إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #31
    رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)
    • {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)}

      كلمة (قادر) تعني تمام التمكن وأنه لا قدرة ولا حيلة لأحد حيال قدرة الله؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يملي للقوم الظالمين ويمد لهم الأمر ثم يأخذهم بغتة بالعذاب، وقد يأتي العذاب من فوقهم كما جاء لقوم أبرهة الذين أرادوا هدم الكعبة، فسلط عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، جعلتهم كعصف مأكول، وهناك من أخذهم الحق بالصيحة، وهناك من أهلكتهم بريح صرصر عاتية، وكل ذلك عذاب جاء من فوق تلك الأقوام.

      أما قارون فقد خسف الله به وبداره الأرض، وكذلك قوم فرعون أغرقتهم المياه، وهذه هي التحتية. فالعذاب قد يأتي من فوق أو من تحت الأرجل حسّياً، وقد يأتي أيضاً من فوقيّة أو تحتيّة معنوية، ومثال ذلك العذاب الذي يسلطه الله على الطغاة الكبار المستبدين، وقد يأتي العذاب من الفئات الفقيرة التي تعيش أسفل السلم الاجتماعي.


      {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65].
      والمقصود بلبس الأمر أي خلطه بصورة لا يتبينها الرائي. و(شيعاً) هي جمع (شيعة). والشيعة هم: المتعاونون على أمر ولو كان باطلا، ويجمعهم عليه كلمة واحدة وحركة واحدة وغاية واحدة. والمقصود بقوله الحق: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أي أن كل جماعة منكم تتفرق ويكون لكل منهم أمير، وتختلط الأمور بين الاختلافات المذهبية التي تختفي وراء الأهواء، وبذلك يذيق الله الناس بأس بعضهم بعضاً.


      ولماذا كل ذلك؟
      لأن الناس ما دامت فد انفرطت عن منهج الله نجد الحق يترك بعضهم لبعض ويتولى كل قوم إذاقة غيرهم العذاب. ولكن أُغيّر ذلك في ملك الله ونواميسه الثابتة من شيء؟ أبداً، فالسماء هي السماء، والأرض بعناصرها هي الأرض، والشمس هي الشمس، والقمر هو القمر، والنجوم هي النجوم، والمطر هو المطر.

      إن الذي يحدث فقط هو أن يذيق الله الناس بعضهم بأس بعض، ويصير كل بعض من الناس ظالماً للبعض الآخر. وعندما نرى الناس تشكو، نعلم أن الناس كلها مذنبة، ومادام الكل قد أذنب وخرج عن منهج الله فلابد أن يسلط الحق بعضنا على بعض حتى يعرف الجميع أنهم قد انفلتوا عن منهج الله لذلك يلقون المتاعب، ولن يرتاحوا إلا إذا عادوا إلى أحضان منهج الله؛ لأن منهج الله يمنع أن يتكبر إنسان مؤمن على أخيه المؤمن. والكل يسجد لإله واحد.
      ولهذا وضع الحق لنا العبادات الجماعية حتى يرى الضعيف في سلطان الدنيا القوي في السلطان وهو يشترك معه في السجود للإله الواحد.


      مثال ذلك ما نراه من طواف الناس حول الكعبة في ملابس الإحرام، إن من بين الذين يطوفون قوما من وجهاء الناس وأصحاب الرتب العالية والمنازل الرفيعة، ومن بين هؤلاء أيضاً نجد الذين لا يحتلون إلا المكانة الضئيلة، ويرى الضعيف نفسه مساوياً لمن في المركز الاجتماعي القوي.
      الكل يقف أمام ربّه وهو ذليل ويمسك بأستار الكعبة باكياً. ويريد سبحانه بذلك استطراق الغرور بين المؤمنين ويكون الناس جميعا أمام الله وفي بيته على سواء. {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65].

      وها نحن أولاء نرى كيف أن الحق يلبس الناس شيعاً، إننا نرى المنسوبين إلى الإسلام يذبح بعضهم بعضاً لسنوات طويلة. وإذا كان هؤلاء وأولئك طائفتين مؤمنتين تتقاتلان فأين الطائفة الثالثة التي تفصل بين الطائفتين مصداقاً لقوله الحق: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الحجرات: 9].
      ها هوذا الدم المنسوب إلى الإسلام يسيل، ويزداد عدد الضحايا، ومن العجيب أن الآخرين يقفون موقف المتفرج، أو يمدون كل طائفة بأدوات الدمار. وذلك يدل على أن المسألة طامة وعامة.
      والقاعدة التي قلناها من قبل لا تتغير، القاعدة أنه لا يوجد صراع بين حقين؛ لأنه لا يوجد في الأمر الواحد إلا حق واحد. ولا يطول أبداً الصراع بين الحق والباطل؛ لأن الباطل زهوق وزائل. ولكن الصراع إنما يطول بين باطلين؛ لأن أحدهما ليس أولى من الآخر بأن ينصره الله.


      ومثال آخر كنا نراه في بلد كلبنان- إبان الحرب الأهلية- وكان الصراع الدائر هناك يكاد يوضح لنا أن كل فرد صار طائفة بمفرده، وكل إنسان منهم له هواه، وكل إنسان يذيق غيره العذاب ويذوق من غيره العذاب.

      {انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65].
      وينوع سبحانه الحجج والبراهين ويأتي لهم بالأحداث والنوازل حتى يتبين للجميع أنه لا راحة أبداً في الانفلات عن منهج الله حتى يفقهوا. والفقه هو شدة الفهم. والمقصود أن نأخذ ونتفهم العظة من كل الآيات التي يجريها الحق أمامنا عسانا نرجع إلى مراد الله.

      نداء الايمان






    تعليق


    • #32
      رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)

      {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)}

      ما الذي كذب به القوم؟
      المقصود هو القرآن أو المنهج عامة؛ لأن المنهج الإيماني يشمل القرآن ويشمل ما آتى به الرسول عليه الصلاة والسلام. فالقرآن معجزة مشتملة على الأصول. وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالسنُّة ليبين ويشرِّع. ولذلك نرد على هؤلاء الذين يطلبون كل حكم من الأحكام من القرآن ونقول: إن القرآن جاء معجزة تتكلم عن أصول العقيدة، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالتشريعات التي تكمل المنهج، ومثال ذلك عدد الصلوات في كل فرض من الفروض الخمسة وعدد ركعات كل فرض من فروض الصلوات الخمس. إن القرآن لم يذكرها، ولكن أوضحها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو القائل في حديث شريف: (صلوا كما رأيتموني أصلي). والرسول صلى الله عليه وسلم مفوض بالتشريع بنص القرآن الكريم: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7].
      ونحن نصلي كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونزكي بنصاب الزكاة الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحج إلى بيت الله الحرام كما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أنزل سبحانه القرآن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول من طبق القرآن والسنة. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].

      أي أن هناك من الأمور العقدية التي أنزلها الحق مجملة في القرآن وفصلها للمؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم بتكليف من الحق. وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة بنص القرآن وهي ضمن طاعة الحق سبحانه وتعالى، فالحق يقول مرة: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول} [آل عمران: 32].
      وهنا طاعة الرسول غير مكررة إنها ضمن طاعة الله.
      ويقول سبحانه مرة أخرى: {قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [النور: 54].
      أي أن هناك أمراً بإطاعة الله وأمراً بإطاعة الرسول.
      ومرة ثالثة يقول سبحانه: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا}.
      وكل ذلك حتى نستوعب الأحكام التي التقت السنة فيها بكتاب الله.

      وحين قال الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} [النساء: 59].
      فهو سبحانه لم يأت بطاعة مستقلة لأولي الأمر ولكنه جعلها طاعة من باطن طاعتين هما: طاعة الله، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
      ونعود إلى معنى الآية التي نحن بصددها: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66].
      إذن فالذي كذب بوجود الله وكذب بالقرآن هو مكذب للمنهج أيضا. فالمكَذَّب به هنا هو الحق، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، وفي حياتنا اليومية تحدث واقعة ما ويأتي أكثر من شاهد عِيان لها فلا نجدهم يختلفون في رواية الواقعة لأنهم يستوحون واقعاً، لكن إن كان بعض من الشهود لم يروْا الواقعة التي يشهدون عليها الوقائع من أفواه الشهود؛ لأن الحق قد يختفي قليلا وراء بعضٍ من الضباب لكن لا يدوم اختفاؤه طويلاً بل يظهر جلياً ناصعاً.

      والحق يضرب لنا المثل فيقول سبحانه: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17].
      الماء- إذن- ينزل بأمر الله من السماء فتستمر به حياة النبات والحيوان والإنسان، ويأخذ كل وادٍ على قدر حاجته. وعندما ينزل السيل فهو يصحب معه بعضاً من الشوائب التي تطفو على المياه، ومثل تلك الشوائب يَطفو- أيضاً- عندما يُصهر الذهب أو أي معدن ويُسمى الخبث. وهكذا يطفو الباطل كالزَّبَدِ ويذهب جُفاء مطروحا ومرميا به بعيداً أو ينزل على جوانبه، أما الحق الذي ينفع الناس فهو يبقى في الأرض. وتكذيب القوم للحق من الله وللقرآن وللمنهج الإيماني هو البهتان، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس بوكيل على المكذبين ولا يلزمهم أن يصدقوا، فالوكيل هو الله الحق الذي يعاقب كل مكذِّب له، ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم هي البلاغ.

      (وكذّب به قومك)، وكلمة (قومك) هذه هي تقريع فظيع لهم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء منهم، وعرفوه صادقاً أميناً مدة أربعين عاماً قبل الرسالة، وما جرّبوا عليه كذباً، ومقتضى مكثه معهم هذا التاريخ الطويل كان يفرض عليهم أن يتساءلوا من فور بلاغهم بالرسالة: إنه لم يكذب علينا قط ونحن من الخلق، أيكذب على الخالق؟. ولكن الهوى أعمى بصيرتهم، ولذلك يقول الحق عن هذا البلاغ: {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].
      أي قل لهم يا محمد: لو أراد الله ألا ينزل قرآنا عليّ من لدنه وألاَّ أبلغكم وأعلمكم به ما أنزله وما تلوته عليكم، ولكنه أنزله وأرسلني به إليكم. وعندما يمتن الله على الذين أرسل إليهم رسوله صلى الله عليه وسلم فهو يقول سبحانه: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].

      وبرغم تكبر وعناد وتكذيب المشركين من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإنه عندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ترك علياً بمكة ليسلم للناس أماناتهم. فهل هناك حمق أكثر من حمق هؤلاء الذين كذبوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. أيكون أمينا معهم ولا يكون أمينا مع ربه؟


      نداء الايمان



      تعليق


      • #33
        رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)
        {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)}

        النبأ هو الخبر المهم، فليس كل خبر نبأ، ذلك أن هناك المثير من الأخبار التافهة التي يتساوى فيها العلم الذي لا ينفع بالجهل الذي لا يضر. ومثال على الخبر المهم هو قوله الحق: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ: 1-3].
        إذن فكل نبأ مستقر، والمستقر هو ما طُلب القرار فيه. والنبأ مظروف والمستقر مظروف فيه. والمظروفية تنقسم قسمين: مظروفية زمان، ومظروفية مكان. أي أن الحق سبحانه وتعالى جعل لكل حدث زمانا ومكانا يقع فيهما الخبر. وسوف يعلم الإنسان مستقر كل خبر عندما يأذن الحق بميلاد هذا المستقر الذي يُعلن فيه الخبر.

        النبأ- إذن- هو الخبر العظيم المدهش. ولا أعظم من تجلي السماء على الأرض بمنهج جديد ينقذها مما هي فيه من ضلال، وهو منهج عام لكل زمان ولكل مكان. إذن هو نبأ عظيم؛ لأنه يخلص دنيا الناس من جبابرة الأرض، ويلفت كل الناس إلى منهج يخرجهم جميعاً من أهوائهم. فلا أضر بالمجتمع من أن يتبع كل إنسان هواه؛ لأن هوى كل نفس يخدم شهواتها، والشهوات متضارية، فإذا حكّم كل إنسان هواه فلن تجد في الأرض قضية متفقاً عليها. ولذلك تكفل الحق سبحانه وتعالى للإنسان بمسألة تنظيم المنهج وهو الأمر الذي تختلف فيه الأهواء. وأما الأمر الذي تلتقي فيه الأهواء وهو استنباط ما في الأرض من كنوز واستكشاف ما في الكون من أسرار فقد تركه الحق للإنسان ليستنبطه بالعقل الذي خلقه الله، من الكون الذي خلقه الله، وليسعد الإنسان بتلك الأسرار التي يستكشفها في الكون.

        ويؤكد لنا واقع الحياة هذه القضية، ونجد طموح العقل البشري عندما فكر في مادة الكون استنبط منها الأسرار وأنجز الكثير من الاكتشافات العلمية. ولم تختلف الدول والمعسكرات في تلك المجالات، بل التقت كل الأهواء عند هذه الاكتشافات، فلا توجد- كما قلنا- كهرباء روسية وأخرى أمريكية، ولا نجد (كيمياء انجليزية) وأخرى (فرنسية)، ولذلك تجد الأنظمة السياسية والاجتماعية على اختلافها تلتقي في مجالات العلم وتتفق ولا تختلف حتى إن بعضها قد يسرق من البعض الآخر ما توصل إليه. ولا نجد في عالم المادة والمعمل والتجربة اختلافات بين نظام سياسي ونظام آخر، بل تلتقي الأهواء عند القوانين المكتشفة والمأخوذة من مادة الكون، وهو الأمر الذي تركه الله للناس ليكونوا أحراراً فيه، ويفكرون، وينظرون، ويتأملون، ويبتكرون، ويصلون إلى أسرار في الكون تخفف عنهم تبعات الحياة، وتؤدي لهم غايات السعادة في الوجود بأقل مجهود.

        ولكننا نجد الصراع العنيف على الجانب الآخر- جانب المبادئ والمنهج- وهو صراع لا يهدأ أبداً؛ لأنه صراع الأهواء فيما لم تحكمه تجربة مادية، وهم يختلفون خلافات عميقة، الرأسمالية تختلف عن الاشتراكية، وتتنوع الخلافات بين كافة المذاهب التي أنتجتها الأهواء: الشيوعية، الوجودية، الاشتراكية، الرأسمالية، وكل هذه المسائل لم تحكمها تجربة أو معمل ذلك كان الخلاف.
        ومن المؤسف أن البشر قد استغلوا ما اتفقوا فيه من ابتكارات علمية في فرض النظم التي اختلفوا عليها.
        وقد أوضح الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر؛ إنه جل وعلا قد ترك عقول البشرية حرة في كل ما يخضع للتجربة، ولكنه نظم حياة الإنسان على الأرض في ضوء المنهج الإيماني؛ لأن الإسلام جاء في إثر ديانة حاول القائمون على أمرها من الكهنة أن يفرضوا سيطرة الكهنوت على العقل البشري في أسرار الكون.


        والمثال على ذلك واضح تماماً في التاريخ البشري، ففي العصر الذي تأخرت فيه أوروبا وسُمي (عصر الظلمات) كان المسلمون في الشرق باتباعهم لمنهج الله يعيشون في عصر النور؛ لأن الإسلام علمهم مجال استعمال العقل وقدراته على استنباط أسرار الله في الكون، وجاء سبحانه بهذا الدين وهو النبأ العظيم ليوضح لنا في مسيرة هذا الدين كل عبرة، وكأنه يقول لنا: إن هذا الدين قد بدأ ضعيفاً والذين آمنوا به قلة مستضعفة لا يستطيعون حماية أنفسهم بل تلمسوا الحماية وطلبوها عند ملك غريب في الحبشة، وعلى الرغم من ذلك أنتصروا لأنهم أخذوا بهذا الدين.
        وقال صلى الله عليه وسلم مقالة ربه: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67].
        ومعنى (مستقر) أي ميلاد يستقر فيه. أي لا تتعجلوا الأحداث، ولا تجهضوها؛ فإن شاء الله سيكون لهذا الدين انتشار، وهذا الانتشار له ميلاد في زمان وميلاد في مكان، أما زمانه فإلى أن تقوم الساعة، وأما مكانه فالأرض كلها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء رسولاً للناس كافة، وخاتما للنبيين والمرسلين.

        ويؤيد الحق سبحانه قضية {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} بأن يشهد الواقع من الحقائق ما يؤكد ذلك. ومثل ما حدث في الزمن القريب المعاصر لميلاد الدعوة الإسلامية. فحينما جاء الإسلام آمن به قلة مستضعفة، ولما نزل قوله سبحانه: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45].
        قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أي جمع هذا الذي سيهُزم ويولون الدبر ونحن لا نستطيع حماية أنفسنا؟ فلما جاء يوم بدر ورأى مصارع القوم كما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلاغاً عن الله قال عمر بن الخطاب: صدق الله، لقد هُزم الجمع وولَّوْا الدبر. ونجد كل قضية قرآنية محفوظة ومسجلة في السطور، يحفظها الله حتى لا يكون للناس على الله حجة؛ لأنه سبحانه القائل: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67].
        فلو لم يكن الواقع يؤيد أن لكل نبأ مستقراً، ولكن حدث ميلاداً زماناً ومكاناً، فماذا يظن الناس الذين يستقبلون القرآن؟ لذلك أتى الحق بكل قضية قرآنية ومعها دليلها، وأعطى الحق بعضاً من الحقائق الموثقة بالأحداث زماناً ومكاناً ليتأكد قوله الحق: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67].
        وقد علمت الدنيا وانتصر الإسلام. لقد شاء الحق أن يربي حامل الدعوة الأول- عليه الصلاة والسلام- ويعلم معه صحابته رضوان الله عليهم، يعلمهم منطقاً ليسايروا به أحداث الكون.

        ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى كان يُنزل الرسل بالأديان على فترات، وعندما يعُم الفساد في الأرض ينزل الحق منهجه على رسول ليهدي الناس إلى الصراط المستقيم؛ لأن الحق سبحانه وتعالى جعل في كل نفس بشرية تعادلاً ذاتياً، فإذا اشتهى الإنسان شهوة يحرمها الدين، وقضى الإنسان هذه الشهوة، وهدأت شرّة وحدّة المعصية في نفسه، فالإنسان يؤنب نفسه ويوبخها. ولكن النفس قد تستمرئ الشهوات، وينعدم الوازع الذي يردع الإنسان.
        وإذا انعدم الوازع في فرد واحد فلن ينعدم في المجتمع، ونجد من الناس من يحمل المجتمع على المعروف، ويوجه صاحب النفس التي استمرأت المعصية إلى التوبة والخير. أما إذا عم الفساد في الفرد وفي المجتمع فماذا يكون الموقف؟

        لا بد أن تتدخل السماء برسول جديد، ومنهج جديد. ويأتي الرسول الجديد ومعه المنهج اللازم لإصلاح الكون. ولا يتبع الرسول الجديد إلا المستضعفون القلة، وأهل البصيرة من أهل القوة حتى لا يظن ظان أن الضعفاء لاذوا بالدين ومالوا إليه بسبب ضعفهم. ويحذر الحق المؤمنين وكأنه يقول: إنكم تواجهون باطلاً عض الناس وأرهقهم وأعنتهم، وحين يعضّ الباطل المجتمعات فالذي ينتفع من ذلك هم أهل الباطل، والذي يشقى بذلك هم أهل الحق. فلكل فساد طبقة منتفعة به. وحين توجد الطبقة المنتفعة بالفساد. وحين توجد كلمة الحق فإن المنتفعين بالفساد ينظرون إلى نفوذهم الذي سينحسر حتماً عندما تسود كلمة الحق.
        وحين ينتصر الحق لابد أن يزول الفساد ومعه كل نفوذ أهل المفاسد. لذلك يقف المنتفعون من الفساد ضد الدين الجديد ليحافظوا على مكانتهم في المجتمع.

        نداء الايمان


        تعليق


        • #34
          رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)

          {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)}

          يوضح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: اعلم أن ما جئت به سيخاض فيه، ويقال مرة إنه سحر، ومرة إنه شعر، وثالثة إنه كهانة، ورابعة يتهمونك بالكذب، ولا يقول ذلك إلا المنتفعون بفساد الكون، فإذا ما جاء مصلح فسيجعلونه عدواً لهم.

          لذلك لابد أن تحافظ على أمرين..
          الأمر الأول: أن الذين اتبعوك- وهم ضعاف- قد لا يستطيعون مواجهة القوة الظالمة؛ لذلك لا تحملهم ما لا طاقة لهم به ولكن تَرَيَّثْ؛ فإن لكل نبأ مستقراً
          والأمر الثاني: أَنك إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم وبيِّن لهم الجفوة فلا تقبل عليهم، ولا توادهم، ولا تستمع إليهم، ولا يسمع إليهم أصحابك، لماذا؟ لأنهم يخوضون في آيات الله.

          ولكن أيستمر هذا الإعراض عنهم طوال الوقت؟
          لا، فالإعراض عنهم إنما يكون في أثناء خوضهم وتكذيبهم لآيات الله، أما في غير ذلك من الأوقات فاعلم أن آذانهم في حاجة إلى سماع صيحة من الحق، لذلك انتهز به؛ لأنك إن تركتهم على ضلالهم فإن قضية الإيمان تصير بعيدة عنهم، وأنت مهمتك البلاغ، والله يريد الخير لكل خلقه.

          {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68].

          وكلمة
          (الخوض) هذه تشعرنا بمعنى في منتهى الدقة؛ لأن الخوض في أصله هو الدخول في الماء الكثير. والماء الكثير ساتر لما تحت قدمي الذي يخوض فيه، وما دام قد ستر ما تحت قدميه فهو لا يدري إلى أي موقع تقع قدماه، وربما وقعتا في هوّة، لكن الذي يسير في غير ماء فالطريق واضح أمامه، يضع قدميه حيث يرى فيها ثباتاً واستقراراً وعدم إيذاء. وأخذوا من ذلك المعنى وصف الكلام بالباطل، لأنه خوض بدون اهتداء. ولذلك يقول الحق: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].
          ولماذا وصف فعلهم هذا بأنه لعب؟
          ذلك لأن اللعب هو شغل النفس بشيء غير مطلوب وكان في قالب الجد. ولكن إذا كان هذا الشيء يؤدي إلى نبوغ في مجال من مجالات الحياة فنحن ندرب أبناءنا عليه في فترة ما قبل البلوغ. ومثال ذلك تدريب الأبناء على السباحة والرماية. وركوب الخيل. وما إن يبلغ الإنسان فترة البلوغ حتى تصير له مهمة في الحياة، ويصبح عليه أن يتحمل المسئولية، فلا يضيع وقته في اللعب أو فيما يلهيه عن أداء الواجب.


          {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68].
          والنفس البشرية لها أغيار. وهذه الأغيار قد تنسيها بعض التوجهات. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم موعود من ربه بعدم النسيان. {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6].
          فإذا كان هذا بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف نفهم قول الحق هنا: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين} [الأنعام: 68].
          إننا نفهم هذا القول على أساس أنه تعليم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وحينما ينزل أمر من السماء فرسول الله أولى الناس بتطبيقه، فإذا كان الرسول يُخاطَب: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان} فإذا ما نسي إنسان لغفلة من الغفلات، فليأخذ علاج الله للنسيان، وهو ألا يقعد مع هؤلاء القوم الذين يخوضون في آيات الله في أثناء خوضهم، ولكن عليه أن يتركهم ويعرض عنهم. إذن فالحق سبحانه وتعالى احترم خلقه؛ لأنه وهو العليم بهم، خلق لكل إنسان ملكة حافظة، وملكة ذاكرة، وملكة مخيلة، وكل ملكة من هذه الملكات تؤدي مهمة: فالملكة الحافظة تحفظ المعلومات، والذاكرة تأتي بالمعلومات المحفوظة القديمة لتجعلها في بؤرة الشعور. ولو لم يكن هناك نسيان لما استطاعت فكرة أن تدخل في ذهن الإنسان؛ لأن العقل لا ينشغل إلا بقضية واحدة في بؤرة الشعور. وحتى تدخل قضية أخرى في بؤرة الشعور، لابد أن تتزحزح القضية الأولى من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور.

          لذلك لابد من نسيان خاطر ما ليحل محله خاطر آخر. ولو ظل الإنسان ذاكراً لقضية من القضايا في نفسه لصار من المحال أن تدخل قضية جديدة أخرى. ولهذا خلق الله النسيان، أي انتقال قضية ما من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور.

          والإنسان منا يتذكر شيئاً حدث من عشرين عاماً، ثم يمر هذا الحادث بالخاطر فجأة، ويتساءل الإنسان، كيف؟ ويعرف الإنسان أن هذا الحادث كان محفوظاً ومصوناً في دوائر شعورية بعيدة. ولذلك نجد الإنسان عندما يريد استعادة معنى من المعاني فهو يترك لنفسه فرصة لاستعادة هذا الخاطر أو ذلك المعنى، ولذلك يسمون هذه المسألة (تذكر).



          {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين} [الأنعام: 68].

          ولماذا ينسب الحق النسيان للشيطان؟
          لأن حقائق الحق في دينه هي الصدق، ولا يصح أن تغيب أبداً عن بال المؤمن، وهي لا تغيب عن بال المؤمن إلا بعمل الشيطان فالشيطان يزين الأمر الذي يحبه الإنسان ويشغله عن أمر آخر، فإذا ما نزغ الشيطان لينسى الإنسان، وتذكر الإنسان أن هذا من نزغ الشيطان فليستعذ بالله من الشيطان ولا يقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين.
          وأنت حين تفعل ذلك وتنفر من هؤلاء القوم الظالمين فأنت تلفتهم إلى أن ما عندك من يقين إيماني هو أعز عندك مما في مجالسهم من حديث وما يكون لديهم من نفع. وبذلك تنتفع أنت بهذه التذكرة وهم أيضاً يلتفتون إلى أهمية الإيمان وأفضليته عند المؤمن على ما عداه.

          وما كان الحق سبحانه وتعالى ليفرض على المؤمنين مقاطعة المشركين في أثناء فترة ضعف المؤمنين في بداية الدعوة. وكان المؤمنون يلتقون في المسجد الحرام، وكان المشركون يذهبون أيضاً إلى الكعبة قبل فتح مكة، فهي مكان حجيجهم، فهل يقاطع المسلمون المسجد الحرام في بداية الدعوة الإسلامية ولا يلتقون؟ قطعاً لا. ولكن كان المسلمون يذهبون للقاء في المسجد الحرام، وإذا جاء الذين يخوضون في آيات الله فهم يعرضون عنهم. ووزر الخائضين على أنفسهم.





          {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)}

          أي أنك إذا كنت معهم وخاضوا في الحديث فقمت من مجلسهم أو نسيت وقعدت ثم تذكرت فقمت، فأنت تلفتهم إلى أنّ ما أقامك من مجلسهم هو شيء أكثر أهمية من هذا المجلس، إنه احترام تكليف الله فيما أمرك به ونهاك عنه، وليس عليك ولا على الذين يتقون الله من أوزار هؤلاء الظالمين من شيء، وليس عليكم من حسابهم من شيء، ومجرد قيامكم من مجلسهم هو تذكرة لهم لعلهم يتفكرون في منطق الحق ويخشون الله ويبعدون أنفسهم عن الوقوع في الباطل حتى يكونوا في وقاية من عذاب الله وسخطه.



          نداء الايمان

          تعليق


          • #35
            رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)

            {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}

            قلنا- من قبل-: إن اللعب هو الاشتغال بما لا يفيد لقتل الوقت. وعرفنا أن اللعب مجاله قبل التكليف أي قبل سن البلوغ. وإذا شغلك اللعب عن شيء مطلوب منك فهو لهو؛ لأنك لهيت عن امر واجب عليك، فاللهو- إذن- هو الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة.
            وقوله الحق: {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} هو تصوير لا يوجد أبرع منه؛ لأنهم أصحاب العقول التي تغتر بالحياة الدنيا فهي عقول تائهة؛ فالعقل الناضج يفهم الدنيا على أنها أقل شأناً من أن تكون غاية، ولكنها وسيلة أو مجال وطريق ومزرعة إلى الآخرة.
            وعلى العقل الناضج أن يعاملها دون نسيان مهمتها، وآفة الناس أنهم جعلوا الوسائل غايات، وغاية وجود الناس على الأرض أن يعمروها بالعمل الصالح وعبادة الحق، فمن انجرف عن ذلك فله عقابه يوم الغاية الكبرى، وهو يوم الحساب.

            إننا نعلم أن غاية الإنسان من الحياة الدنيا ليست أن يعيش عمراً طويلاً، ولا أن ينال المناصب، ولا أن يحصل على الثراء، ولا أن ينال القوة، فكل ذلك من الأغيار، والأغيار تختلف من إنسان إلى آخر.
            وما نختلف فيه نحن البشر ليس غاية لوجودنا، والغاية للوجود الإنساني لابد أن تكون واحدة. وأن نتفق فيها جميعاً، هذه الغاية هي ما نصير إليه بعد الموت. ونجاح كل عمل بمقدار ما يقرب الغاية منه. ولذلك فالمؤمن الحق يرى استقبال البشر لقضية الموت استقبالاً أحمق، فعندما يموت شاب في العشرين نجد من يقول: (إنه لم يستمتع بشبابه) والمؤمن الحق يرد على مثل هذا القول متسائلاً: أين تريد أن يستمتع بشبابه؟. ويجيب أصحاب الفهم السطحي: لقد مات قبل أن يستمتع بشبابه في هذه الدنيا.
            ويقول المؤمن الحق: وهل هذه الدنيا هي الغاية؟.
            إنها ليست الغاية، بل الغاية هي الحياة الأخرى. ومن مات قبل التكليف فقد أنقذه الله من الحساب وأوطنه الجنة يتلقى نعيمها الدائم. فلماذا- إذن- هذه المبالغة في الحزن على أي ميت؟ والذي يقترب من الغاية يحب هذه الغاية. وهب أن إنساناً غايته أن يذهب إلى الإسكندرية، والوسيلة إليها قد تكون حصاناً أو عربة أو طائرة، فكل شيء يقربه من الغاية يكون هو الأفضل.

            فإذا كان الله يريد أن يأخذ بعضاً من خلقه وهم في بطون أمهاتهم، فهذه إرادته. والذي ذهب من بطن الأم إلى القبر قرب من الغاية، وخلص من المراحل التي كانت في طياتها الفتنة. ودخل الجنة.
            وهب أن الوليد عاش إلى عمر المائة وصار شيخاً ومر بكل اختبارات الفتنة واستقام على المنهج، فإلى أين مصيره؟ إنه إلى الجنة.

            إذن فعلينا أن نستقبل كل قدر الله بحب: قدر الميلاد أو قدر الخروج من الدنيا، ولذلك يقول الحق سبحانه: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الذي خَلَقَ الموت والحياة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 1-2].
            إنه سبحانه لم يقل إنه خلق الحياة والموت، لا، بل قال: {خَلَقَ الموت والحياة} وذلك حتى يستقبل كل منا الحياة، ويسبقها في الذهن ما ينقض هذه الحياة وهو الموت. إذن فهذه هي الغاية التي يتفق فيها كل الجنس البشري، أما ما عداها فهي أغيار نختلف فيها.

            لذلك لا تقل إن الغاية من ابنك أن ينجح في القبول للإعدادية ثم يحصل على الشهادة الإعدادية، ثم يحصل على الثانوية العامة، ثم يحصل على ليسانس الكلية أو بالكالوريوس التخرج أو درجة الماجستير أو درجة الدكتوراة، ثم يصير صاحب شأن في الحياة، لا تقل ذلك؛ لأن كل ذلك ليس غاية في الحياة، ولأن الغاية هي ما لا يوجد بعدها بعد، ولكن علينا أن نقوم بإعمار الأرض كما أمرنا الله ولكن لا نجعلها هي الغاية.

            ولذلك قال الحق سبحانه: {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} [الحديد: 20].
            هذه هي الحياة الدنيا، ولذلك يجب أن نحيا دائماً على ضوء ما ينجينا من العذاب وهو ذكر الله، إن الحق سبحانه يقول: {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} [الأنعام: 70].
            والذكر هنا مقصود به التذكير بالقرآن وهو المنهج النازل من السماء وطبقه رسول الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذكر أيضاً، أو الذكر هنا مقصود به العذاب الذي ينتظر من يخالف المنهج، وقوله الحق: {وَذَكِّرْ بِهِ}، يدل على أن منطق الفطرة يقتضي أننا نعرف أن الحق لا يمكن أن يعامل المتقين في الدنيا كما يعامل المنحرفين. ومثال ذلك الإنسان الذي يخوض في أعراض الناس ويظلمهم لا يتصور أبداً-أن يلقى من الحق سبحانه المعاملة التي يعامل بها الإنسانَ الملتزم بمنهج الإيمان؛ فالفطرة تقول لنا: إن الحق يجازي كل إنسان بعمله، سواء أكان الجزاء في الدنيا أم في الآخرة. ومن المأثور عن بعض العرب أنه قال: لن يموت ظلوم حتى ينتقم منه الله. ومن بعد ذلك مات رجل ظلوم ولم ير فيه الناس انتقام السماء، فقال الرجل العربي: والله إن وراء هذه الدار داراً يُجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

            {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ}
            والبَسْلُ معناه: المنع، والمنع له صورتان:
            الأولى منع حركة حياة حي.
            أي أن تحبسه في مكان محدد يتحرك فيه
            والثانية: منع من أصل الحياة.. أي أن تهلكه وتزهق روحه
            {تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} أي تُمنع نفس بما كسبت، والمنع إما بالهلاك أو بالحبس حبساً يديم عليها العذاب. والحبس- في أعراف البشر- وهو وضع إنسان في مكان لكفِّه عن ظلم غيره، أي أننا نمنع شرور إنسان عن المجتمع بوضعه في الحبس.
            وعندما جاء الإسلام لم يحبس فرداً إنما حبس المجتمع عن فرد، وهذا عقاب أكبر وأشد؛ فقد ترك الإسلام المجرم حرّاً في المجتمع ولكنه حبس المجتمع عنه؛ فالمجرم يمشي فلا يجد من يكلمه أو يضحك له أو يفرح معه أو يشاركه حزنه.
            وحدث ذلك عندما حبس المؤمنون أنفسهم عن ثلاثة تخلفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أن إنساناً منهم جاء ليقرب امرأته فرفضت. وحاول ثان أن يسلم على ابن عمه فما رد عليه السلام فجلس يبكي. وقاطع كل الناس هؤلاء الثلاثة، وهذه هي عظمة الإسلام، لقد سجن المجتمع عن المجرم فتعذب المجرم بقطيعة المجتمع له.

            {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} أي ذكر بالقرآن أو بالمنهج أو بعاقبة مخالفة الإنسان للمنهج. والعقاب إما حبس وإما هلاك، وذلك بسبب ما تكسب النفس. والكسب في اللغة معناه زيادة على رأس المال. وللكلمة اشتقاق ثان وهو (اكتسب). ومرة تأتي الكلمتان في معنى واحد، فالكسب يحدث دون افتعال ودون تعب أو مشقة، أما الاكتساب فهو يحدث بافتعال وبمعالجة وعنت؛ لأن الذي يصنع المحرَّم يأخذ أكثر من قدرة ذاته، فيكون قد اكتسب. أما الذي يأخذ الأمر المشروع له فهو قد كسب. ولكن بعض الناس تأخذ ما اكتسبوه باحتيال ومكر ويظنون أنه كسب وهذا هو الشر؛ لأنه يأخذ غير المشروع له ويحلله لنفسه، ويعتبره كسباً لا اكتساباً.
            ولذلك يقول الحق سبحانه: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286].
            إن (لها) أي لصالح النفس؛ لأنها أخذت ما هو حق لها. و(عليها) أي ضد النفس؛ لأنها افتعلت في أخذ ما ليس حقاً لها. ومثال ذلك: نظرة الرجل إلى زوجته، إنها نظرة طيبة إلى حلال طيب. لكن نظرة الرجل إلى امرأة غريبة قد تحتوي من الافتعال الكثير؛ فهو يتلصص ليراها، ولا يرغب في أن يراه أحد وهو يختلس النظر إليها، وهذه كلها انفعالات مفتعلة.

            ومثال آخر: سيدة البيت عندما تدخل إلى مطبخها فتتناول شيئاً لتأكله، إنها تأكل من حلال مال زوجها، أما الخادمة فعندما تريد أن تأخذ قطعة من اللحم من المطبخ دون علم أهل البيت فهي تتلصص، وتحاول معرفة عدد قطع اللحم، وقد تتساءل بينها وبين نفسها: ألم تقم ربة البيت بحصر عدد قطع اللحم؟ ولذلك فهي تأخذ من كل قطعة لحم قطعة صغيرة.
            وهذا افتعال يتعب الجوارح؛ لأن مثل هذه الأمور تتعب ملكات الإنسان، إنّه يحاول أن يرضي ملكة واحدة فيتعب كل ملكاته الأخرى.

            {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ} [الأنعام: 70].
            إذن فهي النفس التي تحبس وتسلم نفسها إلى الهلكة والعذاب بسوء كسبها ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع، ولا يُقبل منها عدل.

            وهذه مراحل متعددة تبدأ بقوله الحق:

            {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ}
            والولي هو الذي ينصرك إن كنت في مأزق. ومأزق الآخرة كبير، فماذا عن الإنسان الذي ليس له ولاية؟ إنه العذاب الحق.
            والمرحلة الثانية
            {وَلاَ شَفِيعٌ} أي ليس له من يشفع عند من يملك النصرة وهو الله؛ فالذي يحبك إن لم ينصرك بذاته فإنه قد يشفع لك عند من يستطيع أن ينصرك. وهذا أيضاً لا يوجد لمن لم يتذكر ويتعظ ولم يتبع المنهج الإيماني.
            والمرحلة الثالثة
            {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ} أي أنه لا تقبل منه فدية.
            فهذه المنافذ الثلاثة قد سُدّت ولا سبيل للنّجاة لهؤلاء الذين قال فيهم الحق:
            {أولئك الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ} أي أهلكوا أو حُبسوا في الجحيم حبساً لا فكاك منه، وليس هذا فقط ولكن الحق يقول أيضاً: {لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}.

            إن كلمة (شراب) إذا سمعناها فإننا نفهم منها الرِّي. ولكن الحق هنا يتبع كلمة (شراب) بتحديد مصدر هذا الشراب، إنه (من حميم) ليحدث ما يُسمى (انبساط) و(انقباض)؛ فالشيء الذي يسرّ الإنسان تنبسط له النفس. والشيء الذي يحزن الإنسان تنقبض له النفس. ولو أن الأمر المحزن جاء بداية في هذا القول الكريم لانقبضت النفس في المسار الطبيعي، لكن الحق شاء أن يأتي أولاً بكلمة من يسمعها تُسر نفسه وهي (شراب) ثم تبعها بما يقبض النفس (من حميم) ليكون الألم ألمين: ألم زوال السرور، وألم مجيء الحزن.
            ويصور القرآن في موضع آخر هذه الصورة فيقول: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه...} [الكهف: 29].
            وتنبسط النفس حين تسمع الجزء الأول وهو: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ} ولكنها تنقبض فور سماعها {بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه}.
            وصورة أخرى عندما يقول الحق: {... فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34].
            وتنبسط النفس- كما علمنا- حينما تسمع خير البشارة؛ لأن البشارة تأتي للأمر المفرح، وتنقبض عندما تعلم أن البشارة هي بالعذاب الأليم. إذن فقد جاء الحق بالانبساط، وجاء بالانقباض. وهذه سنة من سنن الله في التأديب. ومثال على ذلك: عندما يرتكب إنسان مظالم كثيرة، وتفاقم واستفحل شره ويريد الله أن ينتقم منه، إنه سبحانه لا ينتقم منه وهو على حاله الطبيعي، إنما يرفع الحق سبحانه هذا الظالم إلى درجات عالية ثم يخسف به الأرض.
            ولذلك يقول الحق: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً...} [الأنعام: 44].
            وساعة تسمع {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ} فأنت تخاف؛ لأن الفتح هنا (عليهم) وليس (لهم). لكنك ساعة تسمع قوله الحق: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1].
            فإنك تحس بالانشراح والسرور؛ لأن الفتح هنا لصالح المتلقي وليس عليه هكذا يريد الحق أن يصْلى المتجبرون العذاب المضاعف: {... لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [الأنعام: 70].
            والعذاب هنا نتيجة لما فعلوه وليس فعل جبار متسلط. أما غيرهم من المتساوين معهم في الملكات، واختاروا الخير فآمنوا بالمنهج وطبقوه على أنفسهم فقد نالوا الخير بما فعلوا، والتكوين الإنساني في ذاته صالح لفعل الخير ولفعل الشر، وسنة الحق واضحة جلية: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8].


            نداء الايمان


            تعليق


            • #36
              رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)

              {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)}

              هذه الآية تبدأ بسؤال عن عبادة الأصنام أو غيرها، ما الذي صنعته تلك الأصنام أو غيرها لمن عبدها؟ وماذا صنعت لمن لم يعبدها؟. وهذا أول منطق في بطلان ألوهية غير الله، فمن عبد الشمس مثلا ماذا أعطته الشمس؟ ومن كفر بها كيف عاقبته الشمس؟. إنها تشرق لمن عبدها ولمن لم يعبدها. والصنم الذي عبدوه، ماذا صنع لهم؟ لا شيء. وهذا الصنم لم يُنْزِل عقاباً على مَنْ لم يعبده، بل إن الذي انتفع هو من لم يعبد الأصنام؛ لأنه أعمل فكره ليبحث عن خالق لهذا الكون.

              وهكذا نجد النفع والضر إنما يأتيان من الإله الحق: {وَنُرَدُّ على أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله} والإنسان دائماً حين يسير فهو يقطع خطوة إلى الأمام فيقصر المسافة أمامه، أما من يُرَدُّ على عقبه فهو من يرجع هذه الخطوة التي خطاها.
              وهذا حديث المؤمنين الذي يرفضون أن يعودوا إلى عبادة غير الله لأنهم آمنوا وساروا في طريق الهدى، وليس من المنطق أن يرتدوا على أعقابهم وأن ينقلبوا خاسرين.


              {كالذي استهوته الشياطين فِي الأرض} كلمة (شيطان) مقصود بها عاصي الجن. والجن جنس مقابل للإنس، وما دام في الإنس طائعون وعاصون فكذلك في الجن طائعون وعاصون.
              والحق قال: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} [الجن: 1-2].
              إذن فمن الجن من هو مؤمن. ومن الجن من هو عاصٍ. والعاصي من الجن يُسمى شيطاناً. وإياك أن تنكر أيها المسلم وجود الشيطان لأنك لا تراه، لأن الشيطان من المخلوقات التي ذكرها الله من عالم الغيب، وحجة وجودها هو تصديقك لمن قال عنها، وهناك فرق منطقي وفلسفي بين وجود الشيء وبين إدراك وجود الشيء. والذي يتعب الناس أنهم يريدون أن يوحدوا ويربطوا بين وجود شيء وإدراكه. وهناك فارق بين أن يوجد أو يدرك؛ ذلك أن هناك ما يكون موجوداً ولكنه لا يُدرك.


              {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ على أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله} [الأنعام: 71].
              جاء هذا التصور في صورة استفهام. إنّ الحق طلب من رسوله أن يقوله، فكأن الصورة: أن قوماً هداهم الله إلى الحق فدُعُوا إلى أن يعبدوا غير الله ويدعوا ما لا ينفع ولا يضر، فيردوا على أعقابهم، أي بعد الهداية، وهذه هي صورة الحيرة والتردد؛ لأنهم كانوا على هدى، ثم دُعُوا إلى أن يعبدوا من دون الله ما لا ينفع ولا يضر. وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطينا صورة لهذه الحيرة، ولهذا التردد، فقال: {كالذي استهوته الشياطين}.
              و(استهوته) من مادة (استفعل) وتأتي دائماً للطلب؛ كقولنا (استفهم).
              أي طلب الفهم، و(استخرج). أي طلب الإخراج للشيء، (فاستهوته) طلبت هُوِيَّة. أي جعلته يتقبّل ما تريد واستولت عليه دون أن يكون لديه أي دليل أو حجة على صحة ما تدعوه إليه بأن صار عجينة تشكله الشياطين كما تشاء، وترده مادة (الهاء والواو والياء) لمعانٍ، إن مُدَّت؛ فهي الهواء الذي نتنفسه، وما به أصل الحياة، وإن قُصِرَت، فإنها هي الهَوَى وهو ميل النفس إلى شيء، أو تكون هُويًّا أي سقوطاً.
              إذن فالمادة تأتي إما للهواء إن كانت ممدودة، وإن كانت بالقصر فهي من الهَوَى أو من الهُوِىّ؛ كأن تقول: (هَوَى، يَهْوِي؛ هُوِيّاً) أي سقط من علوٍّ إلى أسفل، وهَوِىَ، يَهْوَى، هَوّى. أي أحبَّ، وهكذا نعرف أن (استهوته) أي طلبت هويَّه أو هواه أي ميل نفسه إلى اتباع الهَوَى، وحين تستهوي الشياطين الإنسان فهي تريد أن تجتذبه إلى ناحية هواه، وتوقظ الهوى في النفس، وبذلك تدعوه ليَهْوِي. والحق يقول: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].
              وحين يخرّ عبد من السماء، إما أن تتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، وحين تأتي إلى الهَوَى والهُوِىّ فاعلم أن الهوى يجذبك إلى ما يضرك، ولذلك لا تسلم منه إلا أن يكون هواك تبعاً لما جاء به الحق، ولكن إن اتبعت هواك فلابد أن يؤدي بك إلى الهُوِيّ:
              {كالذي استهوته الشياطين فِي الأرض حَيْرَانَ} [الأنعام: 71].
              وما هي الحَيْرة؟ هي التردد بين أمر ومقابله. وعرفنا من قبل أن الحَيْرة في هذه الآية جاءت لمن اهتدى وسار خطوة للمنهج ثم رُدَّ على أعقابه ورجع، ولكن له أصحاب يدعونه إلى الهدى، فهو بين شيطان يستهويه، وأصحاب يدعونه للمنهج؛ لذلك يكون حيران: بين هاوية ونجاة، والشيء الذي يهوي لا استقرار له، وحين نرى- على سبيل المثال- حجراً يهوي للأرض نجده يدور، ولا اتجاه له.

              وهذه صورة معبرة، ويأتي له القول الفصل:
              {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} [الأنعام: 71].
              فمن يتبع إذن؟ إنه يتبع الذين يدعونه إلى منهج الحق سبحانه وتعالى؛ لأن الهدى هو المنهج والطريق الموصل للغاية، والصنعة لا تضع غاية لنفسها، بل الذي يضع الغاية هو من صنعها، وسبق أن قلت: إنّ التليفزيون لا يقول لنا غايته، ولا يعرف كيف يصون نفسه، بل يضع ذلك مَنْ صنعه، وكذلك الإنسان عليه أن يأخذ غايته مِمَّن خلقه، والذي يفسد الدنيا أن الله خلق، لكن الناس أرادوا أن يضعوا لأنفسهم قانون الصيانة، لذلك نقول: إن علينا أن نأخذ قانون الصيانة ممن خلقنا، وهدى الله هو هدى الحق.
              وجاءت (الهدى) هنا لتعطينا يقيناً إيمانياً في إله واحد، وحين توجد عقيدتنا في إله واحد، لا تختلف أهواؤنا أبداً؛ لأنه هو الذي يضع لنا القانون، وساعة يضع لنا القانون ويكون كلٌّ مِنِّا خاضعا لقانونه، لا يذل أحد منا لأحد آخر؛ فأنا وأنت عبيد لإله واحد، ولا غضاضة عليك ولا غضاضة عليّ. وحين يُريد البشر أن يسير الناس على أفكارهم فإن صاحب الفكر يريد أن يُذِل الآخرين له ويأخذهم على منهجه وعلى مبدئه، وهو في الحقيقة ليس أفضل منهم، ولذلك تجد الهداية الحقة حين نخضع جميعاً لإله واحد، ويتساند المجتمع ويتعاضد ولا يتعاند، ويتوجه الهوى إلى محبة منهج الله. {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} [المؤمنون: 71].
              ولهذا جاء الدين؛ لأن الشرع لا يقرر شيئاً ضد الإنسان.

              ونذكر جميعاً قصة ملكة سبأ وسيدنا سليمان عليه السلام حينما قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ}. ولم تقل: أسلمت لسليمان بل أسلمت مع سليمان لله، فلا غضاضة أن تكون قد أسلمت فهي ليست تابعة لسليمان، بل تابعة لرب سليمان، إذن حين يأتي التشريع من أعلى، لا غضاضة لأحد في أن يؤمن، ولا يظن واحد أنه تبع لآخر بل كلنا عبيد لله. وحين نكون جميعاً عبيداً لواحد نكون جميعاً سادة.
              ويتمثل الهدى في الإيمان بإله واحد، ونأخذ هذا الإيمان بأدلتنا العقلية. إننا ندخل عليه من باب العقل، ونسلم أمرنا له؛ لأنه هو أعلم بما يصلحنا. {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} [الأنعام: 71].




              {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)}

              هنا تجد الأمر بثلاثة أشياء: نُسْلِمُ لرب العالمين، ونقيم الصلاة، ونتقيه سبحانه، لماذا؟؛ لأن كل الأعمال الشرعية التي تصدر من الجوارح لابد أن تكون من ينابيع عقدية في القلب.

              وكيف نسلم لرب العالمين؟. أي نفعل ما يريد وننتهي عما ينهى عنه، ثم نقيم الصلاة وهو أمر إيجابي، ونتقي الله أي نتقي الأشياء المحرمة وهو أمر سلبي، وهكذا نجد أن الهدى يتضمن إيماناً عقدياً برب نسلم زماننا له؛ لتأتي حركتنا في الوجود طبقاً لما رسم لنا في ضوء (افعل) و(لا تفعل)، وحركتنا في الوجود إما فعل وإما ترك. والفعل أن نقوم بسيد الأفعال وهو الصلاة، والترك أن نتقي المحارم، وهذا كله إنما يصدر من الينبوع العقدي الذي يمثله قوله: {لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين}.
              والحق سبحانه وتعالى حينما يأمر بفعل أو ينهى عن شيء هو يعلم أنك صالح للفعل وللترك، فإذا قال لك: افعل كذا، فأنت صالح ألا تفعل، وإذا قال: (لا تفعل كذا)، فأنت صالح أن تفعل، ولو كنت لا تصلح لأن تفعل لا يقول لك: افعل؛ لأنك مخلوق على هيئة تستطيع أن تفعل وتستطيع ألا تفعل، وهذا هو الاختيار المخلوق في الإنسان، أما بقية الكون كله فليس عنده هذا الاختيار.

              مثال ذلك: الشمس، إنها ليست حرّة أن تشرق أو لا تشرق، الهواء ليس ليس حراً أن يهب أو لا يهب، والأرض في عناصرها ليست حرّة في أن تكتمها أو لا تكتمها، لكن الإنسان مميز بقدرته على أن يختار بين البدائل؛ لذلك لابد أن يكون صالحاً للأمرين، والخطأ إنما يأتي من أن تنقل مجال (افعل) في (لا تفعل). أو مجال (لا تفعل) في (افعل). والمؤمن يأخذ منطقية (افعل) في مجال (الفعل)، ومنطقية (لا تفعل) في مجال الترك.
              وحين تنظر إلى الإنسان تجد أن التكليف الإلهي يناسب التكوين البشري. وأنت تشترك مع الجماد في أشياء، ومع النبات في أشياء، ومع الحيوان في أشياء، وتتفوق على الكل بقدرة الاختيار التي منحك الله إياها.

              ولتوضيح هذا الأمر أقول: لنفترض أن واحداً أخذك إلى مكان مرتفع ثم تركك في الجو عندئذ تسقط على الأرض، وهكذا تجد أن قانون الجماد ينطبق عليك، فليس لك إرادة أن تقول: (لا أريد أن أقع) وهكذا نرى الجمادية فيك، وانظر إلى (النمو) الذي لا تتحكم فيه ولا تقدر أن تقول: (سأنمو اليوم بزيادة في الطول قدرها نصف الملليمتر) بل أنت لا تعرف كيف تنمو، وأنت لا تعرف كيف ينبض قلبك، ولا سرّ الحركات الدودية للأمعاء، ولا حركة المعدة، أو عمل الكبد، أو حركة التنفس التي بها تقوم الحياة، وكل ذلك أمور قهرية، ومن رحمة الله بنا أنها قهرية، فلو كانت اختيارية لتحكم فيها غيرك.
              إذن من رحمته بنا سبحانه أن جعلنا مقهورين في هذه المسائل، ومسخرين فيها، وبعد ذلك خلق لنا الاختيار في التكليف، افعل، ولا تفعل، والتكليف من الله سبحانه وتعالى في الأفعال التي تقع من الإنسان لا في الأفعال التي تقع على الإنسان؛ لأن الأفعال التي تقع من الإنسان هي التي فيها اختيار ويبحثها العقل أولاً، لينفذها الإنسان بعد ذلك. ولذلك لا يكلف ربنا إلا العاقل الناضج؛ لأنه لا توجد قوة تقهره على غير ما يختار. أما المجنون فليس عليه تكليف؛ لأنه لم يُدرْ المسألة في رأسه قبل ان يفعل، وكذلك من لم ينضج؛ لأنه لم يصل إلى قوة الفهم الكامل، وكذلك المقهور على فعل بقوة إنسان أو سلطان أقوى منه.
              وهكذا نعلم أن التكليف لا يلزم الإنسان في تلك الحالات حيث لا يوجد عقل أو يكون العقل غير ناضج، أو أن يوجد قهر.

              ويتابع الحق:
              {وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ولو أن المسألة- مسألة الإيمان- مجرد مظهر لا جوهر لما ترتب عليها نتيجة، ولكن لننتبه إلى أن هناك غاية. وأضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى- نجد التلميذ مثلاً إن حضر الدرس أو لم يحضر، استمع إلى المدرس أولاً، ذاكر أو لم يذاكر، ألا يظهر كل ذلك في شهادة نهاية العام؟.

              إذن فالحساب قائم على كل فعل؛ لأنك تتمتع أيها الإنسان بخاصية الاختيار، أي أنك صالح لتفعل أو ألاَّ تفعل، ولذلك يرشدك الإيمان إلى العمل الصالح؛ لأن هناك غاية؛ إنَّك ستصير إلى من يحاسبك على أنك نقلت (افعل) في مجال (لا تفعل)، أو (لا تفعل) في مجال (افعل). فإن كنت لا تأخذ أمور الإيمان لصلاحية حياتك فخذها خوفاً من الجزاء والحساب.


              نداء الايمان


              تعليق


              • #37
                رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)

                {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)}

                والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، وما دام الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير فلننظر إلى خلق السماء والأرض، يقول سبحانه: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41].
                وحين ننظر إلى الأفق نجد السماء من غير عمد، وهذه مسألة عجيبة، ولذلك يقول سبحانه: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2].

                وهنا يقول الحق: {خَلَقَ السماوات والأرض} وذلك حتى نعرف أن خلق السموات والأرض ليست عملية سهلة وهو سبحانه القادر؛ إنّه خلقك أنت بخلق عجيب، وأعجب منه خلق السموات والأرض، فهو القائل: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57].
                وحين ينظر الإنسان في تكوينه يجد أشياء عجيبة، ويتحقق من قول الله: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21].

                وحين تتأمل السماء والأرض تجد دقة الخلق، فكأنه سبحانه قد جعل نفسك مقياساً، إنك ستعلم أحوالها تباعاً وأنك سَتُهْدَي مع الأيام، إلى سر جديد في هذه النفس، هذا السر لم يعرفه الأولون، لكنك حين تتقدم في البحث العلمي وآلات السبر وآلات الاختبار تتعرف وتكتشف هذا الجديد.


                مثال ذلك ما يسمى بالاستطراق، وكلنا رأينا الأواني المستطرقة التي نضع فيها سائلا ينفذ في أنابيب متعرجة وأخرى مستقيمة، فيرتفع السائل فيها بمستوى واحد وهو ما نسميه بظاهرة الاستطراق، وهناك استطراق مائي، ويوجد أيضاً حراري، ويتمثل الاستطراق الحراري حين نأتي بالمدفأة في الشتاء ونجلس في الغرفة، ونشعر بالحرارة التي تشع من المدفأة، وأنت تجد نفسك محتفظاً بدرجة حرارتك العادية وهي سبع وثلاثون درجة. ومن العجيب أنها تتساوى في البشر جميعا حتى في القطب الشمالي والقطب الجنوبي!! فلماذا لم تستطرق درجة حرارتك مع الجو؟ ولماذا لم يأخذ الجو البارد من حرارتك لتتساوى درجات الحرارة؟.

                إن ذلك يثبت أن ذلك ذاتية تجعلك وحدة مستقلة عن الكون الذي تحيا فيه، وتظل درجة حرارتك عند خط الاستواء 37 درجة، وفي القطبين 37 درجة، هذا عجيب، والأعجب من ذلك أن أجزاء جسمك المختلفة تختلف فيها درجة الحرارة، فلو أن درجة حرارة العين 37 درجة لانصهرت؛ لذلك تجد أن درجة حرارة العين تسع درجات فقط، وهناك الكبد الذي تبلغ درجة حرارته أربعين درجة، وكل أعضاء جسمك وهي مجموعة في شكل واحد ومع ذلك لا تستطرق فيها درجة الحرارة. ولذلك قال الحق: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}.


                ومثال آخر من عملية التنفس، فحين تدخل ذرة من غبار في مجرى النفس نجد السعال قد هاجم الإنسان ليطرد هذه الذرة وتجد أنك قد سعلت قسراً إلى أن تطرد هذه الذرة، فهل أنت سعلت بقرار منك؟ لا، بل هو عمل لا إرادي خاضع لنظام دقيق لا يمكن أن يصممه إلا خالق له مطلق الحكمة، وعلى سبيل المثال نجد الكبد محوطا بتغليفات متتابعة ليحتفظ بحرارته التي تبلغ أربعين درجة؛ لأنه لا يؤدي مهمته إلا عند هذه الدرجة.
                وكذلك نجد أنّ الأذن هي أطول عضو يشعر بالبرودة؛ لأن درجة حرارتها قليلة، وهكذا أراد الصانع الأعلى. كما جاء في قوله تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} [الأنعام: 73].
                لقد خلق الحق السموات والأرض بقوانين ثابتة لا تتغير إلا بمشيئته، فهو القائل: {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].

                فيامَنْ تريد النظام دليلاً على حكمة الخالق الموجد خذها في النظام الأعلى. ويا من تريد الشذوذ دليلاً على سيطرة الحق فوق الميكانيكية، خذها في الأفراد؛ لأنه لو حصل شذوذ في الكون الأعلى لفسدت السموات والأرض، لكن عندما يوجد أعمى واحد من ألف إنسان، فلا يحدث خلل في الكون، ولذلك نجد الشذوذ إنما يأتي فيما فيه عوض، والنظام يأتي فيما في تركه فساد، كما يقول سبحانه: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحق} [الأنعام: 73].

                وبذلك نرى الإيجاد الأول بالحق، وأيضاً حين يهدم سبحانه السماء والأرض وينهي الدنيا ويزيلها، فتمور السماء، والكواكب تنتثر وتتساقط؛ فإن ذلك يحدث أيضاً بالحق، فليس الخلق والإيجاد وحده دليلاً على عظمة الخالق بل إنهاء الخلق وإفناؤه وإزالته أيضاً دليل عظمة؛ لأنه سبحانه قال في البدء: (كن) فكان الكون، وفي النهاية يقول: (كن) فيكون إنهاء الخلق ليعطي للمحسن جزاء إحسانه، ويحاسب المسيء؛ لأن المحسن قد يشقى بإحسانه طول عمره، ولابد له من ثواب، والمسيء لن يأخذ راحته بل يأخذ عقاباً. فمن الخير والعظمة أن تنتهي الحياة ليأتي يوم الحساب لينال كلٌُّ جزاءه.
                إذن فخلق السموات والأرض حق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق، فالحق في الإيجاد والحق في الإعدام، إنّه حاصل في بدء الخلق، وفي نهايته.
                {وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور عَالِمُ الغيب والشهادة وَهُوَ الحكيم الخبير} [الأنعام: 73].
                وهل كان الملك يوماً لغير الله؟
                في هذا المقام علينا أن ننتبه إلى أن فيه ملْكاً، ويقال لصاحبه مالك، وفيه مُلك ويقال لصاحبه ملك. والملك ما تملكه؛ فقد تملك جلبابك الذي ترتديه. أما المُلْك فهو أن تملك من يَمْلك، فهذا اسمه مُلْك، وربنا سبحانه وتعالى في دنيا الأسباب جعل لكل واحد منا ملكاً، وجعل لبعض علينا مُلكاً فبقوا ملوكاً، لكن في الآخرة لا يوجد شيء من هذا، لذلك يقول الحق: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].

                وفي الدنيا قد تملك مثلاً أن توظفني عندك وتعطيني أجراً، وقد تملك أنك تطبخ لي طعامي أو تعطيني طعاماً، أو تملك أنك تخيط جلبابي، لكن في الآخرة لا يملك أحد لأحد سبباً؛ لأننا نحيا في الدنيا بالأسباب التي منحنا الله إياها، وفي الآخرة بالمسبب وحده دون أسباب.
                {وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} ولو سلسلتها قبل أن ينفخ في الصور تجد الملك أيضاً لله ولكن بوسائط؛ لأن الحق سبحانه وتعالى جعل الأرض أرض معاش، وهناك الآخرة إنّها أرض معاد، لذلك قال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبراهيم: 48].

                والأرض التي نحيا عليها مخلوقة لنستعمرها، ونحرث جزءاً منها لنزرعه، ونبني بيوتاً على جزء آخر، وهكذا تكون المسألة كلها أسبابا يتوافق بعضها مع بعض؛ فأنا لا أستطيع أن أحرث إلا بمحراث، وكذلك من يرغب في استخراج عنصر الحديد من الأرض يقيم منجماً، ومن يرغب في استخراج البترول يأتي بالآلات التي تستكشف أماكنه، ولا أحد يستطيع أن يملك كل أسباب حياته بل توجد في يده زاوية واحدة، وباقي الزوايا في أيدي بقية الخلق.
                وحين تسلسل الأسباب التي نحيا بها سنرجع للحق سبحانه وتعالى، فحين تنتهي يد المخلوق وأسبابه تضيق به فإن يد الخالق جلت قدرته مبسوطة إليه دائماً، وإياك أن تغرك الأسباب ولكن سلسل الأسباب إلى أن تنتهي إلى الله.

                ولو سلسلت كل ظاهرة من ظواهر الكون لوصلت إلى منطق الحق؛ فالطفل الصغير يرقب ظاهرة في البيت، هي زر في الحائط، عندما يضغطون عليه بأصبع واحد يضيء المصباح، فيقلدهم، وحين يراه أخوه الذي يدرس الإعدادية يقول له: لا تصدق أن الضوء يأتي من هذا الزر بل هناك سلك قادم من خارج المنزل يربط بين صندوق الكهرباء والمنازل، وحين يسمعهما من هو أعلى منهما علماً يشرح لهما أن الكهرباء الموجودة داخل هذا الصندوق قادمة من المولد الكبير الذي في موقع ما من المدينة، وقد صنعته المعامل والعقول حتى ينتهي الشرح فيصل إلى فكرة التيار المكهرب المستخلص من شلالات الأنهار مثلا.

                إذن فكل ظاهرة تراها أمامك وراءها حلقات غيبية لو سلسلتها لوصلت إلى الحق سبحانه وتعالى، وسبحانه قد احترم دنيانا وجعلنا نفهم أن بعضنا له مُلك، ولكن نقول لكل مَلِك: إن هذا المُلك ليس بذاتك؛ لأنه لو كان بذاتك لما سلبك أحد هذا المُلْك أبداً. وسبحانه القائل: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك} [آل عمران: 26].
                إذن فليس هناك من له المُلْك بذاته إلا الله.
                والحق يقول هنا: {وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور عَالِمُ الغيب والشهادة وَهُوَ الحكيم الخبير} [الأنعام: 73].
                ينفخ في الصور تفيد الإيذان بمقدم أمر ما، فبعد النفخة الأولى يموت من كان حيًّا، وبعد النفخة الثانية يصحو الموتى ويقومون.
                وكلمة {عَالِمُ الغيب والشهادة} تشرح لنا أنه سبحانه ما دام عالم الغيب فمن باب أولى أنه يعلم المشهود. وهذا تعبير دقيق، وإنّه يعلم الغيب ويعلم الشهادة وعلمه يترتب عليه جزاء لا عن تحكم، ولكن عن حكمة.

                ويذيل الحق الآية بقوله سبحانه:
                {وَهُوَ الحكيم الخبير} والحكيم هو الذي يضع كل أمر في مكانه، والخبير هو من يعلم كل شيء بإحاطة تامة، وسبحانه ليس بحاجة إلى أن يظلم أحداً، لأن من يظلم إنما يريد أن ينتفع بالشيء الموجود لدى المظلوم، وربنا لا ينتفع بحاجة من هذه، بل ينفعنا جميعاً، ولذلك إذا نظرت إلى الإيمان تجده كله عزّة، وأنت تجد الناس تكره كلمة (عبودية)، وتقوم حروب من أجل تحرير البشر من عبودية البشر، أما عبودية بشر للحق فأمرها مختلف؛ لأن العبودية للبشر، نجد فيها أن السيد يأخذ خير عبده، ولكن العبودية لله نجد فيها أن العبد يأخذ خير سيده، وهكذا تكون العبودية لله عزّة، أما العبودية للبشر فهي ذلة.
                ولذلك نجد الله سبحانه وتعالى قد امتن على نبيه بصفة العبودية فقال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1].
                فقد أخلص صلى الله عليه وسلم العبودية لله، فأخذ من فيوضات الحق بما يناسب عبوديته.
                والحق سبحانه يوضح لكل عبد: نم ملء جفنيك؛ فأنا لا تأخذني سنة ولا نوم، وأنا قيوم، وإن احتجت مني إلى شيء ما فادعني وسأمد لك يد العون بما يناسبك، فهل في هذه العبودية لله شيء غير العزّة؟!


                نداء الايمان









                تعليق


                • #38
                  رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)
                  • {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)}

                    الحق سبحانه وتعالى يعطي له صلى الله عليه وسلم ما يسليه ويصبّره على مشقات الدعوة؛ لأن الدعوة للإسلام في أوله أرهقت رسول الله وأصحاب رسول الله، فيريد سبحانه أن يعطيهم مُثُلاً حدثت للرسل، وهنا يأتي الحق بخبر عن أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} [الأنعام: 74].
                    وساعة أن تسمع (إذ) فافهم أن (إذ) ظرف، أي واذكر جيداً الوقت الذي قال فيه إبراهيم لأبيه آزر (أتتخذ أصناماً آلهة)؟ وما دمت تذكر هذه، ففي التذكرة تسلية لك عما يصيبك في أمر الدعوة.


                    وهنا وقف العلماء وقفة طويلة، وتساءل بعضهم: هل آزر هو أبو إبراهيم، أو أن والده هو تارخ؟
                    وقلت من قبل: إن الأبوة تمثل ما هو أصل للفرد؛ فالأب، والجد، وجد الجد أب، وأطلقت الأبوة على المساوي للأب، مثل العم. وجاء مثل هذا في القرآن حين قال الحق سبحانه: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ} [البقرة: 133].
                    وآباء هنا جمع، وإذا ما عددنا هؤلاء الآباء نجدهم: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، والكلام من يعقوب، وأبوه إسحاق، وإسحاق بن إبراهيم، وبرغم ذلك جاء سيدنا إسماعيل وسط هؤلاء الآباء، فكأنك إن وزعتها قلت: (إبراهيم أب، ويبقى اثنان: هما إسماعيل وإسحاق. وإسماعيل هو أخ لإسحاق، كأن القرآن نطق بأن العم يطلق عليه أب).

                    وأقول ذلك لأضفي مسألة وقع فيها اللغط الكثير؛ فالبعض من العلماء قال: هل كان آزر أباً لإبراهيم؛ والحديث الشريف يقول: (خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء).
                    فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه من سلسلة نسب مُوَحِّد لا يمكن أن يكون للشرك فيه مجال، وآزر كان مشركاً، وما دام الحق يقول في آية أخرى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ}. فلو أن آزر الوالد الحقيقي لإبراهيم لكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من ذريته. وأرى أنه عمّه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «ما زلت أتنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات»، وهو قول يدل على أن نسبة الشريف مطهر من الشرك من جهة الآباء ومن جهة الأمهات، إذن فلا يصح أن نعتقد أن أبا إبراهيم هو آزر؛ لأنه كان على هذا الوضع مشركا


                    لكن كيف نفسر قول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ}؟.
                    نقول: إننا نأخذ اللغة، ونأخذ استعمالات القرآن في معنى الأبوة. والقرآن صريح في أن الأبوة كما تطلق على الوالد الحقيقي الذي ينحدر الولد من صلبه تطلق كذلك على أخي الوالد أو عمه.
                    والدليل على ذلك أن القرآن الذي قال: {لأَبِيهِ آزَرَ} وهو بعينه القرآن الذي قال:
                    {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ} [البقرة: 133].
                    إذن آباء هي جمع أب، وأقل الجمع ثلاثة: إبراهيم إذن وكذلك العم إسماعيل يطلق على كل منهما أب، وأيضاً إسحاق وهو والد يعقوب، هؤلاء هم الآباء المذكورون في هذه الآية.
                    وهنا نفهم أن أبوة إسماعيل ليعقوب إنما هي أبوة عمومة؛ لأن يعقوب بن إسحاق، وإسحاق أخو إسماعيل. إذن فقد أطلق الأب وأريد به العم، ويدلنا الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك حينما أُخِذَ عمه العباس أسيراً فقال: ردوا عليّ أبي؛ وأراد عمّه العباس.

                    وبعد ذلك نأتي لنقول: إننا حين نطلق كلمة الأب في أعرافنا نعلم أن اللغة التي نتكلمها لغة منقولة بالسماع، مركوزة في آذاننا، ينطق بها لساننا، والعامية وإن كانت تحرف الفصيح إلا أن أصولها منقولة عن أسلافنا وآبائنا، وهم حين يريدون الأب الحقيقي يقولون له أب ولا يأتون باسمه الشخصي؛ فإذا جاء لك إنسان وقال لك: أبوك موجود؟. ولم ينطق باسم الوالد فهو يقصد والدك فعلاً. لكن افرض أن لك عَمّاً، فيقول لك السائل: أبوك محمد موجود؟
                    لقد جاء هنا بتحديد الاسم العلم حتى ينصرف الذهن إلى السؤال عن العم؛ لأنه لو أراد الأب الحقيقي لما ذكر اسمه واكتفى بالسؤال عنه بالأبوة فقط، إذن فلو قال الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ}. ولم يحدد العلم لقلنا إن آزر هو والد إبراهيم وليس عمّه وبذلك يكون هو جد رسولنا، ولكن القرآن حدد الاسم وقال: {لأَبِيهِ آزَرَ} أي ميّز اسم الشخص ليخرج الأب الحقيقي من كلمة أب، وبذلك تنتهي الخلافية في هذه المسألة.


                    ولماذا يطلب الحق سبحانه من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكر {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ}؟ لأن رسول الله جاء على فترة من الرسل وجاء في الأزمة التي واجهت الدعوة أول مواجهة وهي أمة العرب وعلى رأسها قريش، وهو صلى الله عليه وسلم إن كان قد جاء على فترة الرسل، إلا أن إبراهيم يعيش في عقائد هؤلاء القوم؛ لأن كل أمور إبراهيم النسكية كانت في هذا المكان، فمثلاً همّه بذبح ابنه وفداء السماء لابنه كانا في هذا المكان، ورفعه للكعبة كان في هذا المكان، والكعبة هي مركز السيادة لقريش، ولولا الكعبة لكانت قريش كسائر القبائل.

                    لقد أراد الحق أن يوضح لقريش أن السيادة التي أخذتموها على العرب كافة جاءت لكم بسبب الكعبة وهذا البيت، فلو لم يوجد هذا البيت وهذه الكعبة، لكنتم قبيلة من القبائل، لا مهابة لكم ولا سلطان، ولا جاه، ولكنكم تعلمون أن تجارتكم تذهب إلى الشمال وإلى الجنوب، ولا يتعرض لها أحد بسوء أبداً؛ لأن الذين يتعرضون لكم سواء منهم من كان في الشمال أو في الجنوب سيأتون في يوم ما إلى الكعبة هذه ليؤدوا مناسك الحج وستتمكنون منهم في أثناء وجودهم في البيت.

                    ولذلك قلنا حينما تعرضنا إلى قول الحق سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 1-5].
                    إن الحق أتبعها بالقول: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف} [قريش: 1-2].
                    إذن لو أن البيت تعرض للهدم من أبرهة الحبشي لسقطت مهابة قريش، وقد نصرهم الله لتظل لقريش رحلة الشتاء والصيف، ولذلك قال: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3-4].
                    إن رب هذا البيت هو الذي أعزهم وحماهم بوجود هذا البيت الذي رفعه إبراهيم.
                    إذن فالقوم وإن كانوا يعبدون الأصنام إلا أن لهم صلة عقدية بإبراهيم، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يدخل إلى قلوبهم بالحنان الذي يعرفونه لإبراهيم الذي هو سبب هذا العزّ وسبب هذا الجاه والسيادة وأيضاً لأن المواجهة العقدية إنما جاءت أولاً لعبادة الأصنام، والمسألة في سيدنا إبراهيم كانت كذلك في عبادة الأصنام، فهناك- إذن- ارتباطات متعددة فأتى الحق هنا بقصة سيدنا إبراهيم ليرقق بها قلب هؤلاء.
                    {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} والأصنام هي شيء من الحجارة يصنع على مثال حي، أما الوثن فهو قطعة من حجر خام لم يشكل أو يعالج أو يصنّع كانوا يقدسونه، وهكذا نعرف الفارق بين الصنم والوثن، وكيف دخلت فكرة الأصنام على عقول الناس؟ ومن أين جاءت؟.

                    نعلم أن الناس لهم أسباب مباشرة في الحياة؛ فالإنسان حين يتطلب الضوء يرى الشمس قد أشرقت، وفي الليل يرى القمر قد طلع، ويرى الجبال تعطي له الصلابة والقوة، ويقيم فيها بيوتاً.
                    إذن فيه أشياء يرى الإنسان فيها السببية الظاهرة، فيعتقد أنها الفاعلة. وحين يرى هذه الأشياء ويظن أنها الفاعلة يظن أن لها قداسة سواء أكانت الشمس أم القمر. إذن فقبل أن توجد أصنام وجدت كواكب وكانوا يعبدونها. بدليل أن الحق يقول: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً...} [الأنعام: 74].

                    وبعد ذلك يأتي في النقاش ولا يأتي بسيرة الأصنام: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً...} [الأنعام: 76].
                    إذن فقد كانت هناك علاقة بين الأصنام وبين الكواكب، والأصل فيها أن الأنسان حينما يرى شيئاً ينفعه، ينسب إليه كل نفع يحصل عليه ويرى له قوة يحترمها فيه، ولم ينتبه الإنسان إلى أن خالق هذه الأشياء غيب، فَعَبَدَ الشيء الظاهر له، وعندما وجد الإنسان أن الكواكب تأفل وتغيب قال بعض الناس: لنقيم أصناماً تذكرنا بها، وصار هناك صنم يمثل الشمس، وصنم يمثل القمر، وآخر يمثل النجم الفلاني، أي أن الأصنام إنما جعلت لتذكر بالأصل من الكواكب، ولذلك أقول دائما: يجب على الناس ألا تغفل عن المسبب لأنه سبحانه- هو وراء الأسباب، وكلما ارتقى العقل يسلسل الأسباب، إلى أن تنتهي إلى مسبب ليس وراءه سبب، وإذا انتهت يد المخلوق وعجزت في الأسباب تبدأ يد الخالق؛ فالذين يفتنون بالأسباب هم الذين ينظرون إليها على أنها الفاعلة بذاتها.

                    ولذلك حينما أغفلت وسترت قضية الدين في أذهان الناس بدأوا ينظرون إلى ما حولهم وما ينفهم، فتوجهوا بالعبادة له، وكانوا قبل الرسالة يحجون إلى الكعبة ويحبون الكعبة، وحين يغتربون في كثير من الرحلات يأخذون قطعة من حجر من نوعية أحجار الكعبة في الرحلة الطويلة، وحين يراها أحد من هؤلاء يطمئن، ولكن بطول الزمن انفردت هذه الأشياء بتقديس خاص يعزلها عن الأسباب.
                    وهكذا عرفنا أن سيدنا إبراهيم خليل الرحمن كانت له عند العرب هذه المكانة، وكذلك عند أهل الكتاب حتى أنهم ادعوا انتسابه لهم فبعضهم قال: إن إبراهيم كان يهودياً، وقال الآخرون: إنه كان نصرانياً، وجاء القرآن وهو يواجه كفار قريش، وكذلك أهل الكتاب فيأتي الله بقصة سيدنا إبراهيم ليعطينا قضية العقائد ويوضحها توضيحاً يؤنسهم بمن له في نفوسهم ذكر.


                    {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 74].

                    والضلال أن تريد غاية فتضل الطريق إليها، وكان الناس عندهم غاية في ذلك الزمان أن يقدسوا، ويقدروا من ينعم عليهم بالنعم. إلا أنهم أخطأوا الطريق ووقفوا عند السبب، ولم يذكروا ولم يدركوا ما وراء السبب، ومن هنا جاء الضلال المبين. فكان من طبيعة الإنسان أنه يتقدم بالولاء وبالخضوع وبالشكر لمن يرى نعمة منه عليه، لكنهم ضلوا الطريق؛ لأنهم ساروا في النعمة في حلقات الأسباب، ولم يصلوا بالأسباب إلى المسبب. وهذا ضلال مبين لأنه فتنة خَلْقٍ في خَلْق؛ فالإنسان الأول الذي جاء وأقبل على عالم مخلوق له، وأقبل على أرض وأقبل على شمس، وأقبل على قمر، وأقبل على نجوم، وأقبل على سحاب يمطر له الماء، وأقبل على جبال تمده بالأقوات كان من الواجب عليه أن يلتفت لهذه المسألة؛ لأنه لم يصنعها ولا ادّعى أحد أنه صنعها، أما كان من الواجب أن يفكر تفكيراً يسيرا فيمن خلق له هذه الأشياء؟!

                    إن أتفه الأشياء تحتاج إلى صانع، مثال ذلك الكوب الذي نشرب فيه الماء لا يكون كوباً أمام أي واحد فينا إلا بعد أن انتقل وتقلب في مراحل متعددة ممن اكتشف المادة وممن صهرها كيماوياً وممن أنفق عليها إلى أن وصل إلى الكوب، وكذلك المصباح، إن نظرنا إلى الأجهزة التي خَلْفَه وأسهمت في إيجاده لوجدناها أجهزة كثيرة من إمكانات مالية إلى قدرات علمية، من ماديات موجودة في الأرض إلى أن وصل إلى هذا المصباح الذي يتغير كل فترة، فما بالنا بالشمس التي تنير نصف الكون في وقت، ونصف الكون الآخر في وقت آخر وليس لها قطع غيار، ولم تقصر يوماً في أداء مهمتها.

                    وكثيراً ما درسنا في المدارس قصة من اخترع المصباح (أديسون) وكانت قصة هذا الاختراع تفيض بإعجاب من يكتبون عنها ولم نجد من يدرس لنا- بإعجاب وإيمان- دقة الشمس التي تنير الكون، فالآفة أننا نقف فقط عند حلقات الأسباب، والوقوف عند حلقات الأسباب هو وقفة عقلية سطحية، ومن أجل أن نزيد من عمق الفهم لابد أن نسلسل السبب وراء السبب وراء السبب إلى أن نصل إلى مسبب ليس وراءه سبب. وأن نرهف آذاننا لمن يأتي ليحل لنا هذا اللغز ويقول لنا: لقد خلق الله كل الكون من أجلكم وصفاته سبحانه أنه لا مثيل له في قدرته ومطلق حكمته، ومطلوبه هو منهجه.

                    إذن فالرسل قد جاءوا رحمة لينقذونا ويبينوا لنا هذا اللغز. فإذا جاء الحق سبحانه وتعالى وأوضح: أنا الذي خلقت السموات، وأنا الذي خلقت الأرض، وأنا الذي سخرت لك كل ما في الكون، فهذه دعوة، والدعوة إما أن تكون حقيقية فتعلن الإيمان به وسبحانه، وإما غير حقيقية، فنسأل: من خلق الكون- إذن- غير الله؟. ولماذا لم يقل لنا صفاته، ولم يرسل لنا بلاغاً عنه؟. ولأن أحداً لم يفعل ذلك إذن فالألوهية تثبت لمن أبلغنا عن ذاته وصفاته وصنعته عبر الرسل، فلم يوجد معارض له، وحين قال سبحانه: أنا إله واحد، وأنا خلقت الكون، وسخرته لكم فنحن نصدق هذا البلاغ.
                    ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا ألا نقف عند الأسباب فقط حتى لا نقع في ضلال مبين، ومن الواجب أن نبحث عما وراء الأسباب إلى أن تنتهي إلى شيء لا شيء بعده ننتهي إلى مسبب السباب ومالك الملك- جلت قدرته.


                    نداء الايمان










                  تعليق


                  • #39
                    رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)

                    {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)}

                    أي كما اهتدى إبراهيم إلى أن عبادة الأصنام ضلال مبين فسيريه الله ملكوت السموات والأرض ما دام قد اهتدى إلى أن هناك إلهاً حقًّا، فالإله الحق يبين له أسرار الكون: والملكوت صيغة المبالغة في الملك، مثلها مثل (رحموت). وهي صيغة مبالغة من الرحمة، والملكوت تعطينا فهم الحقائق غير المشهودة، فالذي يمشي وراء الأسباب المشهودة له يأخذ الملك؛ لأن ما يشهده ويحسَّه هو أمامه، والملكوت هو ما يغيب عنه، إذن ففيه (ملك)، وفيه (ملكوت)، الملك هو ما تشاهده أمامك، والملكوت هو ما وراء هذا الملك.

                    والمثال هو ما قاله سيدنا إبراهيم حينما تكلم على الشركاء لله قال سبحانه: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 77-81].
                    ولنلاحظ هنا أن الأساليب مختلفة، فهو يقول: {الذي خَلَقَنِي} ولم يقل (الذي هو خلقني)، ثم قال {فَهُوَ يَهْدِينِ} لأن أحداً لم يدّع أبداً خلق الإنسان، وهي قضية مسلمة لله ولا تحتاج إلى تأكيد، أما هداية الناس فهناك من يدعي أنه يهدي الناس. وما يَدَّعي من البشر يؤكد ب (هو) وما لا يُدَّعي من البشر كالخلق والإماتة والإحياء لا يؤتى فيه بكلمة هو.
                    ويتابع سيدنا إبراهيم: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} وهنا قفز سيدنا إبراهيم من كل الأسباب والحلقات الظاهرية إلى الحقيقة، وعرف الغيب {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وهو بذلك يميز بين الوسيلة للشفاء وهم الأطباء المعالجون والشافي الأعظم وهو الله تبارك وتعالى لأن الناس قد تفتن بالأسباب وتقول: إن الطبيب هو من يشفي، ولذلك ينتقل سيدنا إبراهيم من ظواهر الأسباب إلى بواطن الأمور، وينتقل من ظواهر الملك إلى باطن الملكوت حتى نعرف أن الطبيب يعالج ولكنه لا يشفي، بدليل أننا كثيراً ما رأينا من يذهب للطبيب ويعطيه الطبيب حقنة فيموت المريض، وبذلك يصير الطبيب في مثل هذا الموقف من وسائل الموت:
                    سبحان من يرث الطبيب وطبه ** ويرى المريض مصارع الآسين
                    إذن، {فَهُوَ يَشْفِينِ} أي أن الشفاء من الله والعلاج من الطبيب.

                    وبذلك جاء سيدنا إبراهيم عليه السلام في قصة العقيدة نجده قد أخذ سلطاناً كبيراً يعترف به جميع الأنبياء؛ لأن ربنا قال فيه: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى}.
                    وكذلك قال سبحانه: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124].
                    أي أنك يا إبراهيم مأمون أن تكون إماماً للناس، وببشرية إبراهيم وبظاهر الملك. سأل الله أن تكون الإمامة في ذريته، وقال: {وَمِن ذُرِّيَّتِي}.
                    أي اجعل من ذريتي أئمة، فيقول الحق: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124].
                    لأن مسألة الإمامة ليست وراثة دم، ولا يأخذها إلا من يستحقها. وقلنا: إن سيدنا إبراهيم جاء بهاجر وابنه إسماعيل منها وأسكنهما بواد غير ذي زرع عند البيت المحرم، ويقول القرآن على لسانه: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
                    أي أن سيدنا إبراهيم عليه السلام وعى مسألة تعليم الحق له لأسرار الملكوت، وظل في ذهن سيدنا إبراهيم، أن الحق سبحانه- لا يعطي الإمامة من ظلم ثم أوضح له أنه يجب أن تفرق بين خلافة النبوة، وعطاء الربوبية في الطعام ويتمثل ذلك في دعاء سيدنا إبراهيم: {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر} [البقرة: 126].
                    فكأن إبراهيم حين طلب الرزق من الثمرات لمن آمن بالله واليوم الآخر لم يفرق في دعائه بين عهد النبوة والإمامة، ومطلوبات الحياة، فيقول له الحق: {وَمَن كَفَرَ...}.
                    أي أنه سبحانه سيرزق بالطعام من آمن ومن كفر؛ لأن الطعام ومقومات الحياة من عطاءات الربوبية، أما المناهج فهي من عطاءات الألوهية، والله سبحانه وتعالى رب لجميع الناس؛ لأنه هو الذي استدعاهم جميعاً: المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، وما دام هو الذي استدعاهم إلى الوجود فهو لا يمنعهم الرزق.


                    {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [الأنعام: 75].
                    وكل من يسير على قدم إبراهيم عليه السلام يرتبط ويتعلق بذات الحق سبحانه وتعالى، وفيه فرق بين الارتباط والتعلق بالذات، والارتباط والتعلق بالصفات؛ والذي يعبد الله لأنه رزّاق، ولأنه مُغْنٍ هو من يرتبط بالصفات. أما من يرتبط بالله لأنه إله فقط وإن أفقره فهو من يرتبط بالذِّات، وحين صفى سيدنا إبراهيم نفسه من كل العقائد السابقة أوضح له الحق: أنت مأمون على أسرار كوني، وأعطاه الحق الكثير كما يعطي لكل من يخلص في الارتباط بخالقه يعطيه ربنا عطاءات من أسرار كونه. ويضرب الحق سبحانه لنا كثيراً من المُثُل في القرآن فيقول: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله} [البقرة: 282].
                    أي أنك ما دمت مأموناً على ما عرفت من أحكام الحق لحركة حياتك وتنفذه فإن الحق يعتبرك أميناً على أسراره، ويعطيك المزيد من الزيادة.
                    ومعنى (تتقي) أي أن تلتحم بمنهج الحق، وإذا التحمت بالمنهج الحق كنت في الفيوضات الدائمة التي لا تنقضي من الحق؛ لأن الذي في معيته لابد أن يخلع الحق عليه من واردات وعطاءات صفاته ما يجلي صلته بربه ويطمئنه عليه، ومثال ذلك ما حدث في (قصة الهجرة) تجد الرسول صلى الله عليه وسلم وسيدنا أبا بكر في الغار، ويقول أبو بكر لرسول الله: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا، وهذه قضية كونية مؤكدة، ويرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بما نقله من القضية الكونية الظاهرة الواضحة إلى عالم الملكوت الخالص، ويقول: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما».
                    أي أنه يقول له: اطمئن، لن يرانا أحد؛ لأننا في معية الله، وسبحانه لا تدركه الأبصار. وحين يكون الضعيف في معية القوي فقانون القوى هو الذي يتغلب، فلا يصبح الضعيف ضعيفاً، فحين يكون هناك ولد بين الأطفال الذين في مثل سنّه ويضطهدونه ويؤلمونه ويؤذنه، ثم يرونه في يد أبيه لا يجرؤ أحد منهم أن يأتي إلى ناحيته، والناس لا يقدر بعضهم على بعض إلا إذا انفلتوا من معية الله، ومَن في معية الله لا يجترئ عليه أحد أبداً. ولذلك يرسل لنا ربنا قضايا الملك وقضايا الملكوت، ويمثلها في رسول الله من أول العزم من الرسل مع عبد صالح آتاه الله شيئاً من علمه وفيضه لأنه اتقاه.

                    يقول الحق سبحانه: {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65].
                    إن هذا العبد قد أخذ منهج الرسول الذي جاء به واتبعه، فأداه حق الأداء فاتصل بالحق فأعطاه الحق من لدنه علماً. وحين ننظر في هذه القضية نتعجب لأننا نجد سيدنا موسى- ينظر في عالم الملك بينما ينظر من آتاه الله من لدنه رحمة ومن عنده علما ينظر من عالم الملكوت، وموسى معذور؛ لأنه ينظر في دائرة الأسباب، والعبد الصالح معذور هو الآخر لأنه ينظر في دائرة ثانية، ولذلك سيقول العبد الصالح: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}.
                    أي أن المسألة ليست من ذاته، بل هو مأمور بها. وحين ننظر إلى تقدير موقف كل منهما للآخر نجد العبد الصالح يقول: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}. أي أن العبد الصالح يعذر موسى، ويضيف: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 68].
                    فيقول القرآن على لسان موسى: {قَالَ ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} [الكهف: 69].
                    فها هوذا الرسول الذي جاء ليبلغ المنهج يطيع عبداً صالحاً طبق المنهج من رسول سابق ونفذه كما يحب الله، والتحم بالمنهج، وجاء لنا ربنا بهذه القصة مع رسول من أولي العزم. ويتلقى موسى عليه السلام الأمر من العبد الصالح: {قَالَ فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} [الكهف: 70].
                    لماذا؟ لأن العبد الصالح يعلم أن موسى سيتكلم عن عالم الفلك، وهو يتكلم من عالم الملكوت.
                    وحين ركبا السفينة، وخرقها العبد الصالح، والخرق إفساد ظاهري في عالم المُلْك. يوضح سيدنا موسى للعبد الصالح أن هذا الفعل إخلال بالقانون، وكيف يعتدي على السفنية بالإفساد؟ فيرد العبد الصالح: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً، وليست لك طاقة على مثل هذه المسائل، فيتذكر موسى، ثم تأتي حكاية الغلام، وحكاية الجدار.

                    وحين ندقق النظر في هذه الأمور نجد عالم الملكوت يصحح الأمور الشاذّة في عالم الملك؛ فخرق السفينة إفساد ظاهري لكن إذا علم موسى أن هناك مَلِكاً يأخذ السفن السليمة الصالحة ويستولي عليها غصبا وهذه السفينة لمساكين يعملون في البحر، ويريد العبد الصالح أن يحافظ لهم على السفينة فيخرقها حتى لا يأخذها المغتصب؛ وحين يقارن الملك المغتصب بين سفينة سليمة وسفينة مخروقة. فلن يأخذ السفينة غير السليمة، ويمكن لأصحابها إصلاحها.
                    إذن لو علم موسى بهذه المسألة، ألا يجوز أن يكون موسى هو الذي كان يقوم بخرق السفينة؟ إنه كان سيخرقها، إذن لو علم صاحب نظرية الملك ما في نظرية الملكوت من أسرار، لفعل هو الفعل نفسه. وحين نأتي لقتل الغلام، لابد من التساؤل: وما ذنب الغلام؟ فيفسر العبد الصالح الأمر: {وَأَمَّا الغلام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} [الكهف: 80].
                    والأبوان قد يدللان هذا الابن، ويطعمانه من مال حرام، ويكون فتنة لهما، فقتل الغلام ليظلا على الإيمان، وعجلّ ربنا بالولد إلى الجنة مباشرة.

                    وفي مسألة الجدار تجد الخلاف بين رؤية عالم المُلْك، ورؤية عالم الملكوت ففي ظاهر الأمر أنهما حين أتيا أهل القرية طلباً للطعام، وطلب الطعام شهادة صدق على الضرورة، لأنه ليس طلباً للنقود، فقد يطلب أحد النقود ليدخرها، لكن من يقول: (أعطني رغيفاً لآكل) فهذه آية صدق الضرورة في طلب الطعام. ولكن أهل القرية أبوا أن يضيفوهما، إذن هم لئام لا كرام. ويرى العبد الصالح جداراً يريد أن ينقض، وآيلاً للسقوط فأقامه، وغضب سيدنا موسى، سبب غضبه أنه والعبد الصالح استطعما هؤلاء فلم يطعموهما، فكيف تبني جداراً لهم؟! وكان يصح أن تأخذ عليه أجراً، وغضب سيدنا موسى سببه ظاهر، لكن العبد الصالح يشرح المسألة: لقد أقام الجدار لأن أهل القرية لئام ولم يعطونا طعاماً، ولو وقع الجدار وظهر الكنز تحته أمام لئام بهذا الشكل لسرقوه من أصحابه، وهم أطفال، وقد بناه العبد الصالح بهندسة إيمانية ألهمه الله بها بحيث إذا بلغ الولدان الرشد يقع الجدار. أي أنه بناء موقوت، مثلما نضبط المنبه على وقت محدد، كذلك الجدار بحيث إذا بلغ الولدان الرشد يقع الجدار ويأخذان الكنز.

                    وهذا يوضح لنا الخلاف بين عالم المُلْك وبين عالم الملكوت؛ فعالم الملكوت هو الذي يغيب عنا وراء الأسباب. وكثير من الناس يقف عند الأسباب، ولا ينتقل من الأسباب إلى السبب المباشر، إلى أن ينتهي إلى مسبب ليس بعده سبب.
                    {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [الأنعام: 75].
                    فهل تيقن أو لم يتيقن؟.

                    و(موقنين) جمع (موقن) والجمع أقله ثلاثة، واليقين ينقسم إلى ثلاث مراحل: يقين بعلم من تثق فيه لأنه لا يكذب؛ ويقين بعين ما تخبر به، ويقين بحقيقة المُخْبَر به.
                    وحين عرض الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة في سورة التكاثر قال: {أَلْهَاكُمُ التكاثر حتى زُرْتُمُ المقابر كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين} [التكاثر: 1-5].

                    إذا أخبرتكم فهذا الخبر هو الصورة العلمية، وكان يجب أن يكون ما أخبركم به علم اليقين. {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 5-7].
                    لأننا سوف نرى النار في الآخرة، لكن لم تأت حقيقة اليقين، وجاءت حقيقة اليقين في سورة الواقعة: {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 90-95].
                    وسيدنا إبراهيم عليه السلام كان حقا من الموقنين في كل أدوار حياته؛ لأن الله أعلمه ما وراء مظاهر الملك، ما وراء مظاهر الأشياء؛ وعواقبها. فمثلا عندما أُخذ ليطرح في النار جاء له جبريل ليقول: ألك حاجة؟ قال سيدنا إبراهيم: أمّا إليك فلا.
                    ويقول ذلك وهو يعرف أن النار تحرق، ولكن هذا ظاهر المُلك، وظواهر الأشياء، وسيدنا ابراهيم يعلم أن الذي خلقها جعلها محرقة، ويستطيع ألا يجعلها محرقة، وهو متيقن به، ولذلك لم يطفئ الله النار بظاهر الأسباب ولكن جعلها الله ليّاً لأعناق خصومه، فأوضح الحق: يا نار أنا خلقت فيك قوة الإحراق، وأنا أقول لك الآن: لا تحرقي. {قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].

                    إذن فإبراهيم يعرف هذه الحقائق المختفية وراء المُلك الظاهر، وهذا من الابتلاءات الأولى في حياته، ويملك أن يرد على سيدنا جبريل لحظة أن سأله قبل أن يلقوا به في النار: ألك حاجة؟ فيقول إبراهيم: أمّا إليك فلا.
                    ثم يأتي له الابتلاء في آخر حياته بذبح ولده. ونعلم أن الإنسان تمر عليه أطوار تكوين ذاتيته، وأحياناً تكون الذات هي المسيطرة، وفي طور آخر تبقى ذاتية أولاده فوق ذاتيته، أي أنه يحب أولاده أكثر من نفسه. يتمنى أن يحقق لأولاده كل ما فاته شخصياً. فلما كبر إبراهيم ووهبه الله الولد يأتيه الابتلاء بأن يذبح ابنه إنه ابتلاء شديد قاس، وهو ابتلاء لا يأتي بواسطة وحي بل بواسطة رؤيا. وكلنا نعلم أن رؤيا الأنبياء حق. لكن إبراهيم يعلم أن الحق سبحانه وتعالى لا يطلب من خلقه إلا أن يستسلموا لقضائه، ولذلك إذا رأيت إنساناً طال عليه قضاء ربه في أي شيء؛ في مرض، في مصيبة، في مال، أو غير ذلك فاعلم أنه لم يرض بما وقع له، ولو أنه رضي لانتهى القضاء. فالقضاء لا يُرفع حتى يُرضى به، ولا يستطيع أحد أن يلوي يد خالقه.
                    إذن فالناس هم الذين يطيلون على أنفسهم أمد القضاء.

                    ولذلك عرف سيدنا إبراهيم هذه القضية: قضية فهمه لعالم الملكوت. فلما قيل له: (اذبح ابنك) لم يرد أن يمر ابنه بفترة سخط على تصرف أبيه؛ لأنه إن أخذه من يده وفي يده الأخرى السكين فلابد أن تكون هذه اللحظة مشحونة بالسخط، فيحرم من الجزاء، فيبين له المسألة. ويقول القرآن حكاية عن إبراهيم: {يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102].
                    وهذا القول يريد به إبراهيم أن ينال ابنه ثواب الاستسلام وهو دليل محبة إبراهيم لولده، فماذا قال إسماعيل: {قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102].
                    قال إسماعيل ذلك ليأخذ عبودية الطاعة. ويؤكد القرآن رضا إبراهيم وابنه بالقضاء فيقول: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103].
                    وهذا القبول بالقضاء هو ما يرفعه. لذلك يقول القرآن بعدها: {وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} [الصافات: 104-105].
                    ويفدي الله إسماعيل بذبح عظيم، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يرزق الله إبراهيم بولد آخر؛ لأنه فهم ملكوت السموات والأرض، وعرف نهاية الأشياء. فإذا ما أصيب الإنسان بمصيبة فما عليه إلا أن يرضى ويقول: ما دامت هذه المصيبة لا دخل لحركتي فيها، وأجراها عليّ خالقي فهي اختبار منه سبحانه ولا يوجد خالق يفسد ما خلق. ولا صانع يفسد ما صنع، ولابد أن لذلك حكمة عنده لا أفهمها أنا، لكني واثق في حكمته.


                    إن طريق الخلاص من أي نائبة من النوائب أن يرضى المؤمن بها، فتنتهي. ومن تحدث له مصيبة بأن يموت ولد له، ويظل فاتحاً لباب الحزن في البيت، وتبكي الأم كلما رأت من في مثل سنّه فسيظل باب الحزن مفتوحا، وإن أرادوا أن يزيل الله عنهما هذا الابتلاء فليقفلا باب الحزن بالرضا. وليعلم كل مؤمن أن ما أخذ منه هو معوض عنه بأجر خير منه، والمأخوذ الذي قبضه الله إليه وتوفاه معوض بجزاء خير مما يترك في الدنيا، ولذلك يقال: المصاب ليس من وقعت عليه مصيبة وفارقه الأحباب، بل المصاب من حُرم الثواب، فكأنه باع نكبته بثمن بخس.


                    نداء الايمان



                    تعليق


                    • #40
                      رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)

                      {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)}

                      (جن) تفيد الستر والتغطية، ومنها (الجنون) أي ستر العقل، و(جن الليل) أي أظلم وستر عنك، فلا ترى غيرك ولا غيرك يراك. و(الجَّنة) كذلك لأن فيها الأشجار والأشياء التي تستر من يمشي فيها، إذن المادة كلها تفيد الستر.
                      وكلمة (كوكب) تفيد أنه يأخذ ضوءه من غيره، ونفهم من الآية أن إبراهيم كان في ظلمة ثم طلع الكوكب فرآه، ثم غاب الكوكب أي انتقل من بزوغ وطلوع إلى أفول، وقديماً كانوا يعبدون الكواكب والنجوم، فجاء لهم إبراهيم من جنس ما يعبدون، وقال: {لا أُحِبُّ الآفلين}.



                      {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)}

                      وهنا قال إبراهيم عليه السلام: هذا ربي، ووقف العلماء هنا وتساءلوا: كيف يقول إبراهيم هذا ربي، وهي جملة خبرية من إبراهيم، وكيف يجري إبراهيم على نفسه لفظ الشرك، وأراد العلماء أن يخلصوا إبراهيم من هذه المسألة. ونقول لهؤلاء العلماء: جزاكم الله كل خير، وكان يجب أن تؤخذ هذه المسألة من باب قصير جداً؛ لأن الذي قال: إن إبراهيم قال: هذا ربي، هو الذي قال في إبراهيم: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124].
                      إذن فقوله {هذا رَبِّي} لا تخدش في وفائه الإيماني، ولابد أن لها وجهاً. ونعلم أن القوم كانوا يعبدون الكواكب، ويريد إبراهيم أن يلفتهم إلى فساد هذه العقيدة، فلو أن إبراهيم من أول الأمر قال لهم: يا كذابون، يا أهل الضلال، وظل يوجه لهم السباب لما اهتموا به ولا سمعوا له. لكن إبراهيم استخدم ما يسمي في الجدل ب (مجاراة الخصم)؛ ليستميل آذانهم ويأخذ قلوبهم معه، وليعلموا أنه غير متحامل عليهم من أول الأمر، فيأخذ بأيديهم معه.

                      مثال ذلك في حياتنا، تجد رجلاً له ابنة وجاء لها خطيب، وهذا الخطيب قصير جداً، بينما البنت- ما شاء الله- طويلة، وحين جاء الخطيب ليراها وتراه تقول لأمها: هذا خطيبي؟! وهذا القول يعني أنها تنكر أن يكون هذا القصير عنها هو خطيبها، وحين قال إبراهيم: {هذا رَبِّي} معناه إنكار أن يكون مثل هذا الكوكب أو ذلك القمر أو تلك الشمس هي الرب.
                      ونلحظ أنه يحدد لهم مصير من يعبد تلك الكواكب، فقال: {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين}، وفي هذا معرفة بمن على هدى أو على ضلال، ويكون قوله: {هذا رَبِّي} لونا من التهكم؛ لأنهم قالوا بما جاء به القرآن على لسانهم: {أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ}.
                      فكأنه قال: سلمنا جدلاً أنه ربكم، لكنه يأفل ويغيب عنكم، وقوله: {لا أُحِبُّ الآفلين} يعني أنه غير متعصب ضدهم.


                      {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)}
                      وهكذا يثبت له أن كل كوكب- حتى الشمس- مصيره إلى أفول، فكأنه قد وصل بهم بالمنطق إلى أن عبادة الكواكب لا تصلح، واستخدم المنطق الذي يحقق نيته في أن ينكر هذه الربوبية، ويستأنس به آذان من يسمعه. وهناك أشياء يجعلها الحق سبباً مبرراً لارتكاب أشياء كثيرة، إلا أننا نعقد مقارنة بين بعضهم البعض مثلما قال الحق: {ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106].
                      وقد جاءت بعد قوله سبحانه: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} [النحل: 106].
                      فإذا كان الله قد أباح إجراء كلمة الكفر على لسان المؤمن المطمئن لينجي حياته وهو فرد، أفلا يصح لإبراهيم أن يقول لهم: {هذا رَبِّي} بما تحتمل من أساليب حتى ينجي أمة بأسرها من أن تعبد الأصنام؟.
                      إذن فيقول إبراهيم {هذا رَبِّي} يؤخذ على محملين: ألم يقل الله سبحانه وتعالى بنفسه عن نفسه: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي} [فصلت: 47].
                      وسبحانه يعلم أنّه لا شركاء له، ولكن الشركاء هم مِن زعْم المشركين.
                      (ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كان ينادي في بعض القوم: يا إله الآلهةلأنه يعلم أن قوماً قد ألهوا ظواهر طبيعية في الكون لما يرون من الخير فيها، فأراد أن ينبههم إلى أن هناك إلهاً حقًّا).
                      ويوضح القرآن عدم جدوى الشرك حين يقول: {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} [المؤمنون: 91].
                      ويقول سبحانه: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} [الإسراء: 42].
                      والحق سبحانه وتعالى يقول للكافر الذي كان يعتز بجاهه في دنياه: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49].
                      فهل هذا القول اعتراف بأن الكفر عزيز كريم أو هو قول تهكمي؟. إنه تهكم؛ لأن الكافر لو كان عزيزاً كريماً عند نفسه لما كفر ولما استقر في الجحيم.
                      وكان المنطق في اللغة أن يقول: فلما رأى الشمس بازغة قال هذه ربي؛ لأن الشمس مؤنثة، ولكنه قال: {هذا رَبِّي} كما قال في القمر وفي غيره من الكواكب، فجعل الأمر على سياق أو حالة واحدة، أو هو بهذا القول يريد أن ينزه كلمة الرب تنزيها مطلقا عن أن تلحق بها علامة التأنيث؛ لأن علامة التأنيث فرع التذكير، وأيضاً لأن الشمس ليست مؤنثاً حقيقياً، بل هي مؤنث مجازي، ولذلك يفطن العلماء إلى هذه المسألة فيقولون: إنك إذا أعطيت واحداً صفة العلم، وقلت: فلان عالم، أما إذا صار علمه ملكة عنده فنقول: (فلان عليم)؛ ولذلك يقول الحق: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].
                      وإذا كان العالم متمكناً من علمه بشكل غير مسبوق نقول عنه: (علاَّم). والحق سبحانه يصف نفسه فيقول: {عَلاَّمُ الغيوب} [المائدة: 116].
                      ولم يقل العلماء في وصف الله علامة، وإن كان هذا الوصف أبلغ احترازا من أن تلحق علامة التأنيث صفة من صفات الله- عز وجل-.
                      وحين تأفل الشمس يقول سيدنا إبراهيم: {فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78].
                      وجاء الأمر صريحاً لأنه سبق المسألة بالترقيات الجدلية التي قالها، وحين يسمعها أي عاقل فلابد أن يعلن اتفاقه في هذا الأمر، ولذلك قال: {إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ}. ولأنه كإنسان مؤمن لن يغش نفسه، وبالتالي لن يغش قومه، وهذا ما ينبه العقل حين يعطيه الله هبة الهداية.
                      والبراءة من الشرك تخلية عن المفسد، والتخلية تعني أن تنفك أو تنقطع عن العمل المفسد، وبعد ذلك تدخل في العمل المصلح.. العمل الإيجابي.








                      {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)}
                      والسموات والأرض هما المظهر الأول للكون الذي طرأ عليه الإنسان؛ لأن الكون طرأ عليه الإنسان- الخليفة في الأرض- ووجد كل الخيرات والمسخرات، ولذلك يوضح الحق سبحانه وتعالى: إياكم أن تقولوا إني خلقتكم فقط، بل خلقت لكم الكون. {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57].
                      ويقدم سيدنا إبراهيم برهانه لقومه، إنه يعبد الله وحده الذي خلق السموات والأرض، رافضاً كل فساد في الكون، ويتمثل هذا في قوله: {حَنِيفاً}، و(الحنف) في اللغة هو ميل القدمين، ونجد القدم مقوسة إلى الخارج. وهذا يعني أنه لا يسير على طريق الفساد الموجود في الكون؛ لأن السماء تتدخل بالرسالات حين يطم الفساد في الأرض، وحين يأتي الرسول مائلاً عن الفساد فهو يسير معتدلاً؛ لأن الميل عن الفساد اعتدال واستقامة.


                      {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)}
                      وحاجّه أي حاججه بإدغام الجيمين في بعضهما. أي أن كل طرف يقول حجة والطرف الآخر يرد عليه بالحجة، فإذا كنت في نقاش وكل واحد يدلي بحجته، فهذا اسمه الحجاج، أو الجدل المبطل، أي أنك تبطل كلامه وهو يبطل كلامك.
                      {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتحاجواني فِي الله وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام: 80].
                      وإذا كان إبراهيم قد جادلهم بمجاراة أفكارهم وأثبت بطلانها، فكيف يجادلونه إذن؟. كأن الغرض من الحِجاج صرف إبراهيم عن دينه الحنيف الذي ارتآه في قوله سبحانه: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} [الأنعام: 79].
                      ويرد عليهم: {أتحاجواني فِي الله وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام: 80].
                      أي أن مسألة الإيمان قد حُسمت. فقد آمن إبراهيم بالله ويعلن للقوم {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً} وهذا القول يدل على أنهم قد هددوه؛ لأن كلمة (الخوف) جاءت ونفاها عن نفسه. ويعلنها إبراهيم قوية: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} أي لا أخاف من الكواكب التي تأفل سواء أكانت نجماً أم قمراً أم شمساً أم تلك الأصنام التي تعبدونها فليس لها نفع ولا ضر، والضر والنفع هما من صنع الله فقط.

                      ولذلك تتجلى الدقة في الأداء العقدي فيقول الحق على لسان إبراهيم عليه السلام: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 80].
                      فإن شاء الحق أن يُنزل على عبدٍ كوكباً يصعقه أو يحرقه فهذا موضع آخر لا دخل لمن يعبد الكواكب به، ولا دخل للكواكب فيه أيضا؛ لأن النافع والضار هو الله، فحين يشاء الله الضر، يأتي الضر وحين يشاء النفع يأتي النفع.
                      {إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً} [الأنعام: 80].
                      أي اذكروا جيداً، وافرقوا بين فعل يقع من فاعل، وفعل يقع من آلة فاعلها غير تلك الآلة، فحين يشاء الله أن يوقع على إنسان كوكباً، أو صخرة فليست الصخرة هي التي صنعت وقوعها، ولا الكوكب هو الذي أسقط نفسه، إنما الفاعل هو الله: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 80].

                      وقوله {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} يدل على أن قضايا العقائد مأخوذة بالفطرة، وإقبال النفس على الشهوات هو ما يطمس آثار هذه الفطرة، فليس المطلوب منك أيها الإنسان إنشاء فكرة عقدية بل المطلوب منك أن تتذكر فقط، والتذكر أمر فطري طبيعي؛ لأن الإنسان الخليفة في الأرض هو الذي تناسل من آدم إلى أن وصل إلينا؛ فقد جاء آدم إلى الأرض ومعه منهج سماوي ينظم به حركة الحياة، ولقن آدم المنهج لأولاده، وكذلك فعل أبناء آدم مع أولادهم، ولكن المناهج تنطمس؛ لأن المناهج تتدخل في أهواء الناس وتثنيهم عن شهواتهم وتصدهم عن المفاسد فيعرضون عنها أو يتجاهلونها، إذن فهي عرضة أن تُنسى، والرسالات إنما تذكر بالمنهج الأصلي الذي أخذناه عن الحق سبحانه وتعالى، لذلك يعلنها إبراهيم: {وَكَيْفَ أَخَافُ ما أَشْرَكْتُمْ...}.






                      {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)}
                      يقول لهم سيدنا إبراهيم: أنا لا أخاف إلا الله، ولا أخاف ما أشركتم أنتم به مما لا يضر ولا ينفع. و(كيف) هنا تأتي للتعجيب؛ لأن المنطق أن نخاف من الله وحده الذي يضر وينفع. وحين تدور مجادلة تستيقظ في كل طرف ذاتية المجادل، وهناك من يستنكفون من الحق، ليس لأنه حق لكن لخوفهم أن ينهزموا أمام واحد مثيل لهم، ومن يريد أن يصل إلى الحقيقة بدون استعلاء لا يعطي الحكم بما يحرك الذاتية في الخصم المجادل؛ لذلك لم يقل سيدنا إبراهيم: أنا أم أنتم أحق بالأمن؟ بل قال: {فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن} مثلما علم ربنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24].
                      وهذا منتهى الحيدة في الجدل، فلم يصرح بأن منهجهم هو الضلال وأن منهجه هو الصواب المستقيم ثقة منه أنهم حين يستعرضون منهجه ويستعرضون منهجهم سيحكمون بأنه صلى الله عليه وسلم على هدى وأنهم على ضلال. وهذا هو الجدل الارتقائي، مثلما يعلم الحق رسوله ليقول لخصومه: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25].
                      هل يفعل الرسول جرائم؟ حاشا لله أن يفعل ذلك فهو المعصوم.

                      وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهم: اسألوا عني إن كنت أجرّمت؛ ولم يقل لهم وصفا لأعمالهم: {ولا نسأل عما تجرمون} بل قال {وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. فلم يأت بمسألة الإجرام بالنسبة لهم؛ وجاء بها بالنسبة له، لأنه واثق أنهم إن أعادوا دراسة القضية فكرياً وعقدياً وعاطفياً فسينتهون إلى الإيمان بمنهجه. وهذامنتهى اللطف في الجدل.
                      ويتجلى اللطف في الجدل في قوله الحق: {فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81].

                      والعِلْمُ هو أن تأخذ قضية تعتقدها ولها واقع وتستطيع أن تدلل عليها، وإن اختل شرط فيها فهذا خروج عن العلم، ومثال ذلك ألفاظ اللغة؛ كل لفظ وضع لمعنى، وساعة تسمع اللفظ وأنت تعرف اللغة تفهم المعنى؛ فحين أقول: الشمس. تتصور أنت الشمس في ذهنك، وكذلك الأرض والماء والجبل. فأنت عرفت مدلول هذه الألفاظ بدون أن تكون هناك نسبة. ونعلم أن هناك فرقاً بين معنى اللفظ مفرداً، وما يعطيه ويفيده اللفظ إذا جاء في نسبة.
                      فإذا جاء اللفظ في نسبة فلابد أن توجد قضية، فإذا قلنا الشمس محجوبة بالغيم فهذه قضية، أو قلنا: الشمس تغيب فهذه قضية أخرى وهنا نسبنا شيئاً لشيء، ولكننا قبل أن نأتي بالقضايا النسبية لابد أن يكون للفظ معنى في ذاته، وهذه اسمها معاني اللغة، وتضم من خلالها لفظا إلى لفظ فتنشأ نسبة أو قضية شريطة أن نعرف معنى مفرداتها، وبعد ذلك نعرف النسب، وهي ما نقول عنه: مبتدأ وخبر، موضوع ومحمول، مسند ومسند إليه، فعل وفاعل أي أمر منسوب إلى أمر.

                      والعلم- كما قلنا- هو قضية واقعية، تعتقدها وتستطيع أن تدلل عليها. وإن اختل أمر من هذا لا يكون علماً، فإن كنت تعتقد في قضية إلا أنها غير واقعية، فهذا كذب. وعندما أقول: إن هناك من يعتقدون أن الأرض كروية فهل الواقع كذلك أولا؟. وإن كنت تعتقد شيئاً وهو واقع، ولم تستطع أن تدلل عليه فهذا تقليد، وإن لم يكن الشيء متيقنا وقد تساوى فيه الطرفان فهذا هو الشك. وإن كان هناك طرف راجح عن طرف آخر فهو الظن. والطرف المرجوح هو ما يسمّى بالوهم. وكل قضايا نسبية لا تخرج عن هذه.
                      وقول إبراهيم: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تتيقنون من قضية نسبية واقعة معتقدة تستطيعون أن تدللوا عليها.


                      نداء الايمان

                      تعليق


                      • #41
                        رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)
                        {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)}

                        حينما سمع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية اشفقوا على أنفسهم؛ لأنهم استعرضوا حركة أعمالهم فوجدوها لا تخلو من ظلم، وخافوا أن يكونوا من غير الداخلين في {أولئك لَهُمُ الأمن}. وشق عليهم ذلك، فرفعوا أمرهم إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوضح لهم صلى الله عليه وسلم مُطَمْئِناً: إن ذلك الظلم هو الذي قال الله فيه: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

                        والآية تدل بمعطياتها على أن ذلك الظلم هو المتعلق بالإيمان لا بالعمل؛ لأننا نعلم أن التقاء الإنسان بربه مشروط أولاً بعقيدة القمة، وهي أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن تشهد أن محمداً رسول الله؛ ومعناها؛ لا معبود بحق إلا الله، أولا أمر لأحد في خلق الله إلا لله، ولا فعل لأحد من خلق الله إلا من الله، ولا استمداد لأحد قدرة وعلماً وحكمة وقبضاً وبسطاً إلا من الله، تلك هي دائرة الإيمان العقدية.

                        ويقول الحق:
                        {وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} فكأن هذه المسألة هي منطقة الظلم، أما العمل فسبحانه فصَّل لنا بين إيمان ينفجر عنه العمل وعمل تنفجر عنه الطاقات فقال سبحانه: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات...} [العصر: 1-3].
                        والعطف في قوله: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} يقتضي المغايرة، فالإيمان شيء وعمل الصالحات شيء آخر، إذن فالإيمان عمل ينبوعي في القلب، ولكن العمل ناشئ عن الالتزام الذي شرعه الإيمان فيه، وعلى المؤمن أن يتنبه إلى أن الله واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وواحد في أفعاله، لا ندّ له ولا شريك معه، فإن وجدت صفة في الله ووجدت صفة مثلها فيك فاعلم أن الصفة في الله في دائرة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. فى قدرة كقدرته، ولا ذات كذاته، ولا فعل كفعله. فإن اختل شئ من ذلك في اليقين فهذا ظلم واقع في الإيمان.

                        فمثلاً: أنت تقبل على الأشياء بالطاقات المخلوقة لك من الحق سبحانه وتعالى، وقبل أن تفعل أي فعل لابد أن يمر على بالك نسبة ذهنية، قبل أن تكون نسبة قولية أو فعلية. هذا هو العمل المنوط بك والمطلوب منك، أما العمل الذي لا يمر ببالك فلست مسئولا عنه، مثال ذلك: هب أنك سائر في الطريق، ثم وجدت حفرة تكاد تسقط فيها، فهناك أمر غريزي لحفظ الإنسان فيبعد رجله، وهو لا يستطيع في هذه المسألة أن يمررها بباله. وتلك أعمال نسميها الأعمال الاضطرارية أو الغريزية أو القسرية. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
                        «كل أمر ذي بال لا يبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع».
                        وقال صلى الله عليه وسلم:
                        «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أقطع».
                        و
                        (ذي بال) أي كل أمر تفعله بعد أن يمر ببالك أن تفعله يجب أن تذكر فيه اسم الله. ويغفل أناس كثيرون عن هذه المسألة فنقول لهم: منطقياً لابد أن تضعوا هذا الأمر في بالكم لأن الفعل الذي لا يمر ببالك هو فعل أعطى الله غريزتك- بدون أمر- أن تفعله.

                        ومثال ذلك إذا أكل الإنسان ثم نزل شيء في قصبته الهوائية غير الهواء؛ نجده يسعل بلا شعور حتى يخرج هذا الشيء، لأنها عملية قسرية. أما الأمر ذو البال فهو الذي تمر ببالك نسبته الذهنية ثم يمر بالفعل، إن كان قولاً تقوله، وإن كان فعلاً تفعله؛ فمطلوب منك فيه ابتداء أن تسمّى الله؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يطلب منا ألا تشغلنا الأسباب عن المسبب لها.

                        فأنت مثلاً حين تزرع الأرض تحرثها، ثم تضع البذرة وتغطيها، ثم ترويها وبعد ذلك ينبت الزرع. ألك في ذلك شيء؟. إنه ليس لك إلاّ تجميع فعل؛ فالبذرة مخلوقة لله، والتربة التي وضعت فيها البذرة مخلوقة لله، والعناصر الموجودة في الأرض لتغذي النبات مخلوقة لله، والخاصية الموجودة في البذرة لتمتص شيئاً ينّمي جذيرها ثم تنفلق الحبة، كل هذه أسباب ليس لك فيها شيء أبداً. ولكن الله احترم فعلك فقط فقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63].
                        ثم قال سبحانه: {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} [الواقعة: 64].

                        ومن مخصصات الإيمان أنك حين تقبل على أي شيء ذي بال ألا تنسى من سخر لك هذا، فليس في قدرتك أن تفعل لنفسك وبنفسك أي شيء إلا بإرادة الله، وإذا ما فعلت ذلك وتذكرت من سخر لك هذا تكون قد نسبت الأمر كله له سبحانه.

                        ونحن في قوانيننا الوضعية ساعة يجلس القاضي ليحكم بين الناس حُكماً وهناك سلطة تنفذ هذا الحكم فهو يقول: (باسم الشعب) أو (باسم القانون)، إذن الشعب أو القانون هو الذي أعطاه الصلاحية لأن يحكم هذا الحكم، فما هي القدرة التي جعلتك تحكم على الأشياء أن تنفعل لك؟ لابد أن تقول إذن: باسم الله الذي سخر لي هذا، فإذا أقبلت على عمل بغير ذلك، تكون مفتاتا ومختلقا ومدعيٍّا أمراً لا تستطيعه؛ لأنه ليس في سلطتك ولا في قدرتك أن تسخر الكائنات لك.
                        إن الحق سبحانه وتعالى هو الذي سخر لك الكائنات، فعليك أن تذكر اسم الحق لتنفعل لك تلك الكائنات، ومن يغفل عن ذلك فقد لبَّس وخلط إيمانه بظلم. وإذا ما رأيت ثمرة من ثمارك إياك أن تقول كما قال قارون: {أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي} بل اذكر وقل: (ما شاء الله)؛ لأنك إن قلت: {أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ} فالحق قد قال في شأن قارون: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} [القصص: 81].
                        أين ذهب علم قارون الذي جاء به؟.

                        إذن فكل أمر من الأمور يجب أن تنسبه لله، فإن اختل شيء فيك من هذه المسألة فاعلم أنك لبَّست وخلطت إيمانك بظلم، والحق سبحانه وتعالى منا ذلك حتى تكون النعمة مباركة إقبالاً عليها أو انتفاعاً بها، ولا ينشأ من العمل الذي تعمله مبتدئاً ب (بسم الله) إلا ما يعينك على طاعته، ويعينك على بر، ويعينك على خير، ولا تصرفه إلا في عافية.
                        وبعد ذلك يؤهلك مجموع هذه الأشياء في كل حركاتك وأعمالك إلى أن تأخذ أمناً آخر أجمع وأتم وأكمل من أمن الدنيا؛ إنّك تأخذ أمن الآخرة بأن تدخل الجنة.

                        إذن
                        {أولئك لَهُمُ الأمن} أي الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم، والحق سبحانه وتعالى يريد منا أن نتصل دائماً بمنهجه؛ لأن إمدادات الله سبحانه وتعالى مستمرة، ورحماته وتجلياته لا تنقطع عن خلقه أبداً؛ لأنه قيوم أي إنه بطلاقة قدرته وشمول قيوميته يقوم سبحانه باقتدار وحكمة على كل أسباب مخلوقاته، فكن دائماً في صحبة القيوم؛ ليتجلى عليك بصفات حفظه، وصفات قدرته، وصفات علمه، وصفات حكمته فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: (يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دفَّ نعليك بين يديّ في الجنة. قال: ما عملت عملا أرجى عندي من أنّي لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلاّ صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي).
                        ويقول- صلى الله عليه وسلم-:
                        (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجههُ خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليه بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطرة الماء حتى يخرج نقيَّا من الذنوب).

                        إذن الحق سبحانه وتعالى يريد منا أن نتصل بمنهجه اتصالاً وثيقا؛ ليعطينا، لا ليأخذ منا؛ لأن الفرق بين عبودية البشر للبشر والعبودية الخالصة لله أن البشر يأخذ خير عبده، ولكن عبوديتنا لله تعطينا خيره من خزائن لا تنفد، نأخذ منه كلما ازددنا له عبودية، إذن الحق دائماً يريد أن يصلنا به.

                        {أولئك لَهُمُ الأمن} الأمن في الدنيا؛ والأمن بمجموع ما كان في الدنيا مع الأمن في الآخرة.
                        ولقائل أن يقول: هناك اناس لا يسمون باسم الله، ولا يخطر الله على بالهم، ويتحركون في طاقات الأرض ومادتها، وينعمون بها ويسعدون، وقد يسعدون بابتكارات سواهم.
                        ونقول: نعم هذا صحيح؛ لأن فيه فرقاً بين عطاء الفعل، والبركة في عطاء الفعل. إذا زرع الكافر فالأرض تعطى له، وإذا قام بأي عمل يأخذ نتيجته، لكن لا يأخذ البركة في العطاء.
                        وما هي البركة في العطاء؟ البركة في العطاء أن يكون ما أخذته من هذا العطاء لا يعينك على معصية، بل دائماً يعينك على طاعة. ونحن نرى كثيراً من الناس يصدق عليهم قوله سبحانه: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا واستمتعتم بِهَا} فإياك أن تغالط وتقول: إنهم لا يقولون: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ} ومع ذلك فهم قد أخذوا طيبات الحياة الدنيا، إنك حين تنظر إليهم تجد كل مرتقيات حضارتهم، وطموحات بحوثهم واكتشافاتهم تتجه دائماً إلى الشر، لم يأت لهم ابتكار إلا استعملوه في الشر إلى أن يأذن الله فيشغلهم عن أشيائهم بما يصب عليهم من العذاب والنكبات ولهم في الآخرة العقاب على شركهم وكفرهم.

                        إذن
                        {أولئك لَهُمُ الأمن} أي إنّ هؤلاء الذين لم يخلطوا إيمانهم بشرك لهم الأمن في جزيئات أعمالهم والأمن المتجمع من جزيئات أعمالهم يعطي لهم الأمن في الجنة. {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} والهداية هي الطريق الذي يوصل إلى الغاية. ولا يقال إنك موفق في الحركة إلا إذا أدت بك هذه الحركة إلى غاية مرسومة في ذهنك من نجاح بعد المذاكرة والاجتهاد. ولا مخلوق ولا مصنوع يحدد غايته، فاترك لله تحديد مهتمك، فسبحانه هو الذي خلقك، وفي عرف البشر، لا توجد صنعة تحدد مهمتها أبداً، بل إن الصانع هو الذي يحدد لها الغاية منها؛ فالغاية توجد أولاً قبل الصنعة، وما دامت الغاية موجودة قبل الصنعة فمن الذي يشقى بالتجارب إذن؟.
                        في الابتكارات العلمية المعملية المادية التي تنشأ من التفاعل مع المادة نجد أن الذي يشقى بالتجربة أولاً هو العالم، وأنت لا تعلم التجربة إلا بعد ما تظهر نتائجها الطيبة، والمسائل النظرية التي تتعب العالم يأتي التعب منها لأنها ليست مربوطة أولاً بالماديات المقننة وبمعرفة الغاية، ولا بمعرفة الوسيلة لهذه الغاية. فمن المهتدي إذن؟

                        إن المهتدي هو من يعرف الغاية التي يسعى إليها، والوسيلة التي تؤهله إلى هذه الغاية. وإذا حدث له عطب في ملكات نفسه، يستعين في إصلاح العطب ويلجأ إلى من صنع هذه الملكات، وهو الله سبحانه، كما يرد الإنسان الآلة التي تتعطل لصانعها. ونجد كثيراً من الشعراء يسرحون في خيالهم فيقول الواحد منهم:
                        ألا من يريني غايتي قبل مذهبي ** ومن أين للغايات بعد المذاهب؟
                        ونقول له: من خلقك أوضح لك الغاية.


                        نداء الايمان


                        تعليق


                        • #42
                          رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)

                          {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)}

                          الحجة هي البرهان القائم لإثبات القضية المطلوب إثباتها. وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد منا حين نحاجج أن تكون لنا غاية في الحجاج، ونحن نعلم أن الغاية في الحجاج إن تعدت موضوع الحجاج نفياً أو إثباتاً فهي تهريج، وينحصر الأمر في أنك تريد الانتصار على خصمك وأن يحاول خصمك الانتصار عليك، لكن عليك إذا ما دخلت الحجاج أن تجعل الغاية الأصلية هي الأساس، وكما يقولون تحديد وبيان محل النزاع؛ لأن الحق لابد أن يكون أعزّ منك ومن خصمك عندك، ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى يوضح: إياكم أن تتناظروا في قضية تناظراً جماهيرياً، لماذا؟ لأن الصوت الجماهيري يلتبس فيه الحق مع الباطل، والله سبحانه وتعالى يريد من كل صوت أن يكون محسوباً على صاحبه، ومثال ذلك عندما يقوم تظاهر كبير ويهتف فيه بسقوط أحد لا يتعرف أحد على من بدأ الهتاف.

                          والذي جعل العرب يخسرون أنهم حين استقبلوا الدعوة كانوا يعقدون اجتماعات جماهيرية، ينقدون فيها أقوال رسول الله فتاهت منهم القدرة على الحكم الموضوعي.
                          ولذلك يقول ربنا: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ} [سبأ: 46].
                          أي أن تجتمعوا وفي وجهتكم الله، ومن عنده قوة فليناقش بالحجة أقوال رسول الله موضوعاً، وتاريخاً، ومنطقاً. ولا يمكن أن يجتمع اثنان ليبحثا مسألة وفي بالهما الله فقط- إلا وينتهيان فيها إلى رأي موحد. ولذلك جاء التفاوض السري في العصر الحديث مستمداً من تلك القاعدة الإيمانية.


                          {
                          وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83].
                          وأول قوم إبراهيم أبوه آزر، إنه حاجّهم في الكواكب والقمر والشمس والتماثيل، وبعد ذلك انتصر بالحجة على كبيرهم وهو الملك أو السلطان، وهو النمروذ حين أراد أن يناظره في قوة الإحياء والإماتة.
                          ويريد الحق أن نتعلم من حكمة سيدنا إبراهيم، إنك إذا رأيت خصمك يدخل فيما لا يمكن أن ينتهي فيه الجدل فانقله إلى المستوى الذي لا يستطيع منه خلاصا ولا فكاكا، فلا يغلبك؛ فالملك النمروذ قال له: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258].
                          وكان باستطاعة سيدنا إبراهيم أن يقول: أنت لا تميت بل تقتل، والقتل غير الموت؛ لأنك تنقض البنية، لكنه لم يرد أن يطيل الجدل، وأراد أن يكون الجدل مقتضباً، ويسقطه على الحجة ويلزمه بها من أقصر طريق، فقال الله: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} [البقرة: 258].
                          فماذا كانت نتيجة الجدل؟ يقول الله سبحانه: {فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} [البقرة: 258].
                          وكل هذه حجج يوضحها قول الله سبحانه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83].
                          لقد أعطى الله سبحانه إبراهيم الحجة على قومه، أي كانت له عليهم درجات وسمو وارتفاع؛ لأن إقامة الحجة على الغير انتصار، والانتصار رفع لدرجة موضوعك، ورفع أيضا لموضوع عملك.

                          وسبحانه لا يشاء إلا عن حكمة، ولا يشاء إلا عن علم؛ لأنه إن أطلقنا المشيئة لواحد من البشر فقد يفعل الفعل بدون حكمة وبدون علم، أما الحق فينبئنا بأن مشيئته هي عن حكمة وعلم لصالح الخلق؛ لأن مشيئته مبنية لا على هوى، ولا على نفع من أحد، فالله سبحانه له كل صفات الكمال والجلال والجمال قبل أن يخلق الخلق.
                          إن خَلْق الخلق وإيمانهم لا يزيد في ملك الله، وإن عصوا لا ينقص من ملك الله شيء، ولكن الحكمة قد تفوت عن بعض الخلق فلا يهتدون إليها، وسبحانه حين يجري أمراً على خلقه ثم يقبلونه وإن لم يعلموا علته يريهم جل وعلا الحكمة في الفعل الذي كان غير مقبول لهم؛ لأنه سبحانه خلق الخلق ويعلم أزلاً أن للخلق أهواء ومرادات، ولو أعطى كل مخلوق مراده لأعطاء على حساب غيره، والحق سبحانه عادل فلا ينفع واحداً ويتعب الآخر.
                          والحق بحكمته يعلم ما يصلح أمر خلقه، فلا يستجيب لدعوة حمقاء من عبد، فبسحانه يعلم أنه ليس في صالح العبد أن يلبي له هذا الطلب. ولذلك يقول الحق: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11].
                          إن العبد يقول: يا رب اصنع لي كذا، يسّر لي هذا الأمر، وهو خير في عرفه، وقد يكون هو الشر؛ لأن الإنسان عجول. لذلك يقول سبحانه: {سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء: 37].
                          إن الحق جل وعلا يضبط مرادات الخلق؛ فالصالح يجريه عليهم.


                          {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} وكلمة (رب) حينما ترد لابد أن نفهم منها معنى الخلق والتربية، وساعة تأتي كلمة (الألوهية) فلنعلم أنها للتكليف؛ لأن الله هو المعبود المطاع إن أمر أو نهى، ولكن الرب هو من خلق وربَّى، وتعهد، وأعطاك مقومات حياتك. إذن عطاء الربوبية شيء، وعطاء الألوهية شيء آخر، وعطاء الربوبية يأخذه المؤمن والكافر، والطائع والعاصي؛ لأن الله هو الذي استدعاهم للوجود، وجعل الكون مسخراً لهم، لكن عطاء الألوهية يتمثل في (افعل كذا) و(لا تفعل كذا)، وهذا يدخل في منطقة الاختيار. فالذي يكفر بالله ويحسن الأخذ بالأسباب يأخذ نتائجها، ومن يؤمن بالله ولا يحسن الأخذ بالأسباب لا يأخذ النتائج؛ لأن الاستنباط في الكون من عطاء الربوبية.



                          {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)}

                          إننا نعرف أن إسحاق هو الابن الثاني لسيدنا إبراهيم بعد إسماعيل، ويعقوب ابن إسحاق، وساعة ترى الهِبَة افهم أنها ليست هي الحق، فالهبة شيء، و(الحق) شيء آخر. الهبة. إعطاء معطٍ لمن لا يستحق؛ لأنك حين تعطي إنساناً ما يستحقه فليس ذلك هبة بل حقاً.
                          والحق سبحانه وتعالى يوضح: إياكم أن تعتقدوا أن أحداً من خلقي له حتى عندي إلا ما أجعله أنا حقاً له، ولكن كل شيء هِبة مني. والقمة الأولى في الهبات والعطايا هي قمة السيادة الأولى في الكون للإنسان، ثم التكاثر من نوعية الذكر والأنثى، حيث الذرَّية من البنين والبنات. يقول سبحانه: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور} [الشورى: 49].

                          فهبة الأولاد لا تأتي من مجرد أنه خلق الرجل والمرأة، وأنّ اللقاء بينهما يوجد الأولاد بل يقول سبحانه: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} [الشورى: 50].
                          فلو أن المسألة مجرد إجراء ميكانيكي لجاء الأولاد، لكن الأمر ليس كذلك؛ فمن يفهم في الملكوت تطمئن نفسه أن ذلك حاصل عن حكمة حكيم يعرف أنها هبة من الله، حتى العقم هو هبة أيضاً؛ فالذي يستقبله من الله على أنه هبة ويرضاه، ولم ينظر إلى أبناء الغير بحقد أو بحسد سيجعل الله كل من تراه أبناء لك بدون تعب في حمل أو ولادة، وبدون عناية ورعاية منك طول عمرك. ومن يرض بهبة الله من الإناث سيجد أنهن رزق من الله ويبعث له من الذكور من يتزوج الإناث ويكونون أطوع له من أبنائه؛ لأنه رضي. إذن لابد أن تأخذ الهبة في العطاء، والهبة في المنع.

                          والحق يوضح: أنا وهبت لإبراهيم إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، والإنسان منا يعرف أن الإنسان بواقع أقضية الكون ميّت لا محالة، وحين يكبر الإنسان يرغب في ولد يصل اسمه في الحياة وكأنه ضمن ذلك، فإن جاء حفيد يكون الجد قد ضمن نفسه جيلاً آخر. ولكن لنعرف قول الحق: {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46].

                          وبقاء الذِّكْرِ في الدنيا لا لزوم له إن كان الله يحط من قدر الإنسان في الآخرة!!
                          ونلحظ أن الحق قال في موقع آخر: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيّاً} [مريم: 5-6].
                          وامتن الله على إبراهيم لا بإسحاق فقط بل بيعقوب أيضاً، وفوق ذلك قال: {كُلاًّ هَدَيْنَا} أي أنهما كانا من أهل الهداية. {وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} أي أن الهداية لا تبدأ بإسحاق ويعقوب، بل بنوح من قبل: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وموسى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين}.


                          نداء الايمان

                          تعليق


                          • #43
                            رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)

                            {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)}

                            {وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصالحين}
                            ولم يأت الحق بالثمانية عشر نبياً متتابعين بل قسمهم بحكمة، فيقول: {وَإِسْمَاعِيلَ واليسع وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين}
                            ولا يقتصر الأمر على هؤلاء بل يقول سبحانه: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ واجتبيناهم وَهَدَيْنَاهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}

                            وأنت إن نظرت إلى هؤلاء الثمانية عشر نبياً المذكورين هنا، ستجد أنهم من الخمسة والعشرين رسولاً الذين أمرنا بالإيمان بهم تفصيلا. وقد جمعوا في قول الناظم:
                            في تلك حجتنا منهم ثمانية ** من بعد عشر ويبقى سبعة وهمو

                            إدريس هود شعيب صالح وكذا ** ذو الكفل آدم بالمختار وقد ختموا

                            والحق سبحانه وتعالى لم يجعل من الأنبياء ملوكا إلا اثنين: داود وسليمان حتى يعطينا فكرة أن الله إذا أراد أن يقهر خلقاً على شيء لا يقدر عليه أحد يبعث مَلِكاً رسولاً؛ لأن المَلِك لا يقدر عليه عبد لأنَّ القدرة معه، والمجتمع آنذاك كان في حاجة إلى ملك يدير أمره ويضبط شأنه، وسبحانه لا يريد الإيمان بالقوة والخوف والرهبوت إنما يريده بالاختيار، ولذلك جعل أغلب الأنبياء ليسوا ملوكاً.
                            وفي الحديث «أفملكا نبيا يجعلك أو عبداً رسولاً» فاختار أن يكون عبدا رسولا؛ لأن الملك يأتي بسلطانه وبماله، وقد يطغى.
                            وأراد الحق أن يكون سليمان وداود من الأنبياء وهما ملكان، وتتمثل فيهما القدرة وسعة الملك والسلطان. أمّا أيوب فقد أخذ زاوية أخرى من الزوايا وهي الابتلاء والصبر مع النبوة، وكل نبي فيه قدر مشترك من النبوة، وفيه تميّز شخصي. وكذلك يوسف أخذ الابتلاء أولاً، ثم أخذ الملك والسلطان في النهاية. وموسى وهارون أخذ شهرة الاتْبَاع، ونكاد لا نعرف من الأديان إلا اليهودية والنصرانية، أما زكريا ويحيى وعيسى وإلياس فقد أخذوا ملكة الزهد.

                            وأما إسماعيل واليسع ويونس ولوطاً فقد أخذوا ما زخرت به حياتهم من عظيم الفعال وكريم الخصال والسلوك القويم والقدوة الطيبة وبقي لهم الذكر الحسن.
                            إذن فهناك زوايا متعددة للأنبياء.

                            وعندما وقف العلماء عند (عيسى) هل يدخل في ذريتهم، وجدوا من يستنبط ويقول: من ذريتهم من ناحية الأم.
                            وإنما أمهات القوم أوعية ** مستحدثات وللأحساب آباء.

                            والعنصر البشري في عيسى هو الأم. وبمثل هذا احتج أبو جعفر محمد الباقر أمام الحجاج حين قال له: أنتم تدعون أنكم من آل رسول الله ومن نسله، مع أن رسول الله ليس له ذرية!
                            قال له الإمام الباقر رضي الله عنه: كأنك لم تقرأ القرآن.
                            قال له: وأي شيء في القرآن؟
                            قال اقرأ: (ومن ذريته.....) إلى أن تقرأ: (وعيسى) فعيسى من ذرية نوح، من أب أَم من أُمّ؟.
                            قال له: من أُمّ. فقال له: نحن كذلك من ذرية محمد صلى الله عليه وسلم.
                            ويقول الحق من بعد ذلك: {ذلك هُدَى الله...}.



                            {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)}
                            (ذلك) إشارة إلى شيء تقدم، والمقصود به الهدى الذي هدينا به القوم، وهو هدى الله. ونجد كلمة (هدى) تدل على الغاية المرسوم لها طريق قصير يوصل إليها، وربنا هو الذي خلق، وهو الذي يضع الغاية، ويضع ويوضح ويبيِّن الطريق إلى الغاية، وحين يضاف الهدى إلى الله فهو دلالة على المنبع والمصدر أي هدى من الله. وكلمة (هدى) مرة تضاف إلى الواهب وهو الحق، وتضاف إلى الأنبياء. يقول الحق: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده}.
                            وذلك إشارة إلى المنهج الذي أنزله الله على الرسل.

                            إذن فالحق سبحانه وتعالى يهدي الناس جميعاً بدلالتهم على الخير، والذي يقبل على هذه الدلالة احتراماً لإيمانه يعينه الله، ويزيده هدى، وسبحانه يريد أن يثبت للإنسان أنه جعله مختاراً، فإن اخترت أي شيء فأنت لم تختره غصباً عن ربنا، إنما اخترته بمن خلقك مختاراً. ولا يوجد فعل في الكون يحدث على غير مراد الله، ولو أراد الله الناس جميعاً مهديين لما استطاع واحد أن يعصي، إنما أرادهم مختارين، وكل فعل يفعله أي واحد منهم، فهو مراد من الله لكنّه قد يكون مرادًا غير محبوب، ولذلك قال العلماء: إن هناك مراداً كوناً، ومراداً شرعاً. وما دام الشيء في ملك الله فهو مراد الله، والمراد الشرعي هو المأمور به، وما يختلف عن ذلك فهو مراد كوني، جاء من باب أنه خلقك مختاراً.

                            ومثال ذلك- ولله المثل الأعلى- أنت تعطي ابنك جنيهاً، والجنية قوة شرائية. فأخذ الجنيه ونزل السوق وهو حر ليتصرف به، وتقول له: اسمع. إن اشتريت به مصحفاً أو كتاباً جميلاً أو بعضاً من الحلوى وأكلتها أنت وإخوتك فسأكون مسروراً منك وسأكافئك مكافأة طيبة، وإن اشتريت (كوتشينة)، أو صرفت الجنيه فيما لا أرضى عنه فسوف أغضب منك ولن أعطيك نقوداً.
                            أنت بهذا القول أعطيت ابنك الحرية. وساعة ينزل السوق ويشتري (كوتشينة) فهو لم يفعل ذلك قهراً عنك لأنك أنت الذي أعطيته الاختيار، لكنك قلت له: إنك تطلب منه أن يحسن الاختيار، وسبحانه وتعالى قد جعل الإنسان مختاراً، فإن اختار الهداية أجزل له العطاء، وإن اختار الضلال عاقبه عليه.

                            وبالنسبة للأنبياء جاءت لهم الهداية من الله دلالة لهم وأقبلوا على مرادات الحق فأعطاهم هداية أخرى؛ وذلك بأن يعشّقهم في العمل ويحبب إليهم فعل الخير، وبعد ذلك يوضح سبحانه: إياكم أن تظنوا أن هناك من يفلت مني؛ لأنهم لو أشركوا لأحبطت أعمالهم.
                            إذن فالحق لم يخلق الخلق مرغمين على عمل الطاعة بل خلقهم مختارين في التكاليف، حتى ينالوا لذة اختيار منهج الله ولو أشركوا لحبط عملهم و(لو) حرف امتناع لامتناع، وهذا دليل على أنهم لم يشركوا ولذلك لم يحبط عملهم، و(الحبط) هو الإبطال للعمل.



                            {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)}
                            والكتاب هو المنهج، والحكم وهو ما أعطاه الله لبعضهم من السيطرة والغلبة، والنبوة؛ أي أنّه جعلهم نماذج سلوكية للبشر.
                            {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} وسبحانه وتعالى أعطانا نماذج من المهديين في الرسل، والأنبياء؛ وفيمن اجتباهم من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم؛ فهؤلاء القوم الذي جئت لتأخذ بيدهم من الظلمات إلى النور، فإن امتنع بعض الناس عن الهداية فسيوكل الله قوماً آخرين ليحملوا المناهج ليكونوا عنصر الخير الباقي إلى أن تقوم الساعة.
                            ومَنْ القوم؟. قال بعضهم المشار إليه هم قريش، والمقصود من قوله: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} هم أهل المدينة أي الأنصار. أو المقصود من النص الكريم كل ممتنع وكافر وكذلك كل مقبل على الله وطائع له أي إن يكفر بها طائفة يوكل الله من يقوم بها ويدافع عنها ويحميها؛ لأن الله لا ينزل قضية الخير في الخلق وبعد ذلك يطمسها بل لابد أن يبقيها كحجة على الخلق.

                            {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً} وهذا يدل على أن أهل الخير دائما وكلاء عن الله؛ لأن الذي يمد يده بالمعونة لضعيف من خلق الله؛ هذا الضعيف قد استدعاه الله إلى الوجود، ومن يمد يده بالمعونة فقد جعل من نفسه وكيلاً لربنا؛ لأنه يقوم بالمطلوب له سبحانه وجعل من نفسه سبباً له؛ لأن الله رب الجميع، ومربي الجميع، وراعي الجميع، ورزّاق الجميع، وليثق من يقوم بالخير ويجعل من نفسه وكيلاً عن الله في أن يشيع الخير في خلق الله، ليثق أن الله سيكرمه أضعاف أضعاف ما أعطى.

                            نداء الايمان

                            تعليق


                            • #44
                              رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)

                              {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)}

                              (هدى الله) هنا أيضا هو هداية دلالة، وهداية معونة؛ بدليل أنه قال: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} والخطاب لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن (أولاء) أي المشار إليهم هم المتقدمون، و(الكاف) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
                              {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} وحين نقرأ هذا القول الكريم نقول (اقتد) ولا نقول (اقتده) ولا تنطق الهاء إلا في الوقف ويسمونها (هاء السّكت)، لكن إذا جاءت في الوصل لا ينطق بها، وكل واحد من هؤلاء الرسل السابق ذِكْرهم له خصلة تميز بها، وفيه قدر مشترك بين الجميع وهو إخلاص العبودية لله والإيمان بالله وأنّه واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، وكلهم مشتركون في هذه الأصول، وتميّز كل منهم بخصلة في الخير؛ فسيدنا سليمان وداود أخذا القدرة والسلطان والملك، وأيوب أخذ القدرة في الصبر على البلاء، ويوسف أخذ القدرة في الصبر والتفوق في الحُكم، وسيدنا يونس أخذ القدرة كضارع إلى الله وهو في بطن الحوت، وإسماعيل كان صادق الوعد.

                              والمطلوب إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون مُقتدياً بهم جميعاً، أي أن يكون كسليمان وكداود وكإسحاق وكيعقوب وكأيوب وكيوسف وكيونس. وأن يأخذ خصلة التميز من كل واحد فيهم وأن يشترك معهم في القضية العامة وهي التوحيد لله. وبذلك يجتمع كل التميز الذي في جميع الأنبياء في سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
                              وإذا أُمِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً من ربه فلابد أن نعتقد أنه صلى الله عليه وسلم قد نفذ الأمر، وما دام أنه صلى الله عليه وسلم قد اجتمعت فيه مزايا الأنبياء فحق له أن يكون خاتم النبيين والمرسلين.


                              {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90].
                              ولماذا يُطْلَب الأجر؟ أنت لا تطلب أجراً ممن فعلت أمامه أو له عملاً إلا إذا كان العمل الذي فعلته يعطيه منفعة تستحق أن تُعطي وتُمنح عليه أجراً، فكأن ما يؤديه صلى الله عليه وسلم إلى الأمة كان يستحق عليه أجراً، لكنه صلى الله عليه وسلم يبلغ عن ربّه: قل لهم: إنك نزلت عن هذا الأجر.
                              وقارنوا بين مَن يقدم لأي واحد منكم منفعة قد لا تأخذ من وقته نصف ساعة في جزئية من جزئيات الحياة، ومن يقوم بعمل ينفعكم في مدًى يتعدى الدنيا إلى أن يصل إلى الآخرة ثم يقول: أنا لا أريد منكم أجراً.


                              وعدم طلب الأجر حصل من كل الرسل إلا رسولين اثنين؛ فلم يرد في القرآن أن قالاها، وإذا ما جئت لسورة الشعراء مثلاً تجد أن الحق تكلم عن موسى، وتكلم عن إبراهيم، ثم تكلم بعد ذلك عن بقية الرسل ولم تأت كلمة الأجر في قصة إبراهيم وكذلك في قصة موسى عليهما السلام.
                              لكن جاء ذكر الأجر في غيرهما، يقول سبحانه: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: 106-109].
                              وقال جل شأنه: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: 177-180].
                              وعندما تستقرئ سورة الشعراء تجد الأنبياء كلهم، وتجد مع قول كل منهم {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}، إلا سيدنا موسى، وسيدنا إبراهيم. لماذا؟
                              ونقول: إن من ينزل عن الأجر، هو من يقدم لهم منفعة.

                              وفي موسى عليه السلام نجد أنّه قد وجهت وقدمت وسيقت له المنفعة من فرعون الذي قام بتربيته، كأنه قد أخذ الأجر مقدماً، لذلك لم يقل موسى لفرعون: لا أسألك أجراً؛ لأن القرآن جاء بقول فرعون: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} [الشعراء: 18].
                              وكذلك لم تأت مسألة الأجر
                              في قصة سيدنا إبراهيم لأنه خاطب أباه آزر، ولم يكن من المقبول أن يقول له: (لا أسألك أجرا). وهكذا انطمست مسألة الأجر في قصة سيدنا إبراهيم وقصة سيدنا موسى، وبقيت فيما عداهما، مما يدل على أن القرآن موضوع بأدق تفاصيله بحكمة؛ لأن من يتكلم هو ربنا.

                              ويمتاز سيدنا رسول الله أيضا ويقول: لا أسألكم أجرا. إلا آية واحدة استثنى فيها هذا النفي: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23].
                              والمودة هي فعل الخير الناشئ عن محبة قلب، أما فعل الخير الذي لا ينبع من محبة في القلب فهو فعل معروف؛ لأن المعروف يضعه الإنسان مع من يُحب ومن لا يُحب. ولذلك قال ربنا: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15].
                              المعروف- إذن- هو عمل امتداده خير سطحي. والرسول حين يطلب المودة في القربى فهل هي قُرباه صلى الله عليه وسلم أو المودة في قُرباكم؟ هي القُربى على إطلاقها، وهي القُربى أيضا للمتكلم وهو الرسول الذي يبلغ عن الله.
                              وإن صُنِّفت على أنها {إلا المودة في القُربى} أي القربى للمتكلم وهو سيدنا رسول الله لما استطعنا أن نُوفيه أجراً. أما حين يتحمل كل واحد منا مجالاً من الخير والمعروف في قومه، هنا تتلاحم دوائر الخير في الناس جميعاً.

                              ويذيل الحق الآية بقوله:
                              {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرى لِلْعَالَمِينَ} وهي ما تعطينا اجتماع الدوائر ويصير كل واحد مُهْتَماً بأقاربه ويتنازع الناس ويتنافسون في مودة القُربى، وكل منهم يحرص على أن يوسع دائرة القربى. هنا يعم الخير ويدوم الود

                              نداء الايمان

                              تعليق


                              • #45
                                رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)

                                {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)}

                                الكلام عن الذين رفضوا وتأبوا عن الإيمان بالله. فيأتي الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يوضح لهم بأنهم لم يعطوا الله حق قدره، ومعنى القدْر معرفة المقدار، وحق قدره سبحانه لا نقدر عليه نحن البشر، لذلك نقدره على قدر طاقتنا أو على قدر ما طلب منا، وكما قال رسول الله: (سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك).

                                والإنسان منا حين يثني على واحد فهذا دليل أنه قد قيّم قدره بقيمة الثناء، وحين نقيّم قدر الله فعلينا أن نعرف أن صفات الكمال كلها فيه وهي لا تتناهى ولا يمكن أن تحصى. ومن رحمة الحق سبحانه وتعالى أنه تحمَّل عنا صيغة الثناء عليه: كي لا يوقعنا في حرج، فليس لبشر من قُدرة أن يحيط بجمال الله أو بجلاله حتى يثني عليه بما يستحقه، وإن أحاط عبد بذلك- ولن يحيط- فمن أين له العبارة التي تؤدي هذا الثناء؟ ولا يوجد بليغ أو أديب يستطيع أن ينمق العبارات التي تكفي لتقدير هذا الثناء على الله، فأوضح لنا الحق من خلال رسوله: أنا حملت عنكم هذه المسألة حتى تكونوا كلكم سواسية، قال رسول الله: (سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك).

                                وفي كلمة (الحمد لله) وحدها يتساوى الناس جميعاً. ومن رحمته سبحانه أن سوّى بين الناس في معرفة صيغة الثناء عليه. ويأتي الحق هنا بالزاوية التي نفى فيها أنهم ما قدروا الله حق قدره. لماذا ياربَّ لم يقدروك حق قدرك؟ وتأتي الإجابة: {إِذْ قَالُواْ ما أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 91].
                                أي أنهم أنكروا أن يكون الله قد اختار من بعض خلقه مَن يجعلهم أهلاً لتلقِّي منهجه لإبلاغه إلى خلقه. ويأتي الرد من الحق لرسوله رداً عليهم: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ} [الأنعام: 91].

                                إذن لابد أن يكون القائلون هذا يؤمنون بأن موسى نُزَّل عليه كتاب لتكون الحُجَّة في موضعها. وكُفار مكة كانوا غير مؤمنين بأي رسول، لكنهم يعلمون أن هناك من هم أهل كتاب، بدليل أنهم قالوا: {لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّآ أهدى مِنْهُمْ} [الأنعام: 157].
                                ونقول: لو دققت النظر في السورة فقد ينطبق الأمر على واحد مخصوص من الذين غلبتهم الحُجّة. وفي تاريخ السيرة نجد واحداً من الأحبار كان دائب الخوض في الإسلام، وكان اسمه(مالك بن الصيف) فلقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحَبْر هو عالم اليهود والمفترض فيه أن يكون من الزهاد فيهم منقطعاً للعلم إلا أنه كان سميناً على الرغم من أن من عادة المنقطعين للعبادة وإلى العلم أنهم لا يأخذون من الزاد إلا ما يقيت، ويقُيم الأود لأنه قد جاء في التوراة: (إن الله يبغض الحبْر السّمين).
                                فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مالك بن الصيف- وهو من أحبار اليهود- يخوض كثيراً في الإسلام قال له: (أفي توراتكم: إن الله يبغض الحَبْر السّمين). فبهت الرجل، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء.
                                يعني ما أنزل الله على بشر من شيء من الذي أنت تقوله، وهكذا نعلم أن مثل هذا القول قد يأتي من أهل كتاب، وحين قال مالك هذه القولة قام عليه رجال من اليهود وقالوا له: كيف تقول: ما أنزل الله على بشرٍ من شيء. فقال لهم: أغضبني محمد، فرددت على الغضب بباطل.
                                وهنا قال من سمعه من اليهود: إذن أنت لا تصلح أن تكون حبْراً لأنك فضحتنا. وعزلوه، وجاءوا بكعب بن الأشرف وولّوه مكانه.

                                {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].

                                الكتاب إذن هنا هو الكتاب الذي أنزله الله على موسى وهو التوراة وقد جعلوه قراطيس، أو جعلوه أوراقاً منفصلة يظهرون منها ما يُريدون، ويخفون منها ما لا يُريدون مثلما فعلوا في مسألة الرّجم كعقاب للزّنا. إذن فقد سبق لهم كتمان ما أنزل الله عليهم، وبيّن الحق ذلك في آيات متعددة: {فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} [المائدة: 14].
                                والذي لم ينسوه كَتَموا بعضه وأظهروا بعضه، والذي لم يكتموه حرَّفوا ولووا به ألسنتهم، إذن فهناك نسيان، وكتمان، وتحريف. وليتهم اقتصروا على هذا ووقفوا عنده بل جاءوا بأشياء من عندهم وقالوا هي من عند الله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 79].

                                ويتابع الحق سبحانه:
                                {وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].
                                فإن كلام الكلام في كُفار مكة فقد جاءهم القرآن بما لم يعلموا لا هم ولا آبائهم؛ لأن الإسلام جاء على فترة من الرسل. وإن كان في أهل الكتاب فهو قول صدق؛ لأنهم لما كتموا أشياء فضح القرآن ما كتموه وما حرفوه. وجاء القرآن فعدل لهم، فكأنهم عُلِّموا الحق، لينسخوا به الباطل الذي غيّروه وحرفوه، وقوله الحق: {قُلِ الله} أي أن الذي أنزل الكتاب هو الله.
                                وساعة يأتي الحق سبحانه وتعالى بصيغة الاستفهام نعلم أن الاستفهام الحقيقي بالنسبة لله مُحَال، لأنه يعلم كل شيء، وإنما يجيء باستفهام يقال له: (الاستفهام الإنكاري) أو (الاستفهام التقريري) وهو يأتي بهذه الصيغة لأنه يريد جواباً فيه الإقرار من المعاندين، فإن لم يقولوا واحتاروا أو خجلوا أن يقولوا فقل أنت لهم يا محمد: {قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].

                                و(الخوض) هو الدخول في الماء الكثير، الذي لا تستبين العين فيه موضع القدم، وربما نزل في هوّة، ثم استعمل واستعير للخوض في الباطل.
                                والحق سبحانه وتعالى يقول: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} أي أن هذا لعب منهم ولن يستطيع الصمود أمام الدعوة، فالدعوة سائرة في طريقها، ولن يتمكنوا منها أبداً، فكل الذي يصنعونه هو خوض في باطل ولعب لا جدوى منه ولا صلة له بالجد. ولكن هل معنى هذا أن يتركهم محمد؟ لا؛ لأنه حين يجد آذانا منهم ينبههم ويذكّرهم، ثم بعد أن ينفتح الأمر للإسلام، فالذي يقيم في جزيرة العرب لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف؛ لأن المعجزة جاءت مباشرة بقرآن يعلم الكل إعجازه


                                نداء الايمان



                                تعليق


                                • #46
                                  رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)
                                  • {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)}

                                    كلمة (أنزلنا) تستعمل بالنسبة للقرآن استعمالات متعددة؛ فمرة يقول سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1].
                                    ومرة يقول عز وجل: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء: 106].
                                    ومرة يسند النزول للقرآن: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإسراء: 105].
                                    ومرة يسند إلى من جاء به: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193].

                                    هذه إذن تعابير متعددة، وما دواعي هذا الاشتقاق ونحن نعلم أن القرآن لم ينزل جملة واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا من اللوح المحفوظ ليباشر القرآن مهمته في الوجود الجديد، وكان ينزل كل نجم من النجوم حسب الأحداث. و(أنزل) هنا للتعدية أي نقل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ليباشر مهمته،

                                    ولذلك يقول سبحانه:
                                    {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر}
                                    ونعلم أن القرآن نزل في ليلة القدر وفي غير ليلة القدر، ولكنه نزل في ليلة القدر جميعه إلى سماء الدنيا، ثم نزل منجماً ومفصّلا في بقية أيام الثلاث والعشرين سنة التي عاشها صلى الله عليه وسلم بعد نزول الوحي

                                    فإذا ما أراد أنه أنزله من اللوح المحفوظ يأتي ب (همزة التعدية) وإذا أراد النزول والموالاة يقول: (نزّل) لأن فيها التتابع، وإذا نسبة لمن نزل به يأتي ب (نَزَل) لأن القرآن لم ينزل وحده بل نَزَل به الروح الأمين، إذن فكلها مُلتقية في أن القرآن نَزَل أو أنزِل، أو نُزِّل.

                                    وكلمة (نَزَل) تعطينا لمحة، وهو أنه جاء من أعلى، ويستقبله الأدنى. وساعة يطلب الحق منا أن ننصت لإنزال حكم يقول لنا عز وجل: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151].
                                    ومعنى (تَعالَوّا) أي ارتفعوا؛ لأننا نعيش على الأرض، وإياكم أن تشرّع الأرض لكم؛ لأن تشريع الأرض إذا لم يكن في ضوء منهج الله فهو حضيض. والله يريد تشريعاً عالياً.، ولابد لكم من أن تتلقوا من السماء أحكامكم؛ حتى لا تتيهوا ولا تضلوا في باطل تشريعات لا تدور في إطار منهج الله.

                                    والحق يقول هنا:
                                    {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} وهو قول صادق يصدق على القرآن فقط برغم أن كل الكتب السماوية السابقة كانت كتب منهج، وكانت المعجزة منفصلة عن المنهج؛ فمعجزة موسى عليه السلام- كما نعرف- هي العصا، ومنهجه التوراة، وعيسى عليه السلام معجزته إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ومنهجه الإنجيل. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تميّز بأن معجزته عين منهجه، لأن كل دين من الأديان السابقة كان لزمن محدود، في مكان محدود. وجاء صلى الله عليه وسلم بالدين الجامع المانع، لذلك جاءت المعجزة هي المنهج، فلو أن معجزته صلى الله عليه وسلم كانت من جنس معجزات الأنبياء السابقين إلا لأن القرآن قالها وصارت خبراً، وكل منها تليق بالزمن المحدود والمكان المحدود.

                                    لكن الإسلام جاء ليعم كل الأزمنة وكل الأمكنة، ولذلك لزم أن تكون المعجزة مستصحبة للمنهج؛ حتى يستطيع من يأتي بعد عصر النبوة إلى قيام الساعة أن يقول: مُحمد رسول الله وتلك معجزته.
                                    والقرآن مُبارك، ونحن في أعرافنا حين نتكلم بالعامية نأتي بالكلمة التي هي من نفْح ونضح الاستعمالات الفصيحة التي سمعناها، فنجد من يقول: والله هذا الأكل فيه بركة؛ فهو مصنوع لاثنين وأكل منه أربعة وفاض وزاد .
                                    إذن،(البركة) أن يعطي الشيء أكبر من حجمه المنظور.

                                    وبركة القرآن غالبة ومهيمنة، ولو قاس كل إنسان حجم القرآن بحجم الكتب الأخرى لوجد حجم القرآن أقل، ومع ذلك فيه من الخير والبر والبركات والتشريعات والمعجزات والأسرار ما تضيق به الكتب، ونجد من يؤلف ويفسر في أجزاء متعددة، ومع ذلك ما استطاع واحد أن يصل إلى حقيقة المراد من الله؛ لأن القرآن لو جاء وأفرغ عطاءه في القرن الذي عاش فيه الرسول فقل لي بالله: كيف تستقبله القرون الأخرى؟! إنه يكون استقبالا خاليا من العناية به لأنه سيكون كلاماً مكرراً.

                                    إذن فقد بيّن فيه كل شيء ومنه أخذ كل إنسان وزمان قدر ذهنه، ولو أن القرآن يراد تفسيره لما فسّره أحد غير من انفعل له نزولاً عليه وهو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيستطيع واحد بعد ذلك أن يقول شيئا في التفسير؟! إذن لو فسره الرسول صلى الله عليه وسلم لجمّده لأنه لا يجرؤ أحد أن يأتي بتفسير بعد الرسول.

                                    وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن عطاءات القرآن لا تتناهى، لذلك لم يفسّره.
                                    بل أوضح بما تطيقه العقول المعاصرة حتى لا ينصرفوا عنه.


                                    ولو كان القرآن قال: إن الأرض كرة وتدور حول الشمس، أكان يصدقه أحد؟ إن هناك حتى الآن من ينكر ذلك. ونجد القرآن يشير ويلمح إليها إلماحا خفيفاً إلى أن تتسع العقول لها. فيقول الحق: {يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل} [الزمر: 5].
                                    وما دام الليل يأتي وراء النهار، والنهار يأتي وراء الليل في شبه كرة؛ فالذي يأتي عليه الليل والنهار شكل الكرة. فكأن كلاً من الليل والنهار دائر وراء الآخر حول كرة، إذن فالحق يعطي اللمحة بميزان حتى تتسع العقول للفهم. ويقول القرآن: {قُل للَّهِ المشرق والمغرب} [البقرة: 142].وهذا قول واضح؛ لأن كل واحد منا يعرف المشرق والمغرب.

                                    لكن حين يقول الحق:
                                    {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} [الرحمن: 17].
                                    أكان يفهمها المعاصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ نعم، لأنه ساعة ما يقول: إن الشمس أشرقت من المكان الفلاني، وغابت عن مكان آخر، فساعة شروقها عندك تغرب عندي، وساعة تغرب عندك تشرق عندي، وهكذا يصير كل مشرق معه مغرب، إذن فقد صدق قول الله {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين}.
                                    ونعلم أن الشمس لها مشرق كل يوم، ومن زار في الصعيد المعبد الذي توجد به 365 طاقة- فتحة-- وتطلع الشمس في كل يوم من طاقة معينة ولا تطلع من الطاقات الأخرى يتأكد من أن الشمس لها في كل يوم مشرق. إذن هناك مشارق ومغارب، وصدق الله القائل: رب المشارق والمغارب.

                                    إن القرآن يخاطبنا بأسلوب يحتمله العقل المعاصر، وإذا ما جدّ جديد نجد الأمر مكنوزاً في القرآن، ونجد تأويلا جديداً لا ينسخ التأويل الآخر ولكنه يرتقي به.
                                    إذن فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يفسر القرآن التفسير الكامل؛ لأنه كان لابد أن يفسّره بما تطيقه العقول المعاصرة له، وإن فسّره بما تطيقه العقول المعاصرة له فمعنى ذلك أنه لن يعطي العقول التي تأتي بعد غذاء من القرآن؛ لذلك ترك صلى الله عليه وسلم القرآن دون تفسير إلا في النزر اليسير.
                                    وتجد ذلك في آيات الكون، أما في الأحكام فالأمر محدد.
                                    لكن في الأشياء التي يتجدد فيها العلم فقد تركها.

                                    إذن فالقرآن مُبارك بحكم ما هو مكنوز فيه إلى قيام الساعة. وأنت تلتفت إلى الناس فتجدهم يتعبون في اكتشاف أسرار الكون، وتجد القرآن قد مسّ ما يبحثون عنه مسّاً خفيفاً.

                                    {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: 92].

                                    وساعة تقول: (بين يدي الشيء) أي الشيء الذي يسبق، والكتب السابقة هي التي نزلت بين يدي القرآن أي قبله، والمقصود بها الكتب المعروفة المشهورة وهي التوراة والإنجيل إذ هما الكتابان الباقيان إلى الآن.
                                    والقرآن يصدق الذي بين يديه ولا يعني ذلك تصديق المحرّف بل تصديق (الأصيل).

                                    ولذلك نجد عبد الله بن سلام وغيره حينما جاءوا للإسلام اعترفوا بذلك، ويقول عبد الله بن سلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انشرح صدري للإسلام، ولكني أعلم أن اليهود قوم بهت- أي أنهم مكابرون- فأنا أريد أن تسألهم عني قبل أن أسلم، فقال رسول الله لهم: ما تقولون في عبد الله بن سَلاَم؟ قالوا: حِبْرنا وابن حِبْرنا وشيخنا ورئيسنا... إلخ.
                                    فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحمداً رسول الله. هنا بدأوا في كيل السباب لسيدنا عبدالله بن سَلاَم فقال: ألم أقل لك يا رسول الله إنهم قوم بهت؟

                                    وقوله الحق:
                                    {مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي أنك إذا ما أردت أن تعرف صدق هذه القضية فهات ما لا حاجة لهم فيه إلى تكذيبه، وستجد القرآن قد جاء موافقاً له.
                                    مثال ذلك حين جاء القرآن بالرِّجْم. هم حاولوا أن يخففوا حكم الرَّجْم؛ لأن امرأة زنت وأرادوا أن يجاملوها. فرفعوا أمرها للنبي وقال بعضهم لبعض: إن حَكَم بعدم الرِّجم فهذا خير لنا ولها، ومن العجيب أنهم غير مؤمنين بمحمد بينما يريدون الحُكم منه، فيقول لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: هاتوا الكتاب، ويأتون بالصحف الموجودة عندهم، فوجدوا آية الرَّجْم؛ إذن فالقرآن مُصدق الذي بين يديه من غير المكتوم، ولا المْحرَّف، ولا المُوَّوَّل.

                                    وإذا ما نظرت إلى القضايا التي يلتفتون إليها، ولكنها تكر أمامهم خاطفة، تجد أنت هذه القضايا وسيلة يريد الله بها أن يكشف الفساد والكذب والتجبر، حتى لا يطمس أهل الباطل معالم الحق. ومثل هذه القضايا تحتاج إلى المُحقق اللّبق. ونجده سبحانه جاء في التوراة بمثل للأمة المحمدية، ويكرر هذا المثل في القرآن حين يقول سبحانه: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
                                    وحين ننظر إلى كلمة (أشدّاء)، وكلمة (رُحماء)، نجد في ظاهر الأمر تناقضا في الطباع، أما المدقق المحقق فيعلم من هذا القول أن الإسلام لا يطبع المسلم على لون واحد؛ لأنه يريد منه كل الألوان، فلو خلقه شديداً لفقدته مواطن الرحمة، ولو فطره وخلقه رحيماً لفقدته مواطن الشدة. والإسلام يطلب من المسلم الالتزام بالقيم الروحية والمادية لتحرس كل منهما الأخرى؛ لأن المسلمين لو راحوا للمادة فقط لصارات حضارتهم شرسة، ولو راحوا للقيم لما استطاعوا أن يقيموا حضارة تبقى وتدوم، والحق يريد حضارة تجمع بين الاثنين؛ الروح والمادة، لذلك يجمع الإسلام بين الاثنين؛ الروح والمادة؛ لأن اليهود في فهمهم لما افتقدت الروح، والنصرانية في فهمهم لها غرقت في الروحانيات وافتقدت المادة، وجاء القرآن مُصدقًا لما بين يديه، وهكذا جاءت الآية بالبلاغ عن أهل الكتاب.

                                    ويتابع البلاغ لأهل قريش قاطني مكة فيقول:
                                    {وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى}، ونعرف أن أم القرى تعني مكة، وقد حاول البعض أن يتخذ من هذه الآية حُجّة ليقول: إن القرآن قد نزل لجماعة العرب فقط، ولهؤلاء نقول: أنتم لم تحسنوا الفهم لمعطيات اللفظ، ولنسأل: ما الحَول أولاً؟. الحول هو المحيط الذي حول النقطة، أيّ نقطة وكل نقطة، وحول كل نقطة قُطْر وقد يكون القطر 20 كيلومترا، وقد يكون مائة كيلومتر، وكلما بعدت المساحة فهي حول هذه النقطة، إذن فكلمة الحول تشمل كل ما حوله، وحول كل مكان يشمل كل مكان.

                                    ولماذا سميت أم القرى؟؛ إما لأن (هاجر) لما نزلت بابنها الرضيع بوادٍ غير ذي زرع، وبعد ذلك تكاثر الناس فصارت هي أم القرى، أو لأن فيها الكعبة، وكل الناس يؤمّونها، أو لأن الحاجّ يأتيها من كل صوب كما يهب ويسرع الأبناء ويلوذون بأمهم: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الأنعام: 92].
                                    من- إذن- الذي يؤمن بهذا الكتاب الذي أنزل مصدقاً لما بين يديه لينذر به أم القرى ومن حولها، ومن هم الذين يؤمنون بالآخرة؟ ولماذا جاء الربط بين أم القرى وما حولها وبين الذين يؤمنون بالآخرة؟. لأن أحداً لن يذهب لتعاليم القرآن ليأخذها وينفذها إلا من يؤمن بأن هناك يوماً نذهب فيه جميعاً إلى الآخرة.
                                    لذلك يخاف فيهرب من المعاصي، ويرغب في الطاعة؛ لأن هناك ثواباً وعقاباً، أما الذي لا يؤمن بالآخرة فلا يسمعك ولا ينصاع ولا ينقاد لك حين تأمره بالعفة؛ لأنه لا يرى ثواباً أو عقاباً ولا ينتهي عن السرقة أو الكبر أو الموبقات جميعاً؛ لأنه لا يخاف من الآخرة؟.


                                    إذا فالذي يملكنا جميعاً هو الآخرة والخوف منها، ومن لا يؤمن بالآخرة يقول أنا غير مُلزم بشيء، ولا شيء يقيّد حريتي. ثم لماذا أقيّد حريتي؟!
                                    وهنا نقول:
                                    أنت تأخذ الأمر بسطحية، فعلى فرض أن في قوانين السماء ما يقيد حريتك، لكنه لا يقيد حريتك وحدك، إنه يقيد حرية الكل، فإن قيد حريتك بالنسبة للناس، فهذه القوانين السماوية تقيد حرية الناس بالنسبة لك، فحين ينهاك الدين عن السرقة، وعن النظر إلى محارم الغير فهو يقول للناس كلها: لا تسرقوا من فلان ولا تنظروا إلى محارم فلان، وبذلك تأخذ حقك كاملاً، وبهذا تعيش في نظام متساوٍ لا تتعب فيه؛ لأن الجاري والمطبق عليك جارٍ على غيرك مع جريانه عليك.
                                    لكن من يؤمنون بالآخرة هم كل واحد يريد أن ينجي نفسه من العقاب، ومن الوعيد. ويدخل نفسه في الوعد وفي الثواب.


                                    فمثلاً- ولله المثل الأعلى- حين نقول للولد: اذهب لتلقى العلم، قد يرد: أنا لا أريد شهادة، فيجبره والده في البداية أن يستذكر، ثم نجد الشاب بعد مشوار المذاكرة يخاف من الرسوب وأن عليه أن يجتهد وأن ينجح. أما إن لم يوجد امتحان في آخر العام فالمذاكرة وعدمها سواء لديه. فمن أقرب- إذن- إلى الاستجابة لنداء العدل والخير؟ إنه من يؤمن بالآخرة.

                                    {والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام: 92].
                                    ولماذا جاء بالحفاظ على الصلاة هنا؟. نحن نعلم أن الصلاة، هي عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، وحين نحلل الأمر تحليلاً طبيعياً نجد أن الناس تنفر من الطاعات لأنها تأخذ زمناً يحبون أن يقضوه في اللعب، وحين نقول لواحد مثلاً: اترك عملك وصل. قد يرد: لا؛ لأني حين أترك عملي يضيع عليّ كذا. ولو كان طبيباً لذكر عددا من مرضى سيكشف عليهم، ولو كان عاملاً لقال: إن توقف الآلة في أثناء الصلاة يجعلني أخسر كثيراً.

                                    وهنا نقول: يا أخي تعال إلى الطاعة، والبركة تعوض لك ما تظن أنك تخسره، وإذا نظرت إلى أركان الإسلام تجدها بالنسبة لانشغال الزمن بها لا تأخذ الكثير من الوقت؛ فشهادة أن لا إله إلا الله مُحمد رسول الله لا تحتاج منك إلا إلى أن تقولها مرة واحدة، وهذا ركن لم يستغرق زمناً طويلاً بالنسبة لأدائه، والزكاة لا تأخذ منك إلا ما تعطيه يوم الحصاد، وهذا يستغرق وقتا قليلا، وكذلك زكاة المال آخر العام، والصوم شهر في السنة، وإذا كان زمن الصوم أوسع قليلاً إلا أنه وقت لا يمر إلا كل عام. والحج مرة في العمر إن كنت مستطيعاً.

                                    إذن أنت تجد التكاليف الركنية في الإسلام بالنسبة للأزمان وقتها يسير وقليل لمن يحرص عليها، لكن الصلاة تؤدي في كل يوم خمس مرات، ورقعتها بالنسبة للزمن أوسع. وأداؤها يحتاج إلى طهارة من حدث أو جنابة وكذلك طهارة المكان؛ لذلك جاءت الصلاة ركناً أصيلاً في الإسلام. وأنت لا تعرف الإنسان إن كان مسلماً إلا إذا سمع الأذان وقام يصلي. لذلك هي الفارقة بين المسلم وغير المسلم؛ لأن الأركان الأخرى أزمانها محصورة، ومع أنها كذلك إلا أنها أخذت من التشريع حظها من الركنية الأصيلة.

                                    إنّ كل تشريعات الإسلام أركاناً وفروعاً جاءت بالوحي إلا الصلاة؛ فقد جاءت بالمباشرة؛ لأن الصلاة دعاء الخالق خلقه لحضرته؛ لذلك كان لابد أن يكون تشريعها بهذه الصورة الفريدة، تشريعاً جاء بالحضرة الإلهية.


                                    وشيء آخر: ما دامت الصلاة هي العمدة في الدين فكأن الصلاة تقول للأركان الأخرى: أنا أجمعكم وأضمكم وأشملكم جميعا؛ فالمسلم في أثناء الصلاة يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. والمسلم يصوم في أثناء الصلاة عن شهوتي البطن والفرج بل وتكون الصلاة صوماً لا عن الأكل والشرب، وشهوة الفرج فقط بل هي إمساك عن كل حركة، وفي الصلاة زكاة؛ لأن الزكاة تعني أن تخرج بعضاً من مالك، والمال فرع العمل، والعمل فرع الوقت. وأنت حين تصلي إنما تزكي بالأصل وهو وقت العمل، وأنت في الصلاة تتوجه إلى الكعبة كما يتجه الحاج والمعتمر، إذن ففي الصلاة كل أركان الإسلام مجتمعة.

                                    إذن فأهمية الصلاة أنها قد اندمج فيها كل ركان الإسلام، وبها يتحقق الاستطراق الاجتماعي للخلافة في الأرض؛ لأن الخلافة في الأرض تقتضي مواهب متعددة، وطاقات متعددة، ولا يمكن لخليفة واحد في الأرض أن يكون مجمع هذه المواهب بل لابد أن تتفرق المواهب في المتفرق والشتيت من الناس، فلا يمكن أن يكون الإنسان الواحد مهندساً وطبيباً ومحامياً وصانعاً وحارثاً وزارعاً وتاجراً. ولذلك وزع الله سبحانه وتعالى مقتضيات الخلافة في الأرض على الخلفاء في الأرض توزيعاً يجعل الالتقاء ضرورياً وليس تَفضُّلياً، بحيث تكون أنت في حاجة إلى مواهب ليست عندك فتذهب لصاحبها.
                                    وصاحبها أيضا يحتاج إلى مواهب عندك ليست عنده فيأتي إليك.

                                    وانظروا إذا شاء واحد أن يستغني في بعض الأشياء التي يقوم بها الغير كم يتعب؟، فإذا ما أتعبه السباكون وآلموه في الأجور. وحاول تعلم السباكة، ولابد له أن يتعلمها من سباك. وكذلك حياكة الملابس. ومعنى ذلك أن الله أبقى المواهب متفرقة مشتتة في الخلق ليحتاج كل خلق إلى كل الخلق. والناس لا تنظر إلى جهة التميّز إلا إلى شيء واحد هو: الغِنى.

                                    ونقول الغِنى المالي أو العقاري هو نوع فقط من المواهب؛ لأنك مثلاً إذا نظرت إلى العَالِم الذي يظل عشرين عاماً يستوعب العلم، ثم يقابله من يستفتيه في فتوى فيقولها له مجاناً، ولو علم هذا السائل ماذا تكلف الأستاذ الذي أفتاه طوال عشرين سنة بحثاً في الكتب وسماعاً من الأساتذة واستنباطاً من الأحكام لدفع مكافأة لهذه الفتوى؛ لأن العالِم كان مُسخراً لمدة عشرين عاماً لتأخذ أنت الفتوى في نضجها النهائي في يسر وسهولة وتنتفع بها.

                                    وحين نرى من يمسح الحذاء، ونجد صاحب الحذاء وهو يمد وهو يمد رجله والاخر يمسح الحذاء تقول لنفسك: لماذا كل هذا الزهو لصاحب الحذاء، ولماذا هذا الانكسار لماسح الأحذية؟. وأقول: أنت رأيت صاحب الحذاء وقت راحته، ورأيت ماسح الأحذية وهو في وقت عمله. ولو عرفت كيف جاء صاحب الحذاء بالنقود التي سيدفعها لماسح الأحذية لعلمت أنه كان مسخراً له ساعة كان يعمل ليحصل على النقود ليعطي مها ماسح الأحذية، ولذلك قال الحق:
                                    {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف: 32].

                                    والناس لا تنظر في التسخير إلا للغني والفقير، ونقول: خذوا التسخير على أن كل واحد في الكون مُسخّر في الموهبة التي عنده، ومُسخّر له في المواهب التي ليست عنده. وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يربط الناس بهذا ربطاً قسرياً وليس تفضّلياً؛ لأن من عنده أولاد يريدون أن يأكلوا وامرأة تحتاج إلى أن تَطْعَم ولا يملك نقوداً، وليس أمامه من عمل سوى نزح المجاري، فيأتي بأدوات نزح المجاري، ويؤدي العمل ليعول من يعولهم، ولولا ارتباطه بضرورة الحياة له ولمن يعول لما عمل في مثل هذا العمل، إذن فهو مربوط ربطاً ضرورياً ليؤدي خدمة في الكون. ولو كان كل البشر يعيشون في رغد العيش أكان هناك من يتطوع لينزح المجاري؟ لا يحدث ذلك أبداً، لأنه عمل لا يأتي بالتفضل بل بالاحتياج.

                                    وهكذا نرى أن الخلافة في الأرض تقتضي استطراقاً، وهذا الاستطراق لا يدوم كثيراً؛ فمرة تكون القوة لإنسان ثم تذهب منه، ومرة يكون الثراء لإنسان ثم ينحسر عنه هذا الغِنى، ولذلك أخبرنا الحق أنه جعل الأيام دُوَلاً بين الناس ليستقيم العالم بارتباط الضرورة في بعض الأعمال، وإن بدا لنا أن هناك مواهب تميز بين الناس في شكلهم، وفي هندامهم، وفي مطيتهم، تجد الطبيب يعمل في أكثر من مكان، وإن سار على رجليه لتعب، لذلك يشتري سيارة، ويظن من يراها أن السيارة امتياز لا مثيل له، متناسياً أن هذه السيارة تقضي مصالح الرجل ليخدم الآخرين.


                                    مثال آخر: أنت إن نظرت إلى كوب الشاي الذي تشربه بمزاج وليس لضرورة حيوية، وإن جاءك من يقدم لك الشاي ليقول: إن الشاي قد نفد من المقهى، فتعطيه جنيهاً وتقول: هات كيساً من الشاي من عند البقال، ويذهب الغلام ليحضر علبة الشاي فيجد البقال وكأنه قد جهزها له، وأنت لا تعرف أن علبة الشاي هذه قد أخذت وقتا وعملا من اثنين أو ثلاثة لتصل إليك؛ لأن الحق قد كلف أناساً ليزرعوا الشاي في بعض البلاد، وأناساً آخرين يستوردونه، ثم تأتيك علبة الشاي لتصنع منها كوباً لتشربه.
                                    إذن فمسألة كلها تسخيرات؛ لذلك توجد الفوارق الاجتماعية التي تقتضيها أعمالنا، ويذيب الحق هذه الفوارق بأن جعل في الصلاة استطراقاً للجميع، وتلتفت ساعة يقول المؤذنالله أكبر) أن الكل قد جاء، الغني قبل الفقير، والخفير مع الأمير، ويخلع الجميع أقدارهم خارج المسجد مع نعالهم ليتساوَوْا في الصلاة، ومن له رئيس يتكبر عليه يراه وهو ساجد مثله لله، فتريحه لحظة استطراق العبودية.

                                    ولنفرض أن كلاً منا سيصلي بمفرده في الصلاة اليومية، لكن عندما يؤذن المؤذن لصلاة الجمعة، يأمرنا الحق أن نَذَر ونترك كل شيء لنؤدي صلاة الجمعة معاً. ويرى الضعيف عظيماً يتضرع مثله إلى الله، ويرى القوي نفسه بجانب الضعيف، وحين يعود كل منا إلى عمله تسقط أقنعة القوة والزهو؛ لأننا جميعاً نقف أمام خالق واحد وكلنا سواء.

                                    إن هذا هو الاستطراق الاجتماعي؛ لأننا حين نرقب بعضنا في أثناء الصلاة نجد أنفسنا في حضرة الرَّب الذي أعد لنا الكون، وسخّره لنا، وأعطانا الطاقات، وأعطانا المواهب، وإذا تأملنا واحداً له وظيفة كبيرة جداً، فأنت حين ترغب في لقائه تكتب التماساً، ويُنْظَر في الالتماس، فإمّا أن يوافقوا وإمّا لا يوافقوا على لقائك به. وإن وافقوا يسألوك: في أي أمر ستتكلم؟ وسيُحدد لك الوقت الذي ستجلس فيه معه وليكن ثلاث دقائق مثلا، وحين تجلس إليه وتنسى نفسك يقوم هو ليدلك على أن المقابلة انتهت، لكن ربنا يقول لنا: تعالوْا لي في أي وقت، وكلموني في أي شيء، وأنا لا أملّ حتى تملُّوا، وأنتم يا عبيدي مَنْ تنهون المقابلة، وهذا عطاء كثير جداً. يغدقه المولى عزوجل على عباده.
                                    فهل هناك ربوبية أفضل من هذه؟.
                                    إذن فالصلاة إذا نظرت إليها وجدت أنها: جماع كل فضائل الدين وفيها كل الفضائل للمجتع؛ لذلك جعلها الله عماد الدين.


                                    نداء الايمان









                                  تعليق


                                  • #47
                                    رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)

                                    {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)}

                                    ساعة يأتي الحق بأسلوب استفهامي فليس الهدف أن يستفهم. إنه سبحانه لا يريد ان يأتي الخبر من عنده، وهو يقدر أن يقول: الذي يفتري ظالم، لكنه هنا يأتي بالاستفهام الذي يؤكد أنه لا يوجد أظلم من الذي يفتري على الله كذباً، ويعرض الله القضية على المؤمنين وكأنه يسأل ليعوض كل مؤمن القضية على ذهنه ويستنبط الجواب. إن الذي يفتري على زميله والمثيل له كذباً نُوقِع به العقاب، فما بالك بمن يفتري على الله؟ وحين تسمع أنت هذا الكلام: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً}.
                                    وتستعرض الأمر فلا تجد أظلم منه، وهكذا يستخرج الله الحكم من فَم المقابل.

                                    وكيف يفتري إنسان الكذب على الله؟ كأن يبلغ الناس ويدَّعي ويقول: أنا نبي وهو ليس كذلك. هنا تكون الفرية على الله، وإياك ان تظن أنه يكذب على الناس، لا، إنه يكذب على الله؛ لأنه أبلغ أن الله قد بعثه وهو لم يبعثه.

                                    و(الافتراء): كذب مُتعمَّد مقصود، وينطبق ذلك على النبوات التي ادعيت؛ من مثل مسيلمة الكذاب، سجاح، طليحة الأسدي، الأسود العنسي؛ كل هؤلاء ادعوا النبوة، ومع ذلك لم يسألهم أحد عن المعجزة الدالة على نُبوّتهم؛ لأن كل واحد منهم عندما أعلن نبوته جاء بما يُخفّف عن الناس أحكام الدين.
                                    فواحد قال: أنا أخفف الصلاة، والزكاة لا داعي لها. لذلك تبعهم كل من أراد أن يتخفف من أوامر الدين ونواهيه، موهما نفسه بأنه مُتدين، دون أن يلتزم بالتزامات التدين، وهذا هو السبب في أن أصحاب النبوات الكاذبة، والادعاءات الباطلة يجدون لهم أنصاراً من المنافقين؛ فالواحد من هؤلاء الأتباع قد يكون مثقفاً ثم يصدق نبياً دجالاً، وتسأل التابع للدجال وتقول له: أسألت مدَّعي النبوة هذا ما معجزتك؟- وهذا أول شرط في النُبوَّة- ولم نجد أحداً سأل هذا السؤال قط، لماذا؟

                                    لأن التدّين فطرة في النفس، ولكن الذي يصعِّب التدين هو الالتزامات التي يفرضها التدين، وعندما يرى التابع الضعيف النفس أن هناك من يُريحع من الالتزامات الدينية، ويفهمه أنه على دين، ويقلل الالتزامات عليه، لذلك يتبعه ضعاف النفوس، وتصبح المسألة فوضى.
                                    {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ} [الأنعام: 93].

                                    هناك من ادعى وقال: أنا نبي، وقال: سأنزل مثل هذا القرآن، فماذا قال هذا المدَّعي وهو (النضر بن الحارث) يقول- في أمة أذنها أذن بلاغية، تتأثر بموسيقى اللفظ-: (والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا)!! ولماذا لم يأت بالمسألة من أولها ويقول: (والزارعات زرعا والحارثات حرثا) ثم يقول مَن ادعى أنه أوحي إليه: (والعاجنات عجنا والخابزات خبزا)، وكان عليه أن يتبعها أيضا: (والآكلات أكلا والهاضمات هضما).

                                    وطبعاً كان هذا الكلام لوناً من هراء فارغ؛ لأن الحق إنما أنزل كلامه موزونا جاذباً لمعانٍ لها قيمتها في الخبر، ولذلك نزل القول الحق: {أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}، وقد جاء واحد هو عبد الله بن سعد بن أي سرح القرشي وكان أخا لسيدنا عثمان من الرضاعة وكان كاتباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقعد في حضرة النبي. فنزلت الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون: 12-14].
                                    وانبهر بالأطوار التي خلق فيها الحق الإنسان فقال: {تبارك الله أحسن الخالقين}. فقال له رسول الله: اكتبها فقد نزلت. واغْترّ الرجل وقال: إن كان محمدٌ صادقاً لقد أوحى إليّ كما أوحي إليه؛ وإن كاذباً لقد قلت كما قال: فأهدر رسول الله دمه. وقال لصحابته: من رآه فليقتله. وفي عام الفتح جاء به عثمان رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله، اعف عن عبد الله، فسكت رسول الله. قال عثمان رضي الله عنه: اعف عنه. فسكت رسول الله. وكررها ثالثا: اعف عنه يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.
                                    وكان لسيدنا عثمان منزلة خاصة عند رسول الله، وأشار الرسول لسيدنا عثمان بن عفان، فأخذ الرجل وانصرف، فلما انصرف قال الرسول لصحابته: ألم أقل لكم من رآه فليقتله؟ قال سيدنا عباد بن بشر: يا رسول الله لقد جعلتُ إليك بصري- أي وجَّهت عيني لك- لتشير عليّ بقتله، فقال رسول الله لعباد بن بشر: (ما ينبغي لرسول أن تكون له خائنة الأعين) وأسلم ابن أبي سرح وحسن إسلامه.
                                    ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله، ما هي عقوبات هؤلاء الذين يفترون على الله الكذب، ويحاولون التغرير بالناس مدّعين أن الله أنزل عليهم وحياً؟
                                    يقول الحق سبحانه:
                                    {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ أخرجوا أَنْفُسَكُمُ اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93].

                                    وساعة تسمع (لو) هذه تعرف أنها شرطية، وأنت تقول- مثلا- لو جاءني فلان لأكرمته. وحين تقرأ القرآن نجد كثيراً من (لو) ليس لها جواب، لماذا؟ لأن الإتيان بالجواب يعني حصر الجواب الذي لا يمكن للفظ أن يحصره فأنت تتركه للسامع مثلما تجد شاباً يلعب دور الفتوة في الحارة ويتعب سكانها، ثم وقع في أيدي الشرطة وأخذوه ليعاقبوه، فيقول واحد ممن رأوه من قبل وهو يرهق أهل الحارة: آه لو رأيتم الولد الفتوة وهو في يد الشرطة!
                                    أين جواب الشرط هنا؟ إنه لا يأتي؛ لأنه يتسع لأمر عجيب يضيق الأسلوب عن أدائه.
                                    والحق سبحانه وتعالى يقول هنا: {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت} ولم يقل لي: ماذا ترى؟ لأنك سترى عجباً لا يؤديه اللفظ. و(الغمرات) هي الشدة التي لا يستطيع الإنسان منها فكاكاً ولا تخلصاً.
                                    ويتابع الحق: {والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ أخرجوا أَنْفُسَكُمُ} فهل هم ملائكة الموت الذين يقبضون الروح؟ أو الكلام في ملائكة العذاب؟ إنها تشمل النوعين: ملائكة قبض الروح وملائكة العذاب.


                                    {والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ أخرجوا أَنْفُسَكُمُ} كأن ملائكة قبض الروح تقول لهم: إن كنتم متأبّين على الله في كثير من الأحكام لقد تأبّيتم على الله إيماناً، وتأبّيتم على الله أحكاماً، وتأبّيتم على الله في تصديق الرسول، فهاهو ذا الحق قد أمرنا أن نقبض أرواحكم، فهل أنتم قادرون على التمرد على مرادات الحق؟ إن كنتم كذلك فليظهر كل منكم مهارته في التأبّي على قبض روحه، أو أن الملائكة يبالغون في النكاية بهم كأن نقول لواحد: اخنق نفسك وأخرج روحك بيديك أو: أخرجوا أنفسكم من العذاب الذي يحيق بكم.

                                    (وعذاب الهون) هو العذاب المؤلم وفيه ذلة. وأساليب العذاب في القرآن متعددة، فيقول مرة: (من العذاب المهين) أو وأعد لهم (عذاباً مهيناً) أو ولهم (عذاب أليم) فمرة يكون العذاب مؤلماً لكن لا ذلة فيه، ومرة يكون العذاب مؤلماً وفيه ذلة. وكما أن النعمة فيها تعظيم فالنقمة فيها ذلة. وأضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى، فالله سبحانه منزّه عن أي تشبيه-: قد نجد حاكماً يعتقل إنساناً ويأمر بأن يجلس المعتقل في قصر فخم وله حديقة، لكن حين يأتيه الطعام، يقول له الحارس: خذ اتسمم، وفي ذلك إهانة كبيرة.

                                    ولماذا يذيقهم الحق العذاب المهين؟ تأتي الإجابة من الله:
                                    {بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}. كأن يقول واحد: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء. وهم أيضاً يستكبرون على الآيات التي يؤمن بها العقل الطبيعي، ويقول الحق: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14].



                                    {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)}

                                    وقوله الحق: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى} أي أن كلاًّ منكم يأتي إلى الله فرداً عما كان له في دنياه من مال أو ولد أو أتباع، جاء كل منهم لله وليس معه الأصنام التي أدّعى أنها شركاء لله، واتخذهم شفعاء له. و(فرادى) جمع (فرْدَان) أو (فريد) مثل (سكارى) جمع (سكران) و(أسارى) جمع (أسير)، إنهم يأتون إلى الله زُمرا وجماعات، ولكن كل منهم جاء منفرداً عما كان له في الدنيا من مال وأهل وولد وأتباع، بدليل أنه قال: {وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}.

                                    و
                                    (خوَّله) أي جعل له خَدَمًا من الأتباع ومن المريدين، ومن المقَّدر والمضيَّق عليهم في الرزق ومن العائشين في نعمته، جاء كل منهم منفردا عما له في الدنيا كما خلقكم الله أول مرة، أي كما دخلتم في الدنيا! {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94].
                                    وقوله الحق: (جئتمونا) أي كأن الإنسان الذي أذنب يكاد يقدم نفسه للعذاب معترفاً أنه يستحق هذا العذاب إقراراً منه بالذنب، فكأن الإنسان يبلغ منه الحزن على ما فعله والتوبيخ لنفسه التي انصرفت عن الحق فيقول لنفسه: أنت تستحقين العذاب.


                                    {وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94].
                                    و(البيْن) هو ما يفصل أو ما يصل. فعندما نجد اثنين قاعدين وبينهما (بين) فهذا البين فاصل وواصل. فإن اعتبرته واصلاً، أقول: تقطّع هذا، أي وقع التقطع بينكما، وانفصمت الروابط بينكم وتشتت جمعكم، وإن كان البين فاصلا فقد وصلوا أنفسهم بالأصنام.
                                    وماذا كانت صلة هؤلاء بالأصنام التي يشركونها في العبادة؟ كانوا يقدمون لها القرابين، وغير ذلك. وهذه الأصنام وكل من جعلوه شريكا مع الله سيفر منهم يوم القيامة. وهكذا يتحقق قوله الحق: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}.

                                    ويواصل سبحانه:
                                    {وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}، و(ضلّ) أي تاه وغاب، ما كنتم تبحثون عنهم فلا تجدونهم مصداقا لقوله الحق: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} [البقرة: 166].


                                    نداء الايمان

                                    تعليق


                                    • #48
                                      رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)
                                      • {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)}

                                        بعد ما تكلم الحق عن التوحيد والنبوات، ومن كانوا يعاكسون ويعارضون ويناوئون تلك النبوات ويكذبونها وقالوا فيها الإفك أراد الله أن يلفت خلقه إلى ما أعده لهم استبقاء لحياتهم، وكيف سخّر لهم كل الكون بما فيه.. جماداً ونباتاً وحيواناً، وكأنه سبحانه يوضح: إن كنت لا ترى أن الخالق يستحق عبادتك فانظر إلى ما انعم عليك به من النعم، ومادام العبد المخلوق له كل نعم الخالق الأعلى فلماذا لا يسمع كلمته سبحانه؟ أيها المخلوق أنت تتربى على مائدة الرحمن وهو خالقك فانظر وتأمل واعرف.

                                        {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى} وساعة تسمع لفظ الجلالة: أي علم واجب الوجود وهو الله، فعليك أن تأخذ لفظ الجلالة بكل ما يدل عليه من صفات الجلال وصفات الجمال ما عرفته وما لم تعرفه؛ لأنه سبحانه خلق الكون كله وهو قيُّوم عليه، وهذا الخلق وتلك القيّومية فعل يقتضي صفات متعددة تقتضي قدرة، وحكمة، وعلماً واسعاً ورحمة، وبسطاً وقبضاً وغير ذلك، وبدلاً من أن يأتي لك بصفات القدرة، وصفات الجمال ويذكرها ويعددها لك يقول سبحانه عن نفسه: (الله)؛ لأنه الاسم الجامع لكل صفاته. ونحن نقول في بدء كل عمل: بسم الله، وفي ذلك إيجاز لما يحتاج إليه أي عمل، لأن أي عمل يحتاج إلى قدرة، فتقول: باسم القادر، ويحتاج إلى علم فتقول: (باسم العليم) ويحتاج إلى حكمة فتقول: (باسم الحكيم) ويحتاج عزة فتقول: (باسم العزيز) وقد تحتاج إلى قهر عدوك لأنك قد تدخل معه في حرب فتقول: (باسم القاهر) إذن كل عمل يحتاج إلى حشد من صفات الكمال والجلال يخدم الفعل، فبدلاً من أن يقول باسم القادر وباسم الحليم وباسم العليم وباسم القابض، يوفر عليك سبحانه كل ذلك فتقول: بسم الله، لأن اسم الجلالة وهو (الله) هو الجامع لكل صفات الكمال.

                                        {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى}، فالق أي شاقق، جاعل الحب والنوى كل منهما فلقتين. (الحب) ما لا نواة له مثيل الشعير والقمح والأرز. وهناك ما له نوى مثل البلح والخوخ، وتجد في قلب النواة شيئا آخر. وهناك نوع آخر له بذور مثل البطيخ، وفي كل بذرة تجد فيها شيئا، فيوضح لك الحق سبحانه وتعالى: إن عظمتي تتجلّى في أنني أخلق الحب وأخلق النوى، وهناك حبوب مفلوقة جاهزة، مثل حبة الفول مثلاً وحبة العدس.
                                        وأنت إذا ما نظرت إلى هذه العملية وجدت شيئا عجباً!!
                                        فحين تأتي لنواة البلح أو حبة الشعير، وتضعها في الأرض في بيئة استخراجها، وبقليل من الرطوبة، تجد الفلقتين قد خرج منها نبتة وتكاد النواة أن تنفلق ليخرج منها الزبان الضعيف بين الفلقتين، وإن نزعت هذا الجذير تنتهي الحياة.

                                        ولذلك وجدنا من يتعجب حين اقتحم أعشاش النمل ووجد في العش قطعاً صغيرة مفتتة بيضاء بجانب العش، واكتشفوا أن هذه هي زبانات الحب الذي يدخله النمل للعش، فلو أن النمل أدخل الحبوب كاملة فقد تأتي لفحة من رطوبة فتكبر هذه الحبة، وتنمو وتصير شجرة تفتك بالعش، فمن الذي هدى النمل إلى أن تفعل هكذا؟ إنه الله. ونجد النمل يفلق حبة نبات (الكزبرة) إلى أربع قطع لأنه لو قطعها إلى اثنتين قد تنبت، من الذي علمه؟ إنه سبحانه: {الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 2-3].

                                        والعجيب أنك حين ترى النبتة الضعيفة ساعة أن تخرج إلى الحياة وهي التي ستكون من بعد ذلك جذراً إنها هشة وضعيفة إن أمسكتها بيدك تسحقها، لكنها تخترق قلب الأرض الصلبة التي لو ضربتها بسكين لانكسرت السكين، لكن الجذير الضعيف يدخل في قلب الصخر والأرض، فأي قوة أعطته ذلك؟ أي قوة تخرق له الأرض؟ وهل الجذير هو الذي خرق الأرض أو خُرِقَت له؟ لقد خرق الحق الأرض للبذرة لتستخرج منها غذاء للزرع، إنّها قدرة الحق سبحانه {فَالِقُ الحب} الذي ادخر في فلقتين اثنتين قوتاً للنبات إذا مسته رطوبة تتغذى عليها الزريعة إلى أن تربى الجذور، ويستمد النبات غذاءه من الفلقتين إلى أن يثبت ويتمكن في الأرض ثم تتحور الفلقتان إلى ورقتين خضراوين.

                                        ويتابع الحق سبحانه:
                                        {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي}. وحين تامل العلماء هذا القول وأرادوا أن يوضحوا لنا ما الحي؟ وما الميت؟
                                        فات الجميع أن يعرفوا ما هي الحياة؟ الحياة هي قيام الموجود بما يؤدي به مهمته، فحياة الإنسان فيها حركة وحس وجري، ثم هناك حياة ثانية في الحيوان، وحياة ثالثة في النبات، وحياة ذات طابع مختلف في الجماد. مثلما علمونا في المدارس حين كان المدرس يمسك بقضيب ممغنط ليجذب برادة الحديد، حتى الحديد الصلب فيه لون معين من الحياة. وكلنا رأينا في المدارس الأنبوية الزجاجية التي وضعوا فيها برادة الحديد وكيف تتأثر بقضيب المغناطيس. وتعتدل وتصير في مستوى واحد، وهكذا نعرف أن الحياة هي الطاقة الموجودة في كل كائن ليؤدي مهمته حتى الأحجار تختلف فيها أشكال الحياة، فهناك حجر يأخذ شكل الرخام، وآخر المرمر، وكل لون من الأحجار له شكل من أشكال الحياة.
                                        ونقرأ في القرآن: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].
                                        وجاء الحق بمقابل الهلاك وهو الحياة؛ فالهلاك ضد الحياة والحياة ضد الهلاك، ويقول سبحانه في آية أخرى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88].
                                        إذن ما دام كل شيء هالكاً، فكل شيء فيه حياة، والخطأ أن تظن أن كل حياة تتشابه في الحس والحركة مع الإنسان، لا، إن الحياة في كل شيء بحسبه، إلى أن تقوم القيامة، فكل شيء حي له حياة تناسبه، وحين نسمع: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
                                        نقول: نعم كل من يسبح بحمده يقول قولا، وإياك أن تقول إنّه تسبيح دلالة؛ لأن بعضهم يقول: إن هذا تسبيح دلالة على الخالق، ونقول: لو أن الذي يقصده الله تسبيح دلالة على خلق لما قال: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.
                                        إذن: فلا أحد منا يفهم لغة التسبيح، وعرفنا من قبل حين سمع سليمان عليه السلام قول النملة وتبسم لها ضاحكاً، وكذلك ما سمعه من الهدهد، وكذلك تسخير الجبال لتسبح مع داود عليه السلام.


                                        {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي ذلكم الله فأنى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95].
                                        إن كل كلمة لها دلالتها ومعناها. فكلمة العلم تدلنا على إحاطة علمه بكل شيء في الوجود، وكلمة الحكمة تدلنا على أن كل شيء منه يصدر عن حكمة. وكلمة الرزاق تدلنا على أن كل مرزوق في الوجود إنما أخذ من فيضه وخيره، وهكذا إلى ما لا نهاية لكماله من صفات ذاته. وكلمة (الله) تدل على كل صفات الجلال والجمال والكمال، فإذا قال: (الله) فهذا الاسم: يشمل القادر، العالم، الحكيم، القدير، وكل صفات الحق ما علمت منها وما لم تعلم، ما دامت ذاته سبحانه وتعالى متصفة بكل صفات الكمال، فالواجب أن يكون كل فعل يصدر عن ذاته المتصفة بالكمال له مطلق القدرة والجمال والكمال.

                                        إذن فحين يقول الحق ذلك فإنما يلفتنا إلى أن كل شيء كائن في الوجود إنما هو من خلق الله، وأن له حياة تناسب مهمته؛ فالإنسان له حياة تناسب مهمته. والحيوان له حياة تناسب مهمته. والنبات له حياة تناسب مهمته. والجماد له حياة تناسب مهمته. وإذا نظرت إلى الأشياء كلها بهذا المعنى وجدت أن كل موجود فيه حياة، ولكن الحياة الكاملة بكل مقوماتها وجدت في الأعلى من المخلوقات وهو الإنسان، والله سبحانه وتعالى خلق في الإنسان الحياة حساً وحركة، ثم أعطاه حياة أخرى هي التي تُصعّد حياته وتجعل لحياته قيمة؛ لأن حياتنا الني نعيشها إنما يتمتع بها المؤمن والكافر، وقصارى ما فيها أن تعطينا الحس والحركة قدر عمرنا في الحياة، ولكن حياة الإيمان بما يبعثه الله لنا من منهج على يد الرسول. تعطينا حياة أوسع، وأخلد، وأرغد، وهذه هي الحياة الحقة، ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
                                        وهذه هي الحياة الحقيقية وقول الحق: {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى} هو المقدمة الأولى للحياة، ثم تكلم عن الحياة وأنه يخرج حياً من ميت، وهو هنا قد خاطبنا على مقدار أوليات علمنا بالأشياء؛ فالشيء إذا لم يكن له حس وحركة نعتبره ميتاً لكن لو نظرت إلى الحقيقة لوجدت كل شيء في الوجود له حياة.
                                        مصداق ذلك قوله جلت قدرته: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}.
                                        وما دام كل شيء هَالِكاً فكل شيء قبل أن يهلك كان فيه حياة.
                                        والله سبحانه القائل: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26-27].

                                        ولماذا جاء في هذه الآية ب (تخرج) وجاء في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قوله: (ومخرج الميت من الحي)؟ إنّ الذين بحثوا هذا البحث نظروا نظرة سطحية في المقابلة الجزئية في الآية، وهي: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} وقال: {وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} نسوا أنه سبحانه قال: إنه يخرج الحي من الميت؛ لبيان أن الله فالق الحب والنوى ليخرج الحي من الميت أي أن الله فلق وشق الحب والنوى لأجل أن يخرج الحي من الميت.
                                        ثم قال: {وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} هو مقابل لفالق فلا تأخذها مقابلة للجزئية في الآية؛ ولأن الاسم يدل على الثبوت، والفعل يدل على الحدوث؛ فالحق سبحانه وتعالى له صفة في ذاته، وصفة في متعلقات هذه الذات؛ فهو سبحانه وتعالى رَزّاق، قبل أن يكون له مخلوق يرزقه. وهو رزاق، وبعد ما خلق من يرزقه هو رازق؛ لأنه هو الخالق، والخالق صفة للذات وإن لم يوجد المتعلق، وهو سبحانه المحيي قبل أن يوجد من يحييه؛ لأن صفته في ذاته أنه يحيي، ومميت قبل أن يميت من يريد أن يميته؛ لأن الصفة موجودة في ذاته.
                                        وسبحانه فالق الحب والنوى أي قبل أن يوجد الحب والنوى الذي يفلقه، ومخرج الحي من الميت هو صفة ثابتة في ذاته قبل أن يوجد متعلِّقها. وله صفة- أيضاً- بعد أن يوجد المتعلق، فإن أراد الصفة قبل أن يوجد المتعلَّق جاء بالاسم: (فالق ومخرج). وإن كان يريد الصفة بعد أن توجد، يقول: (يخرج)، (يخرج).

                                        ويذيل الحق الآية:
                                        {ذلكم الله فأنى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95].
                                        و(ذا) اسم إشارة لما تقدم، وهو سبحانه فالق الحب والنوى ومن يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي وهو الله. والكاف في قوله: {ذلكم} لمن يخاطبهم وهم نحن، أما اللام من {ذلكم} فهي للبعد والميم للجمع. فحين يريد الحق أن يخاطب رسوله، يقول: {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2].
                                        ولكنه هنا يخاطبنا فيقول: {ذلكم} إشارة إلى قول الحق سبحانه وتعالى: الله، وفالق، ومخرج، والخطاب لجمهرة المخاطبين بالقرآن. فإذا كان الله بهذه الصفات فكيف ينصرفون عن الإيمان به وتوحيده؟ وذكر لنا أول مقوم من مقومات الحياة وهو النبات وهو ما نأكله، فإذا كان الحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الحب وخلق النوى ليخرج الحي من الميت وهو مخرج الميت من الحي فهو أولى بأن يكون إلهاً معبوداً فكيف تصرفون عنه؟! وإلى من تصرفون؟! إلى من توجد فيه صفات أرقى من هذه الصفات؟!! لا يوجد من فيه صفات مثل هذه، ولا أرقى من هذه الصفات.
                                        وإذا سمعت كلمة: (أنَّى) فافهم منها أنها تأتي للتعجيب، تأتي وتطلب أن يدلنا واحد على كيفية انصرافهم عن الله وتوحيده مع وضوح الدلالات والبراهين.
                                        ومرة يقول الحق سبحانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} [البقرة: 28].
                                        هو سبحانه يخاطب الناس ويقول لهم: كيف تكفرون بالله فالله في ذاته يستحق ألا يكفر به، لأنه هو الذي خلق من عدم، وأمدّ من عُدْم، ولم يشاركه أحد أو ينازعه في هذا الأمر، وإليه نرجع جميعاً، فكيف تكفرون به؟ وهذا تعجيب كبير؛ لذلك يقول سبحانه هنا: {فأنىتؤفكون} أي فكيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل فتعبدون- مع الله- إلها آخر بعد أن تعلموا أن هذه الصفات له سبحانه وليست لغيره؟ وكل تعجيب يأتي في (أنّى) مثل قوله الحق: {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259].
                                        أي كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟
                                        ويقول سيدنا زكريا لسيدتنا مريم: {أنى لَكِ هذا}

                                        إذن فالتعجب ملازم لكلمة (أنّى) فكأن الصفات التي تقدمت صفات موجبة للإيمان بالله واحداً قهاراً مريداً عالماً حكيماً نرجع إليه جميعاً، فقولوا لنا: كيف تكفرون بهذا الإله؟ وإلى من تذهبون إذا كان هذا الإله يُكفر به؟ أهناك شيء ادّعى أنه خلق وأنه رزق؟ لو أن شيئاً ادّعى أنه خلق أو رزق كنا نعذركم، لكن لم يدّع شيء في الوجود بأنه خلق أو رزق، والدعوة تثبت لصاحبها ما لم يقم لها معارض.
                                        {فأنى تُؤْفَكُونَ} وكلمة (أنّى تؤفكون) تعني كيف تُصرفون انصرافاً كذباً؛ لأن (الإفك). معناه الكذب المتعمّد.


                                        نداء الايمان



                                        ï»؟





                                      • اقتباس

                                      تعليق


                                      • #49
                                        رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)

                                        {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)}

                                        {فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً}. ومعنى (فالق) أي جعل الشيء شقين، وهما نعمتان متقابلتان لا تكفي واحدة عن الأخرى، إذ لابد أن يوجد إصباح ويوجد الليل سكناً؛ لأن الإصباح هو زمان وضوح الأشياء أمام رؤية العين؛ لأننا نعلم أن الظلمة تجعل الإنسان يضطرب مع الإشياء، فإن كنت أقوى من هذه الأشياء حطمتها، وإن كانت أقوى منك حطمتك. إن السير في الظلمات التي لا يوجد فيها نور يهدي الإنسان إلى مرائيه قد يؤدي إلى خسارة الأشياء.
                                        إننّا في الصباح نعمل ونسعى في الأرض، ونملأ الدنيا حركة. فإذا ما أصابنا الكد والتعب والنَّصب من الحركة فالمنطق الطبيعي للكائن الحي أن يستريح ويهدأ ويسكن لا بحركته فقط ولكن بسكون كل شيء حوله؛ لأنك إن كنت ساكناً ويأتي لك ضوء فهو يؤثر في تكوينك، ولذلك يقولون الآن: إن (الأشعة) التي يكتشفون بها أسرار ما في داخل جسد الإنسان تترك آثاراً.

                                        إذن فالإشعاع الصادر عن الشمس يمنعه عنك الله ليلاً حتى يستريح الجسم من كل شيء، من كل حركة ناشئة فيه، ومن حركة وافدة عليه، وهكذا تكون نعمة سكون الليل وظلمته مثل نعمة الصباح، وكلاهما تتمم الأخرى، ولذلك قلنا: إن الحق سبحانه وتعالى في أول السورة قدّم الظلمات على النور: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1].
                                        لأنك لا تستطيع أن تنتفع بحركتك في النور إلا إذا كنت نشيطاً ومرتاحاً أثناء الليل. فإن لم ترتح كنت مرهقاً ولن تستطيع العمل بدقة في حركة النهار. إذن فالظلمة مقصودة في الوجود. ولذلك فالحضارة الراقية هي التي تنظم حياة الإنسان ليعمل نهارا ويستريح ليلاً، حتى لا يستأنف عمله في الصباح مكدوداً. ومن يزور ريف مصر هذه الأيام يفاجأ بأن أهل الريف قد سهروا طوال الليل مع أجهزة الترفيه، ويقومون إلى العمل في الصباح وهم مكدودون مرهقون.
                                        ونقول: لنأخذ الحضارة من قمتها، ولا نأخذ الحضارة من أسفلها؛ فحين تذهب إلى أوروبا تجد الناس تخلد وتسكن ليلاً، ومن يسير في الشارع لا يسمع صوتاً ولا يجد من يخرج من بيته، ولا تسمع صوت ميكروفون في الشارع؛ حتى ينال كل إنسان قسطه من الهدوء، ويختلف الأمر في بلادنا: فالشوارع تمتلئ بالضجيج، والمريض لا يستطيع أن يرتاح، ومن يذاكر لا يجد الهدوء اللازم، ومن يتعبد تخرجه الضوضاء من جوّ العبادة، ونجد من يصف ذلك بأنه نقلة حضارية!!
                                        ونقول: لتأخذ كل نعمة من نعم الله على قدر معطياتها في الوجود النافع لك، وحين يأتي الليل عليك أن تطفئ المصباح حتى تهجع ولا تتشاغب فيك جزئياتك وتكوينك.
                                        وسبحانه يقول: {فَالِقُ الإصباح} و{فَالِقُ}- كما قلنا- تعني شاقق، فهل الإصباح ينفلق؟. وبماذا؟. ونقول: إن {فَالِقُ} هي اسم فاعل، مثلما نقول: (قاتل الضربة) أي أن الضربة من يده قاتلة.

                                        و{فَالِقُ الإصباح} معناها أن الصباح ينفلق عن الظلمة؛ لأن الظلمة متراكمة وحين يأتي الإصباح فكأنه فلق الظلمة وشقها ليخرج النور، وتعني {فَالِقُ الإصباح} أيضاً أن الفلق واقع على الإصباح فيأتي من بعده الظلام، وهذه من دقة الأداء البياني في القرآن؛ لأن الذي يتكلم إله.
                                        وامرؤ القيس قال:
                                        ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ** بصبح وما الإصباح منك بأمثل

                                        والصبح والإصباح معناهما واحد.

                                        هل الصبح من طلوع الشمس؟ أو الصبح من ظهور الضوء قبل أن تشرق الشمس؟
                                        يأتي الإصباح أولا وهو النور الهادئ، ونجد أطباء العيون بعد إجراء جراحة ما لإنسان في عينيه يقومون بفك الأربطة التي تساعد الجرح على الالتئام، يفكونها بالتدريج حتى لا يخطف الضوء البصر فوراً، ومن رحمة الله أن خلق فترة الصبح بضوئها الهادئ قبل أن تطلع الشمس بضوئها كله دفعة واحدة. فكأن الصبح جاء ليفلق ظلمة الليل فلقاً هادئاً، ثم جاءت الشمس ففلقت الصبح.
                                        إذن الإصباح فالق مرة لأنه شقّ الظلمة وفلقها ومفلوق مرة أخرى؛ لأن الظلمة جاءت بعده. إذن فاسم الفاعل قد أدى مهمتين.. المهمة الأولى: فالق الإصباح. أي دخل بضوء الشمس. وإن قلنا: إصباحه فالق، أي ظلمة الليل الأوى انفلقت. إذن فالإصباح فالق مرة، ومفلوق مرة أخرى. وسبحانه حين يقول: {فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً} يريد أن يعطي شقين اثنين؛ لأنه هو في ذاته فالق الإصباح. فيأتي بالاسم ليعطي لها صفة الثبوت، ثم جاء ب {وَجَعَلَ الليل سَكَناً} صفة الحدوث بعد وجود المتعلّق. فإذا أراد الصفة اللازمة له قبل أن يوجد المتعلق يأتي بالاسم. وإن أراد الصفة بعد أن وجد المتعلّق يأتي بالفعل.
                                        ولذلك نجد القرآن الكريم يصور الثبات في قوله الحق: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} [الكهف: 18].
                                        الكلب هنا على هذه الصورة الثابتة، وحين يريد القرآن أن يأتي بالصفة التي تتغير، يأتي بالفعل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} [الحج: 63].
                                        وكان القياس أن يقول: فأصبحت الأرض مخضرة؛ لأنه قال: (أنزل) لكنه يأتي بالتجدد الذي يحدث {فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً}.

                                        ويتابع الحق: {والشمس والقمر حُسْبَاناً} ونحن نعرف الشمس والقمر وجاء بعد ذلك بكلمة {حُسْبَاناً}، على وزن فُعْلان، وهذا ما يدل عادة على المبالغة مثلما تقول: فلان والعياذ بالله كفر كفراناً. ومثلما تدعو: غفر الله لك غفراناً. فحين تحب أن تبالغ تأتي بصيغة فُعْلان.


                                        وجاء القرآن بكلمة (حسبان) في موضعين اثنين فيما يتصل بالشمس والقمر جاء بها هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها {والشمس والقمر حُسْبَاناً}، وفي سورة الرحمن يقول الحق سبحانه: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5].
                                        وما الفرق بين التعبيرين؟

                                        (حسبان) هنا تعني أن تحسب الأشياء، فنحن نحسب السنة بدورة الشمس ب 365 يوماً وربع اليوم وهي تمر بالبروج فيها خلال هذه المدة، والقمر يبدأ بروجه كل شهر في ثمانية وعشرين يوماً وبعض اليوم، ونحن نحسب بالشمس اليوم، ونحسب بها العام، ولكنا نحسب الشهر بالقمر، وأنت لا تقدر أن تحسب الشهر بالشمس، بل تحسب الشهر بالقمر لأنه يظهر صغيراً ثم بكبر ويكبر ويكبر. ولذلك يثبت رمضان عندنا بالقمر لا بالشمس. واليوم نثبته بالشمس.

                                        وهكذا عرفنا أن الشمس والقمر ويعملان في حسابنا للأيام والشهور، والاثنان حسبان: الشمس لها حساب، والقمر له حساب وإذا ما نظرت إلى كلمة (حسبان) تفهم أن الشمس والقمر، كليهما مخلوق ليحسب به شيء آخر؛ لأنهما خلقتا بحسبان، أي أنهما قد أريد بهما الحساب الدقيق، لأن الشمس مخلوقة بحساب، وكذلك القمر.

                                        وتعال إلى الساعة التي نستعملها، ألا يوجد بها عقرب للساعات، وآخر للدقائق، وثالث للثواني؟. وهذا أقل ما قدرنا عليه، وإن كان من الممكن أننا نقسم الثانية إلى أجزاء مثلما عملنا في المساحات؛ فهناك المتر، والسنتيمتر، والملليمتر، ثم بعد ذلك قلنا الميكروملليمتر. إذن، كلما نرتقي في التقدم العلمي نحسب الحساب الأدق. ولم تكن الشمس والقمر حساباً لنا نحسب بهما الأشياء إلا إذا كانت مخلوقة بحساب.

                                        إنك حين تنظر إلى ساعتك تدرك قفزة عقرب الثواني ولكنك لا تدرك حركة عقرب الدقائق، وكذلك لا تدرك حكة عقرب الساعات، وكل من العقارب الثلاثة يدور (بزمبلك) وترس معين. إن اختلت الحركة في زمبلك أو ترس، ينعكس هذا الخلل على بقية العقارب، والثانية محسوبة على الدقيقة، والدقيقة محسوبة على الساعة.
                                        وهكذا فإن لم تكن الساعة مصنوعة بهذا الحساب الدقيق فهي لن تعمل جيداً. وهكذا لا نعتبر الساعة معيارا لحساب أزماننا إلا أنها في ذاتها خلقت بحساب.

                                        والحق سبحانه يقول: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} أي لنحسب بهما لأنهما مخلوقتان بحسبان. أي بحساب دقيق، ولماذا لم يقل الحق حساباً وجاء بحسبان هنا، وحسبان في آية سورة الرحمن؟. ذلك لأن الأمر يقتضي مبالغة في الدقة. فهذا ليس مجرد حساب، لكنه حسبان.
                                        ويذيل الحق الآية بقوله: {ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم}، وكلمة (العزيز) تفيد الغلبة والقهر فلا يستطيع أحد أن يعلو عليه؛ فهذه الأجرام التي تراها أقوى منك ولا تتداولها يدك، إنّها تؤدي لك مهمة بدون أن تقرب منها؛ فأنت لا تقترب من الشمس لتضبطها، مثلما تفعل في الساعة التي اخترعها إنسان مثلك، والشمس لها قوة قد أمدها الله خالقها بها ولا شيء في صنعته ولا في خلقه يتأبّى عليه. فهذا هو تقدير العزيز العليم، وهو سبحانه يعطينا حيثيات الثقة في كونها حسبانا لنحسب عليها. فهو جل وعلا خالقها بتقدير عزيز لا يغلب، وهو عزيز يعلم علما مطلقا لا نهاية له ولا حدود.


                                        نداء الايمان


                                        تعليق


                                        • #50
                                          رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)

                                          {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)}

                                          وبعد أن أوضح سبحانه أنه قد خلق الشمس والقمر بحسبان لتكون حسابا بتقدير منه، وهو العزيز العليم، إنه سبحانه يصف لنا مهمة النجوم فقال: {لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر}، والنجوم هي الأجرام اللامعة التي نراها في السماء لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر؛ ومن رحمته بنا وعلمه أن بعض خلقه ستضطرهم حركة الحياة إلى الضرب في الأرض؛ والسير ليلا في الأرض أو البحر مثل من يحرسون ويشيعون الأمن في الدنيا ولا يمكن أن يناموا بالليل. بل لابد أن يسهروا لحراستنا، كل ذلك أراده الله بتقدير عزيز حكيم عليم، ولذلك ترك لنا النجوم ليهتدي بها هؤلاء الذين يسهرون أو يضربون في الأرض أو يمشون في البحر بسفنهم، وهم يحتاجون إلى ضوء قليل ليهديهم، ولذلك كان العرب يهتدون بالنجوم؛ يقول الواحد منهم للآخر: اجعل النجم الفلاني أمام عينيك، وسر فوق الحي الفلاني. واجعل النجم الفلاني عن يسارك وامش تجد كذا، أو اجعل النجم الفلاني خلفك وامش تجد كذا.
                                          إذن لو طمّت الظلمة لمنّعت الحركة بالليل، وهي حركة قد يضّطر إليها الكائن الحي، فجعل الحق النجوم هداية لمن تجبرهم الحياة على الحركة في الليل.
                                          وعلى ذلك فالنجوم ليست فقط للاهتداء في ظلمات البر والبحر؛ لأنه لو كان القصد منها أن نهتدي بها في ظلمات البر والبحر، لكانت كلها متساوية في الأحجام، لكنا نرى نجماً كبيراً، وآخر صغيراً، وقد يكون النجم الصغير أكبر في الواقع من النجم الكبير لكنه يبعد عنا بمسافة أكبر، وعلى ذلك لا تقتصر الحكمة من النجوم على الهداية بها في حركة الإنسان براً وبحراً، فليست هذه هي كل الحكمة، هذه هي الحكمة التي يدركها العقل الفطري أولا؛ لذلك يأتي الحق في أمر النجوم بقول كريم آخر ليوضح لنا ألا تحصر الحكمة في الهداية بها ليلاً براً وبحراً فيقول: {وَعَلامَاتٍ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} فلم يقل سبحانه يهتدون في ظلمات البر والبحر. إذن- النجوم- لها مهمة أخرى، إنه جلت قدرته يقول: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75-76].

                                          وكل يوم يتقدم العلم يبين لنا الحق أشياء كثيرة، فها هو ذا المذنب الذي يقولون عنه الكثير، وها هي ذي نجوم جديدة تكتشف تأكيداً لقول الحق: {والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47].
                                          أي أنه سبحانه قد خلق عالماً كبيراً. وأنت أيها الإنسان قد أخذت منه على قدر إدراكاتك وامتداداتك في النظر الطبيعي الذي لا تستخدم فيه آلة إبصار، وأخذت منه بالنظر المعان الذي تستخدم فيه التليسكوب والميكروسكوب، وغير ذلك من اقمار صناعية ولذلك يقول الحق سبحانه: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} وبعض العلماء يقول: إن كل إنسان يوجد في الوجود له نجم، وترتبط حياته بهذا النجم، وحين يأفل النجم يأفل قرينه على الأرض، وهناك نجوم لامعة ندرك خفقانها، ونجوم أخرى غير لامعة وبعيدة عنا، ويقال إنها تخص أناساً لا يدري بهم أحد لقلة تأثيرهم بأعمالهم في الحياة.
                                          ويتقدم العلم كل يوم ويربط لنا أشياء بأشياء وكأن الحق يوضح: إنني خلقت لكم الأشياء مِمّا قَدَرْتم بعقولكم أن تصلوا إلى شيء من الحكمة فيها، ولكن لا تقولوا هذه منتهى الحكمة، بل وراءها حِكَم أعلى، فسبحانه هو الحكيم القادر، إنك قد تدرك جانبا يسيرا من حكم الله، ولكن عليك أن تعلم أن كمال الله غير متناه، ولا يزال في ملك الله ما لا نستطيع إدراك حكمته إلى أن ينهي الله الأرض ومن عليها.

                                          ويقول الحق سبحانه في تذييل الآية: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} والآية هي الشيء العجيب، وتطلق على آيات كونية: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار والشمس والقمر} [فصلت: 37].
                                          وتطلق كلمة (آية) على الطائفة من القرآن التي لها فاصلة. إذن هناك آيات قرآنية، وآيات كونية، والآيات الكونية تعتبر مفسرة للآيات القرآنية؛ فتفصيل الآيات في الكون ما نراه من تعددها أشكالاً وألواناً وحكماً وغايات. وتفصيل الآيات في القرآن هو ما ينبهنا إليه الحق في قرآنه وليلفت النظر إلى أن ذلك التفصيل في آيات الكون وذلك الخلق العجيب الحكيم الذي لا يمكن أن يكون إلا لإله قادر حكيم يستحق أن يكون إلهاً موحَّداً، ويستحق أن يكون إلهاً معبوداً.




                                          {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)}
                                          وقد تكلم سبحانه لنا- أولاً- عن الآيات المحيطة بنا والتي بها قوام حياتنا من فلق الحب والنوى، وبعد ذلك تكلم عن الشمس والقمر، ثم تكلم عن النجوم، كل هذه آيات حولنا، ثم يتكلم عن شيء في ذواتنا ليكون الدليل أقوى، إنه سبحانه يأتي لك بالدليل في ذاتك وفي نفسك؛ لأن هذا الدليل لا يحتاج منك إلى أن تمد عينيك إلى ما حولك، بل الدليل في ذاتك ونفسك، يقول سبحانه: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21].
                                          أي يكفي أن تجعل من نفسك عَالَماً، هذا العلم موجود فيه كل ما يثبت قدرة الحق، وأحقيته بأن يكون إلهاً واحداً، وإلهاً معبوداً.

                                          {وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ينطبق على هذا القول أنه إخبار من الله، وأنه- أيضاً- استقراء في الوجود، الذي نسميه التنازل للماضي؛ لأنك لو نظرت إلى عدد العالم في هذا القرن، ثم نظرت إلى عدد العالم في القرن الذي مضى تجده نصف هذا العدد، وإذا نظرت إليه في القرن الذي قبله، تجده ربع تعداد السكان الحاليين. وكلما توغلت في الزمن الماضي وتذهب فيه وتبعد، يقل العدد ويتناهى إلى أن نصل إلى {نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}، وهذا ما ذكره الله لنا، ولقائل أن يقول: كيف تكون نفساً واحدة وهو القائل: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49].

                                          ونقول: إن الحق سبحانه وتعالى خلق النفس الواحدة، وأوضح أيضاً أنه خلق من النفس الواحدة زوجها، ثم بدأ التكاثر. إذن فالاستقراء الإحصائي في الزمن الماضي يدل على صدق القضية. وكذلك كل شيء متكاثر في الوجود من نبات ومن حيوان. تجدها تواصل التكاثر وإن رجعت بالإحصاء إلى الماضي تجد أن الأعداد تقل وتقل إلى أن تنتهي إلى أصل منه التكاثر إنّه يحتاج إلى اثنين: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا} [يس: 36].

                                          ولماذا جاء الحق هنا بقوله: {مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ولم يقل زوجين؟

                                          أوضح العلماء أن ذلك دليل على الالتحام الشديد؛ لأننا حين نكون من نفس واحدة فكلنا- كل الخلق- فيها أبعاض من النفس الواحدة، وقلنا من قبل: إننا لو أتينا بسنتيمتر مكعب من مادة ملونة حمراء مثلاً ثم وضعناها في قارورة، ثم رججنا القارورة نجد أن السنتيمتر المكعب من المادة الحمراء قد ساح في القارورة وصار في كل قطرة من القارورة جزء من المادة الملونة، وهب أننا أخذنا القارورة ووضعناها في برميل، ثم رججنا البرميل جيداً سنجد أيضاً أن في كل قطرة من البرميل جزءاً من المادة الملونة، فإذا أخذنا البرميل ورميناه في البحر فستنساب المادة الملونة ليصير في كل قطرة من البحر ذرة متناهية من المادة الملونة.
                                          إذن ما دام آدم هو الأصل، وما دمنا ناشئين من آدم، وما دام الحق قد أخذ حواء من آدم الحي فصارت حية، إذن فحياتها موصولة بآدم وفيها من آدم، وخرج من آدم وحواء أولاد فيهم جزء حي، وبذلك يردنا الحق سبحانه إلى أصل واحد؛ ليثير ويحرك فينا أصول التراحم والتواد والتعاطف.

                                          ويقول سبحانه: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}
                                          والمستقر له معان متعددة يشرحها الحق سبحانه وتعالى في قرآنه.
                                          وفي قصة عرش بلقيس نجد سيدنا سليمان يقول: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38].
                                          وأجاب على سيدنا سليمان عفريت من الجن، وكذلك أجاب من عنده علم من الكتاب. ويقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ} [النمل: 40].
                                          مستقر هنا إذن تعني حاضراً؛ لأن العرش لم يكن موجوداً بالمجلس بل أحضر إليه. وفي مسألة الرؤية التي شاءها الحق لسيدنا موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143].
                                          ونعلم أن جبريل كان له استقرار قبل الكلام، إذن ف (استقر) تأتي بمعنى حضر، وتأتي مرة أخرى بمعنى ثبت.
                                          والحق يقول: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} [الأعراف: 24].
                                          وذلك بلاغ عن مدة وجودنا في الدنيا، وكذلك يقول الحق: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [الفرقان: 24].
                                          إذن فالجنة أيضاً مستقر، وكذلك النار مستقر للكافرين، يقول عنها الحق: {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 66].
                                          إذن فمستقر تأتي بمعنى حاضر، أو ثابت، أو كتعبير عن مدَّة وزمن الحياة في الدنيا، والجنة أيضاً مستقر، وكذلك النار. ولذلك اختلف العلماء ونظر كل واحد منهم إلى معنى، منهم من يقول: (مستقر) في الأصلاب ثم استودعنا الحق في الأرحام. ومنهم من رأى أن (مستقر) مقصود به البقاء في الدنيا ثم نستودع في القبور.
                                          ونقول: إن الاستقرار أساسه (قرار) حضور أو ثبات، وكل شيء بحسبه، وفيه استقرار يتلوه استقرار يتلوه استقرار إلى أن يوجد الاستقرار الأخير، وهو ما يطمع فيه المؤمنون.
                                          وهذا هو الاستقرار الذي ليس من بعده حركة، أما الاستقرار الأول في الحياة فقد يكون فيه تغير من حال إلى حال، لقد كنا مستقرين في الأصلاب، ثم بعد ذلك استودعنا الحق في الأرحام، وكنا مستقرين في الدنيا ثم استودعنا. في القبور. حتى نستقر في الآخرة. إن كل عالم من العلماء أخذ معنى من هذه المعاني. والشاعر يقول:
                                          وما المال والأهلون إلا ودائع ** ولابد يوماً أن ترد الودائع


                                          ونلحظ أن هناك كلمة (مُسْتَقَرّ) وكلمة (مستودع)، و(مستودع) هو شيء أوقع غيره عليه أن يودع. ولكن (مُسْتَقَرّ) دليل على أن المسألة ليست خاضعة لإرادة الإنسان. فكل واحد منا (مُسْتَقَرّ) به.

                                          ويقول الحق: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} والتفصيل يعني أنه جاء بالآيات مرة مفصلة ومرة مجملة؛ لأن الأفهام مختلفة، وظروف الاستقبال للمعاني مختلفة، فتفصيل الآيات أريد به أن يصادف كل تفصيل حالة من حالات النفس البشرية؛ لذلك لم يترك الحق لأحد مجالاً في ألا يفقه، ولم يترك لأحد مجالاً في ألا يتعلم، ونلحظ أن تذييل الآيتين المتتابعتين مختلف؛ فهناك يقول سبحانه: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 97].
                                          وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 98].
                                          و(الفقه) هو أن تفهم، أي أن يكون عندك ملكة فهم تفهم بها ما يقال لك علْماً، فالفهم أول مرحلة والعلم مرحلة تالية.
                                          وأراد الحق بالتفصيل الأول في قوله: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الدعوة للنظر في آيات خارجة عن ذات الإنسان، وهنا أي في قوله سبحانه: {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} لفت للنظر والتدبر في آيات داخلة في ذات الإنسان

                                          نداء الايمان

                                          تعليق


                                          • #51
                                            رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)

                                            {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)}

                                            كان السياق يقتضي أن يقول سبحانه: أنزل من السماء ماء (فأخرج).
                                            لكنه هنا قال: (فأخرجنا)؛ لأن كل شيء لا يوجد لله فيه شبهة شريك؛ فهو من عمله فقط، ولا يقولن أحد إنه أنزل المطر وأخرج النبات لأن الأرض أرض الله المخلوقة له والبذور خلقها الله، والإنسان يفكر بعقل خلقه الله وبالطاقة المخلوقة له. وأنت حين تنسب الحاجات كلها إلى صانعها الأول، فهو إذن الذي فعل، لكنه احترم تعبك، وهو يوضح لك: حين قال: (فأخرجنا) أي أنا وأسبابي التي منحتها لك، أنا خلقت الأسباب، والأسباب عملت معك. فإذا نظرت إلى مسبب الأسباب فهو الفاعل لكل شيء. وإن نظرت إلى ظاهرية التجمع والحركة فالأسباب التي باشرها الإنسان موجودة؛ لذلك يقول: (فأخرجنا).

                                            وسبحانه جل وعلا قد يتكلم في بعض المواقف فيثبت للإنسان عملاً لأنه قام به بأسباب الله الممنوحة له، ولكنه ينفي عنه عملاً آخر ليس له فيه دخل بأي صورة من الصور؛ مثل قوله الحق: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} [الواقعة: 63-64].
                                            سبحانه هنا ينسب لنا الحرث لأننا قمنا به ولكن بأسباب منه سبحانه فهو الذي أنزل لنا الحديد الذي صنعنا منه المحراث وهدانا إلى تشكيله بعد أن ألانه لنا بالنار التي خلقها لنا، وبالطاقة التي أعطانا إياها، أما الزراعة فليس لأحد منا فيها عمل ولذلك يقول سبحانه: {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65].
                                            هنا سبحانه أتى باللام في قوله تعالى(لجعلناه) للتأكيد؛ لأن الإنسان له في هذا الأمر عمل، إنه حرث وتعهد ما زرعه بالريّ والكد حتى نما وأثمر، لكن قد تصيبه آفة تقضي عليه، فالأسباب وإن كانت قد عملت إلا أنها لا تضمن الانتفاع بثمرة الزرع، ذلك لأن الأسباب لا تتمرد، ولا تتأبى على الله ولا تخرج عليه، إنها تؤدي ما يريده منها الله، وقد يعطلها سبحانه. أما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً}، إنه سبحانه لم يقل لجعلناه، لأنه ليس لأحد فيه عمل لذلك لم يؤكده باللام.
                                            ويقول سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 71-73].

                                            إن كل شيء يذكره الحق يذكر معه أيضاً ما ينقضه، ذلك حتى لا يُفْتَن الإنسان بوجود الأشياء، وعليه أن يستقبل الأشياء مع إمكان إعدامها. وإذا ما كان الإنسان هو الذي يحرث فالحق بطلاقة قدرته قد يجعل النبات حطاماً، ومن قبل قال عن مقومات الحياة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون} [الواقعة: 58-59].
                                            ثم جاء سبحانه بما ينقضه فقال: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت}. أما عن النار فلم يقل سبحانه إنه يقضي عليها ويخمدها ويطفئها، إنه- جل شأنه- أبقاها ليعلمنا ويذكرنا بنار الآخرة {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} أي لابد أن نتركها أمامكم حتى لا يغيب عنكم العذاب الآخروي {وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ} أي ونتركها- جون نقض لها وذلك لأمر آخر هو المنفعة في الدنيا للذين ينزلون أماكن خالية قفراء أو للذين خلت بطونهم وأوعيتهم ومزاودهم من الطعام لأن النار تنفعهم وتساعدهم على إعداد طعامهم استبقاء لحياتهم: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 99].
                                            والشيء هو ما يُخْبَر عنه؛ الهباءة شيء، والذرة شيء وكل حاجة اسمها شيء، ومعنى نبات كل شيء: أن كل حاجة مثل النبات تماماً. رأينا الحجارة التي يقول عنها العلماء هذه جرانيت، وتلك الرخام وتلك مرمر، ولو نظرت إلى أصلها وجدتها أعماراً للحجارة، طال عمر حجر ما فصارا فحماً، وطال عمر آخر فصار جرانيتاً، وهكذا. وكل حاجة لها حياة لتثبت لنا القضية الأولى، وهي: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88].
                                            أو نبات كل شيء ترون فيه نمواً وحياة، والعقل الفطري يأخذها هكذا، لكن العقل المستوعب يأخذ منها قضايا كثيرة، ويتغلغل في الكون ويجد الآية سابحة معه وهو سابح معها.
                                            ويتابع سبحانه: {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً} وإذا قلت كلمة (خَضِر) فقد تعني اللون المعروف لنا وهو الأخضر، لكن (خضر) فيها وصف زائد قليلاًً عن أخضر؛ لأن (أخضر) يخبر عن لون فقط، واللون متعلقة العين، لكن (خضر) يعطي اللون، ويعطي الغضاضة ونعرفها (بالحس). وحين تلمسه تجد النعومة.

                                            إذن (خضر) فيها أشياء كثيرة؛ (لون) متعلق العين، و(غضاضة) نعرفها بالحس وفيها نعومة نعرفها باللمس. وهذا اللون الأخضر يكون داكناً جداً أي أن خضرته شديدة حتى أنها تضرب إلى السواد؛ لذلك نسمع من يقول: (سواد العرق) أي الأرض الخصبة التي في العراق، ويسمونها سواد العرق لأنها خضراء خضرة شديدة ولذلك تكون مائلة إلى السواد، ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَآمَّتَانِ} [الرحمن: 62-64].

                                            و(مدهامة) أي مثل دهمة الليل؛ كأنها من شدة خضرتها صارت كدهمة الليل. ويتابع الحق {خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً} والحب هو ما ليس له نواة مثل حبة الشعير وحبة القمح وحبة العدس وحبة اللوبيا. و(متراكبا) تعني أنه حب مرصوص متساند.
                                            {وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} والنخل عند العرب له مكانة عالية لأنه يعطي لهم الغذاء الدائم فيذكرهم به {وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ}.
                                            و(الطلع) هو أول شيء يبدو من ثمر النخل، وهو ما نسميه في الريف (الكوز الأخضر) وهو في الذكر من النخل الذي يسمى (الفحل) ويوجد أيضاً في الأنثى، وأول ما يبدو من ثمر النخل يسمى الطلع، ثم ينشق الطلع ويخرج منه القنو أو العزق أو العرجون، وهو الجزء الذي توجد فيه الشماريخ التي يتعلق بها البلح.
                                            والطلع إذن هو الثمرة الأولى للنخلة قبل أن تنشق ويطلع منها القنوان وهو (السباطة) كما نسميها في الريف.

                                            (قنوان دانية) ويصفها الحق بأنها دانية لأنك حين تنظر طلع النخيل أول ما يطلع تجده ينشق ويحمي نفسه بشوك الجريد حتى لا تأكله الحشرات ثم يثقل وينحني ويكاد ينزل على الأرض فيكون دانياً قريبا، فإن كانت هناك (سباطة) شاذة تجد من يجنيها يُدخل يده بين الشوك ليصل إليها. وسبحانه يترك لنا فلتات لنعرف نعمة الله في أنه جعلها تتدلى لأنها لو كانت كلها دانية. قد لا يلتفت إليها، لذلك يترك واحدة بين الشوك ليتعب الإنسان حتى يحصل عليها لتعرف أنه سبحانه قد دنّى لك الباقي وهذه نعمة من الله.
                                            ويُطلق الطلع مرة على الأكمام و(الكِم) هو ما توجد في قلبه الثمار، ومرة يطلق على الثمر نفسه: {والنخل بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} [ق: 10].

                                            وأنت ترى البلح نازلاً من (الشماريخ)، وكل شمروخ به عدد من البلح، ثم ترى (الشمروخ) متصلاً بالأم، وفي ذلك ترى عظمة الهندسة العجيبة في ترتيب الثمار. وكل شيء محسوب في هذا الأمر بهندسة عجيبة وعندما ننظر إلى ما تعلمناه في حياتنا حين نصمم شبكة توصيل المياه وشبكة الصرف الصحي، إن شبكة المياه التي تعطينا الذي نستخدمه، وشبكة الصرف الصحي التي تأخذ الزائد من المياه والفضلات. عندما تنظر إلى هذه الشبكة أو تلك تجد هندسة كل منها دقيقة؛ لأن أي غفلة في التصميم تسبب المتاعب. فحين تريد توصيل المياع إلى حارة؛ فأنت تستخدم ماسورة قطرها كذا بوصة، وفي الحارة هناك عطفات فتحضر لكل عطفة ماسورة أقل قطراً من الأولى، ثم ماسورة أقل للبيوت، وماسورة أقل بكثير لكل شقة، لقد قام المهندسون بحساب دقيق لهذه المسائل.

                                            فإذا كانت هذه هي هندسة البشر، فما بالنا بهندسة الخالق؟ أنت تجد العزق: وهو حامل الرطب يأخذ من النخلة، وكل نخلة فيها كذا (سباطة) وفي كل (سباطة) هناك (الشماريخ)، ثم هناك البلح وكل بلحة تأخذ شعرة لغذائها. وهكذا نجد كل شيء محسوباً بدقة بالغة. إنها هندسة كونية عجيبة مصنوعة بقول الحق: كن، وصدق الله القائل: {الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 2-3].

                                            {وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} وكلمة {وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} لم نكن نعرف ما وراءها، كنا نعرف فقط أن السماء هي كل ما علاك فأظللك، والماء يأتي من السحاب، وكلنا نرى السماء تمطر. وكلنا نعرف التعبير الفطري الذي يقول: غامت السماء، ثم أمطرت، وهناك من قال: تضحك الأرض من بكاء السماء لأنها تستقبل الماء الذي يروي ما بها من بذور. لكن ما وراء عملية الإنزال هذه؟

                                            إن هناك عملية أخرى تحدث في الكون دون شعور منا، عرفناها فقط حين تقدم العلم وحين قمنا بتقطير المياه، فأحضرنا موقداً ووضعنا فوقه قارورة ماء، وحين وصل إلى نقطة الغليان خرج البخار، وسار البخار في الأنابيب ومرت الأنابيب في أوساط باردة فتكثفت المياه ونزلت ماء مقطراً، ومثل ذلك يحدث في المطر، وانظر كم يكلفنا كوب واحد من الماء المقطر الذي نشتريه من الصيدلية؟ وقارن ذلك بالسماء التي تنزل بماء منهمر، ولا ندري كيق صُنع. ولذلك يقول الحق: {أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون} [الواقعة: 69].
                                            هكذا ينزل الماء من السماء، ولم نكن نعرف كيف يحدث ذلك وسبحانه يقول هنا: {وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ والزيتون والرمان مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِه} [الأنعام: 99].

                                            وحين يقول سبحانه:
                                            {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِه} نصدق، مثال حبة الخوخ، هناك حبة من نوع نسميه (الخوخ السلطاني)، حين تمسك بالثمرة الواحدة تنفلق لتخرج البذرة نظيفة، وحبة أخرى نفلقها نحن فتجد البذرة فيها بعض لحم الفاكهة ونجد فيها أيضا بعضاً من الألياف. وهذه لها لون والأخرى لها لون، هذه لها طعم وتلك لها طعم مختلف. {يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل} [الرعد: 4].
                                            هذا ليعرف الإنسان أن طلاقة القدرة تحقق ما يريده الخالق، وبعد ذلك تلتفت فتجد الفصائل، فهذا برتقال منه بسرّة، ومنه برتقال بلدي. وبرتقال بدمّه ثم اليوسفي. ولذلك سنجد في الجنة ما يحدثنا عنه سبحانه فيقول: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} [البقرة: 25].
                                            وحين يأكل منه ساكن الجنة يكتشف أن لفاكهة الجنة طعما مختلفا. ومن طلاقة القدرة أنه بعد التحليلات التي قام بها العلماء المعمليون- جزاهم الله عنا خيراً- ل (حبة العنب) وجدوا أن القشرة التي تغلفها لها طبيعة (البارد) و(اليابس)، واللحم لحبة العنب طبيعته مختلفة (حار رطب) ثم البذرة (بارد يابس)، وهذه ثلاث طبائع في الحبة الواحدة، وهذا شيء عجيب التكوين. وكذلك (الأترجة) وهي فاكة كالنارنج تجد القشرة (حارة يابسة)، واللحم فيها (بارد رطب)، والسائل الذي في اللحم (بارد يابس) والبذرة (حار يابس)، طبائع أربعة في الشيء الواحد، كيف؟ وبأية قدرة؟
                                            إن العلماء قد تعبوا حتى عرفوا تكوينها ليظهروا لنا المسألة، وتلتفت لتجد ثمرة تأكل ظاهرها، وباطنها بذرة، وثمرة ثانية تأكل ما في داخلها كالجوز أو اللوز، وتقشر القشرة وتلقيها، والخوخة تأكل لحمها وتترك بذرتها، وذلك لتعرف أن المسألة ليست آلية خلق بل إبداع خالق.

                                            وتجد الشيء له اللون، واللون بلا طعم، ثم الرائحة المميزة وكل ذلك دليل على طلاقة القدرة. وهذا هو السبب في أن الحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم عن ثمار الجنة يأتي بثمار مثلها في الدنيا؛ لأنه لو أحضر ثماراً ليس لها مثيل في الدنيا لقال الإنسان: هذه طبيعة الثمار، ولو وجدت في الدنيا لكان لها طعم مماثل. لكن هاهي ذي تتشابه، وطعومها مختلفة.. إنها طلاقة القدرة.

                                            ويقول الحق:
                                            {انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} الحق سبحانه وتعالى لا يعطي الإنسان حتى يملأ بطنه فحسب لا، ولكنه يغذي كل الملكات في النفس الإنسانية حتى ملكات الترف، وملكات الجمال، وملكات الحسن، فيوضح لك قبل أن تأكل: انظر للثمر وشكله! لتغذي عينيك بالمنظر الجميل حين ترى الثمرة طالعة وتتبعها حتى تنضج، إنّها مراحل عجيبة تدل على أن الصانع قيّوم، وكل يوم لها شكل مختلف وحجم مختلف، وإن أكلتها اليوم فستجد طعمها يختلف عما إذا أكلتها بعد ذلك بيوم، وهذا دليل على أن خالقها قيّوم عليها. ما دامت كل لحظة من اللحظات فيها شكل، وفيها لون وفيها طعم وفيها رائحة جديدة.

                                            {انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ}، و(ينعه) أي وصلت إلى النضج وذلك إشاعة للتمتع بنعم الكون لأن النظر إلى الثمر لا يعني أنني أملكه، فقد أراه في حقل جاري وأنظر له وأتمتع بشكله. إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يشيع الانتفاع بنعم الله حتى عند غير واجدها، لأن أحداً لن يمنعني من أن أنظر، فأنبسط، فمن ناحية الكمال الإنساني هناك غذاء لملكات النفس؛ لأن النفس ليست ملكات جوع وعطش فقط بل هي ملكات متعددة، وكل ملكة لها غذاؤها. ولذلك فقبل أن يقول لي: إن الخيل والبغال تحمل الأثقال.. قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 6-7].

                                            إذن فهو يعطيني فائدة حمل الأثقال؛ لأن حمل الأثقال لمن يملكها، إنما الذي لا يملكها فهو يرى الحصان يسير بجمال، فيسعد برؤيته فيتمتع بما لا يملك، هذه إشاعة لنعم الله على خلق الله.
                                            ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: {إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
                                            أي يؤمنون بأن الإله الذي آمنوا به يستحق بصفات الجلال والجمال فيه أن يُؤْمَن به، وكلما رأى الإنسان خلقا جميلاً قال: الله، إذن أنا إيماني صحيح والآيات تؤكد صدق إيماني بالإله الذي خلق كل هذا، وكل يوم تبدو لي حاجة عجيبة تزيدني إيماناً، وعقلي الذي وهبه الله لي هداني إلى الإيمان بهذا الإله.

                                            ومن العجيب ان هناك من جعلوا لله شركاء!! إله له كل هذه الصفات من أول فالق الحب والنوى، وفالق الإصباح، وجعل الليل ساكناً، والشمس، والقمر، حسابناً وبحسبان، والنجوم نهتدي بها في ظلمات البر والبحر، وأنزل لنا من السماء ماء، وأخرج لنا النبات منه خضر، كل هذه المسائل كان يجب أن تكون صارفة للناس إلى أن الله وحده هو الخالق المستحق للعبادة، ولا تتجه أبداً بالعبادة أو بالإيمان بغيره، لكن هناك من جعلوا لله شركاء، وجاء بها سبحانه بعد كل ذلك حتى يحفظنا ويغضبنا عليهم لنحذرهم ونتقيهم.
                                            وإذا أحفظنا عليهم استحمدنا أي استوجب علينا حمد إذْ أنه هدانا إلى الإيمان، فنقول: الحمد لله الذي هدانا إلى الإيمان

                                            نداء الايمان






                                            تعليق


                                            • #52
                                              رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)

                                              {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)}
                                              ومادة الجن هي (الجيم) و(النون) وكلها تدل على الستر والتغطية والتغليف، ومنها الجنون، لأن العقل في هذه الحالة يكون مستوراً، ونحن لا نرى الجن، فهم مستورون، والملائكة كذلك، والمادة كلها مادة (الجيم) و(النون) تدل على اللف والتغطية.
                                              {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن} و(الجن) هو الخفي من كل شيء، والجن- كما تعلمون- هم خلق من خلق الله فسبحانه خلق الإنس وخلق الجن، خلق الجن مستوراً حتى لا نعتقد أن خلق الله لحي كائن، يجب أن يتمثل في هذا القالب المادي، بل سبحانه يخلق ما شاء وكما شاء، فيخلق أشياء مستورة لا تُرى، ولها حياة، ولها تناسل، ويخلق أشياء مستورة، ولا تناسل لها: كل ذلك بطلاقة قدرة الحق سبحانه، ليقرب لنا هذه القضية؛ لأن عقولنا قد تقف في بعض الأشياء التي لا تدرك ولا ترى؛ لأننا لا نعلم وجوداً لشيء إلا إذا أحسسناه.
                                              إن الحق سبحانه يوضح ذلك. فإياك أن تظن أنك تستطيع أن تدرك كل ما خلقه الله، فليس حسك هو الوسيلة الوحيدة للإدراك لأن حسك له قوانين تضبطه، فأنت ترى، ولكنك ترى بقانون، بحيث إذا بعد المرئي عنك امتداداً فوق امتداد بصرك فلا تراه وكذلك أذنك تسمع، فإن بعد الصوت أو مصدر الصوت عنك بحيث لا تصل الذبذبة إليك، فلا تسمع، كذلك عقلك، قد تفهم أشياء ولا تفهم أشياء أخرى، ثم ضرب لنا في وجودنا المادي أمثالاً تقرب لنا ذلك الخلق الخفي من الجن ومن الملائكة.
                                              لقد وجدنا العقل البشري قد هداه الله الذي قدر فهدى، إلى أن يكتشف شيئاً اسمه (الميكروب) و(الميكروب) كائن حي دقيق جداً بحيث إن البصر العادي لا يدركه، ولكنه كان موجوداً، وفعل الأفاعيل في الناس ودخل في أجسامهم دون أن يشعروا كيف دخل وعمل فيهم وفي صحتهم ما عمل من الهلاك والموت مثل أمراض الطاعون والكوليرا وغيرها، ومع ذلك فالميكروب كان موجوداً ومن جنس وجودنا، أي هو مادة وله حياة وله فعل، وله نفوذ في الهيكل الذي يدرك وهو الإنسان.
                                              وهكذا رأينا أن شيئاً خفياً لا يدرك ويهدد إنساناً ضخماً يدرك، فهل معنى اكتشاف الميكروب أننا أوجدناه؟ لا، إن وجود الميكروب شيء، وإدراك وجوده شيء آخر، وإذا حللنا (الميكروب) نجد أنه مادة الإنسان ولكنه دقيق جداً حتى إن العين المجردة لا تراه، فلما اكتشف المجهر وكبرناه عرفناه، وهذا الكائن الحي إن كنت لا تراه، فعدم رؤيتك له سابقاً لا تعني أنه غير موجود، بل هو موجود ولكنك لم تدركه، ثم اكتشفت- أيها الإنسان- آلة جعلتك تدركه، ولنعرف أن وجود شيء لا يعني أنك من الضروري أن تدركه، فإذا قال الله لك: لي ملائكة من خلقي، ولي جن من خلقي، ولكنكم لا ترونهم وهم يرونكم، نقول: صدقت يا ربي، لأن شيئاً من جنس مادتنا كان موجوداً ولا نراه ثم بعد ذلك رأيناه.
                                              إذن فالأشياء التي نكتشفها الآن هي دليل على صدق البلاغ القرآني بما أخبر به من الأمور الغيبية، الجن مستور، والمادة كلها- كما بينا- تدل على الستر، فالجنون غياب العقل، وجن الليل، أي ستر وغطى، والجنة لأن فيها أشجاراً وغير ذلك بحيث لا يظهر الذي يسير فيها فتكون ساترة لمن يدخلها.
                                              إذن المادة كلها تدل على الستر، وهل الذي نتعجب منه أنهم جعلوا الجن شركاء، أو أن التعجيب ليس من جعل الجن شركاء بل من اتخاذ مبدأ الشركاء، سواء أكان جناً أم غير جن، إن التعجيب هنا من المبدأ نفسه، فنحن لا نعترض فقط على أن الجن شركاء، بل نحن نعترض على المبدأ نفسه، أن يكون لله شريك من جن أو من ملائكة أو من غير ذلك، ولهذا قدم المجعول- وهو الشريك- على المجعول منه- وهو الجن- مع أن العادة أن يقدم المجعول منه على المجعول، فتقول جعلت الطين إبريقاً أي: أن الطين كان موجوداً، وأخذت منه الذي لم يكن موجوداً وهو الإبريق.
                                              ثم هل كان الشركاء موجودين وطرأ الجن عليهم؟ أو كان الجن موجوداً وطرأ الشركاء عليهم؟ في هذه الحالة كان يجب القول: وجعلوا الجن لله شركاء، إذن فالعجيبة ليس في أن يكون الجن شركاء، العجيبة في المبدأ نفسه، وكيف ترد فكرة الشركاء على أذهانهم سواء أكان الشركاء من الجن أم من غير ذلك، ولهذا قال سبحانه: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} وساعة تسمعها تقول: أعوذ بالله {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ}!! ولا يهمك من هم الشركاء؛ لأن مطلق مجيء شريك لله هو الأمر العجيب، سواء كان من الجن أم من الملائكة وكيف جعلوا الجن شركاء؟ ألم يقل الحق في كتابه إن إبراهيم قال: {ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً} [مريم: 44].
                                              وما هي العبادة؟ العبادة هي أن يطيع العابد المعبود فيما يأمره به، وما داموا يطيعون الشياطين في وسوستهم فكأنهم عبدوهم، ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40].
                                              فقالت الملائكة: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} [سبأ: 41].
                                              وكيف كانوا يعبدون الجن؟ إنهم كانوا يطيعونهم فيما يأمرونهم به وينهونهم عنه؛ لأن العبادة هي الطاعة، وأنت أيها العباد لا تقترح العبادة بل تنظر فيما طلب منك أن تتقرب به إلى المعبود، إذن (افعل ولا تفعل) هي الأصل.
                                              {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن} ولماذا جاءوا لله بشركاء؟ لماذا لم يعبدوهم وحدهم ويستبعدوا الله من العبادة؟ لأن وجود شريك دليل على الاعتراف بالله أيضاً فلماذا جعلوا له شركاء؟ ولماذا لم يلحدوا وينكروا ويكفروا بالله وتنتهي المسألة؟ لا. لم يفعلوا ذلك؛ لأنهم رأوا أن الشركاء ليس لهم مطلوبات تعبدية وحين عبدوها- مثلاً- لم تقل لهم (افعلوا) و(لا تفعلوا) وليس هنام منهج لاتباعه، لكن أحداثاً فوق أسبابهم ولا يستطيعون لها دفعاً قد تحدث فلمن يجأرون؟ أللآهة التي يعتقدون كذبها وبهتانها وأنها لا تنفع ولا تضر؟ لذلك احتفظوا باعترافهم بالله ليلجأوا إليه فيما لا يقدرون على دفعه لا هم ولا من اتخذوهم شركاء، ولذلك يقول الحق: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ} [يونس: 12].
                                              كأنه يريد عبادة الله للمصلحة فقط.
                                              {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن}. ومن العجيب- إذن- أنهم جعلوا لله شركاء، مع أن الله هو الذي خلق العابد والمعبود، والتعجيب من أمرين اثنين: أن يجعلوا شركاء لله من الجن أو من الملائكة، والعجيبة الأخرى أنه {وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وما معنى خرقوا له؟ معناها أنهم اختلقوا؛ لأن الخرق إيجاد فجوة في الشيء المستوى على قانون السلامة، ولذلك قال في السفينة: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف: 71].
                                              وخرقوا له. أي عملوا خرقاً في الشيء السليم الذي تأبى الفطرة أن يكون.
                                              {وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ} [الأنعام: 100].
                                              أما القسم الذي ادّعى أن لله البنين فهم أهل الكتاب؛ إنهم قالوا ذلك: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30].
                                              أما من جعلوا لله البنات، فهم بعض العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله. {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً} [الإسراء: 40].
                                              وقال سبحانه: {أَصْطَفَى البنات على البنين مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 153-154].
                                              وسبحانه القائل: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 21-22].
                                              وهناك من العرب من جعل بين الله وبين الجن صلة نسب مصداقاً لقول الحق: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} [الصافات: 158].
                                              لقد افتروا على الحق وادّعو أن اتصالاً تم بين الله وبين الجنَّة فخلقت وولدت الملائكة. {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100].
                                              ولماذا يقول الحق: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} لأن العلم يؤدي إلى النقيض، فالعلم قضية استقرائية معتقدة واقعة يقام عليها الدليل، وهذا شيء لا واقع له، ولا يمكن أن يوجد عليه دليل لذلك فهو قول بغير علم بل هو بجهل. هي إذن جهالة بأن يصدقوا في حاجة وأنها واقعة وهي ليست واقعة، ولا يقام عليها دليل لأنها غير موجودة، ولو استقام الدليل عندهم بفطرتهم المستقبلة لأدلة البيان وأدلة الكون لتبرأوا مما اعتقدوا، ولرفضوا أن يتخذوا لله شركاء.
                                              وقد عرض الحق قضية طرأت على الأفكار المشوشة وقالوا: (شركاء) فقال: (سبحانه)، أي تنزيهاً له عن الشرك في الذات وفي الصفات، وفي الأفعال؛ لأن ذاته ليست ككل الذوات، وأفعاله ليست ككل الأفعال، وصفاته ليست ككل الصفات، ولذلك تأتي (سبحانه) في كل أمر يناقض نواميس الكون الموجودة. وخذ كل أمر يتعلق بالإله الحق في إطار (سبحانه). ولذلك حينما جاء بالإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ثم عرج به في ليلة واحدة وكان ذلك أمراً عجيباً، أمرنا الحق أن نتقبلها في إطار قوله الحق: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} [الإسراء: 1].
                                              إن محمداً عليه الصلاة والسلام لم يقل: أنا سَرَيت من مكة إلى بيت المقدس، إنما قال: (أُسْرِي بي) وما دام قد أسري به فالقانون في الإسراء هو قانون الحق سبحانه. فخذها في إطار سبحانه، وهو القائل: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} [يس: 36].
                                              ثم يأتي بما هو أوسع من إدراكك فيقول: {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36].
                                              كأننا سوف نعلم فيما بعد أشياء فيها زوجية، وقد أزاح الكشف العلمي في القرن العشرين بعضاً من ذلك، فعرفنا الموجب والسالب في الكهرباء والالكترونات، وقوله: {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} يفسح المجال لقضايا الكون التي تحدث بنشاطات العقول المكتشفة.
                                              {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100].
                                              ف(سبحانه) تنزيها له وتقديسا عن أن يقاس بالكائن الموجود. تعالى اسمه، وتعالت ذاته، وتعالت صفاته وأفعاله {عَمَّا يَصِفُونَ} بأوصاف لا تليق بذاته.
                                              وبعد ذلك يقول الحق: {بَدِيعُ السماوات والأرض...}.
                                              .تفسير الآية رقم (101):
                                              {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)}
                                              والحق سبحانه وتعالى قال في آيات أخرى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57].
                                              فإن كنت ترى في نفسك عجائب كثيرة، وكل يوم يعطيك العلم التشريحي أو علم وظائف الأعضاء سرا جديدا فلا تتعجب من هذا الأمر؛ لأن السماء والأرض إيجاد من عدم، وسبحانه هنا يقول: (بديع) أي أنه سبحانه خلقهما على غير مثال سابق، فمن الناس من يصنع أشياء على ضوء خبرات أو نماذج سابقة، لكن الحق سبحانه بديع السموات والأرض، وقد عرفنا بالعلم أن الأرض التي نعيش عليها وهي كوكب تابع من توابع الشمس، وقديما كانوا يقولون عن توابع الشمس إنها سبعة، ولذلك خدع كثير من العلماء والمفكرين وقالوا: إن السبعة التوابع هي السموات، فأراد الحق أن يبطل هذه المسألة بعد أن قالوا سبعة. فقد اكتشف العلماء تابعا ثامنا للشمس، ثم اكتشفوا التاسع، ثم صارت التوابع عشرة، ثم زاد الأمر إلى توابع لا نعرفها. وأين هذه المجموعة الشمسية من السموات؟ وكلها مجرد زينة للسماء الدنيا، وعندما اكتشفت المجاهر والآلات التي تقرب البعيد رأينا (الطريق اللبني) أو (سكة التبانة) ووجدناها مجرة وفيها مجموعات شمسية لا حصر لها، وجدنا مليون مجموعة مثل مجموعتنا الشمسية. هذه مجرة واحدة، وعندنا ملايين المجرات، ونجد عالماً في الفلك يقول: لو امتلكنا آلات جديدة فسنكتشف مجرات جديدة.
                                              ولنسمع قول الله: {والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47].
                                              إذن يجب أن نأخذ خلْق السموات والأرض في مرتبة أهم من مسألة خلق الناس.
                                              {بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101].
                                              وما دام سبحانه بديع السموات والأرض، وهو بقدرته الذاتية الفائقة خلق السموات والأرض الأكبر من خلق الناس، إذن فإن أراد ولداً لطرأ عليه هذا الابن بالميلاد، ولا يمكن أن يسمى ولداً إلا إذا وُلد، وسبحانه منزه عن ذلك، ثم لماذا يريد ولداً، وصفات الكمال لن تزيد بالولد، ولم يكن الكون ناقصاً قبل ادّعاء البعض ان للحق سبحانه ولداً، إن الكون مخلوق بذات الحق سبحانه وتعالى، والناس تحتاج إلى الولد لامتداد الذكرى، وسبحانه لا يموت؛ مصداقاً لقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88].
                                              والبشر يحتاجون إلى الإنجاب ليعاونهم أولادهم، وسبحانه هو القوي الذي خلق وهو حي لا يموت؛ لذلك فلا معنى لأن يُدّعى عليه ذلك وما كان يصحّ أن تناقش هذه المسألة عقلا، ولكن الله- لطفا بخلقه- وضّح وبين مثل هذه القضايا.
                                              يقول جل وعلا: {وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ}. وماذا يريد الحق من الصاحبة؟ إنه لا يريد شيئاً، فلماذا هذه اللجاجة في أمر الألوهية؟.
                                              فلا الولد ولا الصاحبة يزيدان له قدرة تخلق، ولا حكمة ترتب، ولا علما يدبر، ولا أي شيء، ومجرد هذا اللون من التصور عبث، فإذا كان الشركاء ممتنعين، والقصد من الشركاء أن يعاونوه في الملك؛ إله يأخذ ملك السماء، وإله آخر يأخذ ملك الأرض. وإله للظلمة، وإله للنور. مثلما قال الاغريق القدامى حين نصّبوا إلهاً للشر. وإلهاً للخير، وغير ذلك. والحق واحد أحد ليس له شركاء يعاونونه فما المقصود بالولد والصاحبة؟ أعوذ بالله! ألا يمتنع ويرتدع هؤلاء من مثل هذا القول: {وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فسبحانه هو الخالق للكون والعليم بكل ما فيه ولا يحتاج إلى معاونة من أحد.

                                              تعليق


                                              • #53
                                                رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)


                                                {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)}

                                                الحق سبحانه وتعالى قال في آيات أخرى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57].
                                                فإن كنت ترى في نفسك عجائب كثيرة، وكل يوم يعطيك العلم التشريحي أو علم وظائف الأعضاء سرا جديدا فلا تتعجب من هذا الأمر؛ لأن السماء والأرض إيجاد من عدم، وسبحانه هنا يقول: (بديع) أي أنه سبحانه خلقهما على غير مثال سابق، فمن الناس من يصنع أشياء على ضوء خبرات أو نماذج سابقة، لكن الحق سبحانه بديع السموات والأرض، وقد عرفنا بالعلم أن الأرض التي نعيش عليها وهي كوكب تابع من توابع الشمس، وقديما كانوا يقولون عن توابع الشمس إنها سبعة، ولذلك خدع كثير من العلماء والمفكرين وقالوا: إن السبعة التوابع هي السموات، فأراد الحق أن يبطل هذه المسألة بعد أن قالوا سبعة. فقد اكتشف العلماء تابعا ثامنا للشمس، ثم اكتشفوا التاسع، ثم صارت التوابع عشرة، ثم زاد الأمر إلى توابع لا نعرفها. وأين هذه المجموعة الشمسية من السموات؟ وكلها مجرد زينة للسماء الدنيا، وعندما اكتشفت المجاهر والآلات التي تقرب البعيد رأينا (الطريق اللبني) أو (سكة التبانة) ووجدناها مجرة وفيها مجموعات شمسية لا حصر لها، وجدنا مليون مجموعة مثل مجموعتنا الشمسية. هذه مجرة واحدة، وعندنا ملايين المجرات، ونجد عالماً في الفلك يقول: لو امتلكنا آلات جديدة فسنكتشف مجرات جديدة.
                                                ولنسمع قول الله: {والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47].
                                                إذن يجب أن نأخذ خلْق السموات والأرض في مرتبة أهم من مسألة خلق الناس.
                                                {بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101].
                                                وما دام سبحانه بديع السموات والأرض، وهو بقدرته الذاتية الفائقة خلق السموات والأرض الأكبر من خلق الناس، إذن فإن أراد ولداً لطرأ عليه هذا الابن بالميلاد، ولا يمكن أن يسمى ولداً إلا إذا وُلد، وسبحانه منزه عن ذلك، ثم لماذا يريد ولداً، وصفات الكمال لن تزيد بالولد، ولم يكن الكون ناقصاً قبل ادّعاء البعض ان للحق سبحانه ولداً، إن الكون مخلوق بذات الحق سبحانه وتعالى، والناس تحتاج إلى الولد لامتداد الذكرى، وسبحانه لا يموت؛ مصداقاً لقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88].
                                                والبشر يحتاجون إلى الإنجاب ليعاونهم أولادهم، وسبحانه هو القوي الذي خلق وهو حي لا يموت؛ لذلك فلا معنى لأن يُدّعى عليه ذلك وما كان يصحّ أن تناقش هذه المسألة عقلا، ولكن الله- لطفا بخلقه- وضّح وبين مثل هذه القضايا.

                                                يقول جل وعلا:
                                                {وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ}. وماذا يريد الحق من الصاحبة؟
                                                إنه لا يريد شيئاً، فلماذا هذه اللجاجة في أمر الألوهية؟.
                                                فلا الولد ولا الصاحبة يزيدان له قدرة تخلق، ولا حكمة ترتب، ولا علما يدبر، ولا أي شيء، ومجرد هذا اللون من التصور عبث، فإذا كان الشركاء ممتنعين، والقصد من الشركاء أن يعاونوه في الملك؛ إله يأخذ ملك السماء، وإله آخر يأخذ ملك الأرض. وإله للظلمة، وإله للنور. مثلما قال الاغريق القدامى حين نصّبوا إلهاً للشر. وإلهاً للخير، وغير ذلك. والحق واحد أحد ليس له شركاء يعاونونه فما المقصود بالولد والصاحبة؟ أعوذ بالله! ألا يمتنع ويرتدع هؤلاء من مثل هذا القول: {وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فسبحانه هو الخالق للكون والعليم بكل ما فيه ولا يحتاج إلى معاونة من أحد.




                                                {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)}

                                                انظر التقديم بكلمة رب، قبل (لا إله إلا هو) كلمة (رب) هذه هي حيثية (لا إله إلا هو)؛ لأن إلهاً تعني معبودا، ومعبودا يعني مُطاعا، ومطاعا يعني له أوامر ونواهٍ، ولماذا ولأي سبب؟. السبب أنه الرب المتولي الإيجاد والتربية. ومن الواجب والمعقول أن نسمع كلامه؛ لأنه هو الرّب والخالق وهو الذي يرزق، بدليل أننا حين نسأل أهل الكُفْر في غفلة شهواتهم: من خلق السموات والأرض؟ تنطق فطرتهم ويقولون: الله هو الذي خلق السموات والأرض. أما إن كان السؤال موجها في محاجاة مسبقة فأنت تجد المكر والكذب.
                                                وحين تريد أن تنزع منهم قضية صدق وتضع وتبطل قضية كذب فلنأخذهم على غفلة ودون تحضير فيقولون إن الذي خلق هو الله.
                                                ورأينا الآلات التي صمموها ليكتشفوا الكذب، وليروا العملية العقلية التي تجهد الكذاب، أما صاحب الحق فلا يُجْهد؛ لأن صاحب الحق يستقرئ واقعا ينطق به ولا يصيبه الجهد، لكن الذي يكذب يجهد نفسه ويتردد بين أمور ويضطرب ولا يدري بأيها يأخذ ويجيب بإجابات متناقضة في الشيء الواحد.


                                                {ذلكم الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعبدوه وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102].

                                                وما دام هو خالق لكل شيء وهو الباقي فهو الأحق بالعبادة؛ لأن العبادة- كما قلنا- معناها طاعة الأمر وطاعة النهي- ومادام سبحانه الذي خلق فهو الذي يضع قانون الصيانة للإنسان والكون، وإن خالفت المنهج يفسد الكون والإنسان، وإذا فسد الكون أو الإنسان فأنت تلجأ إلى منهج الخالق لتعيد لكل منهما صلاحيته؛ لذلك هو الأولى بالعبادة. {ذلكم الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ}.
                                                وهذه شهادة شهد بها لذاته قبل أن يخلق كل شيء، وقبل أن يخلق الملائكة، وشهدت بها ملائكته، وشهد بها أولو العلم. {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط} [آل عمران: 18].

                                                إذن فالله شهد بألوهيته من البداية، ومن أسمائه (المؤمن) ونحن مؤمنين بالله، وربنا المؤمن بأنه إله واحد، وهذا الإيمان منه أنه إله واحد، يخاطب كل شيء يريده وهو يعلم أن أي شيء لا يقدر أن يخالفه، إنه يخاطبه بقوله: (كن فيكون) ولأنه إله واحد يعلم أن أحداً أو شيئاً لم يخالفه، لذلك يباشر ملكه وهو العليم بأن الغير خاضع لأمره ولا يمكن أن يتخلف عن مراداته، أو نقول: (المؤمن) لما خلق ولمن خلق، أي منحهم الأمن والأمان فهو سبحانه القائل: {الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4].
                                                لقد أوضح الحق سبحانه لنا: أنتم خلقي فإن أخذتم منهجي أطعمكم من الجوع وآمنكم من الخوف.
                                                {ذلكم الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}.
                                                إذن فالمنطق يفرض علينا عبادته سبحانه، والأمر المنسجم مع المقدمة، أن لا رب، ولا إله إلا هو، إنه خالق كل شيء؛ لذلك تكون عبادته ضرورة، ويتمثل ذلك أن تطيعه فيما أمر، وفيما نهى.


                                                {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102].
                                                وهذه دقة الأداء البياني في القرآن، فنحن في أعرافنا فلان وكيل لفلان أي يقوم لصالحه بالأمور التي يريدها، وسبحانه ليس وكيلاً لك، بل هو وكيل عنك؛ لأن الوكيل لك ينفذ أوامرك، لكن هو وكيل عليك، مثل الوصي على القاصر هو وكيل عليه، ويقول للقاصر: افعل كذا فيفعل، وسبحانه وكيل علينا، ولذلك نحن نطلب منه وهو الذي يستجيب لدعائنا بالخير، فلا ينفذ رغباتنا الطائشة، ونجد الأحمق من يقول: لقد دعوت الله ولم يستجيب لي، ونقول: إنك تفهم الاستجابة أنها تؤدي لك مطلوبك، وسبحانه أعلم بما يناسبك لأنه وكيل عليك ويعدل من تصرفاتك، وساعة تطلب حاجة، إن كان فيها خير يعطيها لك، وإن كنت تظن أنها خير، لكنها ستأتي بالشر لا يعطيها لك.
                                                وعلى من يدعو ألا يتعجل الإجابة. قال صلى الله عليه وسلم: «يستجاب لأحدكم مالم يَعْجَل، يقول: قد دعوت فلم يستجب لي».


                                                {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي سواء أكان هذا الشيء مختاراً أم غير مختار؛ لأن المختار قد يختار شراً، ولأن الله وكيل عليه يقول له: لا، وغير المكلف ولا اختيار له، مقهور لإرادة الله مثل النار، فهي مأمورة أن تحرق، لكنه أمرها ألا تحرق سيدنا إبراهيم وتبقيه سليماً.




                                                {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}

                                                ولماذا لا تدركه الأبصار؟
                                                لأن البصر آلة إدراك لها قانونها بأن ينعكس الشعاع من المرئي إلى الرائي ويحدده، فلو أن الأبصار تدركه لحددته، وأصبح من يراه قادراً عليه، ولصار مقدوراً لكم؛ لأنه دخل في إدارككم. فلو أنك أدركت الله لكان الله مقدوراً لبصرك، والقادر لا ينقلب مقدوراً ابداً، إذن فمن عظمته انه لا يُدْرَك: أنت قد ترى الشمس، ولكن أتدعي أنك أدركتها؟! لا، لأن الإدراك معناه الإحاطة، وحين يقال (أدركه) أي لم يفلت منه، ولذلك عندما سار قوم فرعون وراء موسى وقومه قال أصحاب موسى: {ا إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}.
                                                أي لا فائدة؛ لأن البحر أمامنا، إن تقدمنا نغرق، وإن تأخرنا أهلكونا وقتلونا. إذن (مُدرك) يعني محاطا به. فإذا أحاطت الأبصار بالله انقلب البصر قادرا، وصار الله مقدورا عليه. والقادر بذاته- كما قلنا- لا ينقلب مقدورا لخلقه أبدا.

                                                {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير} [الأنعام: 103].
                                                وكل ما عدا الله محتاج إلى الله لبقاء كينونته، وكينونته سبحانه ليست عند أحد؛ لذلك {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} لأنه إن قدر على الأبصار كلها فهو قادر بذاته، والباقي مقدور له؛ لأنه مخلوق له، ومادام مخلوقا له يكون مقدورا عليه ولم يطرأ على المخلوقين شيء جديد يجعلهم قادرين بذواتهم {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار}.
                                                وقد وقف العلماء وقفة كبيرة واختلفوا: هل الإنسان يرى ربه أو لا يراه سواء في الدنيا أم في الآخرة؟ بعضهم قال: لا أحد يرى الله بنص الآية: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} ونقول: لكن هناك آيات في القرآن تقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23].
                                                و(ناظرة) تضمن الرؤية وتفيدها، وأيضاً فالله يعاقب من كفر به بأن يحتجب عنه؛ لأنه القائل: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].
                                                فالكافرون محجوبون عن رؤية الله عقاباً لهم. ولو اشتركنا معهم وحجبنا كما حجبوا فما ميزتنا كمؤمنين؟، إذن فالعلماء لم ينتبهوا إلى أن هناك فرقا بين الأداء القرآني وما يقولون؟ وحين يحتج عالم منهم بأن رؤية الله غير ممكنة لأن ربنا سبحانه قال لموسى: {لَن تَرَانِي ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143].
                                                فلماذا لم يلتفت هذا العالم إلى قول الحق: {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً} [الأعراف: 143].
                                                إذن فالله تجلى لبعض خلقه، أما أن يراه الخلق في الدنيا فلا؛ لأن تكويننا غير مؤهل لأن يرى الحق، بدليل أن الأصلب والأقوى منا وهو الجبل حينما تجلى ربه عليه اندك. فلما اندك الجبل خر موسى صعقا، فإذا كان موسى قد خر صعقا لرؤية المتَجلَّى عليه وهو الجبل فكيف لو رآه؟! إن فهو غير معد له.

                                                لقد اختلف العلماء عند هذه الآية، وتجلَّى خلافهم إلى أبعد حد؛ فمنهم مجيز للرؤية، ومنهم منكر لها، وأرى أن خلافهم في غير محل نزاع؛ لأنهم تكلموا عن الرؤية، والكلام هنا عن نفي الإدراك، والإدراك إحاطة؛ والرؤية تكون إجمالاً، إنما الإحاطة ليست ممكنة، وعلى تقدير أن الرؤية والإدراك متحدان في المفهوم نقول: لماذا يكون الخلاف في أمر الآخرة؟ لو أن الخلاف في أمر الرؤية في الدنيا لكان هذا كلاماً جميلاً، ولكن الخلاف جعلتموه في الآخرة.
                                                إن آيات القرآن صريحة في أن رؤية الحق سبحانه وتعالى من نعم الله على المؤمنين، وهي زيادة في الحسنى عليهم، وحجبه سبحانه عن الكفار لون من العقوبة لهم ونقول- أيضاً-: لماذا لا تقولون إن الإدراك سيوجد في الآخرة بكيفية ليست موجودة في دنيانا؟ لأننا في هذه الدنيا معدُّون إعداد أسباب- وفي الآخرة سنكون معدين إعداداً لغير أسباب.
                                                أنت هنا إذا أحببت أن تشرب تطلب الماء أو تذهب للماء وتشرب، وحين تريد أن تأكل الشيء الفلاني، تقول لأهل البيت: اصنعوا لي كذا أو تشتري ما تريده، إنما هناك في الآخرة بمجرد أن يخطر ببالك ما تشتهيه تجده أمامك، وهذا قانون جديد لا ارتباط له بقانون الدنيا، فلماذا لا يكون في تكويننا في الآخرة أيضاً قانون يمكن به أن نرى الله وفي إطار ليس كمثله شيء؟
                                                إن في الآخرة قضايا يتفق الجميع على انها تخالف قوانين الدنيا ونواميس العالم المعاصر لنا الآن في الأكل والشرب، والتخلص من الفضلات، لكن في الآخرة سنأكل ونشرب ولكن لن توجد فضلات؛ لأنك أنت الان تطهى وتهضم، وفي الهضم أنت تأخذ بعض الطعام ويبقى منه فضلات لابد أن تخرج، لكن الطهي والهضم في الآخرة ب (كن) وليس له فضلات، إنه طعام بقدرة القادر، في الجنة كل ما تريده ستناله دون أن ينفد، وفي الدنيا أي شيء يؤخذ منه ينقص، أما في الآخرة فلا شيء ينقص لأن له مدداً من القيومية.

                                                ويعقب الحق سبحانه وتعالى بعد القضيتين: {وَهُوَ اللطيف الخبير} ولطيف تناسب {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} و{الخبير} يناسب {وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} ولطيف لها معنى خاص، فالشيء اللطيف يستعمل في دقيق التكوين- ولله المثل الأعلى- إن الميكروب لم نعرفه إلا مؤخراً لأنه بلغ من اللطف والدقة بحيث لا تدركه العين، لكن عندما اخترعنا الميكروسكوب رأيناه، وإن دق الميكروب عن ذلك فلن نراه، وقد اكتشفنا (الفيروس) ونحاول معرفة المزيد عن خصائصه، إذن كلما دق الشيء يلطف ولا يمكن أن نراه، فالشيء إذا لطف شرف وعلا ونقول- ولله المثل الأعلى-: فلان لطيف المعشر، والحق سبحانه لطيف في ذاته ويلطف بعباده.
                                                إنك ساعة ما تسمع (لاطف) فهذا اسم فاعل، مثلها مثل (آكل)، وحين نقول: (لطيف) فهي مبالغة في اللطف؛ لأنه لاطف بكل إنسان وكل كائن وهذا يحتاج إلى مبالغة، ولذلك نقول: رحيم، وهي صيغة مبالغة؛ لأنه يسبغ رحمته على عباده، وأول مظهر من مظاهر اللطف، هو تدبير أمورهم الدقيقة تدبيراً يحقق مصالحهم في وجودهم. إننا حين ندير كوب ماء لكل إنسان ندبر الكثير فما بالنا بتدبير اللطيف بعباده؟

                                                لقد خلق لنا الأرض ثلاثة أرباعها ماء، والربع يابس، لأنه جل وعلا يريد أن يوسع رقعة الماء لأن المياه كلما اتسعت رقعتها، كان البخر فيها أسهل وأكثر، لكن لو كانت المياه عميقة ومساحتها قليلة فالبخر يكون على مستوى السطح فقط، وهنا لا يأتي السحاب بما يكفي الخلق من الماء. لقد سمع الله سبحانه رقعة الماء كي يتبخر الماء ثم ينعقد كسحب في السماء، ويصادف منطقة باردة لينزل لنا المياه العذبة لنشرب منها، وتشرب أنعامنا، ونسقي الزرع، وكل ذلك من لطف التدبير.
                                                ومن مظاهر اللطف في الحق نجد أموراً لا توصف، ولذلك كل واحد من العلماء انفعل لزاوية من زوايا لطف الله على خلقه.. فواحد قال: هو(سبوغ النعم) وقال الثانيدقة التدبير) وقال الثالث: إن من مظاهر لطف الحق أنه يستقل كثير من النعم على خلقه، فالنعم التي منحها خلقه قليلة لأن خزائنه سبحانه ملأى وعطاياه لا تنفد ولا يعتريها نقص، ولذلك قال سبحانه: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
                                                أي أن نعمه الكثيرة على عباده قليلة، وفي المقابل: يستكثر قليل الطاعة من خلقه أي يعتبرها- تفضلاً منه- كثيرة؛ لأنه هو الذي يجزي الحسنة بعشر أمثالها.

                                                إذن فمظاهر اللطف لا حصر لها، وعلى قدر دقة اللطف تكون دقة مأتاه وإحصائه، فهو اللطيف الذي إذا ناديته لبّاك، وإذا قصدته آواك، وإذا أحببته أدناك، وإذا أطعته كافاك وإذا أعطيته وأقرضته من فضله وماله الذي منحك عافاك، وإذا أعرضت عنه دعاك فهو القائل: (يابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم، وإن دنوت منّي شبراً دنوت منك ذراعاً، وإن دنوت منّي ذراعاً دنوت منك باعاً، وإن أتيتني تمشي أتيتك أهرول) وكلها مظاهر لطف. وهو المنادى: (توبوا إلى الله) والرسول صلى الله عليه وسلم هو القائل: (لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا سقط على بعيره قد أضله بأرض فلاة) وإذا قربت من الله هداك.

                                                ويأتي عالم آخر ممن انفعلوا بصفات اللطف، فيقول: الذي يجازيك إن وفيت، ويعفو عنك إن قصرت، وعالم آخر يضيف إلى معاني اللطف فيقول: من افتخر به وأعزه، ومن افتقر إليه أغناه، وعالم ينفعل انفعالاً آخر بمظاهر اللطف فيقول: من عطاؤه خير، ومنعه ذخيرة.
                                                أي أنه لو منع عبده شيئاً فإنه يدخره له في الآخرة، كل هذه مظاهر للطف، وهذا مناسب لقوله الحق: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} إن لطفه سبحانه يتغلغل فيما لا نستطيع أن ندركه، وحين تحلل أنت أي أمر قد لا تصل إلى فهم النعمة، وإن وصلت فأنت لا تقدر أن تؤدي الحمد على تلك النعمة.
                                                وقوله الحق: {وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} مناسب لكلمة (خبير)، ونحن في حياتنا نسمع كلمة (خبير) فعندما نقابل أي مشكلة من المشكلات نجد من يقول: نريد أن نسمع رأي الخبير فيها، وفي القضاء نجد القاضي يستدعي خبيراً ليكتب تقريراً في أمر يحتاج إلى من هو متخصص فيه وعليم به، إذن فالخبير في مجال ما هو الذي يعرف تفاصيل الأمر، فما بالنا بالخبير الأعلى الذي لا يستعصي عليه شيء في ملكه، وهو الذي يدرك الأبصار، فقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} يناسبها (خبير)، وهذا ما يسمونه في اللغة (لف ونشر) وهو ان يأتي بأمرين أو ثلاثة ثم يأتي بما يقابلها، مثال ذلك قوله الحق: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار} [القصص: 73].
                                                فمن مظاهر رحمته لنا سبحانه أن جعل لنا الليل والنهار، ثم قال: {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73].

                                                لنسكن في الليل، ونبتغي فضله في النهار، وهذا اسمه- كما قلنا- (لف ونشر).






                                                {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)}


                                                بصائر جمع بصيرة، والبصيرة للمعنويات والإشراقات التي تأبى في القلوب كالبصر بالنسبة للعين، و(الكون) يعطيكم أدلة الإبصار، والقرآن يعطيكم أدلة البصائر، فكما أن الله هدى الإنسان فحذره ونهاه عن المعاصي ومنحه النور الذي يجْلي له الأشياء فيسير على هدى فلا يرتطم ولا يصطدم، كذلك جعل المعنويات نوراً، والنور الأول في البصر يأخذه الكافر والمؤمن، وكلنا شركاء فيه مثله مثل الرزق، لكن النور الثاني في البصائر يأخذه المؤمن فقط، ولذلك يقول ربنا: {لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} [الحديد: 9].
                                                وهو نور الهداية في بصائر المعنويات، فيوضح: أنا خلقتكم خلقاً ووضعت لكم قوانين لصيانتكم. فقانون الصيانة في ماديات الدنيا للمؤمن والكافر، وقانون الصيانة في معنويات الحياة خاصة للمؤمن.
                                                وهو القائل: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور: 40].
                                                ونعلم أن البصائر من المعنويات والمجيء للأمر الحسّي؛ كقولنا: (جاء زيد) أو (جاء عمرو) ولك أن تتصور البصائر وهي تأتي، قال الحق: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ} [المائدة: 15].
                                                إنه سبحانه قد أعطانا نورا صحيحا واضحا وهو يأتي إلينا بمشيئته.


                                                {قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} أي أنها بلغت من تكوينها أنها أصبحت كانها أشياء محسّة تجيء، ولا يصح أن تقولوا إنها لم تصلكم لأنها تجيء من الرب الذي خلقنا بقدرته وأمدنا في كل شيء بقيّوميته، ومن لوازم الربوبية أن يعطي ما يهدي، وقد حكم الله أن البصائر جاءتنا، وحكم بأن رسوله قد بلّغ؛ فسبحانه أعطى لرسوله، والرسول ناولنا، فالحق قد شرع ورسوله قد بلغ وبقي أن تؤدوا ولا عذر لكم من المشرع الأعلى الذي خلق وهو الرب. ولا من المبلغ المعصوم وهو الرسول.
                                                ويقول الحق تبارك وتعالى: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: 104].
                                                ولله المثل الأعلى، نجد الولد يدخل البيت فيجد أمه ويقول لها: ماذا أعددت لنا من طعام؟ فتقول: لا شيء. فيقول الابن: لقد بعث أبي اللحم والأرز والخضار، فكأنه يقول لها: أين عملك يا أمي؟
                                                وربنا سبحانه يوضح: أنا خلقتكم، وعملت لكم قانون صيانة، وأرسلت لكم رسولاً ولا تعرفون عنه أنه صادق في بلاغه، وأدى هذه الرسالة، لذلك فالباقي من المسألة عندكم أنتم، وكل واحد عليه أن يؤدي ما عليه من عمل، إن أبصر فلنفسه، وإن عمى فعليها. فإياكم أن تفهموا أني كلفتكم بما يعود عليَّ في ذاتي، ولا ما يزيد من سلطاني شيئا؛ لأن خيرها لكم أنتم، ولا آمن على التشريع ممن لا يفيد من التشريع؛ لأن من يستفيد منه قدر يشرّع لمصلحته، أما الحق فهو مأمون على التشريع لأنه غير منتفع به.

                                                يقول سبحانه:
                                                {قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: 104].
                                                ولأن الرسول عليه البلاغ فقط والحق قد حفظه وعصمه من الكفر وهو يبلغكم المنهج، وقد خلق الله كل إنسان مختارا وهو بهذا الاختيار يُدخل نفسه في الحكم أو يخرج نفسه من الحكم، وسبحانه لم يبعث الرسول جباراً بل بعثه رحيماً؛ لذلك يقول الله في حق رسوله صلى الله عليه وسلم: «وما أنا عليكم بحفيظ» والحفيظ من أسماء الله، وهو الحفيظ لأنه شرَّع ليحفظ الخلق ويريد أن يجعلهم على مثال حسن واعٍ. والرسول هو المبلغ والحق يقول: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45].
                                                إذن فكل واحد حر يدخل نفسه في الحكم أو يخرج نفسه من الحكم. وقد حارب الرسول ليحمي الاختيار بدليل أن البلاد التي فتحها الإسلام تجد بعضاً من سكانها قد ظلوا على كفرهم ولم يرغمهم أحد على الإيمان.





                                                {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)}

                                                (كذلك نصرف). أي أن يأتي لنا بالحال بعد الحال ويكرر ويعيد، وتأتي الحادثة من الحوادث وينزل فيها تشريع، ويرقق قلوبهم، ويأتي بنماذج من الرسل، ومواقف أممهم منهم حتى نصادف في كل حال قلباً مستقبلاً لأنه إن قال مرة واحدة وسكت وكان هناك أناس قلوبهم منصرفة فعندما يكرر الأحداث وينزل فيها التشريع والمواعظ فقد ترق قلوبهم للإيمان وتستوعب القلوب الهداية.

                                                {وكذلك نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} ما معنى: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ}؟ إننا نعلم أن السماء تتدخل حين يطم الفساد، لكن إن وجد في الذات الإنسانية نفس لوّامة فهي مَنَاعة للنفس ووقاية لها. فإن فعل الإنسان ذنباً تلومه نفسه فيرجع، وإن اختفت النفس اللوّامة وصارت النفس أمّارة بالسوء، امتنع في المجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمعنى ذلك أن الفساد قد طمّ. وهنا تتدخل السماء وتأتي ببيان جديد ومعجزة جديدة.
                                                إن الفساد لا يتأبى إلا من وجود طبقات تطحن في طبقات، والذين يُطحنون بالفساد هم من يستقبلون المنهج بشوق، لكن الطاحن المستفيد من الفساد هو الذي يعارض المنهج. ولذلك فإن كل جماعة حاربت الرسل هم من الطاحنين للناس، لكنَّ المطحونين إنما يريدون من ينقذهم.
                                                إذن فكل صاحب دعوة سماوية جعل الله له عدواً من المجرمين؛ لأن السماء لم تتدخل إلى حين صار الإجرام لا مقاوم له. وهكذا يجعل الله لكل نبي ورسول عدواً من المجرمين، وهذا العدو يفتن به الناس، ويميل له ضعاف العقائد. والحق يصرف الآيات حالاً بعد حال حتى لا يثبت مع الداعي الحق إلا المؤمنون الصادقون.

                                                ولذلك تجد أن الإسلام قد جاء وغربل الأمور؛ فمثلاً تأتي حادثة الإسراء فمن كان إيمانه مهتزّا ينكر الإسراء، وذلك من أجل أن يذهب الزبد ويبقى من يحمل الدعوة بمنهج الحق. أما من كان إيمانه ضعيفاً أو كان يعبد الله على حرف فالإسلام لا يرغبه. {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة: 47].
                                                إذن فالحق سبحانه وتعالى قد صرّف الآيات لينصر المطحونين، وحينما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك قالوا درست وادعو أنه كان قاعداً في الجبل، وتعلم من أعجمي. ولذلك نجد الحق يقول: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103].
                                                ويأتي الرد من الحق: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103].

                                                إن سيدنا عمر رضي الله عنه حينما كان في الطواف جاء عند الحجر الأسود وقال: (والله إني لأقبلك وإني أعلم أنك حجر وأنك لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّلك ما قبلتُك).
                                                فعل سيدنا عمر ذلك حتى يعلمنا إذا ماجاء بعض الناس وقال: ما سبب علة تقبيل الحجر الأسود؟ فيكون الجواب حاضراً: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وهذا تشريع.






                                                {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)}

                                                وساعة يتكلم متكلم لمخاطب بأمر هو فيه وقائم عليه مؤدٍ له فلابد أن نفهم حقيقة المراد، مثلما يقول الحق سبحانه: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} [النساء: 136].
                                                وبأي شيء نادى الله خلقه المؤمنين هنا؟ لقد قال: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ}، فكيف يقول: (آمنوا)؟ لقد ناداهم لأنهم آمنوا إيمانا استوجب خطابهم بالتكليف، والإنسان ابن أغيار. فيوضح أن الإيمان الذي استقبلتم به التكليف من خطابي داوموا أيضا عليه، وجاء الأمر هنا بدوامه، أي كما آمنتم إيمانا جعلكم أهلا للتكليف في مخاطبتكم وقلت لكم يأيها الذين آمنوا: الزموا هذا وداوموا على إيمانكم. وقوله الحق: {اتبع ما أُوحِيَ إِلَيْكَ} هو قول لرسول متبه، إذن فهو يحمل الأمر بالمداومة على الاتباع، ولا يحزنك ما يقولون يا محمد؛ لأنك مؤيد من ربك ويتولى الدفاع عنك ويلقنك الحجة. {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 33].
                                                ويقول الحق بعد ذلك موجها حديثه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {اتبع ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إله إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين}.
                                                أي أنه لا يوجد إله إلا هو سبحانه، ولا يمكن أن تغير أنت بالمنهج النازل إليك منه، وعليك أن تعرض عن المشركين، فلا تجالسهم، ولا تخالطهم، ولا تودهم. إنه إعراض الفطنة والإرشاد والبلاغ.





                                                {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)}

                                                الحق سبحانه وتعالى يعطينا قضية لابد أن نستصحبها في تاريخنا الإيماني، والقضية هي: أن أيَّ كافر لم يكفر قهرا عن الله، وإنما كفر لأن الله أرخى له الزمام بالاختيار أي خلقه مختارا، ولذلك فالكافر إنما يفعل كل فعل بما آتاه الله من الاختيار لاغصبا عن ربنا أو قهرا، بدليل أن الكون الذي نحيا فيه مقهور بالأمر، لا يمكن أن يختار إلا مراد الله منه، وكل ما في الكون يسير إلى مراد الله.

                                                إذن فمن كفر لم يكفر قهرا عن الله؛ لأن طبيعة الاختيار ممنوحة من الله. وحين اختص الله الإنسان بالاختيار وضع المنهج الذي يرتب عليه الثواب والعقاب. ولذلك نزل التكليف ب (افعل) و(لا تفعل). وسبحانه إن أراد قهرا فقد قهر كل الأجناس في الكون؛ قهرها بطول العمر، وأنها تؤدي مهمتها كما أراد الله منها، إنّه قهر الشمس، وقهر القمر، وقهر النجوم، وقهر الماء، وكل حاجة في الكون مقهورة له حتى الملائكة خلقهم: {لاَّ يَعْصُونَ الله ما أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6].

                                                إذن صفة القهر أخذت متعلقها كاملا. ولكن أيريد الله من خلقه أن يكونوا مقهورين على ما يريد؟ لا، بل يريد سبحانه أن يكونوا فاعلين لما يحبه، وإن كانوا مختارين أن يفعلوا ما لا يحبه، كأن خلق القهر في الأجناس كان لإثبات طلاقة القدرة، وأنه لا يمكن لمخلوق أن يشذ عن مراد الله منه. وبقي الاختيار في الإنسان ليدل على أن أناسا من خلقه سبحانه يذهبون إليه جل وعلا وهم قادرون ألا يذهبوا إليه، وهذه تثبت صفة المحبة.
                                                وحين يختار المختار الطاعة، وهو قادر ألا يطيع، ويختار الإيمان وهو قادر أن يكفر فقد جاء إلى الله محبة لا قهرا، ولذلك يقول ربنا لرسوله صلى الله عليه وسلم: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3-4].
                                                أي أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة وحزنا على عدم إيمان قومك بما جئت به من عند ربك، أتريد يامحمد أن أقهرهم؟ أتريد أعناقاً أو قلوباً؟ إنك يا محمد تعلم أن منهجك النازل إليك من ربك يريد قلوبا، والقلوب تأتي بالاختيار. فلو شئنا إيمانهم لأنزلنا معجزة تأخذ بقلوبهم فيؤمنون قهرا عليهم.

                                                ولذلك إذا خُدِشَ الاختيار بفقد أي عنصر من عناصره يزول التكليف. بدليل أنه لا تكليف على فاقد العقل؛ لأن آلة الاختيار عندنا هي العقل. وكذلك لا تكليف لمن لم ينضج بل يتركه الحق إلى أن ينضج. ويصير قادرا على إنجاب مثله وأن يصل إلى التكوين الكيماوي السليم. ويمنع عنه الإكراه بأي قوة أعلى منه تقهره على أن يفعل شيئا على غير مراده، وهنا يأتي التكليف.
                                                إذن فالتكليف يحتاج إلى أمور ثلاثة: وجود عقل، لذلك فلا تكليف لمجنون، وعقل رشيد ناضج، فقبل البلوغ لا تكليف ولا إكراه حتى يسلم الاختيار، لماذا؟ تأتي الإجابة من الحق سبحانه: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].

                                                نداء الايمان



                                                تعليق


                                                • #54
                                                  رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)

                                                  {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)}

                                                  تتضمن هذه الآية الكريمة منهجاً ضرورياً من مناهج الدعوة إلى الله، هذه الدعوة التي حملها الرسل السابقون، وختمهم الحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلها سبحانه ختماً لاتصال السماء بالأرض؛ لذلك كان لابد من أن يستوعب الإسلام كل أقضية تتعلق بالدعوة إلى الله يحملها أميناً عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمة المحمدية. التي شرفها الله سبحانه وتعالى بأن جعل فيها من يحملون أمانة دعوة الله إلى الخلق امتداداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكل مسلم يعلم حكماً من أحكام الله مطلوب منه أن يبلغه لغيره؛ فرب مُبلَّغ أوعى من سامع. حتى وإن كان الله لم يوفقه للعمل بما جاء فيما بلغ. فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، فإذا فاته أن يعمل فالواجب ألا يفوت من يعلم قضية من قضايا دينه ثواب البلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخلق، ولكن عليه أن يعمل ليكون قدوة سلوكية يتأسى به غيره حتى لا يقع تحت طائلة قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}.
                                                  وإن كان بعض الشعراء يلحون على هذه المسألة. فيقولون:
                                                  وخذ بعلمي ولا تركن إلى عملي ** واجن الثمار وخلّ العود للنار

                                                  إذن فالبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ضروري، وهو امتداد لشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه بلغ صلى الله عليه وسلم عن الحق مراده من الخلق. وبقي أن يشهد الناس الذين اتبعوا هذا الرسول أنهم بلغوا إلى الناس ما جاءهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143].

                                                  إذن فكما أن الرسول سيشهد بأنه بلغنا، فمن صميم المنهج أن يشهد أتباعه أنهم بلغوا الناس، فإن حدث تقصير في البلاغ إلى الناس، فستكون المسئولية على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يؤد أمانة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الناس أجمعين. ومنهج الدعوة منهج صعب؛ لأن الدعوة إلى الله تتطلب أن يأخذ الداعي يد الذين ينحرفون عن منهج السماء اتباعا لشهوات الأرض، وشهوات الأرض جاذبة دائما للخلق؛ لأنها تحقق العاجل من متع النفس. واتباع منهج الدين- كما يقولون- يحقق نفعا آجله، فهو يحقق- أيضا- المتعة العاجلة؛ لأن الناس إن تمسكوا بمنهج الله في (افعل ولا تفعل) يعيشون حياة طيبة لا حقد فيها، ولا استغلال، ولا ضغن ولا حسد ولا سيطرة، ولا جبروت، فيصبح الناس جميعا في أمان.

                                                  إذن فلا تقولوا إن الدين ثمرته في الآخرة بل قولوا ليست مهمة الدين هي الآخرة فحسب بل مهمة الدين هي الدنيا أيضا، والآخرة إنما هي ثواب على النجاح في هذه المهمة؛ لأن الله إنما يجازي في الآخرة من أحسن العمل في الدنيا.
                                                  ومن اتبع منهج الله كما قال الله {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} ومن أعرض عن منهج الله فإن له معيشة ضنكا. ويحدث ذلك قبل الآخرة، ثم يأتي يوم القيامة ليتلقى العقاب من الله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 124].
                                                  فإذا كان الدين يأخذ بالناس من شهواتهم الهابطة إلى منهج الله العالي، فتكون مهمة الداعي شاقة على النفس، ولذلك قالوا: إن الناصح بالخير يجب أن يكون لبقا؛ لأنه يريد أن يخلع الناس مما أحبوا وألفوا من الشر؛ لذلك يجب على الداعي ألا يجمع عليهم إخراجهم مما ألفوا بأسلوب يكرهونه بل لابد أن يثير جنانهم ورغبتهم في اتباع المنهج، ولذلك جاءت هذه الآية: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108].

                                                  لقد قال الحكماء: النصح ثقيل فلا نرسله جبلاً ولا تجعله جدلاً، والحقائق مُرّة، فاستعيروا لها خفة البيان. والخفة في النصح تؤلف قلب المنصوح، وحسبك منه أن تخلعه عما ألف وأحبّ. إلى ما لم يتعود، فلا يكون خلعه مما ألف بأسلوب عنيف. ولذلك يعلمنا الحق هذه القضية حين ندعو الخصوم إلى الإيمان به، وهؤلاء الخصوم يتخذون من دون الله أنداداً؛ أي جعلوا لله ومعه شركاء.

                                                  إنهم إذن إرادوا المتعة العاجلة بالابتعاد عن المنهج، ثم احتفظوا بالله مع الشركاء؛ لأنه قد تأتي لهم ظروف عصيبة، لا تقدر أسباب الأرض على دفعها، ومن مصلحتهم أن يكون لهم إله قادر على أن ينجيهم مما هم فيه. فهم لا يكذبون أنفسهم. والحق سبحانه هو القائل في مثل هؤلاء إن أصروا على الشرك: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98].
                                                  حصب جهنم إذن هم المشركون ومعهم الأصنام التي كانوا يعبدونها وستكون وقوداً للنار التي يعذبون بها. وبعض من الناس السطحيين يظن أن هذا عذاب للأحجار، لا، بل هي غيرة ونقمة وغضب من الأحجار على خروج المشركين عن منهج الله في توحيد الله. فتقول الأحجار: لقد كنتم مفتونين بي ولذلك سأكون أنا أداة إحراقكم. إننا نجد المفتونين في الآلهة من البشر أو الآلهة من الأشجار أو الآلهة من الكواكب أو الآلهة يصيبهم الله بالعذاب، والأحجار التي عبدوها تقول كما قال بعضهم فيها شعراً:
                                                  عبدونا ونحن أعبد ل ** له من القائمين في الأسحار
                                                  واتخذوا صمتنا علينا دليلا ** وغدونا لهم وقود النار
                                                  للمغالي جزاؤه والمغالي فيه ** تنجيه رحمة الغفار

                                                  ولذلك يأتي الأمر بألا نسبّ ما يعبده الذين أشركوا بالله؛ لأن الأصنام لا ذنب لها، والواقع كان يقتضي أن تتلطفوا بالأحجار فهي لا ذنب لها في المفتونين بها.
                                                  والحق سبحانه وتعالى يعلمنا ويوضح لنا ألا نظلم المتَّخَذ إلها؛ لأنه مغدور، والسب هو ذكر القبيح، والشتم، والذم، والهجاء، إنك إن سببت وقبحت ما عبدوه من دون الله فإن العابد لها بغباوته سيسب إلهك فتكون أنت قد سببت إلها باطلا، وهم سبّوا الإله الحق، وبذلك لم نكسب شيئا؛ فانتبهوا.
                                                  ويحذرنا القرآن من الوقوع في ذلك في قول الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].

                                                  وهم سيفعلون ذلك عَدْواً وعدوانا وطغيانا بغير علم بقيمة الحق وقدسيته سبحانه وتعالى؛ لذلك يجب أن نصون الألسنة عن سب آلهتهم حتى لا نجرئ الألسنة التي لا تؤمن بالله على سب الله.
                                                  إن الحق سبحانه يريد أن يعلمنا اللطف في منهج الدعوة؛ لأنك تريد أن تحنن قلوبهم لتستميلهم إلى الإيمان ولن يكون ذلك إلا بالأسلوب الطيب.
                                                  صحيح أن المؤمنين معذورون في حماسهم حين يدخلون في مناقشة مع المشركين ولكن ليتذكر المؤمن القيمة النهائية وهي الخير للدعوة. وليسأل الله أن يرزقه الصبر على المشركين، ويعلمنا الحق كيف نسير في منهج الدعوة، وعلى سبيل المثال نجد سيدنا نوحاً عليه السلام الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما. وظل يدعو ويتحنن في الدعوة، إلى أن قالوا له في آخر المطاف: أنت تفتري هذا الكلام من عندك، فعلمه الله سبحانه وتعالى أن يقول: {قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35].

                                                  ويقول الحق سبحانه معلماً رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السماوات والأرض} [سبأ: 24].
                                                  أي من الذي يعطيكم قوام الحياة؟ وأنت حين تسألهم سؤالاً يناقض ما هم عليه. فيتلجلجون، فيسعف الله رسوله فيوضح سبحانه ويأمره أن يقول لهم: {قُلِ الله وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24].
                                                  و(إنا) أي رسول الله ومن معه. (أو إياكم) المقصود بها الكافرون بالله، ولم يقل لهم أنا وحدي على هدى وأنتم على ضلال، بل قال: منهجنا ومنهجكم لا يتفقان، ولابد أن يكون هناك منهج على هدى ومنهج على ضلال، ولن أقول مَن هو الذي على هدى، ومَنْ هو الذي على ضلال؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم واثق من أنهم لو أداروا المسألة على عقولهم وعلى بصائرهم: فلن يجدوا جواباً إلا أن رسول الله على الهدى وأنهم على الضلال. فتركهم هم ليقولوها.

                                                  ولنتأمل أيضاً قول الحق سبحانه: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25].
                                                  لم يقل الحق إنهم هم الذين يجرمون، بل جعل الجرم- إن صح- على المؤمنين، وجعل العمل- وإن فسد- مع الكافرين.
                                                  وعلى الأقل كانت المساواة تقتضي ولا نسأل عما تجرمون ولكنه لم يقل ذلك. وهذا هو الأدب العالي واللطف؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد ألا يترك الرسول لغرائزهم مكاناً للإباء عليه، وألا يجدوا وسيلة لينفروا من الدعوة. ولهذا يعلمنا هذا الأسلوب فيقول: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
                                                  وبذلك نحقق لطف الجدل. ويقول سبحانه: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194].
                                                  وإن كنتم تريدون كشف حقيقة تلك الأصنام فهي أيضاً مخلوقة لله وهي تعبده، واسألوهم ولن يجيبوا، وهم لا أرجل لهم يمشون عليها، ولا لهم أيد يبطشون بها، ولا لهم أعين يبصرون بها، ولا لهم آذان يسمعون بها. وفوق ذلك: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ} [الحج: 73].
                                                  وهل هناك ما هو أقل من الذباب في عرفكم؟ نعم، يقول الحق: {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73].
                                                  فإن جاءت ذبابة وحطت على ما تأكل، أتستطيع أن تسترجع منها شيئاً؟ لن تستطيع، وإن كنت جباراً وفتوة فامسك الذبابة وخذ منها الطعام الذي أخذته، لن تستطيع، ولذلك يقول الحق سبحانه: {ضَعُفَ الطالب والمطلوب} [الحج: 73].
                                                  وهذا هو الجدل الذي يجعل المجادل يخجل من نفسه، لكن إذا ثرت في وجهه وتعصبت فأنت تجعل له عذراً في الحفيظة عليك والغضب منك والهجوم عليك، وفي الانصراف عن منهج الله، ونسأل الله أن يعطينا طول البال وسعة الحلم والأناة على الجدل اللطيف.

                                                  {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108].
                                                  وحين يعلمنا الحق الجدل اللطيف للدعوة فهذا تزيين للدعوة، والدعوة في ذاتها جميلة؛ لذلك لابد أن يكون عرضها جميلاً.

                                                  والمثال من حياتنا: أنت تذهب إلى التاجر وعنده بضاعة قد تكون متميزة جداً لكنه لا يرتبها ولايحسن عرضها؛ لذلك قد تنفر منه وتذهب إلى تاجر آخر قد تكون بضاعته أقل جودة لكنه يحسن عرضها، وهذا هو التزيين أي تصعيد الحسن، ولذلك سُمِّي الحلي وما تتجمل به المرأة زينة والمرأة قد تمتلك أنوثة جميلة، وهي مع جمالها تقوم بتزيين نفسها بالحلي، وبالجواهر والملبس الراقي، وكان العربي حين يمتدح امرأة بقمة جمالية يقول: هذه غانية، أي استغنت بجمالها عن أن تتزين؛ لأن ما سوف تداريه بالعقد أجمل من العقد.

                                                  والتزيين إذن جمال العرض للاستمالة والانجذاب، ونحن حين نزين أمراً فإننا نعطيه وقاراً وحسناً ونزيده جمالاً: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} والأمة: هي الجماعة التي لها انتماء يجمع أفرادها، مثل أمة العرب.. أي أن المنتمين إليها هم العرب والأمة الإنجليزية أي أن المنتمين إليها إنجليز، أما أمة الإسلام فيدخل فيها العرب، والعجم، والأسود والأبيض، والأصفر، وهي أوسع رقعة، فإن كانت الأمم السابقة زينت لتناسب عصراً محدوداً وزمناً محدوداً، ومكاناً محدوداً فنحن نزينكم تزييناً يناسب كل أذواق الدنيا؛ لأنكم ستواجهون كل هذه الأمم، فلابد أن يكون في دعوتكم استمالة لهذا ولهذا ولهذا.
                                                  وفي بدء الدعوة- وكانت حينئذ ضعيفة نجد- رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتفت إلى الأمة، فيكون بلال الحبشي هو من يؤذن، ونجده يقول عن- سليمان وهو فارسي-: سلمان منا آل البيت ويأتي سيدنا عمر يقول عن صهيب- وهو رومي-: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، أي أن عدم عصيانه لله طبيعة فيه حتى وإن لم يكن يخاف عقاب الله.

                                                  فإذا كنا قد زينا لكل أمة من الأمم الماضية عملهم فتزيين أمتكم يجب أن يكون مناسباً لمهمتها زماناً ومكاناً وأجناساً، وألواناً، ولغات، ولابد أن نزينكم أيضاً بحسن أسلوب العرض لمنهج الدعوة. ويجب أن يتناسب مع جمالها، وأنتم أولى بالتزيين؛ لأنكم مستوعبون لكل حضارات الدنيا، وانتماءات الدنيا، فيجب أن يكون تزيينكم مناسباً لمهمتكم.
                                                  {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ} [الأنعام: 108].
                                                  أي أننا وضحنا لهم منهج نقل الدعوة إلى الغير، وما ينال المحسن والمطيع من ثواب في الآخرة، والمؤمنون حينما ينعمون بنعيم الآخرة فهذا نعيم بغير حدود؛ لأنه على قدر طلاقة قدرة الحق سبحانه وتعالى، وهم حين يتنعمون بكل هذه النعم يستشرقون إلى لقاء المنعم به، ويتجلى الله عليهم.

                                                  وكما زينا للأمم السابقة أعمالهم قد زيناكم لأنكم أمة الإجابة، وهذا التزيين الخاص يربي الدعاة إلى منهج الله، ولو فطن غيركم إلى ما في منهجكم من زينة لبحثوا في هذا المنهج ولقام كل منهم باستقراء الوجود الذي بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ولوجد أن لكل كائن مهمة، ولانضم إلى المنهج التعبدي. {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
                                                  و(ليعبدون) تعني أن يطيعوا في (افعل كذا) (ولا تفعل كذا) وإذا قال الحق: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} فمعنى ذلك أنه سبحانه قد بين العمل بفوائده.

                                                  وأنت حين تتأمل ظواهر الوجود حولك تجد أن من تميز عليك بموهبة إنما أراده الحق على هذا التميز لينفعك أنت، ويتجلى هذا الأمر في كل المهن: فالنجار الحاذق والمتقن تعود صنعته عليك، ومصمم الملابس الذي يتقن عمله سيعود خير صنعته عليك، ومن مصلحة كل إنسان أن يكون غيره متفوقاً؛ وأن يكون هو أيضاً متفوقاً في عمله، وأن يحمد ربنا لأن خيره سيعود على غيره أيضاً، وبذلك نحيا في مجتمع راق يتكون من أمم وطوائف مثالية، إذن فالمتفوق في شيء يجب ألا يحقد على غيره من أبناء المجتمع؛ لأن خير تفوقه سيعود على كل فرد فيه ومن المصلحة أن يصبر الكل إلى التفوق.

                                                  فإذا قال الله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} أي جعل الله لكل منا عملاً في الحياة، ولابد أن ينتفع به في الدنيا، وينتفع به في الآخرة أيضاً ويأخذ كل منا ثواب الله عليه، فالذي يأخذ التزيين يقبل على العمل، والذي لا يأخذ التزيين فعليه الذنب، وكل واحد إنما يزين عمله على مقدار الطموح الذي يطلبه لنفسه، ونحن نرى أمثلة لذلك في الحياة، ونلتفت لنجد إنساناً له دخل محدود، لكنه يفتح على نفسه أبواباً من الترف أكثر من اللازم، ولا يدخر شيئاً ويحقق لنفسه المتعة العاجلة، ونجد إنساناً آخر يعيش على قدر الضروريات ويدخر لنجده من بعد ذلك قد طور من أسلوب حياته بالسكن اللائق ومتع الحياة. إن الأول زين له عمله الترف العاجل، والثاني زين له عمله الترف المقنن، فإياك أن تنظر إلى شهوة العاجلة، ولكن انظر إلى الجدوى التي تأتي منها: {ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108].
                                                  وما دام المرجع لمن أوجد العمل منهجاً في (افعل) و(لا تفعل) والمرجع لمن وضع التزيين في العمل لتأخذ المنهج الكريم منه، وعلى مقدار ما أخذت من منهجه تأخذ من كرامته.






                                                  • {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)}

                                                    {وَأَقْسَمُواْ بالله}
                                                    هنا قَسَمٌ: ومُقْسَمٌ به، ومُقْسِمٌ، ومقْسَمٌ عليه..
                                                    فالمقْسَمُ به هو الله: والمقسِم هم الجماعة المخالفون لرسول الله، ولماذا يقسمون؟
                                                    لقد أقسموا حينَ أخذهم الجدل بمنطق الحق فغلبهم.. هم أقسموا بالله وقد دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلىعبادته، و{جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} تعرف منها الجهد وهو المشقة أي أنهم بالغوا في القسم مبالغة تجهدهم ليبينوا لمن يقسمون لهم أنهم حريصون على أن يبروا بالقسم، فأفرغوا جهدهم ومشقتهم في القسَم، وهذا معناه أنهم أعلنوا أنهم يقسمون قسماً محبوباً لهم، والمحبوب لهم أكثر أن ينفذوا هذا القسم، وهذا يدل في ظاهره على إخلاصهم في القسم.


                                                    {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ} [الأنعام: 109].
                                                    ألم يأت الرسول صلى الله عليه وسلم بآية واضحة؟
                                                    لقد جاءهم بأعظم آية وهي القرآن، وعدم عرفانهم بذلك هو أول مصيبة منهم، ألم يقل لكم: إني رسول بعد أن أعلن الآية وهي نزول القرآن وأنتم تعرفون أنه صادق في التبليغ عن الله.. وكان ذلك هو قمة المماحكة منهم، وساروا على ذلك حين اقترحوا هم الآيات على الله، ألم يقولوا: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً} [الإسراء: 90-92].
                                                    وأراد الحق بذلك أن يبين لنا أنّ القسم الذي أقسموه هو قسم مدخول فقد قالوا: (كما زعمت علينا) والزعم- كما نعلم- مطية الكذب وهذا أول خلل في القسم.
                                                    ويقول الحق: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء} [سبأ: 9].
                                                    هم إذن غير مؤمنين بالآية الأصلية وهي القرآن، فيتحدوْنه في أنه ينزل بالوحي، فيحذرنا الحق أن نصدق زعمهم، فهو القائل: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الأنعام: 7].
                                                    وحتى إن نزلت الآية فلن يصدقوا؛ فالحق هو القائل: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} [الحجر: 14-15].
                                                    ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سحركم.. فلماذا لم يسحرهم ليؤمنوا بالله؟

                                                    وهكذا نرى أن الحق قد ذكرنا لنا في كتابه أن كل ما يقولونه في هذه المسألة هو مروق وهروب من الاستجابة للدعوة؛ لأنه لا توجد آية أعظم من الآية التي نزلت عليهم وهي القرآن، وكل الآيات التي اقترحوها لا تسمو على هذه الآية؛ لأنهم أمة نحو وصرف وبلاغة وبيان وأدب، فجاء لهم بالمعجزة التي تفرقوا فيها. وهم لم يتفوقوا في الأشياء التي ذكروها واقترحوها.
                                                    إننا نأتي لهم بمعجزة من جنس ما تفوقوا فيه؛ لأن المعجزات دائماً تأتي على هذا الأساس؛ فكل قوم تفوقوا في مجال يأتي الله لهم بشيء يتفوق عليهم في مجال تفوقهم ليثبت صدق الرسول في البلاغ عنه.

                                                    ولقد قلنا: إن المعجزات تأتي خرقاً لنواميس الكون الثابتة لأن نواميس الكون لها قوانين عرفها البشر، وأصبحت متواترة أمامهم؛ فإذا ما جاء أمر يخرق الناموس السائد المعترف به بينهم يلتفتون متسائلين كيف خرق الناموس وذلك ليعرف كل واحد منهم أن الذي خلق الناموس هو الذي خرق الناموس؛ لكي يثبت صدق هذا البلاغ عنه. وقد جاءتكم المعجزة من جنس ما نبغتم به، والذي يدل على ذلك أنهم لا يتكلمون في المعجزة بل في المنهج وفي شخص من جاء بالمنهج، تجدهم يقولون: {لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8].
                                                    فيوضح القرآن أن المَلك بطبيعة تكوينه لا يُرى منكم؛ هو يراكم وأنتم لا ترونه، وإذا أرسلنا ملكاً فكيف تعرفونه؟ إذن سيتطلب إرسال ملك أن نخلع عليه وضع البشر، وإن ينزله الحق في صورة بشر، وإن نزل في صورة بشر فستقولون: إنه ليس بشراً ولسنا ملزمين بما جاء به: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9].
                                                    وكان سيدنا جبريل- على سبيل المثال- ينزل إلى رسول الله أحياناً في صورة رجل قادم من السفر ويقعد ويتكلم مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يأت جبريل عليه السلام- إذن- بطبيعة تكوينه بل جاء بطبيعة البشر.

                                                    وهناك خلق آخر مثل الجن، ونحن لا نقدر أن نرى الجن، ولا نستطيع بقوانيننا وقوانين الجن أن نراه، لكن إذا أراد الجن أن يرينا نفسه فهو يتشكل بشكل مادي يرى؛ يتشكل بشكل حيوان، يتشكل بشكل قطة، يتشكل بشكل جمل، يتشكل بشكل رجل، وهكذا، ولو كانت هذه المسألة غير مقيدة بتقنين يحفظ توازن الأمر بين الجنسين- الإنس والجن- لتعب الناس؛ لأنه ساعة يظهر جن للإنسان ويقف أمامه ثم يختفي يسود الرعب بين البشر على الرغم من أن الجن تخاف من الإنسان اكثر مما نخاف نحن منهم؛ لأن الجن يعرف أن قانونه يسمح له أن يتشكل بشكل إنس أو أي شكل مادي، وحينئذ يحكمه قانون الإنس وإن التقى بشخص معه مسدس- مثلا- فقد يضربه بالرصاص ويقتله، ولذلك يخاف الجن أن يظهر للإنسان مدة طويلة، وإنما يظهر كموضة البرق ويختفي؛ لأنه يخاف كما قلنا- من الإنسان.

                                                    إذن فالتوازن موجود بين الجن والإنس. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن عفريتا من الجن جعل يفتك على البارحة ليقطع عليّ الصلاة وإن الله أمكنني منه فَذّعَتّهُ، فلقد هممتُ أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون أوكلكم ثم ذكرت قول أخي سليمان: {رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي} فردَّه الله خاسئاً»، وفي رواية: «والله لولا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة».
                                                    وهكذا نعلم أن القوم إذا اقترحوا آية، ثم جاء الله بالآية، فإن كذبوا بها أخذهم أخذ عزيز مقتدر ولا يؤجل ذلك للآخرة.
                                                    والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33].
                                                    إذن فحتى الكفار به نالهم شيء من رحمته.


                                                    {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109].
                                                    هنا يبلغ الحق رسوله أن يقول لهم: أنا لا آتي بالآيات من عندي ولا آتي بقانون قدرتي؛ لأن قانون قدرتي مساو لكم. ولست متفوقا عنكم غير أنه يوحي إليّ وأبلغكم ما أرسلت به إليكم. إنّ الله هو الذي يناولني آيات القرآن، ولا يوجد خلق يقترح على الله الآية؛ لأن ما سبق في الرسالات السابقة يؤكد أن الحق إذا ما استجاب لآية طلبها الخلق ولم يؤمنوا فسبحانه يهلكهم ويستأصلهم أو يغرقهم أو يرسل عليهم ريحا صرصرا أو يخسف بهم الأرض، والحق هو القائل: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} [الإسراء: 59].
                                                    إذن فبعض أهل الرسالات السابقة اقترحوا الآيات وحققها الله لهم ثم كذبوا بها. إذن فالتكذيب هو الأصل عندهم.

                                                    والمفروض أن تأتي الآية كما يريدها الله لا أن يقترحها أحد عليه. ولذلك يأمر الحق رسوله أن يبلغهم: {قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله} ثم يأتي خطاب جديد لأناس يختلفون عن المشركين هم المؤمنون، فيقول الحق لهم: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فكأنهم حينما قال أهل الشرك ذلك أراد المؤمنون أن يخففوا عنتهم مع رسول الله فقالوا له: يارسول الله، اسأل الله أن ينزل لهم آية حتى نرتاح من لجاجتهم، فيتجه الله بالرد على من قرظ هذا السؤال موضحا: أنتم مؤمنون وظنكم حسن، وفكرتكم طيبة في أنكم تريدون أن تكسروا حدة العنت، لكن ما يشعركم: أي ما يعلمكم أن الآية التي اقترحوها إن جئت بها لا يؤمنون. فكأن المؤمنين أيدوا قول هؤلاء المشركين في طلب الآية منعا للجاج.

                                                    والنص القرآني جاء بقوله الحق: (لا يؤمنون) وجاء العلماء عند هذه المسألة واختلفوا، وجزى الله الجميع خيرا؛ لأنها أفهام تتصارع لتخدم الإيمان. ونسأل: ما الذي يجعل الأسلوب يجيء بها الشكل؟ ونقول: إنها مقصودات الإِله حتى نعيش في القرآن. لا أن نمر عليه المرور السريع. والأسلوب في قوله: (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) هو دليل على أنه ليس لكم علم.
                                                    وقلنا: إن الشعور يحتاج إلى إدراك ومواجيد ونزوع، فعلى أي أساس بنيتم شعوركم هذا؟ أنتم أخذتم ظاهر كلامهم، ولكن الحق يعلم ويحيط بما يخفون ويبطنون. وكأنه سبحانه يوضح أن طلب الآية إنما هو تمحيك. وأنتم تعلمون أن الله إن جاء لهم بالآية فلن يؤمنوا.
                                                    وبعض من المفسرين قال: إن(لا) زائدة ومنهم من كان أكثر تأدبا فقال(لا) صلة لأنهم خافوا أن يقولوا(لا) زائدة وقد يأخذ البعض بمثل هذا القول فيحذفها، لذلك أحسنوا الأدب؛ لأن الذي يتكلم هو الإِله وليس في كلامه حرف زائد بحيث لو حذفته يصح الكلام، لا. إنك إذا حذفت شيئا فالكلام يفسد ولا يؤدي المراد منه؛ لأن لله مرادات في كلامه، وهذه المرادات لابد أن يحققها أسلوبه. والمثال في حياتنا أن يقول لك واحد: (ما عندي مال) أو ما عندي من مال؟ إن (من مال) هنا ابتدائية أي من عندي من بداية ما يقال: إنه مال، أما من يقول: (ما عندي مال) أي ليس عنده ما يعتد به من المال الذي له خطر وقيمة، بل عنده قروش مما لا يثال له: مال. إن في جيبه القليل من القروش.
                                                    و(لا) في هذه الآية جاءت لأن الحق يريد أن يقول للمؤمنين: ما يعلمكم يا مؤمنون أنني إذا جئت لهم بالآية يؤمنون، فكأنه سبحانه ينكر على المؤمنين تأييد مطلب الكافرين. وقد تلطف الحق مع المؤمنين وكرم حسن ظنهم في التأييد لأنهم لا يؤيدون الطلب حبا في الكافار، بل حبا في النبي والمنهج، وكأن الحق يقول لهم: أنا أعذركم لأنكم تأخذون بظاهر جهد اليمين {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} ومبالغتهم فيه. ولا أنكر عليكم تصديقكم لظاهر قولهم؛ لأن هذا هو مدى علمكم، ومكا أدراكم أنني إذا جئت بالآية أنهم أيضا لن يعلنوا الإِيمان. ولو كنتم تعبمون ما أعلم لعرفتم أنهم لن يؤمنوا. إذن حين جاء الأسلوب ب {لاَ يُؤْمِنُونَ} ف (لا) حقيقية وليست زائدة. ومن أجل أن يطمئن الحق المؤمنين أظهر لهم أن علمه الواسع يعلم حقيقة أمرهم يقول: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ...}.

                                                    نداء الايمان








                                                  تعليق


                                                  • #55
                                                    رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)

                                                    {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)}

                                                    حين تقول: أنا أقلب السلعة فهذا يعني أنك تفحصها. والحق يبلغنا هنا: أنا قلبت قلوبهم على كل لون ولن آخذ بظاهر الفؤاد، بل بلطفي وعظيم خبرتي أعلم الباطن منهم فاطمئنوا إلى أن حكمي هو الحكم الحق الناتج من تقليب لطيف خبير.
                                                    وقد يكون هنا معنى آخر، أي أن يكون التقليب لونا من التغيير؛ فمن الجائز أنهم حينما أقسموا بالله جهد أيمانهم كانوا في هذا الوقت قد اقتربوا من الإيمان ولكن قلوبهم لا تثبت على عقيدة. بل تتقلب دائما. ومادامت قلوبهم لا تثبت فأنَّى لنا بتصديقهم لحظة أن أقسموا بالله جهد أيمانهم على إعلان الإيمان إن جاءت آية؟ وهل فيهم من يملك نفسه بعد مجيء الآية أيظل أمره أم يتغير؟.
                                                    لأن ربنا مقلب القلوب وما كنت تستحسنه أولا قد لا تستحسنه ثانيا. حين {ونُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} أي أن الحكم قد جاء عن خبرة وإحاطة علم {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
                                                    إن الإيمان يحتاج إلى استقبال آيات كونية بالبصر، وبعد أن تستقبل الآيات الدالة على عظمة الإِله تؤمن به ويستقر الإيمان في فؤادك. وسبحانه يوضح لنا أنه يقلب أفئدتهم وأبصارهم، هل يبصرون باعتبار واقتناع؟ أو هي رؤية سطحية لا فهم لهم فيها ولا قدرة منهم على الاستنباط؟ وهل أفئدتهم قد استقرت على الإيمان أو أن أبصارهم قاصرة وقلوبهم قاصرة؟
                                                    {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110].

                                                    إذن فهم لا يؤمنون ويسيرون إلى ضلالهم. فإن جاءت آية فلن يؤمنوا، وفي هذا عذر للمؤمنين في أنهم يرجون ويأملون أن تنزل آية تجعل من أقسموا جهد الإيمان أن يؤمنوا.
                                                    لماذا؟ لأن الحق قال: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، أي أنهم لم يتغيروا ولذلك يصدر ضدهم الحكم {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} والطغيان هو تجاوز الحد، وهم قد تجاوزوا الحد هنا في استقبال الآيات، فقد جاءتهم آيات القرآن وعجزوا عن أن يأتوا بمثلها، وعجزوا عن أن يأتوا بعشر سور، وعجزوا عن أن يأتوا بسورة، وكان يجب ألا يطغوا، وألا يتجاوزوا الحد في طلب الاقتناع بصدق الرسول.

                                                    {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} و(العمه) هو التردد والحيرة، وهم في طغيانهم يترددون، لأن فيهم فطرة تستيقظ، وكفرا يلح؛ يقولون لأنفسهم: أنؤمن أو لا نؤمن؟ والفطرة التي تستيقظ فيهم تلمع كومضات البرق، وكان يجب ألا يترددوا: أو {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} في النار؛ لأن البصر لم يؤد مهمته في الاعتبار، والقلب لم يؤد في الفقه عن الله، فيجازيهم الله من جنس ما عملوا بأن يقلب أبصارهم وقلوبهم في النار.



                                                    {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)}

                                                    هنا يوسع الحق المسألة. فلم يقل: إنهم سوف يؤمنون، بل قال: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة} مثلما اقترحوا، أو حتى لو كلمهم الموتى، كما قالوا من قبل: {فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [سورة الدخان: 36].
                                                    ويأتي القول: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ} و(الحشر) يدل على سوق بضغط مثلما نضع بعضا من الكتب في صندوق من الورق ونضطر إلى أن نحشر كتابا لا مكان له، إذن: الحشر هو سوق فيه ضغط، وهنا يوضح الحق: لو أنني أحضرت لهم الآيات يزاحم بعضها بعضا وقدرتي صالحة أن آتي بالآيات التي طلبوها جميعا لوجدت قلوبهم مع هذا الحشر والحشد تضن بالإيمان.

                                                    {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} و(قبلا) هي جمع (قبيل)، مثل سرير وسرر.
                                                    {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً}. وهذا يعني أن الحق إن جاء لهم بكل ما طلبوا من آيات، وكأن كل آية تمثل قبيلة والآية الأخرى تمثل قبيلة ثانية، وهكذا. فلن يؤمنوا، أو (قبلا) تعني معاينة أي أنهم يرونها بأعينهم، لأن في كل شيء دبرا وقبلا؛ والقبل هو الذي أمام عينيك، والدبر هو من خلفك. فإن حشرنا عليهم كل شيء مقابلا. ومعاينا لهم فلن يؤمنوا. وإن اخذتها على المعنى الأول أي أنه سبحانه إن حشد الآيات حشدا وصار المعطي أكثر من المطلوب فلن يؤمنوا. وإن أردت أن تجعلها مواجهة، أي أنهم لو رأوا بعيونهم مواجهة من أمامهم فلن يؤمنوا.
                                                    {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الأنعام: 111].
                                                    وجاء الحق هنا بمشيئته لأن له طلاقة القدرة التي إن رغب أن يرغمهم على الإيمان فلن يستطيعوا رد ذلك، ولكن الإرغام على الإيمان لا يعطي الاختيار في التكليف ولذلك قال سبحانه: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3-4].
                                                    والله لا يريد أعناقا تخضع، وإنما يريد قلوبا تخشع. لذلك يذيل الحق الآية بقوله: {ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}. والجهل يختلف عن عدم العلم، بل الجهل هو علم المخالف، أي أن هناك قضية والجاهل يعلم ما يخالفها، أما إن كان لا يعلم القضية فهذه أمية ويكفي أن نقولها حتى يفهمها فورا. لكن مع الجاهل هناك مسألتان: الأولى أن نزيل من ادراكه هذا الجهل الكاذب، والأخرى أن نضع في إدراكه القضية الصحيحة، وما دام أكثرهم يجهلون. فهذا يعني أنهم قد اتبعوا الضلال.

                                                    نداء الايمان




                                                    تعليق


                                                    • #56
                                                      رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)
                                                      • {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)}

                                                        {وَكَذَلِكَ} إشارة من الحق سبحانه وتعالى إلى الرسل والأنبياء ليعطي الأسوة للرسول بإخوانه السابقين له في موكب الرسالات، فلست بدعا- يا محمد- في أنك رسول يُواجَه بأعداء، فكل رسول من الرسل ووجه وقوبل بهؤلاء الأعداء.
                                                        وهل فَتّ أعداء الرسل في عضد مَن أرسل إليهم وأضعفوا قوتهم وأوهنوا عزائمهم وأثنوهم عن دعوتهم؟ أو ظل الرسل أيضا صامدين؟.. إنهم صمدوا وأيدهم الله ونصرهم وإذا كنت أنت خاتم الرسل، وسيد المرسلين، والمعقب على رسالات سبقتك ولا معقب على رسالتك فلابد أن يكون الأعداء الذين يواجهونك مناسبين للمهمة التي تؤديها. وإياك أن تظن أن المقصد في هذه العداوة أننا تركناهم أعداء لمجرد العداء، لا، بل نحن قد أردنا هذه العداوة لصالح الدعوة؛ لأن الإنسان إذا ما كان في منهج خير وأهاجه الشر يتحمس لمزيد من الخير. ولذلك لا تجد الصحوات الإيمانية إلا حين يجد المؤمنون تحديا من خصومهم، هنا تجد الصحوة الإيمانية قد استيقظت لأن هناك خصوما يتحدونها، ولو لم يكن هناك خصوم لبقيت الصحوة فاترة. وهذا ما نراه حين يوجد من خصوم الإسلام من أي لون من ألوانهم مَن يتحدى أي قضية من قضايا الدين. في هذه الحالة نجد حتى غير الملتزم بمنهج الإسلام يغار على الدين.
                                                        إذن فالعداوة لها فائدة، وإياك أن تظن أن في أي مظهر في الوجود يُغلب الله على مراداته في كونه، والشر له رسالة لأنه لولا أن الشر موجود ويصاب الناس من أذاه لما تحمس الناس للخير، فالذي يجعلنا نتحمس للخير هو وجود الشر، وأوضحنا من قبل أن الباطل جندي من جنود الحق: لأن الباطل حين يعض ويعربد في الناس يتساءل الناس متى يأتي الحق لينقذنا، وأنك ساعة ترى مريضا يتألم إياك أن تظن أن الألم قد جاءه دون سبب، بل الألم جندي من جند الشفاء. وكأن الألم يقول لمن يصيبه: يا إنسان تنبه أن عطبا في هذا المكان فسارع إلى علاجه. ولذلك نجد أعنف الأمراض وأشرسها وأخبثها، هي الأمراض التي تأتي بلا ألم يسبقها، ولا تظهر أعراضها إلا أن يستعصي شفاؤها، وهكذا نرى أن الألم جندي من جنود العافية.

                                                        وحين يكون لك عدو في الحارة أو في البلدة وعيونه مركزة عليك فأنت تخاف أن تقع منك هَنة وعيب حتى لا يشنّع عليك؛ لذلك تسير على الصراط المستقيم لأنك لا تريد أن تنصره على نفسك.
                                                        والشاعر القديم، الذي أعجبه الشعر فشطره. يقول لك:
                                                        عداي لهم فضل عليّ ومنة ** فعندي لهم شكر على نفعهم ليا

                                                        فهم كدواء والشفاء بمرّه ** فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا
                                                        همُ بحثوا عن زلَّتي فاجتنبتها ** فأصبحت مِمَّا دنس العرض خاليا
                                                        وهم أججوا جهدي ولكن ببغضهم ** وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
                                                        لذلك لابد أن تنظر إلى كل شيء بحكمة إيجاد الحكيم له فقد شاء الحق أن يوجد الأعداء للدعوة الإسلامية حتى تنتصر وتقوى.
                                                        {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112].
                                                        وجعل الحق سبحانه وتعالى الأعداء للأنبياء، مهيَّجين ومثيرين للنبي ولأتباعه؛ لأن الأمر إذا حصلت فيه معارضة من مخالف أججت في نفس المقابل قوة حتى لا يهزم أمامه ولا يغلب أمام منطقه. ولذلك قال الحق: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا} لأي أنهم لم يتطوعوا بالعداوة إنما هو تسخير للعداوة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً}.

                                                        وكيف يجعل الله لكل نبي عدوا؟ إنه يفعل ذلك بما أودع في الناس من الاختيار، وما داموا مختارين فالذي اختار الهدى يكون نصيراً للنبي، والذي اختار الضلال يكون عدوا للنبي.
                                                        إذن فهم لم يكونوا أعداء بطبيعتهم، وإنما بما أودع الله فيهم من الاختيار.
                                                        وإذا كان الله هو الذي أودع الاختيار فقد أراد أن يحقق مشيئته في قوله: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ..} [الأنفال: 42].
                                                        ولو شاء الله الا يكون للنبوة أعداء لفعل ذلك؛ لأن له طلاقة القدرة، ولكن ذلك سيكون بالقهر، والله لا يريد قهراً للعقلاء، وإنما يريد أن يذهبوا إليه بمحض اختيارهم؛ اي وهم قادرون على الا يذهبوا. وكلمة (عدو) في ظاهرها أنها مفرد، ولكنها تطلق على الواحد، وتطلق على الاثنين، وتطلق على الجماعة، فتقول: (هذا عدو لي)؛ و(هذه عدو لي)؛ ولا تقل (عدوة)، وتقول: وهذان عدو لي، وهاتان عدو لي، لأن كلمة (عدو) تطلق على الذكر والأنثى وتقال للمفرد وللمثنى، وللجمع.
                                                        اقرأ قول الحق: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} [الشعراء: 77].
                                                        واقرأوا قول الحق: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123].
                                                        ولم يقل أعداء، إذن فكلمة (عدو) تطلق على المفرد والمفردة، والمثنى والمثناة، وعلى جمع المذكر والجمع المؤنث. لكن بعض الذين يحبون أن يكونوا مستدركين على كلام الله. يقول الواحد منهم: كيف يقول: (فإنهم عدو لي)، أو (اهبطو بعضكم لبعض عدو)؟! ويقول سبحانه وتعالى: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ..} [الأعراف: 22].

                                                        والشيطان عدو، وهم عدو. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً..} [آل عمران: 103].
                                                        ونقول له: أنت قد فاتك أن الذي يتكلم هو الرب الأعلى. والعداوة نوعان، فإذا تعدد العدو، وجمعته مصلحة واحدة في معاداة المعادي يكونون وحدة في العداوة فهم عدو واحد لاجتماعهم على سبب واحد في العداوة.
                                                        لكن إذا تعددت أسباب العداوة فالأمر يختلف، فقد يكون لك عدو لأن مظهرك أحسن منه، وعدو آخر لأنك أذكى منه، وعدو ثالث لأنك أغنى منه. فلتعدد الأسباب صار كل واحد منهم عدوًا برأسه وجمع على أعداء لتعدد سبب العداوة. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ..} [سورة الأنعام: 112].
                                                        وشياطين الإنس والجن كما يقول النجاة بدل من عدو و(شياطين) جمع شيطان وهو اللعين المطرود، البغيض، سواء أكان من الإنس أم من الجن.
                                                        {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً} والوحي- كما نعرف- هم إعلام بخفاء، ولماذا يوحي بعضهم إلى بعض؟ لن غلبة الحق لا تجعلهم قادرين على أن يتجاهروا؛ لذلك يتآمرون مع بعضهم البعض، لكن الناس المحقين في قضية يتحركون في علانية. ولا يستخفون من الناس.

                                                        {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} ومن الذي يوحي؟ ومن الذي يوحى إليه؟ ليس لنا دخل بهذا الموضوع، إنما الوحي: هو إعلام بخفاء، إن كان إلهاماً في النفس، أو إن كان بالإشارة أو بالدس، أو إن كان بالوسوسة، أو إن كان بواسطة رسول نحن لا نراه، كل ذلك أساليب الوحي الشامل للخير والشر.
                                                        وإذا كان الوحي من شياطين الجن فهل يوحون إلا بِشَرً؟ نعم. وكذلك هناك شياطين من الإنس يوحون أيضاً بشرّ. مصداقاً لقوله الحق: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول} وزخرف القول، المقصود به أنهم يدخلون على المسائل بالتزيين، فيزينون للناس الشهوة، ولذلك سماها ربنا (وسوسة)، ونعلم أن المعاني حين يؤخذ لها ألفاظ تؤخذ من الأشياء الحسيّة، والوسوسة هي صوت الحلى، وقد اختار الله لما يفعله الشياطين من الإنس والجن للفظ الموحى بالمعنى المراد لأن وسوسة الحلى تغري بالنفاسة وعظم القيمة، والوسوسة طريقها هو الخفاء.

                                                        {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول} وهم شياطين من الإنس والجن، إنس يوحي لإنس بأن يزين له المعصية والشهوة، وكثيراً ما يقع ذلك.
                                                        وجنّي يوحي لجنّي؛ لأن الجن مكلَّف أيضاً. وكذلك يوحي الجن للإنس.
                                                        {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول} الزخرف. هو الشيء لمزين ظاهره لكن باطنه فاسد، ولذلك قال عز وجل: {وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا..} [الزخرف: 35].
                                                        أي أموراً مزخرفة ظاهراً، لكن ليس لها عمق أو عمر أو نفاسة.
                                                        {يوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً..} [الأنعام: 112].
                                                        وذلك ليغروهم ويخدعوهم ليفعلوا ويقترفوا المعصية، وإن لم يأتوا للمعصية بكلمات تزخرفها وتزينها فلن يستطيعوا أن يدخلوا بها على الناس؛ لذلك يعرضون ويبدون محاسن المعصية في ظاهر الأمر، مثال ذلك أنك لا تجد من يقول لآخر: اشرب الخمر لتصاب بتليف الكبد مثلا!! ولكن هناك من يقول: احتس الخمر ليذهب همك وتنشط نفسك ويكثر فرحك.
                                                        {زُخْرُفَ القول غُرُوراً} أي ليغروهم؛ بإظهار فائدة موهومة فيه، ويسترون عن الناس مضرّة هذا الشيء ومهالكه.

                                                        ويتابع سبحانه: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} إنّ الحق سبحانه وتعالى هو الذي أعطى خلقه اختياراً في أن يكونوا مؤمنين أو أن يكونوا كافرين، مهديين أو ضالين، في نور أو في ظلمة. ويأتي الوقت الذي يثيب فيه سبحانه أو يعاقب؛ لذلك فهو- جل شأنه- لا يرغمهم على فعل ثم يعاقبهم عليه؛ لأنه هو العدل. ولذلك نجد من يقول: لماذا العقاب ولا شيء في الكون يقع على غير مشيئة الله؟ ونقول: نعم كل شيء من فعل الله؛ لأن سبب الاختيار من الله. وسبحانه هو الذي خلق الاختيار. فالكافر لا يقدر أن يؤمن إلا أن شاء الله لكن المطلوب منه أن يؤمن لأن طبيعته صالحة للكفر وصالحة للإيمان.

                                                        إذن خلق الله الإنسان مختاراً في أن يفعل أو لا يفعل في بعض الأمور، فالذي ينظر إلى أن كل فعل من الله أي ليس بطاقة من عبد، نقول له: صح رأيك. ومن يقول: إن هذا الأمر من العباد نقول له أيضاً: صح موقفك؛ لأن ربنا خلق الإنسان صالحاً لأن يحصل منه كذا. فإن أردت الحقيقة تجد كل فعل يأتي من الله، فأنت- على سبيل المثال- لم تخلق القوة التي لليد لترتفع، ولا خلقت القوة للأصابع لتنقبض. وإذا أردت أن تقبض يدك. فما هي العضلات التي تتحرك لتفعل الانقباض؟ أنت لا تعرف. إنّك تقبض يدك بمجرد إرادة منك أن تقبضها، والذي خلق لك هذه القوة يأمرك ألا تستعملها في قهر الآخرين، ولكن عليك أن تستعملها فيما يفيد الناس. واليد صالحة للضرب وللعمل الطيب وأنت لم تخلق الطاقة التي في اليد، ولا خلقت الانفعال فيها لإرادتك.

                                                        {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي لو شاء عدم فعله لفعل؛ لأن له طلاقة القدرة فلا يقدر أحد أن يخرج عن مراده أبداً. ونحن نرى السماء والأرض وكل ما دون الإنسان مسخراً، ثم لماذا نأخذ أمثلة من السماء والأرض والنبات والجماد والحيوان؟ خذ المثال من نفسك. أنت فيك أشياء ليس لك سيطرة عليها، واختيار لك عليها، ألك اختيار أن تمرض؟. لا.
                                                        ألك اختيار أن يقع عليك حجر وأنت تمشي؟. لا.
                                                        ألك اختيار في أن يصيبك سائق سكران؟. لا.
                                                        ألك اختيار في أن تموت او لا تموت؟. لا. لقد جعل الله فيك الأمرين الاثنين: قهرك في أمور. والقهرية تثبت له سبحانه القدرة وطلاقتها، وجعلك مختارا في أشياء، والاختيار يثبت صحة التكليف.

                                                        ويتابع الحق مذيلاً الآية: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} لأن افتراءهم وكذبهم وزعمهم الباطل لن يغير من حقيقة الأمر شيئاً، وهم يرون أن افتراءهم يعوق الدعوة، لا، فقد صار افتراؤهم وكيدهم وعداوتهم للنبي وقوداً مهيّجاً للدعوة؛ لأن يخلص الدعوة من الشوائب ويصهر المؤمنين بها ويخرج منهم خصال الشر ويملأهم بخلال الخير.
                                                        {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض..} [الرعد: 17].
                                                        ولو لم يكن هناك مهيّجات لهذه المسائل لدخل الدعوة العاطل والباطل ولاندس فينا من لا يعرف قيمة الإيمان؛ لذلك يمحص الله بالأعداء وبالقوم الذين يقفون أمامها حتى لا يكون في حملة الدعوة احد من ضعاف العقائد وضعاف الإيمان، وهم الذين يخرجون هرباً من مسئوليات الإيمان ولا يبقى إلا أصحاب الرسالة الذين يخلصون الصدق مع الله وينقيهم الله بواسطة الأعداء. ولذلك قال: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة: 47].
                                                        فمن الحكمة أنه سبحانه ثبط عزيمتهم وضعف رغبتهم في الانبعاث والخروج معكم. {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} [التوبة: 46].
                                                        وهنا يقول الحق: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول} وزخرف القول هو لون من الأداء له سُمَّاع، ومن يسمعونه قد لا يؤثر في قلوبهم ولا في نفوسهم، ومرة أخرى يسمعونه ويكون عندهم ميل وليس عندهم عقيدة ثابتة راسخة إلى هذا القول.


                                                        نداء الايمان




                                                      • اقتباس

                                                      تعليق


                                                      • #57
                                                        رد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأنعام)
                                                        • {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)}

                                                          كأن من يؤمن بالآخرة لا يقرب منه الزخرف أبداً ولا يميل إليه. وإن زُينت له معصية فإنه يتساءل: كم ستدوم لذة هذه المعصية؟ دقيقتين، ساعة، شهراً؛ وماذا أفعل يوم القيامة الذي يكون فيه الإنسان إمّا إلى دخول الجنة وإمّا إلى دخول النار. إذن فمن يؤمن بالآخرة لا تتقبل أذنه ولا فؤاده هذا الزخرف من القول، ولا يتقبله إلا من لا يؤمن بالآخرة، وهو لا يعرف إلا الدنيا، فيقول لنفسه: فلتتمتع في الدنيا فقط، ولذلك لو استحضرَ كل مؤمن العقوبة على المعصية ما فعلها، وهو لا يفعلها، وهو لا يفعلها إلا حين يغفل عن العقوبة. وإذا كنا في هذه الدنيا نخاف من عقوبة بعضنا بعضاً، وقدراتنا في العقوبة محدودة، فما بالنا بقدرة الرب القاهرة في العقوبة؟! ولذلك نجد الذين يجعلون الآخرة على ذكر من أنفسهم وبالهم إذا عرضت لهم أي معصية، يقارنونها بالعقاب، فلا يقتربون منها.

                                                          {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ}.
                                                          والإصغاء هو ميل الأذن إلى المتكلم؛ لأنك قد لا تسمع من يتكلم بغير إصغاء، وحين يسير الإنسان منا في الطريق فهو يسمع الكثير، لكن أذنه لا تتوقف عند كل ما يسمع، بل قد تقف الأذن عندما يظن الإِنسان أنه كلام مهم. ولذلك يسمونه التسمع لا السمع، وهذا هو الإصغاء. ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: من تسمع غانية- أي امرأة تغني بخلاعة- ولم يقل: (من سمع)، والإنسان منا قد يسير ويذهب إلى أي مكان والمذياع يذيع الأغاني، ويسمعها الإنسان، وآلة إدراك السمع منطقة وليست مفتوحة؛ فهو لا يتصنت، وآلة إدراك الانطباقية أو الانفتاحية مثل العين؛ فالعين لا ترى وهي مغمضة، إنها ترى وهي مفتوحة، والعين تغمض بالجفون أما الأذن فليس لها جفون يقول لها: لا تسمعي هذه، وهذه اسمعيها.
                                                          إذن فالسمع ليس للإنسان فيه اختيار، لكن التسمع هو الذي له فيه اختيار.


                                                          {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113].
                                                          كأن فيه شيئا ينبع طلب السمع فيه من الفؤاد، أي يوافق ما في الأعماق، وشيئا آخر يمر عليه الإنسان مر الكرام غير ملتفت إليه. والأفئدة هي القلوب، صحيح أن الآذان هي التي تصغي، لكن القلوب قد تتسمع ما يقال، وكأن النفس مستعدة لهذه العملية؛ لأنها لا تؤمن بأن هناك آخرة وعندما استعداد لأن تأخذ لذة الدنيا دون التفات للآخرة. ولذلك ينقل الحق سبحانه الإصغاء من الأذن إلى الفؤاد وهذا إدراك.

                                                          {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة..} [الأنعام: 113].
                                                          ثم تأتي المرحلة الثانية والمرحلة الثالثة:
                                                          {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113].
                                                          وقد يصغي إنسان، ثم تتنبه نفسه اللوامة، ويمتنع عن الاستجابة.
                                                          لكن هناك من يصغي ويرضى وجدانه ويستريح لما يسمع، ثم ينزع للعمل ليقترف الإثم.


                                                          وهذه ثلاث مراحل:
                                                          الأولى هي: {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة}.
                                                          ثم المرحلة الثانية: {وَلِيَرْضَوْهُ}، ثم المرحلة الأخيرة: {وَلِيَقْتَرِفُواْ} أي يرتكبوا الإثم، وهذه المسألة حددت لنا المظاهر الشعورية التي درسها علماء النفس فالإدراك؛ (لتصغى)، والوجدان؛ (ليرضوه)، والنزوع؛ (ليقترفوا).

                                                          وقبل أن يولد علم النفس جاء القرآن بوصف الطبيعة البشرية بمراحلها المختلفة من إدراك ووجدان، ونزوع والشرع لا يتدخل عند أي مظهر من مظاهر شعور المرء إلا عند النزوع إلا في حالة واحدة حيث لا يمكن فصل النزوع عن الوجدان وعن الإدراك؛ لذلك يتدخل الشرع من أول الأمر، وهو ما يكون في عملية نظر الرجل إلى المرأة؛ لأنك حين تنظر تجد نفسك: تحبها وتعشقها تفتن بها، ومحرم عليك النزوع، فحين تتقدم ناحيتها يقول لك الشرع: لا. ولأن هذا أمر شاق على النفس البشرية، ولا يمكن فصل هذه العمليات؛ لأنه إن أدرك وَجِد، وإن وَجِد نزع، فأمر الحق بالامتناع من أول الأمر: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ..} [النور: 30] {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ..} [النور: 31].
                                                          إذن فقد منع الإدراك من بدايته ولم ينتظر حتى النزوع، لماذا؟ لأن الإدراك الجمالي في كل شيء يختلف عن الإدراك الجمالي في المرأة. الإدراك الجمالي في المرأة يُحدث عملية كيماوية في الجسم تسبب النزوع، ولا يمكن فصلها أبداً. {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ}.
                                                          وساعة ما نقول: (ما) ويأتي الإبهام فهذا دليل على أن هناك أموراً كثيرة جدًا.
                                                          ولذلك يقول الحق: {.. فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78].
                                                          أي أنه أمر لا يمكن أن تحدده الألفاظ، مثله مثل قوله: {وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ}.
                                                          أي أن كل واحد يقترف ويكتسب ويعمل ويرتكب ما يميل إليه؛ فهناك من يغتاب أو يحسد أو يسرق وغير ذلك من شهوات النفس التي لا تحدد؛ لذلك جاء لها باللفظ الذي يعطي على العموم.
                                                          وما دامت المسألة في نبوّة واتباع نبوّة، وفي أعداء شياطين من الإنس والجن ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً إذن فهذه معركة، وحتى يتم الفصل فيها لابد من حاكم يحكم. فأوضح الحق: يا محمد أنا أرسلتك، ولك أعداء وسيكيدون لك بكذا وكذا ويبذلون قصارى جهدهم في إيذائك ومن اتبعك، فإياك أن تبتغي حكما غيري؛ لأني أنا المشرع وأنا من أحكم، وأنا الذي سوف أجازي.

                                                          لماذا؟
                                                          لأن الخلاف على ما شرع الله، ولا يستقيم ولا يصح أن يأتي من يقول مراد المقنن كذا، أو المفسر الفرنسي قال كذا، والمفسر الإِنجليزي قال كذا، لا، إن الذي يحكم هو من وضع القانون، ومراداته هو أعلم بها، والحق الواضح هو أعلم به، وسبحانه هو من يحكم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها.».
                                                          أي إياك أن يقول واحد: إن النبي قد حكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بظاهر الحجة، وقد يكون واحد من المختصمين قوي الحجة، والآخر لا يجيد التعبير عن نفسه. إذن فالحكم هو الله لأنه هو الذي قنن، ومادام هو الذي قنن وهو الذي يحكم بينكم، فليطمئن كل إنسان يتخاصم مع غيره؛ لأن القضية يفصل فيها أعدل العادلين وأحكم الحاكمين.
                                                          ولذلك يقول الحق سبحانه:

                                                          {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)}

                                                          فسبحانه هو من يحكم وهو من قنن، وهو من يعلم القانون ويعلم من يتبع القانون، ومن يخالف القانون. وساعة تقول: {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً}. فهذا دليل على أنك واثق أن مجيبك لن يقول لك إلا: لا تبتغي حكما إلا الله، ولذلك يطرح المسألة في صيغة استفهام، ويقول صلى الله عليه وسلم: مبلغا عن ربه: {وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب مُفَصَّلاً}، ولم يقل رسول الله: وهو الذي أنزل عليّ الكتاب، بل قال مبلغاًَ عن رب العزة: {وهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب} كأن العداوة ليست لمحمد وحده، لكنها العداوة لأمة الإيمان كلها، والحكم لأمة الإيمان كلها. ومع أن القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً، ولكن مهمته البلاغ إلى الناس والغاية منه للمؤمنين كلهم، وهكذا تكون العداوة للنبي عداوة للمؤمنين كلهم، ولذلك أنزل عليه الحق هذا التساؤل: {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً} كما أنزل عليه من قبل القول الحق: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن} [الأنعام: 112].
                                                          إذن فعدو النبي هو عدو المؤمنين به والمتبعين له، لكن قمة العداوة تكون للنبي المرسل من الحق:
                                                          {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} [الأنعام: 114].

                                                          وكلمة {مِّن رَّبِّكَ بالحق} فيها إغراء للمؤمنين بأن كل الأمر يعود عليكم أنتم بالفائدة؛ لأن غاية إنزال الكتاب لكم أنتم، والكتاب جاء بهذا المنهج لصالحكم ولن يزيد في صفات الله صفة، ولن يزيد في ملك الله ملكا. بل الغاية أنتم.
                                                          {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب} [الأنعام: 114].
                                                          وسبحانه لم ينزل الكتاب إلا بتفصيل لا تلتبس فيه مسألة بأخرى: {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} [الأنعام: 114].
                                                          والمقصود هنا بالذين آتيناهم الكتاب اليهود والنصارى؛ لأنهم يعلمون صفاتك يا رسول الله ويعلمون نعتك ويعلمون الكثير من كتابك فكل ما يتعلق بك موجود عندهم لكن الآفة أنهم اعتنقوا دينين: دينا يعلن يبدونه ويظهرونه، ودينا يُسَرّ به، فما يسر به لا يعلنونه ويُحرِّمون السؤال فيه، ولا يقبلون فيه نقاشاً، وعندما تصل إلى الحقيقة وتعرضها عليهم لا يقبلونها، وما الذي جعلهم يلتوون هكذا؟ لأن لهم حالين اثنتين: حال أيام أن كانوا يعاديهم من لا يؤمن بالسماء ومنهج السماء كعبدة الأوثان والمشركين. وقال فيه الحق: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} [البقرة: 89].
                                                          لقد كانوا من قبل أعداء للذين كفروا وأشركوا فكان همهم وشغلهم الشاغل أن ينتصروا على هؤلاء الكافرين، وقالوا:
                                                          (أظل زمان نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم)
                                                          وحينما جاءهم ما عرفوا كفروا به لأنهم: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً...} [التوبة: 9].
                                                          وكان الثمن هو بقاء السلطة في أيديهم، وعندما تأتي النبوة تنزع منهم السلطة، فليس في الإسلام سيطرة لرجال الدين ولا كهنوت. وكانوا يريدون أن تستمر سيادتهم، فاشتروا بآيات الله ثمنا قليلا.


                                                          {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} [الأنعام: 114].
                                                          وهم يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، وهم يعلمون أن الذي يشيعونه هو باطل. إذن فهناك علم بينهم وبين نفوسهم؛ وعلم آخر يقولونه للآخرين. وقوله الحق: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي الشاكين في أن أهل الكتاب يعلمون أن القرآن منزل من عند ربك بالحق. هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ونعلم أنه إذا طلب المتكلم من المخاطب أمرا هو فيه فالمراد المداومة عليه والزيادة؛ لأن هناك أموراً قد تزلزل الإيمان؛ لذلك يأتي الأمر بالثبات، أو هو إهاجة له، أو هو تسلية للمؤمنين إذ قال لهم لا تمتروا ولا تشكوا.

                                                          نداء الايمان









                                                        • اقتباس

                                                        تعليق

                                                        جاري التحميل ..
                                                        X