هل أنت سمكة ميتة؟!..
بقلم الأديبة : عبير النحاس
يقول مثل من أمثال الغربيين: " السمكة الميتة تجري مع التيار".. أدهشتني بساطة المثل الغربي عندما قرأته لأول مرة, وأثارت استغرابي فكرته الواضحة والتي لم أفهم المغزى منها بداية لأنني رحت أتخيل كعادتي وولعي بالصور تلك السمكة الميتة التي يذهب بها تيار نهر جميل هادر جار. قلت يومها لنفسي : " إن هذا مؤكد ..فالسمكة الميتة سيسحبها أي تيار لا محالة فما المغزى من هذا المثل ؟!"
عدت لسمكتي الميتة ..نظرت إليها من كل الجوانب فلم أجد إلا سمكة لا تستطيع التحرك أو مقاومة التيار لأن الموت قد شلَّ جسدها ومنعها من القدرة على الحركة, ورأيت الموت قد أوقف الإحساس لديها ومنعها من التفكير أو القدرة على اتخاذ قرار ما؛ فمضت مع المياه مسلمة أمرها إليها لتذهب بها حيث شاءت.
عندها فقط فهمتُ أن للمثل مغزى عميق رائع وقد قدمته لي صورة تلك السمكة ورأيت فيها حال كثير من الشباب وهم يسلمون أنفسهم لتيارات مختلفة دون أدنى اعتراض أو مقاومة أو تفكير.
حدثتني صديقتي قائلة:
" في زيارة تجمعني بأفراد أسرتي وأقارب لي كان صوت الأراكيل ورائحة "المعسل" هي ما يسيطر على الأجواء وكانت تصبغ الزيارة بصبغة محددة,
وكنت أجلس وحدي بعيدة عن الأراكيل في حين تلتصق السيدات والصبايا بها, ويبدو أن جلوسي قد أثار حفيظة الجميع وأتعبهن ترفعي عن تلك المتعة التي تسحرهن,
وبدأت وقتها رحلة إدخالي في صفوف المدخنين.
بدأ الأمر بطلب تذوق تلك النكهات الرائعة "للمعسل"
وعندما جربتها شعرت بذلك الدوار الذي لم أنسه وبدأت بالسعال وسط ضحكاتهن وابتساماتهن
وانهالت النصائح علي لتعلمني كيف أدخل ذلك العالم بهدوء ويبدو أنها لم تنجح،
فقد كان الدوار والسعال رفيقا الجرعة الثانية أيضا ثم أعلنت فشلي وعدم رغبتي في المتابعة.
في المرة الثانية كانت هناك نكهة جديدة من "المعسل" الذي يجمع بين نكهة النعناع وأخرى نسيت ما هي ولعلها البطيخ أو الفراولة كما أذكُر,
وبدأت حملة ترويض ترفعي عن تلك الساحرة
فأمسكت الخرطوم المزين بالخيطان المذهبة والخرز الجميل الملون
وإذا بتلك المأساة تتكرر وتتكرر النصائح ويتكرر الفشل.
وفي الزيارة الثالثة وعندما هممت بدخول المكان خطرت لي نكهة المعسل,
ووجدت في نفسي شوقا لتلك الخدرة وربما النكهة أيضا,
وتنبهت مسرعة للخطر الماثل في تلك الفكرة التي تنبئ عن بداية ولع وطريق إدمان,
ووجدتني هذه المرة أرفض بشدة أي عرض منهن مبررة هذا بعدم رغبتي في تكرار ما حدث معي في المرات السابقة,
ورحت أكتفي بفنجان أو فنجانين من القهوة أرتشفهما على مهل
بينما تفرض الأركيلة سحرها على الحاضرات ويزداد قيدهن سماكة".
في هذه الحكاية بدت صديقتي كسمكة ميتة في البداية وقد عادت إليها الروح،
عندما شعرت بأنها على أبواب الإدمان فقاومت التيار ونجحت نجاحاً مدهشاً,
واليوم نجلس معا ونذكر بشفقة صديقات لنا يحملن معهن الأركيلة إلى أي مكان يذهبن إليه
ونحن نستمتع بفنجان من الشاي الأخضر بنكهة الياسمين أو النعناع المنعش الرائع.
أمور كثيرة قد تجعلنا نبدو كسمكة ميتة عندما نعيش وسط مجتمع ما:
فمتابعة برامج غير مناسبة أو مسلسلات غير مقبولة قد تبدو أمرا طبيعيا عندما يتابعها مجتمع بأكمله,
وقد حصل هذا عند عرض البرامج الحية غير الملتزمة في محطات تلفزيونية عديدة,
وعندما عرضت تلك المسلسلات "المدبلجة" التي لا تقرَب مجتمعاتنا النقية بشيء..
في تلك الأيام كنت أرى الهوس يصيب الكثيرين,
وكان الخجل نصيب غير المتابعين ولعلهم باتوا يومها من زمرة المنبوذين أيضا.
في المدرسة مثلا نجد الطالب المجد أو الطالبة المجدة موضوع تندر وسخرية واستهزاء من بعض الطلبة,
ولعل السخرية تنال كل مجتهد أو مهتم بدروسه..
وكل منصت للمدرسين ..
وتنال في بعض الأحيان كل مهذب مؤدب يحترم أساتذته,
وبتنا نعرف وندرك بعد أن كبرنا أن أولئك يسخرون من المتفوقين لأنهم يشعرون بالغيرة منهم وحسب,
وهم يتمنون ثنيهم عن الطريق بتلك السخرية المقيتة لأنهم لا يملكون مثل همتهم وذكائهم.
في بعض الأوقات تنال السخرية كل من ترتدي لباس المدرسة الموحد دون مخالفات..
و منذ زمان يقدر بعقدين أو أكثر كانت النكات تطلق على كثير ممن يلتزمون بتعاليم دينهم ..
وأعني قبل تلك الصحوة الإسلامية الجميلة بالطبع ..
وفي بعض مجتمعات الفتيات، تتعرض العفيفة التي لم تجرب العلاقات المحرمة بالشباب الغريب عنها للسخرية .. ونجد في هذه المجتمعات الكثير من الأسماك الميتة التي تنقاد دون تفكير ..
وتمضي دون رأي أو اعتراض .. وقد تودي بنفسها للهلاك,
وقد تكسب أطنانا من الذنوب..
ولكننا نرى أيضا أسماكا تدب بها روح قوية ثابتة لا تهتم لما قد يقوله الآخر
وتمضي في الطريق الجميل بخطى ثابتة وبثقة عظيمة بالله وتدرك بأنه الطريق الذي أحسنت اختياره.
فهل أنت سمكة ميتة؟.