عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا»متفق عليه: رواه البخاري (6304)، ومسلم (199)، واللفظ له
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ خَالِصًا مَنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ»صحيح: رواه البخاري (105).
الشفاعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع عند أهل السنة والجماعة، ولم يخالفهم في ذلك إلا أهل البدع والضلال، وهي نائلة كل موحد لله تبارك وتعالى، ومن أذن الله له بالشفاعة، ولا يبقى في النار إلا الكفرة وأهل الشرك، فإن من أشرك بالله وكفر به فإنه مخلد في النار لا يخرج منها، بخلاف من كان موحدًا وإن كان من أصحاب الذنوب والمعاصي، فإنه يُعذب في النار على قدر معاصيه ثم يُخرج إلى الجنة، وقد أخبر الله تبارك وتعالى أهل الكفر وأنهم مخلدون؛ فقال سبحانه: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 167]، قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "وفي هذه الآية الدلالةُ على تكذيب الله الزاعمين أن عَذابَ الله أهلَ النار من أهل الكفر مُنقضٍ، وأنه إلى نهاية، ثم هو بعدَ ذلك فانٍ؛ لأن الله تعالى ذكره أخبرَ عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية، ثم ختم الخبر عنهم بأنهم غيرُ خارجين من النار، بغير استثناء منه وَقتًا دون وقت، فذلك إلى غير حدٍّ ولا نهاية"[1].
وقال القرطبي رحمه الله: "قوله تعالى: ﴿ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 167] دليل على خلود الكفار فيها وأنهم لا يخرجون منها، وهذا قول جماعة أهل السنة، لهذه الآية، ولقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ﴾ [الأعراف: 40]"[2].
فهذه الآية دليل على خلود الكفار في النار، وظاهر هذا التركيب يفيد الاختصاص كما يقول الشوكاني رحمه الله[3].
وقال ابن عادل الدمشقي: "احتج به على أن أصحاب الكبائر من أهل القبلة يخرجون من النار، فقالوا: لأن قوله: ﴿ وَمَا هُمْ ﴾ تخصيص لهم بعدم الخروج على سبيل الحصر؛ فوجب أن يكون عدم الخروج مخصوصًا بهم، وهذه الآية الكريمة تكشف عن المراد بقوله: ﴿ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ﴾ [الانفطار: 14 - 16]، فبين أن المراد بالفجار ها هنا الكفار؛ لدلالة هذه الآية الكريمة عليه والله أعلم"[4].
قال الشنقيطي رحمه الله: "دَلَّ الْقُرْآنُ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ هُمُ الْكُفَّارُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 39].
وَالْخُلُودُ لَا خُرُوجَ مَعَهُ كَمَا فِي قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾، إِلَى قوله: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 165 - 167]، وَكَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْهُمَزَةِ: ﴿ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ﴾ [الهمزة: 3 - 8]؛ أَيْ: مُغْلَقَةٌ عَلَيْهِمْ"[5].
فظهر بأن الكفرة وأهل الشرك مخلدون في النار أبد الآبدين، قد أغلقت عليهم ففيها يتقلبون، ومن عذابها يتجرعون ويعذبون.
ثم إن للشفاعة أركانًا؛ فالمشفوع فيه أحد أركانها وهو المنتفع بها، ولا بد من خلوها من الموانع الشرعية تدل بها الشفاعة، حتى تقبل فيه وهذا إن كان في الدنيا فمثل الشفاعة في الحدود إذا لم تبلغ السلطان أو كان في القصاص من القصاص إلى الدية، وإن كان في الآخرة فمثل الشفاعة في الذنوب والمعاصي مع خلو صاحبها عن الشرك الأكبر المحبط للأعمال.
ولا بد من توافر بعض شروط في المشفوع فيه حتى تقع له الشفاعة وينتفع بها؛ وهي:
أولًا: إذن الله تبارك وتعالى أن يُشفع فيه ورضاه عنه:
فإذن الله تبارك وتعالى للشافع أن يشفع وللمشفوع أن يشفع له شرط أساسي في وقوع الشفاعة؛ قال رب العزة والجلال: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة: 255]، وقال: ﴿ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ﴾ [يونس: 3]، وقال: ﴿ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [سبأ: 23]، قال القرطبي رحمه الله: "أي: إن الشفاعة لا تكون من أحد هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام، إلا أن الله تعالى يأذن للأنبياء والملائكة في الشفاعة وهم على غاية الفزع من الله"[6]، وقال سبحانه: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 28]، فلا يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذنه، ورضاه سبحانه له بالشفاعة، ولا ينتفع أحد بشفاعة أحد إلا برضا الله تبارك وتعالى عنه.
ثانيًا: أن يكون المشفوع فيه من أهل التوحيد:
أن يكون المشفوع فيه من أهل التوحيد شرط أساسي لوقوع الشفاعة؛ وذلك لورود الأدلة الصريحة الصحيحة بذلك، فالشفاعة في يوم الآخرة لا تكون إلا لأهل التوحيد المؤمنين؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يرضى عن المشركين الكافرين فهؤلاء قد أخبر عنهم بأن الشفاعة لا تنفعهم؛ فقال: ﴿ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾ [المدثر: 48]، وكذلك الآيات التي تبين أن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله ورضاه فالله سبحانه لا يرضى عن المشركين والكافرين ولا يأذن بالشفاعة لهم؛ قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "فإنه لا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه؛ لأن الشفاعة إنما تنجع إذا كان المحل قابلًا، فأما من وافى الله كافرًا يوم القيامة، فإنه له النار لا محالة، خالدًا فيها"[7].
وقال القرطبي رحمه الله: "هذا دليل على صحة الشفاعة للمذنبين، وذلك أن قومًا من أهل التوحيد عُذبوا بذنوبهم، ثم شفع فيهم، فرحمهم الله بتوحيدهم والشفاعة، فأُخرجوا من النار، وليس للكفار شفيع يشفع فيهم"[8].
فهنا الشفاعة منفية عن الكافرين الذين لم يكونوا من أهل التوحيد، ولم يكونوا من أهل الأعمال الصالحة.
فالأصل في وقوع الشفاعة وتحققها هو التوحيد، ومخالفة المشركين، وهذه الشفاعة من أهم الأمور التي يتميز بها أهل التوحيد عن غيرهم، والله تبارك وتعالى لا يرضى عن المشركين وإنما رضاه لمن استقام على كتابه وسنة نبيه، ووحَّده، وأفرده بالعبادة وحده دون سواه.
[1] تفسير الطبري (3/ 299).
[2] تفسير القرطبي (2/ 207).
[3] فتح القدير (1/ 256).
[4] اللباب في علوم الكتاب (3/ 150).
[5] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (8/ 60).
[6] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (14/ 295)
[7] تفسير القرآن العظيم، للحافظ ابن كثير (8/ 273).
[8] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (19/ 88).
محمد بن عبدالله العبدلي
شبكة الالوكة