الأستاذة الفاضلة أم كوثر
تحية طيبة لشخصكم الكريم
الحاكم الرئيس في هذا الشان هو التجربة الأدبية، بمعني أن المغزي المركوز في فؤاد القاص والذي يدفعه للكتابة، والذي يختمر في روحه، وقد يبدو بصورة غير نهائية غالبًا، هو الذي يملي ذاته، أو فيما يقال عنه (القصة تكتب نفسها)، وهذا له ارتباط وثيق بلحظة الإضاءة التي سبق حديثنا عنها في هذه الدورة.
واتقريب الأمر اضرب لكم أمثلة: أغلب روايات همنجواي بدأ الكتابة فيها علي أساس أنها قصة قصيرة، فامتدت معه واستغرق فيها حتى أصبحت رواياته المعروفة، والروائي "محمد جبريل" يحكي مثل هذا يقول: (بدأت روايتي من أوراق أبي الطيب المتنبي باعتبارها قصة قصيرة، لكن اتساع القراءة في الفترة التاريخية وسع ذلك من بانورامية الصورة التي يجدر بي تناولها، فتضاعفت الصفحات القليلة -كما كنت أعد نفسي- إلي ما يزيد عن المائة والخمسين صفحة)، وهنا ملمحا عن أهمية مطالعة القاص حول موضوع قصته.
إذن الفكرة تقود نفسها والقاص هو متابعا لها، يستدعي تجليات لحظة الإبداع حال حضورها، البعض يكتب بسرعة جدا دون تروي أو تصحيح لمفردة حتي يستفيد من تلك اللحظة كما يقول محمد جبريل أيضا (تقديم الخبز طازجًا ساخنًا) وإلا إذا لم يستثمر لحظته تلك تحول إلي طعامًا باردًا، مع مراعاة أن هناك أساليب أخري مثل "باكثير" الذي كان يكتب بأقلام ردئية وخشنة حتى يوقف من انسيال الفكرة وتدفقها في خاطره علي أوراقه دون قيامه بالتدقيق الكامل في أنحائها، وكان يقضي الساعات ليحرر كلمة أو عبارة واحدة، لكن من بمثل موهبة باكثير الذي كان يقرأ ويكتب ليل نهار.
الجزئية الثانية أن القصة (كما اتفقنا) ليس لها قواعد ثابتة مستقرة، ولكن هناك علي الأقل ملامح أو أمور نرضي بها إلي حين، منها ما اشرت إليه في الدورة كما قال إبراهيم عبد المجيد (أن القصة إذا امتد زمنها تحدد مكانها والعكس صحيح) لأنها تعبر كما قيل عن لحظة اشتعال أو لحظة معبرة حاسمة انتقالية أو لافتة أو مأزومة، إنها موجه واحدة أو قطرة واحدة من البحر، لكنها تحمل جميع خصائص البحر، أما الرواية فتعتني بالتحليل والرسم والإيهام بالواقع من خلال التفاصيل وتقديم كنوز نفسية وفكرية في ثوب سردي روائي، حاجة الفكرة ذاتها إلي الإشباع هو الحاكم في هذا الشأن، ماذا أريد من الكتابة يؤثر بالطبع، فغذا جلست للكتابة وهزمت رهبة السطر الأول وانطلق جواد السرد فهو يعرف متي وأين يقف وما المساحة المناسبة له للوصول إلي مقصده.
يبقي أمر أخير هل يمكن تحويل القصة القصيرة إلي رواية والعكس، ليس هناك قاعدة محددة -طبعًا- لكن ما عرفته أن هناك صعوبة بالغة لتقديم رواية في صورة قصة قصيرة، كما قال د. عبد المنعم تليمه بما معناه أنه لا يوجد أردأ من قصة قصيرة هى في حقيقتها رواية ملخصة، وما فعله يوسف الشاروني لتقديم رواية اللص والكلاب أنه التقط شخصية واحدة أو أكثر وقدمها في شكل قصص قصيرة علي باب نقده للرواية، وكان اسلوبًا مبتكرًا لكنه التزم روح القصة القصيرة، وما عرفته أيضًا أنه يمكن تحويل قصة قصيرة إلي رواية، يفعلها بعض كتاب قصص الخيال العلمي، ربما لأن التفاصيل متاحة بوفرة في عالم غرائبي جديد هو عالم الفكرة الخيالية العلمية (مثال: حديث عن المستقبل الغير معلوم) والتي قد تحتاج إلي إشباع جديد.