خبر عادي. لا يكاد يستحق النشر. مقتل (أو موت) فلسطيني من جراء التزاحم عند معبر إيريز. وقعت <<الحادثة>> على الجانب الفلسطيني ولم يتضح ما إذا كان الرجل قضى ضحية أزمة صحية أم دهساً. قتله التزاحم.
إلا أنه تزاحم من نوع خاص. مهّدت له إسرائيل بتضييق المعبر وتحديد ساعات، أو دقائق، العبور، وزيادة الإجراءات الأمنية. ليست هذه خصوصياته. خصوصيته نابعة من نوعية المتزاحمين: إنهم فلسطينيون من غزة. ومن مكان العمل المقصود: إسرائيل. ومن العلاقة بين الأمرين: تعاقب إسرائيل الفلسطينيين بمنعهم من العمل لديها وتظهر حسن نية عندما تتسامح معهم فتسمح لهم. وغالباً ما يندرج طلب <<التسامح>> في أجندة المطالب الدولية. ثمة رجاء مرفوع إلى إسرائيل يحثها على قبول استغلال قوة العمل الفلسطينية بما يعزز اقتصادها، ويدعم ازدهارها، ويسمح لها بتحمّل كلفة الاحتلال. علماً أن هذه <<الأريحية>> هي عنصر من عناصر صمود الفلسطينيين فوق أرضهم، واستمرارهم على قيد الحياة، وتحويل ذلك، بحد ذاته، إلى عامل من عوامل المقاومة.
هل يدرك أحد كم تتهاوى خطابات نارية أمام هذا <<الخبر العادي>>؟ ألا تكشف الواقعة خواء الإيديولوجيات المتوهمة صراعاً متوازناً بين المحتل والمحتل؟ أليس متهافتاً الحديث عن <<توازن الرعب والدم>>؟ ألسنا أمام تجلٍّ، نريد إنكاره، لما يميّز الاحتلال الاستيطاني الإجلائي ولشروط مقاومته؟
لم تدّع الحركة الصهيونية يوماً أنها تريد استغلال السكان الأصليين للبلاد، ولا دفعهم إلى موقع دوني، ولا تبشيرهم لتغيير معتقداتهم. لقد افترضت، وهماً، عدم وجودهم ما أمكنها من تلبّس ادعاءات إنسانية، ومارست، عملياً، طردهم، ووضعت نصب عينيها، على الدوام، إبادتهم سياسياً. الذين قاوموا، عبر البقاء، دفعوا ثمناً باهظاً ومنهم من يقاوم بضراوة، وحتى اللحظة، خطر <<الأسرلة>>. أما الذين دخلوا دائرة الاحتلال في مرحلة لاحقة فواجهوا، ويواجهون، خطر الاستتباع الاقتصادي المتحوّل قوة دعم لعدوّهم. ولا يزال في وسع الاحتلال تهديدهم بعمالة آسيوية (وعربية أحياناً!) تحرمهم، بعد الأرض والهوية والاستقلال والحرية والحقوق، حقهم في التعرّض للاستغلال!
لقد تحوّل الحق في التعرّض للاستغلال إلى بند نضالي. لا بل اتخذ المطلب الاستقلالي، ذات مرة، صيغة مماثلة عنوانها <<حق الدوران في الفلك الإسرائيلي>> وتغيير شكل الالتحاق من فردي إلى علاقة دولة بدولة.
لقد دمّر الاحتلال مقوّمات حياة اقتصادية فعلية في الضفة والقطاع. ووضع الفلسطينيين، طالما أنه يسيطر على المعابر الحدودية ويتحكّم بكل داخل وخارج، ضمن شرنقة تجعل مجرد استمرارهم في الحياة (وهذه مقاومة!) نتيجة فرعية من نتائج مساهمتهم في خلق الرفاه الاقتصادي لعدوّهم.
فرضت إسرائيل على سجناء سياسيين فلسطينيين، حسب شهادة أحدهم، المعادلة التالية: إن حق التحرك والنزهة ورؤية الشمس لدقائق مرتبط بحياكة أقمشة التمويه للدبابات. أي أن
الذي دخل السجن لمقاومته الاحتلال مرغم على قهر وطنيته وإنسانيته واختراع معادلة مضادة: إن القدرة على الصمود داخل سجن الاحتلال مرهونة بخدمة، ولو غير مباشرة، لجيش الاحتلال.
يمكن لأيٍّ كان تقدير مدى العذاب والتمزق الذي يعيشه مواطن فلسطيني يقف لساعات، ويتعرض لإهانات، وهو يتأمل في اضطراره إلى إعالة أبنائه عبر بناء مستوطنات أو تشييد جدار يقضم الأرض ويهدد المستقبل ويفقد الحياة، أصلاً، بعض معناها. يكرّر هذا المشهد، بتفاوت، ما عاناه يهود في معسكرات اعتقال نازية عندما طُلب منهم أن يكونوا مسؤولين عن اختيار الذاهبين نحو الموت. ويكاد <<التفاوت>> يفقد معناه هنا عندما يخرج المرء من جحيم ليقيم جحيماً لسواه.
يتوجّب أن ندع جانباً، وبسرعة، كم أن <<قتيل إيريز>> يدين إسرائيل. إنه، في الحقيقة، فضيحة لنا. وفضيحة، بيننا، لفرسان البَهْوَرَة.
إن هذا القتيل هو مدخل لقراءة حقيقة موازين القوى بين الفلسطينيين والإسرائيليين من البحر إلى النهر. إن التهويل بالتوازن الديموغرافي إهانة لأن عناصر قوة أخرى هي الحاسمة في أواليات العلاقة. أما <<توازن الرعب>> فاستمرار أصولي لأوهام يسارية سابقة. إن الاستنتاج الذي لا استنتاج سواه هو أنه ليس في وسع الفلسطينيين وحدهم إنجاز الحد الأدنى من برنامجهم الوطني.
و<<قتيل إيريز>> دعوة إلى التفكير في الموقف العربي حيال الفلسطينيين. إن الفرق بين أناشيد الصمود والرفض والمقاومة وبين التبشير بالواقعية والتأني والرهان على التسوية، إن الفرق بين الأمرين أقل بما لا يقاس من الهوة الفاصلة بين ما يقدمه العرب وما يتوجب عليهم تقديمه. إن التخلي عن الفلسطينيين، وهذه سمة عامة للوضع العربي اليوم، جزء من التخلي عن البرامج الوطنية والديموقراطية في كل بلد، وعن أي طموح لمستقبل مشترك في المنطقة. ليس المطلوب تضامناً أو تعبيراً عن أخوّة بل إدراك مخاطر التمدد الإسرائيلي المعطوف على العدوانية الأميركية وآثار ذلك على مستقبل الشعوب والأوطان.
و<<قتيل إيريز>> تحدٍّ أمام إدارة الفلسطينيين لشؤونهم. فهو يؤكد أن أي فساد، هنا، له طعم آخر: ليس سرقة شخصية بل خيانة وطنية... ويتساوى في ذلك الهدر المقصود، وامتلاك مصنع يمد الاحتلال بالإسمنت، وإقامة شبكة علاقات قائمة على استغلال النفوذ...
<<قتيل إيريز>>، باختصار، دعوة إلى الخجل والواقعية والتواضع والمراجعة. يمكن لهذه الدعوة أن تقود إلى استيلاد وعي مطابق ووضع استراتيجيات ذات جدوى، كما يمكن لها أن تغري بمزيد من الانحطاط الذي يحمّل الضحية مسؤولية الحالة المستحيلة التي واجهتها.
... إن ما هو سائد في الوعي العربي الراهن، على تناقضه، لا يسمح بتوقع إدراك جديّ لأبعاد هذا <<الخبر العادي>>.
إلا أنه تزاحم من نوع خاص. مهّدت له إسرائيل بتضييق المعبر وتحديد ساعات، أو دقائق، العبور، وزيادة الإجراءات الأمنية. ليست هذه خصوصياته. خصوصيته نابعة من نوعية المتزاحمين: إنهم فلسطينيون من غزة. ومن مكان العمل المقصود: إسرائيل. ومن العلاقة بين الأمرين: تعاقب إسرائيل الفلسطينيين بمنعهم من العمل لديها وتظهر حسن نية عندما تتسامح معهم فتسمح لهم. وغالباً ما يندرج طلب <<التسامح>> في أجندة المطالب الدولية. ثمة رجاء مرفوع إلى إسرائيل يحثها على قبول استغلال قوة العمل الفلسطينية بما يعزز اقتصادها، ويدعم ازدهارها، ويسمح لها بتحمّل كلفة الاحتلال. علماً أن هذه <<الأريحية>> هي عنصر من عناصر صمود الفلسطينيين فوق أرضهم، واستمرارهم على قيد الحياة، وتحويل ذلك، بحد ذاته، إلى عامل من عوامل المقاومة.
هل يدرك أحد كم تتهاوى خطابات نارية أمام هذا <<الخبر العادي>>؟ ألا تكشف الواقعة خواء الإيديولوجيات المتوهمة صراعاً متوازناً بين المحتل والمحتل؟ أليس متهافتاً الحديث عن <<توازن الرعب والدم>>؟ ألسنا أمام تجلٍّ، نريد إنكاره، لما يميّز الاحتلال الاستيطاني الإجلائي ولشروط مقاومته؟
لم تدّع الحركة الصهيونية يوماً أنها تريد استغلال السكان الأصليين للبلاد، ولا دفعهم إلى موقع دوني، ولا تبشيرهم لتغيير معتقداتهم. لقد افترضت، وهماً، عدم وجودهم ما أمكنها من تلبّس ادعاءات إنسانية، ومارست، عملياً، طردهم، ووضعت نصب عينيها، على الدوام، إبادتهم سياسياً. الذين قاوموا، عبر البقاء، دفعوا ثمناً باهظاً ومنهم من يقاوم بضراوة، وحتى اللحظة، خطر <<الأسرلة>>. أما الذين دخلوا دائرة الاحتلال في مرحلة لاحقة فواجهوا، ويواجهون، خطر الاستتباع الاقتصادي المتحوّل قوة دعم لعدوّهم. ولا يزال في وسع الاحتلال تهديدهم بعمالة آسيوية (وعربية أحياناً!) تحرمهم، بعد الأرض والهوية والاستقلال والحرية والحقوق، حقهم في التعرّض للاستغلال!
لقد تحوّل الحق في التعرّض للاستغلال إلى بند نضالي. لا بل اتخذ المطلب الاستقلالي، ذات مرة، صيغة مماثلة عنوانها <<حق الدوران في الفلك الإسرائيلي>> وتغيير شكل الالتحاق من فردي إلى علاقة دولة بدولة.
لقد دمّر الاحتلال مقوّمات حياة اقتصادية فعلية في الضفة والقطاع. ووضع الفلسطينيين، طالما أنه يسيطر على المعابر الحدودية ويتحكّم بكل داخل وخارج، ضمن شرنقة تجعل مجرد استمرارهم في الحياة (وهذه مقاومة!) نتيجة فرعية من نتائج مساهمتهم في خلق الرفاه الاقتصادي لعدوّهم.
فرضت إسرائيل على سجناء سياسيين فلسطينيين، حسب شهادة أحدهم، المعادلة التالية: إن حق التحرك والنزهة ورؤية الشمس لدقائق مرتبط بحياكة أقمشة التمويه للدبابات. أي أن
الذي دخل السجن لمقاومته الاحتلال مرغم على قهر وطنيته وإنسانيته واختراع معادلة مضادة: إن القدرة على الصمود داخل سجن الاحتلال مرهونة بخدمة، ولو غير مباشرة، لجيش الاحتلال.
يمكن لأيٍّ كان تقدير مدى العذاب والتمزق الذي يعيشه مواطن فلسطيني يقف لساعات، ويتعرض لإهانات، وهو يتأمل في اضطراره إلى إعالة أبنائه عبر بناء مستوطنات أو تشييد جدار يقضم الأرض ويهدد المستقبل ويفقد الحياة، أصلاً، بعض معناها. يكرّر هذا المشهد، بتفاوت، ما عاناه يهود في معسكرات اعتقال نازية عندما طُلب منهم أن يكونوا مسؤولين عن اختيار الذاهبين نحو الموت. ويكاد <<التفاوت>> يفقد معناه هنا عندما يخرج المرء من جحيم ليقيم جحيماً لسواه.
يتوجّب أن ندع جانباً، وبسرعة، كم أن <<قتيل إيريز>> يدين إسرائيل. إنه، في الحقيقة، فضيحة لنا. وفضيحة، بيننا، لفرسان البَهْوَرَة.
إن هذا القتيل هو مدخل لقراءة حقيقة موازين القوى بين الفلسطينيين والإسرائيليين من البحر إلى النهر. إن التهويل بالتوازن الديموغرافي إهانة لأن عناصر قوة أخرى هي الحاسمة في أواليات العلاقة. أما <<توازن الرعب>> فاستمرار أصولي لأوهام يسارية سابقة. إن الاستنتاج الذي لا استنتاج سواه هو أنه ليس في وسع الفلسطينيين وحدهم إنجاز الحد الأدنى من برنامجهم الوطني.
و<<قتيل إيريز>> دعوة إلى التفكير في الموقف العربي حيال الفلسطينيين. إن الفرق بين أناشيد الصمود والرفض والمقاومة وبين التبشير بالواقعية والتأني والرهان على التسوية، إن الفرق بين الأمرين أقل بما لا يقاس من الهوة الفاصلة بين ما يقدمه العرب وما يتوجب عليهم تقديمه. إن التخلي عن الفلسطينيين، وهذه سمة عامة للوضع العربي اليوم، جزء من التخلي عن البرامج الوطنية والديموقراطية في كل بلد، وعن أي طموح لمستقبل مشترك في المنطقة. ليس المطلوب تضامناً أو تعبيراً عن أخوّة بل إدراك مخاطر التمدد الإسرائيلي المعطوف على العدوانية الأميركية وآثار ذلك على مستقبل الشعوب والأوطان.
و<<قتيل إيريز>> تحدٍّ أمام إدارة الفلسطينيين لشؤونهم. فهو يؤكد أن أي فساد، هنا، له طعم آخر: ليس سرقة شخصية بل خيانة وطنية... ويتساوى في ذلك الهدر المقصود، وامتلاك مصنع يمد الاحتلال بالإسمنت، وإقامة شبكة علاقات قائمة على استغلال النفوذ...
<<قتيل إيريز>>، باختصار، دعوة إلى الخجل والواقعية والتواضع والمراجعة. يمكن لهذه الدعوة أن تقود إلى استيلاد وعي مطابق ووضع استراتيجيات ذات جدوى، كما يمكن لها أن تغري بمزيد من الانحطاط الذي يحمّل الضحية مسؤولية الحالة المستحيلة التي واجهتها.
... إن ما هو سائد في الوعي العربي الراهن، على تناقضه، لا يسمح بتوقع إدراك جديّ لأبعاد هذا <<الخبر العادي>>.
تعليق