أحكام الأسرى في الإسلام
واجب المسلمين نحو أساراهم
أ.د. يوسف القرضاوي
13/05/2004
يجب على المسلمين أن يبذلوا كل ما يستطيعون من أجل فك أسراهم، وتحريرهم من الأسر، وتحكم الأعداء الكفار في رقابهم، فإذا كان الأمر يتطلب فداء بالأسرى من العدو، فادَوهم، وبادلوا أسرى المسلمين بأسرى العدو. يقول عمر بن الخطاب: لأن استنقذ رجلا من المسلمين من أيدي الكفار، أحب إليّ من جزيرة العرب.
ويجب على أمراء المسلمين أن يسلكوا كل سبيل تؤدي إلى فكاك الأسرى من أيدي الأعداء، ومن ذلك المفاوضة معهم. وإن كان تحريرهم يتوقف على إعلان الجهاد جاهدوا من أجل إنقاذهم، ولا سيما إذا كانوا يعانون من الإيذاء والتضييق والتعذيب. قال تعالى: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك وليا، واجعل لنا من لدنك نصيرا) النساء:75.
والمهم: أن من فروض الكفاية على الأمة أن تخلص أسراها، ولا تدعهم فريسة لأعدائهم، وفي الحديث الصحيح: "أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني"[1]، والعاني هو الأسير.
وقد يكون ذلك من باب فداء أسرى عند الأعداء بأسرى عند المسلمين، وهذا داخل في قوله تعالى عن أسرى العدو: (فإما منًّا بعد وإما فداء) محمد: 4.
وقد يكون ذلك بدفع مال للأعداء لافتكاك المسلم من بين أيديهم. يقول الإمام مالك: يجب على المسلمين أن يفدوا أسراهم، ولو استغرق ذلك جميع أموالهم[2].
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن قوله تعالى: (وفي الرقاب) يشمل فك الأسرى.[3]
قال في (الفتح): قال ابن بطال: فكاك الأسير واجب على الكفاية. وبه قال الجمهور.
وقال إسحاق بن راهويه: من بيت المال، وروي عن مالك أيضا.
وقال أحمد: يفادى بالرءوس، وأما بالمال فلا أعرفه.
ولو كان عند المسلمين أسارى وعند المشركين أسارى، واتفقوا على المفاداة: تعيّنت، ولم تجز مفاداة أسارى المشركين بالمال (أي في هذه الحال)[4].
قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: ( ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان …) النساء: 77: قوله: (ومالكم لا تقاتلون): يعني على الجهاد، وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب، ويفتنونهم عن الدين، فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته، وإظهار دينه، واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده، وإن كان في ذلك تلف النفوس. وتخليص الأسارى: واجب على جماعة المسلمين، إما بالقتال، وإما بالأموال، وذلك أوجب؛ لكونها دون النفوس، إذ هي أهون منها.
قال مالك: واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم. وهذا لا خلاف فيه، لقوله عليه الصلاة والسلام: "فكوا العاني" وكذا قالوا: عليهم أن يواسوهم، فإن المواساة دون المفاداة.
وقال الإمام في كتابه عن الجهاد: مذهب الشافعي: أن فداء الأسير مستحب، وأوجبه أحمد بن حنبل، كما أوجبه مالك.
وروى ابن أبي شيبة وأحمد عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار: "أن يعقلوا معاقلهم (أي يتحملوا دياتهم) وأن يفدوا عانيهم"[5]. أي أسيرهم.
وقال القرطبي أيضا في قوله تعالى: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) الأنفال: 72، يريد: إن طلب هؤلاء المؤمنون ـ الذين لم يهاجروا من أرض العدو ـ عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم، فأعينوهم، فذلك فرض عليكم، فلا تخذلوهم، إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم ميثاق، فلا تنصروهم عليهم، ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدته.
قال ابن العربي: إلا أن يكونوا مستضعفين، فإن الولاية معهم قائمة، والنصر لهم واجب، حتى لا تبقى منا عين تطرف، حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم، حتى لا يبقى لأحدنا درهم، كذا قال مالك[6] وجميع العلماء. فإنا لله وإنا إليه راجعون، على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو، وبأيديهم خزائن الأموال، وفضول الأحوال، والقدرة والعدد، والقوة والجلد!. انتهى.[7]
وقد خرّج الطبراني في الصغير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فدى أسيرا من أيدي العدو، فأنا ذلك الأسير".[8] قال الطبراني: لم يروه عن زيد بن أسلم إلا هشام بن سعد، ولا عنه إلا بكر بن صدقة الجدّي، تفرد به أيوب بن سليمان ـ يعني الأيلي[9] ـ، ولا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد.
وخرج ابن عساكر بإسناده، عن طلحة بن عبيد الله بن كَريز[10]، قال: قال عمر بن الخطاب: لأن أستنقذ رجلا من المسلمين من أيدي المشركين أحب إليّ من جزيرة العرب.
قيمة المسلم في التطبيقات التاريخية
معاملة غير آدمية من الجنود الأمريكيين للعراقيين
وخرّج أيضا عن بكر بن خنيس، أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الأسارى من المسلمين بالقسطنطينية: أما بعد، فإنكم تعدون أنفسكم الأسارى، ومعاذ الله، بل أنتم الحبساء في سبيل الله، واعلموا أني لست أقسم شيئا بين رعيتي، إلا خصصت أهلكم بأكثر ذلك وأطيبه، وأني قد بعثت إليكم فلان بن فلان بخمسة دنانير، ولولا أني خشيت أن يحبسها عنكم طاغية الروم لزدتكم، وقد بعثت إليكم فلان بن فلان يفادي صغيركم وكبيركم، وذكركم وأنثاكم، وحركم ومملوككم، بما يسأل به، فأبشروا ثم أبشروا، والسلام.
قال ابن النحاس في (المشارع):
مسألة: قال النووي في الروضة ـ ومن أصله بخطه نقلت تبركا ـ لو أسروا مسلما أو مسلمين، فهل هو كدخول العدو دار الإسلام؟ وجهان: أحدهما: لا؛ لأن إزعاج الجنود لواحد: بعيدٌ، وأصحهما: نعم؛ لأن حرمة المسلم أعظم من حرمة الدار، فعلى هذا لا بد من رعاية النظر، فإن كانوا على قرب دار الإسلام، وتوقعنا استخلاص من أسروه لو سرنا إليهم: فعلنا، فإن توغلوا في بلاد الكفر، ولا يمكن التسارع إليهم، وقد لا يتأتى خرقها بالجنود: اضطررنا إلى الانتظار، كما لو دخل منهم ملك عظيم الشوكة طرف بلاد الإسلام، لا يتسارع إليه آحاد الطوائف، انتهى.[11]
ذكر ابن عبد الحكم على لسان أحد المسلمين في عهد عمر بن عبد العزيز أنه قال: دخلت القسطنطينية تاجرًا في عهد عمر بن عبد العزيز فأخذت أطوف في بعض سككها، حتى انتهى بي المطاف إلى فناء واسع.. رأيت فيه رجلاً أعمى، ويدير الرحى. وهو يقرأ القرآن..! فعجبت وقلت في نفسي: في القسطنطينية رجل أعمى، يتكلم العربية، ويدير الرحى، ويقرأ القرآن.. إن له لنبأ..! فدنوت منه، وسلمت عليه بالعربية ـ فرد السلام.. فقلت: من أنت يرحمك الله، وما نبؤك؟. فقال: أسير من المسلمين.. أسرني هذا الرومي، وعاد بي إلى بلده، ففقأ عيني، وجعلني هكذا أدير الرحى، حتى يأتي أمر الله..
فسألته عن اسمه، وبلده، وقبيلته، ونسبه.. وما كان لي من عمل حين عدت، قبل أن طرقت باب أمير المؤمنين وأخبرته الخبر.. فاحتقن وجهه، واحتدم غضبًا، ودعا بدواة، وكتب لملك الروم: قد بلغني من الآن كذا وكذا.. وأنكم بذلك قد نقضتم ما بيننا وبينكم من عهد "أن تسلموا كل أسير من المسلمين".. فوالله الذي لا إله إلا هو، لئن لم ترسل إليَّ بهذا الأسير، لأبعثن إليك بجنود يكون أولها عندك وآخرها عندي.. ودعا برسول، فسلمه الكتاب، وأمره ألا يضيع وقتًا في غير ضرورة حتى يصل.
ودخل الرسول على ملك الروم، وسلمه الكتاب.. فاصفر وجهه، وأقسم أنه ما علم من أمر هذا الأسير شيئاً. وقال: لا نكلف الرجل الصالح عناء الحرب، ولكنا نبعث له بأسيره معززًا مكرماً، وقد كان..[12]
وحكى القاضي أبو بكر ابن العربي أن بعض الملوك عاهد كفارا على أن لا يحبسوا أسيرا، فدخل رجل من المسلمين جهة بلادهم، فمر على بيت مغلق، فنادته امرأة: إني أسيرة، فأبلغ صاحبك خبري، فلما اجتمع به (أي بالأمير المسئول) وتجاذبا ذيل الحديث، انتهى الخبر إلى هذه المرأة، فما أكمل حديثه، حتى قام الأمير على قدميه، وخرج غازيا من فوره، ومشى إلى الثغر، حتى أخرج الأسيرة واستولى على الموضع.[13]
وذكر الإمام العارف عبد الغفار بن نوح القوصي[14] في كتابه المسمى: سلوك أهل التوحيد، فقال: بلغ المعتصم (الخليفة العباسي) أن علجا من علوج الفرنج لطم امرأة (مسلمة) أسيرة من عَمُّورية، فقالت: وامعتصماه! فقال لها العلج: لا يجيء المعتصم إلا على فرس أبلق! (يتهكم على المرأة) فسير المعتصم إلى سائر الجهات في طلب الخيل البُلْق، وبذل فيها الأموال الجزيلة، والخلع النفيسة، حتى كمل لها ثمانية عشر ألف فرس أبلق، سار إليها بقوة العزم، وصدق النية، والغيرة على دين الله، ففتحها الله على يده، ولم تكن فتحت قبل ذلك، وأحضر العِلْج والمرأة بين يديه، وهو راكب على فرس أبلق، وقال له: قد جئتك على فرس أبلق!.
قال ابن النحاس: فهكذا فليكن إعزاز الدين، ومثل هذا ينبغي أن تكون أئمة المسلمين، اللهم لا تحرمه أجر هذه الهمة، وأثبه على ما كان عليه بكشف هذه الغمة. وقد ذكر قصة عمورية هذه أبو تمام الطائي في قصيدته المشهورة وما أحسن قوله فيها[15]:
لم تطلع الشمس فيه يوم ذاك على بانٍ بأهل، ولم تغرب على عزب[16]
وهكذا كان تاريخنا المجيد، يحول الأفكار والقيم إلى وقائع وأعمال، وبهذا يقترن المثال بالواقع.
وبهذه الأحكام الشرعية، والتطبيقات التاريخية: يتبين لنا قيمة (الفرد) في الإسلام، فإن العناية بالأسير وفك رقبته، واستنقاذه من الأسر، ليس إلا لونا من العناية بالفرد في الجماعة المسلمة، وخصوصا إذا كان هذا الفرد في حالة استضعاف واضطهاد، كحالة الأسير في أيدي الكفار المحاربين.
فإذا لم يجد المسلمون وسيلة لاستنقاذ أسراهم، فالواجب عليهم أن يدعوا الله تعالى لهم في صلواتهم وقنوتهم وخلواتهم، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، في دعائه للنفر الذين أسرتهم قريش، دبر كل صلاة.
واجبنا نحو أُسَر الأسرى
أما عن واجبنا نحو أسر الأسرى: فهو التصدق من أموال الزكاة، فإن دفع الزكاة لأسر الشهداء والأسرى والسجناء: أمر مشروع، بل واجب إذا كانوا من مصارف الزكاة وأهل استحقاقها، كأن يكونوا من الفقراء والمساكين أو الغارمين أو أبناء السبيل (ومنهم اللاجئون والمشردون). والزكاة على هؤلاء أولى وأفضل من الزكاة على غيرهم، لأن فيها سدا لحاجة المحتاج من ناحية، وإعانة على الجهاد في سبيل الله من ناحية أخرى.
وعلى المسلمين أن يساندوا أهالي إخوانهم الذين قتلوا في سبيل الله، وضحوا بأرواحهم من أجل دينهم وأمتهم، والذين تحملوا الأذى ومحنة الأسْر أو السجن في سبيل الله. وأن يكونوا لهم أهلا بعد أهلهم. فيكونوا للصغار آباء، وللكبار أبناء أو إخوانا، والمفروض أن تكون هذه الأسر في كفالة الجماعة المسلمة وفي رعايتها، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البخاري (3046).
[2] سيأتي قريبا نقلا عن القرطبي.
[3] انظر: كتابنا (فقه الزكاة) الجزء الثاني: مصرف (في الرقاب).
[4] فتح الباري (7/610) طبعة دار أبي حيان.
[5] رواه أحمد عن ابن عمر (1/271) وعن ابن عباس. قال البنا في الفتح الرباني (26/10): لم أقف عليه لغير أحمد، وسنده صحيح. وأورده الحافظ ابن كثير، وقال: تفرد به أحمد.
[6] أحكام القرآن لابن العربي (2/887).
[7] تفسير القرطبي (8/57) آية: 72 من سورة الأنفال.
[8] رواه الطبراني في الصغير، تحت من اسمه حصين: (1/151)؛ وأورده صاحب (مجمع الزوائد) في الجهاد: باب فداء أسرى المسلمين من أيدي العدو (5/332)، قال الهيثمي: رواه الطبراني في الصغير، وفيه أيوب بن أبي حجر، قال أبو حاتم: أحاديثه صحاح، وضعفه الأزدي وبقية رجاله ثقات.
[9] قال في الجرح والتعديل: (2/249)، رقم (889): أيوب بن سليمان بن أبي حجر الأيلي، سألت أبي وأبا زرعة عنه، فقالا: لا نعرفه، وقال أبي: هذه الأحاديث التي رواها صحاح.
[10] قال في التقريب: (1/379)، رقم: 35، طلحة بن عبيد الله بن كَريز ـ بفتح أوله ـ الخزاعي، أبو المطرف، ثقة، من الثالثة.
[11] انظر: الروضة للنووي: (10/216).
[12] انظر ص143، 144 من كتاب سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم طبعة مكتبة وهبة.
[13] انظر: مشارع الأشواق لأبي زكريا الدمشقي ثم الدمياطي الشهير بابن النحاس (2/830-832).
[14] قال في الدرر الكامنة: (2/385،386) رقم: 2454)، عبد الغفار بن أحمد بن عبد المجيد بن نوح بن حاتم بن عبد الحميد القوصي، أصله من الأقصر. وصنف كتابا اسماه الوحيد في سلوك أهل التوحيد، وهو مجلدان، توفي سنة 708هـ في القاهرة.
[15] ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق محمد عبده عزام، ط الثالثة دار المعارف مصر: (1/155) باب المدح، في قصيدته الشهيرة بمطلعها:
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب!
[16] مشارع الأشواق 2/834).
واجب المسلمين نحو أساراهم
أ.د. يوسف القرضاوي
13/05/2004
يجب على المسلمين أن يبذلوا كل ما يستطيعون من أجل فك أسراهم، وتحريرهم من الأسر، وتحكم الأعداء الكفار في رقابهم، فإذا كان الأمر يتطلب فداء بالأسرى من العدو، فادَوهم، وبادلوا أسرى المسلمين بأسرى العدو. يقول عمر بن الخطاب: لأن استنقذ رجلا من المسلمين من أيدي الكفار، أحب إليّ من جزيرة العرب.
ويجب على أمراء المسلمين أن يسلكوا كل سبيل تؤدي إلى فكاك الأسرى من أيدي الأعداء، ومن ذلك المفاوضة معهم. وإن كان تحريرهم يتوقف على إعلان الجهاد جاهدوا من أجل إنقاذهم، ولا سيما إذا كانوا يعانون من الإيذاء والتضييق والتعذيب. قال تعالى: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك وليا، واجعل لنا من لدنك نصيرا) النساء:75.
والمهم: أن من فروض الكفاية على الأمة أن تخلص أسراها، ولا تدعهم فريسة لأعدائهم، وفي الحديث الصحيح: "أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني"[1]، والعاني هو الأسير.
وقد يكون ذلك من باب فداء أسرى عند الأعداء بأسرى عند المسلمين، وهذا داخل في قوله تعالى عن أسرى العدو: (فإما منًّا بعد وإما فداء) محمد: 4.
وقد يكون ذلك بدفع مال للأعداء لافتكاك المسلم من بين أيديهم. يقول الإمام مالك: يجب على المسلمين أن يفدوا أسراهم، ولو استغرق ذلك جميع أموالهم[2].
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن قوله تعالى: (وفي الرقاب) يشمل فك الأسرى.[3]
قال في (الفتح): قال ابن بطال: فكاك الأسير واجب على الكفاية. وبه قال الجمهور.
وقال إسحاق بن راهويه: من بيت المال، وروي عن مالك أيضا.
وقال أحمد: يفادى بالرءوس، وأما بالمال فلا أعرفه.
ولو كان عند المسلمين أسارى وعند المشركين أسارى، واتفقوا على المفاداة: تعيّنت، ولم تجز مفاداة أسارى المشركين بالمال (أي في هذه الحال)[4].
قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: ( ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان …) النساء: 77: قوله: (ومالكم لا تقاتلون): يعني على الجهاد، وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب، ويفتنونهم عن الدين، فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته، وإظهار دينه، واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده، وإن كان في ذلك تلف النفوس. وتخليص الأسارى: واجب على جماعة المسلمين، إما بالقتال، وإما بالأموال، وذلك أوجب؛ لكونها دون النفوس، إذ هي أهون منها.
قال مالك: واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم. وهذا لا خلاف فيه، لقوله عليه الصلاة والسلام: "فكوا العاني" وكذا قالوا: عليهم أن يواسوهم، فإن المواساة دون المفاداة.
وقال الإمام في كتابه عن الجهاد: مذهب الشافعي: أن فداء الأسير مستحب، وأوجبه أحمد بن حنبل، كما أوجبه مالك.
وروى ابن أبي شيبة وأحمد عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار: "أن يعقلوا معاقلهم (أي يتحملوا دياتهم) وأن يفدوا عانيهم"[5]. أي أسيرهم.
وقال القرطبي أيضا في قوله تعالى: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) الأنفال: 72، يريد: إن طلب هؤلاء المؤمنون ـ الذين لم يهاجروا من أرض العدو ـ عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم، فأعينوهم، فذلك فرض عليكم، فلا تخذلوهم، إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم ميثاق، فلا تنصروهم عليهم، ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدته.
قال ابن العربي: إلا أن يكونوا مستضعفين، فإن الولاية معهم قائمة، والنصر لهم واجب، حتى لا تبقى منا عين تطرف، حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم، حتى لا يبقى لأحدنا درهم، كذا قال مالك[6] وجميع العلماء. فإنا لله وإنا إليه راجعون، على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو، وبأيديهم خزائن الأموال، وفضول الأحوال، والقدرة والعدد، والقوة والجلد!. انتهى.[7]
وقد خرّج الطبراني في الصغير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فدى أسيرا من أيدي العدو، فأنا ذلك الأسير".[8] قال الطبراني: لم يروه عن زيد بن أسلم إلا هشام بن سعد، ولا عنه إلا بكر بن صدقة الجدّي، تفرد به أيوب بن سليمان ـ يعني الأيلي[9] ـ، ولا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد.
وخرج ابن عساكر بإسناده، عن طلحة بن عبيد الله بن كَريز[10]، قال: قال عمر بن الخطاب: لأن أستنقذ رجلا من المسلمين من أيدي المشركين أحب إليّ من جزيرة العرب.
قيمة المسلم في التطبيقات التاريخية
معاملة غير آدمية من الجنود الأمريكيين للعراقيين
وخرّج أيضا عن بكر بن خنيس، أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الأسارى من المسلمين بالقسطنطينية: أما بعد، فإنكم تعدون أنفسكم الأسارى، ومعاذ الله، بل أنتم الحبساء في سبيل الله، واعلموا أني لست أقسم شيئا بين رعيتي، إلا خصصت أهلكم بأكثر ذلك وأطيبه، وأني قد بعثت إليكم فلان بن فلان بخمسة دنانير، ولولا أني خشيت أن يحبسها عنكم طاغية الروم لزدتكم، وقد بعثت إليكم فلان بن فلان يفادي صغيركم وكبيركم، وذكركم وأنثاكم، وحركم ومملوككم، بما يسأل به، فأبشروا ثم أبشروا، والسلام.
قال ابن النحاس في (المشارع):
مسألة: قال النووي في الروضة ـ ومن أصله بخطه نقلت تبركا ـ لو أسروا مسلما أو مسلمين، فهل هو كدخول العدو دار الإسلام؟ وجهان: أحدهما: لا؛ لأن إزعاج الجنود لواحد: بعيدٌ، وأصحهما: نعم؛ لأن حرمة المسلم أعظم من حرمة الدار، فعلى هذا لا بد من رعاية النظر، فإن كانوا على قرب دار الإسلام، وتوقعنا استخلاص من أسروه لو سرنا إليهم: فعلنا، فإن توغلوا في بلاد الكفر، ولا يمكن التسارع إليهم، وقد لا يتأتى خرقها بالجنود: اضطررنا إلى الانتظار، كما لو دخل منهم ملك عظيم الشوكة طرف بلاد الإسلام، لا يتسارع إليه آحاد الطوائف، انتهى.[11]
ذكر ابن عبد الحكم على لسان أحد المسلمين في عهد عمر بن عبد العزيز أنه قال: دخلت القسطنطينية تاجرًا في عهد عمر بن عبد العزيز فأخذت أطوف في بعض سككها، حتى انتهى بي المطاف إلى فناء واسع.. رأيت فيه رجلاً أعمى، ويدير الرحى. وهو يقرأ القرآن..! فعجبت وقلت في نفسي: في القسطنطينية رجل أعمى، يتكلم العربية، ويدير الرحى، ويقرأ القرآن.. إن له لنبأ..! فدنوت منه، وسلمت عليه بالعربية ـ فرد السلام.. فقلت: من أنت يرحمك الله، وما نبؤك؟. فقال: أسير من المسلمين.. أسرني هذا الرومي، وعاد بي إلى بلده، ففقأ عيني، وجعلني هكذا أدير الرحى، حتى يأتي أمر الله..
فسألته عن اسمه، وبلده، وقبيلته، ونسبه.. وما كان لي من عمل حين عدت، قبل أن طرقت باب أمير المؤمنين وأخبرته الخبر.. فاحتقن وجهه، واحتدم غضبًا، ودعا بدواة، وكتب لملك الروم: قد بلغني من الآن كذا وكذا.. وأنكم بذلك قد نقضتم ما بيننا وبينكم من عهد "أن تسلموا كل أسير من المسلمين".. فوالله الذي لا إله إلا هو، لئن لم ترسل إليَّ بهذا الأسير، لأبعثن إليك بجنود يكون أولها عندك وآخرها عندي.. ودعا برسول، فسلمه الكتاب، وأمره ألا يضيع وقتًا في غير ضرورة حتى يصل.
ودخل الرسول على ملك الروم، وسلمه الكتاب.. فاصفر وجهه، وأقسم أنه ما علم من أمر هذا الأسير شيئاً. وقال: لا نكلف الرجل الصالح عناء الحرب، ولكنا نبعث له بأسيره معززًا مكرماً، وقد كان..[12]
وحكى القاضي أبو بكر ابن العربي أن بعض الملوك عاهد كفارا على أن لا يحبسوا أسيرا، فدخل رجل من المسلمين جهة بلادهم، فمر على بيت مغلق، فنادته امرأة: إني أسيرة، فأبلغ صاحبك خبري، فلما اجتمع به (أي بالأمير المسئول) وتجاذبا ذيل الحديث، انتهى الخبر إلى هذه المرأة، فما أكمل حديثه، حتى قام الأمير على قدميه، وخرج غازيا من فوره، ومشى إلى الثغر، حتى أخرج الأسيرة واستولى على الموضع.[13]
وذكر الإمام العارف عبد الغفار بن نوح القوصي[14] في كتابه المسمى: سلوك أهل التوحيد، فقال: بلغ المعتصم (الخليفة العباسي) أن علجا من علوج الفرنج لطم امرأة (مسلمة) أسيرة من عَمُّورية، فقالت: وامعتصماه! فقال لها العلج: لا يجيء المعتصم إلا على فرس أبلق! (يتهكم على المرأة) فسير المعتصم إلى سائر الجهات في طلب الخيل البُلْق، وبذل فيها الأموال الجزيلة، والخلع النفيسة، حتى كمل لها ثمانية عشر ألف فرس أبلق، سار إليها بقوة العزم، وصدق النية، والغيرة على دين الله، ففتحها الله على يده، ولم تكن فتحت قبل ذلك، وأحضر العِلْج والمرأة بين يديه، وهو راكب على فرس أبلق، وقال له: قد جئتك على فرس أبلق!.
قال ابن النحاس: فهكذا فليكن إعزاز الدين، ومثل هذا ينبغي أن تكون أئمة المسلمين، اللهم لا تحرمه أجر هذه الهمة، وأثبه على ما كان عليه بكشف هذه الغمة. وقد ذكر قصة عمورية هذه أبو تمام الطائي في قصيدته المشهورة وما أحسن قوله فيها[15]:
لم تطلع الشمس فيه يوم ذاك على بانٍ بأهل، ولم تغرب على عزب[16]
وهكذا كان تاريخنا المجيد، يحول الأفكار والقيم إلى وقائع وأعمال، وبهذا يقترن المثال بالواقع.
وبهذه الأحكام الشرعية، والتطبيقات التاريخية: يتبين لنا قيمة (الفرد) في الإسلام، فإن العناية بالأسير وفك رقبته، واستنقاذه من الأسر، ليس إلا لونا من العناية بالفرد في الجماعة المسلمة، وخصوصا إذا كان هذا الفرد في حالة استضعاف واضطهاد، كحالة الأسير في أيدي الكفار المحاربين.
فإذا لم يجد المسلمون وسيلة لاستنقاذ أسراهم، فالواجب عليهم أن يدعوا الله تعالى لهم في صلواتهم وقنوتهم وخلواتهم، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، في دعائه للنفر الذين أسرتهم قريش، دبر كل صلاة.
واجبنا نحو أُسَر الأسرى
أما عن واجبنا نحو أسر الأسرى: فهو التصدق من أموال الزكاة، فإن دفع الزكاة لأسر الشهداء والأسرى والسجناء: أمر مشروع، بل واجب إذا كانوا من مصارف الزكاة وأهل استحقاقها، كأن يكونوا من الفقراء والمساكين أو الغارمين أو أبناء السبيل (ومنهم اللاجئون والمشردون). والزكاة على هؤلاء أولى وأفضل من الزكاة على غيرهم، لأن فيها سدا لحاجة المحتاج من ناحية، وإعانة على الجهاد في سبيل الله من ناحية أخرى.
وعلى المسلمين أن يساندوا أهالي إخوانهم الذين قتلوا في سبيل الله، وضحوا بأرواحهم من أجل دينهم وأمتهم، والذين تحملوا الأذى ومحنة الأسْر أو السجن في سبيل الله. وأن يكونوا لهم أهلا بعد أهلهم. فيكونوا للصغار آباء، وللكبار أبناء أو إخوانا، والمفروض أن تكون هذه الأسر في كفالة الجماعة المسلمة وفي رعايتها، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البخاري (3046).
[2] سيأتي قريبا نقلا عن القرطبي.
[3] انظر: كتابنا (فقه الزكاة) الجزء الثاني: مصرف (في الرقاب).
[4] فتح الباري (7/610) طبعة دار أبي حيان.
[5] رواه أحمد عن ابن عمر (1/271) وعن ابن عباس. قال البنا في الفتح الرباني (26/10): لم أقف عليه لغير أحمد، وسنده صحيح. وأورده الحافظ ابن كثير، وقال: تفرد به أحمد.
[6] أحكام القرآن لابن العربي (2/887).
[7] تفسير القرطبي (8/57) آية: 72 من سورة الأنفال.
[8] رواه الطبراني في الصغير، تحت من اسمه حصين: (1/151)؛ وأورده صاحب (مجمع الزوائد) في الجهاد: باب فداء أسرى المسلمين من أيدي العدو (5/332)، قال الهيثمي: رواه الطبراني في الصغير، وفيه أيوب بن أبي حجر، قال أبو حاتم: أحاديثه صحاح، وضعفه الأزدي وبقية رجاله ثقات.
[9] قال في الجرح والتعديل: (2/249)، رقم (889): أيوب بن سليمان بن أبي حجر الأيلي، سألت أبي وأبا زرعة عنه، فقالا: لا نعرفه، وقال أبي: هذه الأحاديث التي رواها صحاح.
[10] قال في التقريب: (1/379)، رقم: 35، طلحة بن عبيد الله بن كَريز ـ بفتح أوله ـ الخزاعي، أبو المطرف، ثقة، من الثالثة.
[11] انظر: الروضة للنووي: (10/216).
[12] انظر ص143، 144 من كتاب سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم طبعة مكتبة وهبة.
[13] انظر: مشارع الأشواق لأبي زكريا الدمشقي ثم الدمياطي الشهير بابن النحاس (2/830-832).
[14] قال في الدرر الكامنة: (2/385،386) رقم: 2454)، عبد الغفار بن أحمد بن عبد المجيد بن نوح بن حاتم بن عبد الحميد القوصي، أصله من الأقصر. وصنف كتابا اسماه الوحيد في سلوك أهل التوحيد، وهو مجلدان، توفي سنة 708هـ في القاهرة.
[15] ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق محمد عبده عزام، ط الثالثة دار المعارف مصر: (1/155) باب المدح، في قصيدته الشهيرة بمطلعها:
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب!
[16] مشارع الأشواق 2/834).
تعليق