إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

أربعاء الفلوجة في الإعلام الأمريكي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أربعاء الفلوجة في الإعلام الأمريكي

    أربعاء الفلوجة الأميركي أو استعادة ذكرى أنتيتوم
    هشام ملحم




    عنصر مسلح من <<جيش المهدي>> أمام عربة عسكرية أميركية تشتعل فيها النيران في مدينة الصدر أمس (أ ف ب

    ما تزال صور الاميركيين الأربعة الذين قتلوا في الفلوجة يوم الأربعاء الماضي ثم مُثّل بجثثهم وسحلوا وعلقت بقاياهم المحروقة على جسر المدينة على أيدي جمهور عراقي كان ثملا بمشاعر الحقد والاحتفال بالقتل امام عدسات الكاميرا، ما تزال هذه الصور تهز مشاعر الاميركيين وتتحدى مسلّماتهم حول تصورهم لأنفسهم وصورتهم في العالم، ومأزقهم في العراق، وموقفهم من الرئيس جورج بوش، بطريقة لم يعهدوها منذ بداية هذه الحرب التي تتغير تبريراتها باستمرار مع تفاقم أوجاعها، والتي لا تبدو انها ستنتهي في أي يوم قريب.
    وبعد أيام من الحدث، وبعد حصار المارينز للفلوجة، اصبح اقتحام ومعاقبة المدينة حديث الساعة في الأوساط الرسمية والإعلامية، التي تتوقع ان تسيل الدماء العراقية والاميركية وأن تمتزج في شوارع هذه المدينة في أي لحظة الآن. العقيد J.C. Coleman المسؤول عن قوات المارينز لخص الوضع بالقول <<الفلوجة عقبة على طريق التقدم. سنتخلص من العقبة دون إلحاق الضرر بالطريق..>> ولا احد يعرف أي صيغة يمكن ان تحقق هذا الهدف.
    أربعاء الفلوجة لم يكن اليوم الأقسى او الأكثر دموية للعراقيين او للاميركيين. ولكنه ابرز بشكل صارخ ومقزز فظاعة هذا العناق الدامي بين العراقيين والاميركيين، وصعوبة فكه من دون عنف عبثي أكبر.
    الحكومة الاميركية تعاملت مع العنف الاحتفالي في الفلوجة بعد إدانة <<بربريته>> بنكران الواقع وبرفض الاعتراف بإخفاقها السياسي الذي أسهم بحدوث مثل هذه الطقوس العبثية في هذا العراق الذي يتأرجح كل يوم بين الأمل والفجيعة، والتركيز على انه حادث مؤلم ولن يؤثر على مجمل استراتيجيتها السياسية والاقتصادية في العراق. ولكن الواقع على الأرض كان مختلفا، عندما اضطرت السلطات في بغداد الى إلغاء معرض تجاري دولي كان مصمما لجذب الاستثمارات الدولية. المسؤولون يدركون ايضا، وإن كانوا لا يريدون الاعتراف بذلك علنا، ان استمرار اعمال عنف مماثلة لعنف الفلوجة سيعجل بانسحاب دول مثل إسبانيا من العراق، ويزيد من تردد دول أخرى مثل الهند وباكستان بإرسال أي قوات جديدة الى العراق.
    وسائل الإعلام الاميركية واجهت أسئلة مهنية وأخلاقية عديدة وصعبة حول كيفية التعامل مع رقصة الموت في الفلوجة بشكل مسؤول، أي نقل الصور البشعة للقارئ والمشاهد لإعلامه بما يحدث، بطريقة لا تفوح منها رائحة استغلال المأساة ولا تجرح مشاعر المتفرج والقارئ، وتحديدا مشاعر اهالي الضحايا. الأسئلة التي ترددت في غرف التحرير في كل صحيفة وفي كل إذاعة وشبكة تلفزيون يوم الأربعاء كانت من نوع: كيف نغطي الحدث بحساسية ومسؤولية، وما هي الصور التي يجب ان ننشرها او نبثها، وأين، في الصفحة الأولى ام في الصفحات الداخلية، وكم ثانية يجب ان نخصص لعرض الصور المحروقة على الشاشة. وكانت هناك اجتهادات مختلفة، ورقابة ذاتية متفاوتة.
    سحل الاميركيين الأربعة بعد قتلهم مرارا في الفلوجة، اعاد الى أذهان الاميركيين صور سحل الجنود الاميركيين في مقديشو في 1993، التي أعقبها سحب القوات الاميركية من الصومال. عنف الفلوجة فرض على الاميركيين ان يختبروا مرة ثانية ما يسميه بعض المعلقين <<لحظة مقديشو>>. ومع ان معظم المحللين لا يتوقعون انسحاباً اميركياً قريباً من العراق، لأن الصومال لم تكن أبدا مهمة لأميركا استراتيجياً او اقتصادياً، ولاختلاف طبيعة <<المهمة العسكرية>> في البلدين، إلا انهم يوافقون على ان تكرار مثل هذه الهجمات والممارسات الثأرية الدموية، وخاصة خلال سنة انتخابية يفرض العراق ظلاله القاتمة عليها، سيكون له وقع كبير على مواقف الناخب الاميركي وعلى شعبية بوش وسيؤثر على فرصه بالتجديد لنفسه لولاية ثانية.
    ويقول المسؤولون الاميركيون انهم يدركون ان أعداءهم في العراق وفي المنطقة يتذكرون دائما كيف انها هربت من بيروت بعد تفجير مقر المارينز وقتل 241 من مشاة البحرية في 1983، وكيف انسحبت من مقديشو في 1993، ويردون على ذلك من خلال التأكيد انهم سيواصلون مسيرتهم في العراق بغض النظر عن التضحيات، لأن استثمارهم في العراق اليوم هو استثمار استراتيجي وسياسي واقتصادي كبير، ولا يمكن مقارنته بوجودهم العابر وغير المبرر برأي معظمهم الآن في لبنان والصومال لأن هذين البلدين لم يكونا بلدين محوريين لمصالح الولايات المتحدة. ولكن ذكرى، أو أشباح بيروت ومقديشو، ما تزال تؤلم الكثير من الاميركيين، كما يتبيّن من مراجعة بريد القراء في الأيام التي أعقبت عنف الفلوجة في بعض كبريات الصحف الاميركية.
    وتزامن عنف الفلوجة مع سقوط القتيل الاميركي رقم 600، وبعد سقوط الجريح رقم 3400 في <<الحرب التي تلت الحرب>> النظامية كما يقول المعلق العسكري انطوني كوردسمان، وهي حرب تحصد ما بين 20 و40 عسكريا اميركيا في الشهر. صحيح ان هذه الأرقام ليست بقسوة وفداحة خسائر أميركا في أحلك لحظات حربها في فيتنام، والتي وصلت إلى معدل 500 قتيل في الأسبوع الواحد، وصحيح ان حكومة بوش لن تنسحب بسبب خسائرها المحدودة حتى الآن في العراق، لأن مثل هذا الانسحاب سيكون بمثابة هزيمة تاريخية الا ان الاميركيين لا يقارنون خسائرهم في العراق بخسائرهم في فيتنام، بل يقارنون صورها البشعة كما بدت في الفلوجة، بالصور الوردية والزاهية التي رسمها المسؤولون الكبار، ومن ورائهم منظرو <<المحافظين الجدد>> لحرب سريعة وغير مكلفة تخلصهم وتخلص العراقيين من طغيان صدام حسين، ويعقبها ربيع عراقي تلوّح به إدارة بوش للمنطقة بكاملها كنموذج للتغيير الثوري. عنف الفلوجة جاء ايضا في الوقت الذي بدأت فيه البلاد، (وهذا أمر يصعب تصديقه) لأسباب عديدة من بينها تضارب التصورات مع الواقع المؤلم، والجدل الحاد الذي أثارته اتهامات وانتقادات المسؤول السابق ريتشارد كلارك للرئيس بوش، بنقاش علني، كما قال الصحافي المخضرم مارفن كالب، للحرب في العراق: من مبرراتها العقائدية، إلى مضاعفاتها الاستراتيجية والسياسية.
    الفلوجة والإعلام وصور الحرب
    صحيفة نيويورك تايمز انتقدت في احدى افتتاحياتها ادارة بوش بشدة، وذكرتها ان بناء الأمم هو أكثر من مجرد تصليح شبكة الكهرباء، وأن عليها الجواب عن الأسئلة المتعلقة بالمأزق الدستوري في العراق. ورأت الصحيفة ان أحداث الفلوجة تتطلب <<نقاشا صريحا لكيفية قيام اميركا وغيرها من الدول بمساعدة العراقيين على بناء دولة قابلة للحياة>>. وأشارت افتتاحية للواشنطن بوست الى انه مع اقتراب نهاية حزيران، أي موعد نقل السلطات الى العراقيين، يزداد خطر انزلاق العراق الى الحرب الأهلية، وحثت الحكومة على البحث عن حل سياسي دولي وليس فقط الاعتماد على المبعوث الأخضر الإبراهيمي لأنه <<ليس صانعاً للعجائب>> وقالت ان اي حكومة عراقية جديدة بعد حزيران المقبل اذا كانت مثل مجلس الحكم العراقي الحالي الذي لا يعتبره معظم العراقيين شرعيا، يعني <<دعوة الكارثة... وعندها سيزداد عنف الفلوجة تفاقما وسيتوسع>>. وجاء في عمود للمعلق بوب هيربيرت في صحيفة نيويورك تايمز ان العالم الذي يعتبر ما يجري في العراق <<عرضاً أميركياً>> لن يساعد واشنطن، وخلص الى القول <<نحلق كالعميان، ولا دليل على ان الرئيس او أي شخص في حكومته يعرف ما هو الفصل المقبل في هذه المأساة الكبيرة>>.
    إعلاميا، خلق عنف الفلوجة والتعامل مع صوره البشعة مأزقا للصحف والتلفزيونات الاميركية. شبكة <<فوكس>> المحافظة قررت عدم بث صور السحل والتمثيل بالجثث، بينما قررت شبكتا التلفزيون <<سي أن أن>> و<<أن بي سي>> بث بعض الصور لثوان قليلة، وفي المقابل قررت شبكتا <<أي بي سي>>، و<<سي بي أس>> بث بعض الصور لفترات اطول بقليل وخاصة خلال نشرة الاخبار المسائية لشبكة <<سي بي أس>>. وكان المذيعون في معظم الحالات يحذرون مشاهديهم من ان الصور التي سيشاهدونها بشعة ويجب ألا يشاهدها الأطفال. أما الصحف فقد انقسمت بين تلك التي نشرت صورا ملونة لبقايا جثتين معلقتين على جسر الفلوجة على صفحتها الأولى، كما فعلت نيويورك تايمز، وتلك التي قررت نشر الصور ذاتها على صفحاتها الداخلية، كما فعلت واشنطن بوست وغيرها. أما الصور الكاملة بكل قساوتها، فقد وجدت، هي وتعليقات المشاهدين، مجالا مفتوحا ودون حدود على شبكة الانترنيت.
    نشر صور اهوال الحرب مسألة كانت وما تزال تثير الكثير من الجدل في اميركا، منذ نشر صور أول حرب اميركية حدثت بعد اختراع الكاميرا، وهي الحرب المكسيكية بين عامي 1846 و1848. ولكن أول صور حرب هزت الاميركيين وجلبت فظاعات الحرب الى بيوتهم كانت الصور التي عرضها ماثيو برادي في نيويورك في 1862 خلال الحرب الأهلية لضحايا معركة أنتيتوم (اليوم الأكثر دموية في تاريخ اميركا، حيث سقط فيه اكثر من 7 آلاف قتيل). صحيفة نيويورك تايمز قالت في ذلك الوقت ان برادي جلب الحقائق الرهيبة للحرب الى منازل الاميركيين، وكأنه <<حمل الجثث ووضعها على عتباتنا... وليس من المبالغة القول ان بعض الاميركيين رأوا قبل ايام المشهد ذاته في الفلوجة>>.
جاري التحميل ..
X