إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

أسباب الاختلاف وموقف الإسلام منه

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أسباب الاختلاف وموقف الإسلام منه

    د. جمال نصّار
    دكتوراه في فلسفة الأخلاق



    الحديثُ عن الاختلافِ حديثٌ متشعّب؛ ممتدُّ الأطرافِ متعدّدُ الجوانب، قلَّ مَنْ يعرفُ آدابَه ويلتزمُ بها، وما أكثرَ ما فوّتتْ علينا خلافاتُنا حولَ مندوبٍ أو مباحٍ أمراً مفروضاً أو واجباً.
    لقد أتقنّا فنَ الاختلاف، وافتقدنا آدابَه والالتزامَ بأخلاقياته، فكان أنْ سقطنا فريسةَ التآكلِ الداخليِّ والتنازعِ الذي أورثنا هذه الحياةَ الفاشلة، أو أدّى إلى ذهابِ الريح، قال تعالى: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين (46)(الأنفال).

    ولقد حذَّرنا الله تعالى من السقوط في علل أهل الأديان السابقة، وقصَّ علينا تاريخهم للعبرة والحذر، فقال: ..ولا تكونوا من المشركين 31 من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون 32(الروم). واعتبر الاختلاف الذي يسبِّب الافتراق والتمزّق ابتعاداً عن أي هدي للنبوة أو انتساب لرسولها {، حين قال تعالى: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء..(الأنعام: 159).


    الخلاف والاختلاف


    "الخلاف" يعني في اللغة: المضادة، وجاء في المثل: "إنما أنت خلاف الضبع الراكب"، أي: تخالف خلاف الضبع؛ لأن الضبع إذا رأت الراكب هربت منه، ومنه: خلف فلان بعقبى خلافاً: إذا فارقه على أمر فصنع شيئاً آخر، وخلفه إلى الشيء: عصاه إليه، أو قصده بعدما نهاه عنه. وهذا يعني أن الخلاف هو ضدّ الشيء وعكسه، سواء قصد إلى ذلك أو لم يقصد.
    والاختلاف: يعني عدم الاتفاق، يقول ابن منظور: وتخالف الأمران واختلفا: لم يتّفقا، وكلُّ ما لم يتساوَ فقد تخالف واختلف، ومنه قوله عز وجل: والنخل والزرع مختلفا أكله(الأنعام:141)، أي: في حال اختلاف أكله.
    وهذا يعني أن "الاختلاف" يكون عن أمر معلوم لم تتفق الآراء عليه، و"الخلاف" يعني المضادة لمجرد الخروج على رأي.


    عِوَجُ الفهم.. وحبُّ الذات


    ولعل مردَّ معظم اختلافاتنا اليوم إلى عِوَج في الفهم تُورثه علل النفوس؛ من الكبر والعجب بالرأي والطواف حول الذات والافتتان بها، واعتقاد أن الصواب والزعامة وبناء الكيان إنما يكون باتهام الآخرين بالحق والباطل، الأمر الذي قد يتطوّر حتى يصل إلى الفجور في الخصومة، والعياذ بالله تعالى.
    إننا قلَّما ننظر إلى الداخل؛ لأن الانشغال بعيوب الناس والتشهير بها والإسقاط عليها لم يَدَعْ لنا فرصة التأمل في بنائنا الداخلي، وورد في الأثر: (طُوبي لِمَنْ شغله عيبُه عن عيوب الناس).
    لقد اختلف السلف الصالح رضوان الله عليهم لكن اختلافهم في الرأي لم يكن سبباً لافتراقهم؛ لأن وحدة القلوب كانت أكبر من أن ينال منها شيئاً، فتخلَّصوا من العلل النفسية مع وجود هذه الاختلافات بينهم. أما نحن اليوم، فمصيبة البعض تكمن في النفوس والقلوب، لذلك فإن معظم مظاهر التوحّد والدعوة إليه والانتصار له إنما هي عبارة عن مخادعة للنفس، ومظاهر خارجية قد لا نختلف فيها كثيراً عن غيرنا، والله تعالى يقول: وذروا ظاهر الإثم وباطنه..(الأنعام:120).
    فالعالم الإسلامي بعد أن كان دولة واحدة تدين بالمشروعية العليا لكتاب الله تعالى، وسنة رسوله { أصبح اليوم دويلاتٍ عديدة، والاختلافات بينهم لا يعلم مداها إلا << الله، وكلها ترفع شعارات الوحدة، بل قد توجد ضمن الدولة الواحدة كياناتٌ عدة. وليس واقعُ بعض الدعاة العاملين للإسلام اليوم الذين تُناط بهم مهمة الإنقاذ أحسنَ حالاً.


    الإسلام .. و"الاختلاف"


    لا مِراء في أن الاختلاف إن كان لا يؤثِّر على العلاقات بين الجماعات والأفراد، فهو أمر طبيعي لا يتعارض مع مبادئ الدين الإسلامي، غير أننا نرى وفرة الآيات القرآنية التي تنعى على الاختلاف، من مثل قوله تعالى: وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ..(يونس: 19)؛ إذ ذكر نقيضاً للوحدة، ومثل قوله تعالى: ..وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم..(البقرة: 213)؛ إذ قرن الاختلاف بالبغي، وقوله تعالى: ... ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم 105(آل عمران)، فقد توعَّد اللَّه سبحانه وتعالى بالعذاب الذين تفرقوا واختلفوا في آياتٍ كثيرة من كتابه العزيز.
    وقد يسأل سائل: هل هذا الوعيد مُوَجّه إلى كل متخالِفَيْن؟ ولبيان الجواب عن هذا السؤال، لا بد أن نعي أنَّ الله جل وعلا جعل مناط الوعيد فيمن يكون سبباً للاختلاف، وذلك في نحو قوله تعالى: فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم 37(مريم)، وقوله تعالى: فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم 65(الزخرف)، وقوله: ... ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر...(البقرة: 253)، وقوله: ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون 93(النحل).
    ويُستفاد من هذه الآيات أنَّ الذين ثبتوا على الحق لا ينالهم العذاب، بل ينال الذين كفروا وظلموا وضلوا، ويؤكد هذا المعنى قوله سبحانه: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين 118 إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم..(هود).
    وهذا يعني أن الاختلاف المذموم هو مخالفة الحق والركون إلى الباطل بشتّى صوره، وحينئذ يكون الاستمساك بالحق هو دعوة القرآن والسبيل القويم للوقاية من عذاب الله سبحانه وتعالى.


    أسباب الاختلاف


    الاختلافات من حيث أسبابها وجذورها نوعان: خلقية، وفكرية.
    أولاً: الأسباب الخُلُقية
    أما الاختلافات التي ترجع إلى أسباب أخلاقية، فهي معروفة للعلماء والمربّين الذين يتدبرون دوافع الأحداث والمواقف، ولا يكتفون بالنظر إلى سطوحها دون أن يغوصوا في أعماقها. ومن هذه الأسباب:
    الغرور بالنفس، والإعجاب بالرأي.
    سوء الظن بالغير، والمسارعة إلى اتهامه بغير بيّنة.
    حبُّ الذات واتّباع الهوى، ومن آثاره: الحرص على الزعامة، أو الصدارة، أو المنصب.
    التعصُّب لأقوال الأشخاص والمذاهب والطوائف.
    العصبية لبلد أو إقليم أو حزب أو جماعة أو قائد.
    وهذه كلُّها رذائلُ أخلاقيةٌ عُدَّت من المُهلكات في نظر علماء القلوب، ويجب على المسلم العادي؛ بله العامل للإسلام الداعي إليه، أن يجاهد نفسه حتى يتحرّر منها، ولا يستسلم لها ويُسلم زمامه للشيطان، وأن يعمل بجدّ في رياضة نفسه حتى يتحلّى بأضدادها. والاختلاف الذي ينشأ عن هذه الرذائل أو المُهلكات اختلاف غير محمود؛ بل هو داخل في التفرّق المذموم.


    ثانيًا: الأسباب الفكرية


    وأما الاختلافات التي أسبابها فكرية، فمردّها إلى اختلاف وجهات النظر في الأمر الواحد، سواء كان أمراً "علمياً"؛ كالخلاف في فروع الشريعة وبعض مسائل العقيدة التي لا تمسّ الأصول القطعية، أو كان أمراً "عملياً"؛ كالخلاف في المواقف السياسية واتخاذ القرارات بشأنها، نتيجة الاختلاف في زوايا الرؤية وفي تقدير النتائج، وتبعاً لتوافر المعلومات عند طرف ونقصها عند طرف آخر، وتبعاً للاتجاهات المزاجية والعقلية للأطراف المتباينة، وتأثيرات البيئة والزمن عليها سلباً وإيجاباً.
    ومن أبرز الأمثلة لذلك اختلاف الجماعات الإسلامية حول مواقف سياسية كثيرة في عصرنا: مثل خوض المعارك الانتخابية، ودخول المجالس النيابية، والمشاركة في الحكم في دولة لا تلتزم بتطبيق الإسلام كله، والتحالف مع بعض القوى السياسية غير الإسلامية أو غير المسلمة لإسقاط قوة الطاغية التي تخنق كل رأي صريح.


    بين السياسة والفقه!


    وبعض الاختلافات هنا سببها "سياسي" محض، أي يتعلق بالموازنة بين المصالح والمفاسد وبين المكاسب والخسائر، في الحال وفي المآل. وبعضها سببها "فقهي" خالص، أي يرجع إلى الاختلاف في الحكم الشرعي في الموضوع: أهو الجواز أم المنع؟ مثل المشاركة في الحكم، والتحالف مع غير المسلمين، أو غير الإسلاميين، ومثل مشاركة المرأة في الانتخابات ناخبة ومرشحة. وبعضها اختلطت فيها النظرة الفقهية بالنظرة السياسية.
    ومن أبرز الأمثلة وأوضحها: اختلاف الرأي بين العاملين للإسلام في مناهج الإصلاح والتغيير المنشود، أنبدأ بالقمة أم بالقاعدة؟ أنرجِّح طريق الثورة والعنف أم طريق التدرُّج والرفق؟ أيُفضَّل الانقلاب العسكري أم الكفاح السياسي أم التكوين التربوي؟ أنعطي الأولوية للعمل الجماهيري أم لتكوين الطلائع؟ أيجوز تعدُّد الحركات العاملة للإسلام فيعمل كل منها في ميدان أم لابد من حركة جامعة شاملة؟ إلى آخر ما يمكن أن يُقال في هذا المجال، وهو رَحْب.
    ويَدخُلُ في الخلافات الفكرية، اختلافُ الرأي في تقويم بعض المعارف والعلوم مثل علم الكلام، وعلم التصوف، وعلم المنطق، وعلم الفلسفة، والفقه المذهبي. فهناك من يتعصّب لهذه العلوم، بعضها أو كلها، ويدافع عنها. وهناك من يرفضها ويعتبرها دخيلة على الإسلام ومدسوسة عليه، وإثمها أكبر من نفعها. وهناك من يتوسَّط بين الفريقين، ويجتهد أن يحكم بينهما بالقسط، فيأخذ منها ويدع، ويقبل ويرفض.


    المصادر


    الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم الشيخ د. يوسف القرضاوي.
    "أدب الاختلاف في الإسلام" د. طه جابر العلواني
جاري التحميل ..
X