس فقط لارتباطهما بعصرنا أو لأهمية وإلحاح الخروج من هاتين الفتنتين ، بل أيضاً لأنهما تجسدان وتترجمان كل القواعد والأسس التي تسمح بإعادة فهم قضايا الغيب .
لم يكن بإمكان أي بشر تأويل فتنة قرن الشيطان أو فتنة المسيح الدجال قبل وقوعهما ، وهذا يؤكد مدلول اختصاص الله بعلم الغيب وسر النفي المتكرر لقدرة أي مخلوق على الإحاطة بأي أمر غيبي .
لا شك أن النبوءتين تتسمان بعمق وكثافة درجة التصوير المجازي لأحداثهما ، وذلك نظراً لتعلقهما بالفتن . ومن ثم فإن التصوير المجازي يقل وتنخفض درجته في النبوءات التي لا تدور حول الفتن مثل ظهور المهدي المنتظر وعودة عيسى عليه السلام . هنا لا يمتد التصوير المجازي والتشبيهي إلى الشخصيات بل يقف عند شكل الحياة المتغير والسياق الزماني والمكاني وبعض الملامح ، وذلك بالقدر الذي يحفظ الطابع الغيبي للأحداث والأوضاع المستقبلية .
لقد سبق أن أشرنا إلى أن القرآن الكريم يضم بعض النصوص الجامعة التي تسمح بإعادة فهم القضايا ذات الطابـع الإشكالي . وفي تقديرنا فإنه يوجد نص قرآني جامـع يؤكد ما طرحناه حول التصوير الجزئي أو العام أو التقريبي للأحداث والأوضاع والصور الغيبية الدنيوية . وقبل عرض ذلك النص نود التذكير بما سبق إيضاحه من أن نصوص القرآن الكريم تصرح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب الدنيوي . ولننظر في ضوء ذلك إلى قوله تعالى (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ] نفي العلم هنا ينصرف إلى قرب الوعد وبُعده ، لا إلى الوعد ذاته ، وبمعنى آخر فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم عمر هذه الدنيا ، قصير هـو أم طويل [عَـالِمُ الْغَيْبِ ] غيب الدنيا ، إذ أن الجملة جملة بيانية [ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا . إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَـدًا ] أي أن الله يحيط ذلك الغيب بالحوافظ أو الحرس ) ([14]). فما معنى إحاطة الله للغيب الدنيوي بالحوافظ أو الحرس ؟.
إن أقرب المعاني المعقولـة هي أن ذلك الغيب محـاط بالأسيجة أو الأدوات أو الوسائل اللغويـة ( الجزئية ، التجريد ، الرموز ، الأمثلة ، التشبيهات ) التي تحول دون العلم به قبل تحققه ، وبذلك يظل الغيب الدنيوي - حالة كونه غيباً - بمنأى عن علم البشر جميعاً ([15]).
هذا عن النبوءات التي تحملها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم . أما بالنسبة للنبوءات التي تحملها الآيات القرآنية فإنه يغلب عليها التأكيد على الحقائق المجـردة للغيب الدنيوي . ومثال ذلك عودة عيسى عليه السلام التي ذكرت في عـدة آيات وهي :
قولـه تعالى ( وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ([16])
وقولـه تعالى ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ....... )
ونحن نعلم أن عيسى عليه السلام قد رفع وهو في سن الرجولـة ، وبالتالي فإنه لفظ " كهلاً " يشير إلى عودته . وهذا هو ما يجعل كلامه في مرحلة الكهولة معجزة تضاف إلى معجزة الكلام في المهد .... [ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ].
وقولـه تعالى عن عيسى عليه السـلام ( وَإِنَّـهُ لَعِلْمٌ لِلسَّـاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُـونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) ([18]) أي أن عيسى عليه السلام من علامات الساعة ، وفي ذلك إشارة إلى عودته .
وقولـه تعالى ( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُـولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَـاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا . بَلْ رَفَعَـهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيـزًا حَكِيمًا . وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَـوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ) ([19]). وإيمان أهـل الكتاب به قبل موته لا يكون إلا بعد عودته .
انتهى ,,,,
كل هذا الكلام يا أخواني الكرام منقول من كتاب (تجديد فهم الوحي) للكاتب سعيد الكثيري أو زائر الوسطية والأسمين هما لنفس الشخص والكتاب رائع بما تعنيه الكلمة
وهذا رابط الكتاب
تعليق