(القسم الأول)
الحمد لله ربِّ العالَمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فهذه فوائدُ ظهرت لي من خلال قراءة سورة يوسف، كنتُ أُلْقِيها شفويًّا في بعض المجالس، فرأيتُ أنّ كتابتَها ونشرها أنفعُ لي ولغيري، فرُبَّ خطأ وقعتُ فيه، فأستفيد تصويبًا، ولن أُحرم - إن شاء الله تعالى - من دعاءِ مَن صوَّب وقرأ وسمع، وسأستمرّ في تقييد ما يفتح الله عليَّ إلى آخر السورة:
﴿ آلر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾ [يوسف: 1]
فيه: أنّ القرآن واضح لا غموض فيه، وأنّ (الكتاب) من أسماء القرآن، وفيه إشارة إلى علوّ ورفعة هذا القرآن.
﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2]
﴿ إِنَّا ﴾ [يوسف: 2]: فيه أنّ من أساليب العرب إيرادَ خطاب الجَمْع للواحد، وهذا من باب عظمة المخاطِب، والله تعالى أعظم العظماء.
﴿ أَنْزَلْنَاهُ ﴾ [يوسف: 2]: فيه دليل من أدلة كثيرة على أنّ القرآن مُنَزَّلٌ من عند الله تعالى.
﴿ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا ﴾ [يوسف: 2]: فيه عظيم حكمة الله تعالى في إرسال الرُّسل بلسان أقوامهم؛ ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ﴾ [إبراهيم: 4]، وفيه عظيم رحمة الله تعالى ولطفه؛ حيث جعل القرآن مفهومًا واضحًا لا غامضًا.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2]: فيه أنّ بلوغ الحجَّة بفهمها، لا بمجرَّد سماعها، وفي المسألة تفصيل، وفيه أنّ فَهْم الحجَّة قد ينفع من خُوطِبوا وقد لا ينفع، وممّا يوضح ذلك آياتٌ كثيرة؛ منها قوله تعالى: ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ﴾ [الأعلى: 10، 11].
وفيه: عظيم الأثر على من عَقِلَ المراد من الآيات؛ قال بعض السلف: كلما قرأتُ مثلًا في القرآن ولم أَعْقِلْه، بكيتُ على نفسي؛ لأنّ الله تعالى يقول: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43]، وفيه مدحُ أهل العلم والعقل ببصيرة.
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3]
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾: فيه تضمين العلم في القصص، وفيه أنّ القصص فيها الحسن والسيِّئ، وفيه أنّ قصص القرآن أحسن القصص[1].
﴿ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3]: فيه أنّ القرآن من عند الله، وهو قد تكلم به حقيقةً، وفيه أنّ أخبار المُغيَّبات تؤخذ من الوحي، وفيه ضلال وكذب أولئك الزَّاعمين أنهم يعلمون المغيَّبات، من سحرة وكهنة، وعرَّافين وقرَّاء الكفّ والفناجيل.
﴿ إذ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4]
﴿ يَا أَبَتِ ﴾ [يوسف: 4]: فيه أنّ الأنبياء عليهم السلام أبرُّ الناس بوالديهم، ومن البرّ التلطف في النداء.
﴿ إِنِّي رَأَيْتُ ﴾ [يوسف: 4]: فيه فطنة يوسف عليه السلام في اهتمامه بشأن تلك الرُّؤيا، وفيه أهمية الرُّؤَى وتأثيرها في حال الناس، وفيه صدق يوسف عليه السلام في قصِّه للرُّؤيا بلا تزيُّد، وفيه: طلب المشورة وعرض ما قد يشكل على أهل العقل والعلم.
﴿ أَحَدَ عَشَرَ ﴾ [يوسف: 4]: فيه أنّ العدد في الرُّؤيا ممَّا يُعِين على تفسيرها.
﴿ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾ [يوسف: 4]: فيه أنّ تمييز النوع: (كَوْكَبًا)، والحجم: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) يُعين على تفسير الرُّؤيا.
﴿ سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4]: فيه أنّ شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا، وفي المسألة تفصيل.
﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [يوسف: 5 - 6]
فيه عناية الأنبياء عليهم السلام بأبنائهم أتمَّ عناية، ومن ذلك التلطف في مناداتهم، وفيه فراسة يعقوب عليه السلام في عظيم شأن رؤيا يوسف، وفيه فطنة يعقوب عليه السلام في نهي يوسف عن قصِّ رُؤياه على إخوته؛ جاء في الحديث: ((إذا رأى أحدُكم الرُّؤيا يحبُّها، فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها، وليُحدِّث بها، وإذا رأى غيرَ ذلك ممَّا يكره، فإنما هي من الشيطان، فليستعذ بالله من شرِّها، ولا يَذكُرْها لأحَد؛ فإنها لا تضرُّه))[2].
وفيه إدراك يعقوب عليه السلام لحال أولاده، وعِلْمِه التامّ بحسدهم ليوسف، وفيه حرص يعقوب عليه السلام على عدم حدوث أيّ أمر يؤثّر على اجتماع أهل بيته، وفيه أنّ الحسد يكون بين الأقارب كما يكون بين الأباعد، وفيه أنّ عداء الأقارب أشدُّ وأنكى من عداء الأباعد:وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً ♦♦♦ عَلَى الحُرِّ مِنْ وَقْع الحُسامِ المُهنَّدِ
وفيه أنّ الحسد يكون في الأمور المعنوية، كما يكون في الأمور الحسِّية، وفيه أنّ الحاسد يزيد كيدُه وحسدُه كلّما حصل للمحسود نعمة، وفيه أنّ الأنبياء عليهم السلام أعظم الناس نصحًا.
ومثال ذلك في هذه الآية من وجوه:• أنّ يوسف قصَّ الرُّؤيا على أبيه، فتضمَّن نصحُ أبيه له رحمةً ومحاذير وبشائر:• أمَّا الرَّحمة، فتحبُّبه ورحمته ليوسف بقوله: يا بُنيّ، و نهيه يوسف عن قصِّ رؤياه على إخوته.• وأمَّا المحاذير، فتحذيره أنّ قصَّها سوف يجلبُ كيدًا عليه، وتحذيره وتذكيره بعداوة الشيطان للإنسان، وتحذيره من الكيد الأصغر وهو كيد إخوته، ومن الكيد الأكبر وهو كيد الشيطان.• وأما البشائر، فاجتباء الله تعالى له، وتعليمه من تأويل الأحاديث، وإتمام نعمة الله تعالى عليه، وإتمام نعمة الله تعالى على آل يعقوب.
وجماع القول في هذا: أنّ من كمال النصيحة ترهيبُ المنصوح ممَّا يحصل له من النِّقَم، إن وقع في المحذور، وترغيبه فيما يحصل له من النِّعم إن هو تجنَّب المحذور، وهذا كلّه قد اجتمع في نصيحة يعقوب ليوسف عليه السلام.
﴿ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ﴾: فيه مباعدة كلّ سبب يزيد صاحب الشرِّ شرًّا.
﴿ فَيَكِيدُوا لَكَ ﴾: فيه أنّ إبهام أمر الضرر يزيد المنصوح عنايةً بشأن النصيحة ولزومها.
﴿ كَيْدًا ﴾: فيه أنّ تأكيد الضرر يزيد تأكيد الناصح على نصيحته، ويزيد المنصوح حذرًا ممَّا حُذِّر منه.
﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾: فيه أنّ التحذير من العدوّ الأصغر إِخْوَتِكَ مهما بلغ في كيده وشرِّه لا يُغفل ذلك، ولا يهمل أمر العدوّ الأكبر.
﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾، وفيه: إرجاع الفروع كيد الإخوة إلى الأصول الشيطان ليُعلم أصل الشيء، فينسب له الشرّ إن كان شرًّا.
﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾، وينسب له الخير إن كان خيرًا: ﴿ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾[النمل: 40].
﴿ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾: فيه أنّ معرفة أهل الشرّ وصفاتهم يعين على معرفة من يمشي في ركابهم.
﴿ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ﴾: فيه أنّ صلاح الآباء قد يُدْرِكُ صلاح الأبناء، وفيه تذكير الشخص بصلاح آبائه، إذا كان من باب ذِكر نعمه عليهم وسلوك مسلكهم؛ فهذا محمود، وهو خلُق الأنبياء عليهم السلام وأمَّا ذِكر الآباء من باب التفاخر والتكبُّر، فهذا مذموم.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾: فيه أنّ الله تعالى يُعطي من يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بعدله، ولا يظلم ربُّك أحدًا.
﴿ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ﴾ [يوسف: 7]
فيه: شغف النفوس بسماع القصص عن الماضين، وفيه أنّ قصص القرآن ليس المرادُ منه التسلِّي، وقطع الأوقات بسماعه، بل العبرة من تلك القصص: الاعتبار والاتعاظ بما جاء فيها من الآيات والعبر؛ ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120].
﴿ وَإِخْوَتِهِ ﴾: فيه أنّ كثرة الذرية من أعمال الأنبياء عليهم السلام وفيه الرَّد على دعاة تحديد النسل.
﴿ لِلسَّائِلِينَ ﴾: فيه أنّ جواب السؤال بحسب المصلحة للسَّائل.
وفيه أنّ إجابات الأسئلة المذكورة في القرآن متنوِّعة:تارةً يأتي الجواب على قدر السُّؤال؛ مثلُ: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ ﴾ [الأنفال: 1]، ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾ [البقرة: 217]، ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ﴾ [البقرة: 220]، وتارةً يكون الجواب بالنهي عن السؤال: ﴿ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: 101]، ومن فقه المسؤول من أهل العلم أن يُراعي المصلحة الشرعية في جواب السائل، وفيه أنّ السُّؤال من أعظم أسباب حصول العلم، وفيه بسط الجواب عن السؤال إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك.
﴿ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [يوسف: 8]فيه: أنّ ضرر الحسد يتعدى غير المحسود.
﴿ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾، وفيه أنّ كيد الحاسد وشرَّه يزيد، إذا كان له قوة.
﴿ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾، وفيه أنّ العقوق يكون بالفعل، بتعمُّد إيذاء يوسف، وفي ذلك أذيَّة ليعقوب عليه السلام ويكون بالقول: ﴿ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾.
﴿ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴾ [يوسف: 9]
فيه: أنّ عداوة الحاسد لا تنتهي إلّا بموت المحسود أو غيابه، إلّا أن يمُنّ اللهُ تعالى على الحاسد بالتوبة، الإقلاع عن حسده، وفيه تلبيس الشيطان على الحاسد، بتزيين سوء عمله لتبرير جريمته.
﴿ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴾، وفيه تحريم الإقدام على المعصية بقصد التوصُّل إلى طاعة، وفي ذلك تفصيل.
وفيه: أنّ إيراد النتائج: ﴿ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴾ - يُقَوِّي قبول المقدمات: ﴿ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا ﴾، وهذا في أمور الشرّ من أعظم تلبيس إبليس.
﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [يوسف: 10]
فيه: عدم تسمية القائل؛ لأنّ المراد القول؛ ولذا ذمَّ بعض أهل العلم فضول القول، والبحث في أمور لا طائل تحتها، ولا فائدة وراءها، كبحث بعضهم عن أسماء الناس في مثل قوله تعالى: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ﴾ [يس: 20]، ﴿ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ ﴾ [القصص: 15]، ﴿ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ ﴾ [النمل: 48]؛ وذمُّ العلماء للبحث في هذا العمل، من أدلته: تشدد بني إسرائيل في طلب أوصاف البقرة.
وفيه: أنّ من تزيين الشيطان لسوء العمل الانتقالَ بأصحابه من سوء أكبر إلى سوء أصغر؛ خشيةَ أن يترك العمل بالكلِّية، وفيه أصلٌ لارتكاب أخفّ الضررين؛ فالضرر الأثقل القتل، والضرر الأخف الإلقاء في الجبّ؛ وفيه أنّ إيراد النتائج - شناعة القتل؛ ﴿ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ﴾ - يقوِّي قبول المقدِّمات - ﴿ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ﴾، وتقدّمت الإشارة إلى ذلك آنفًا.
﴿ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ﴾: فيه أنّ من أسباب إبعاد التهمة أن تذكر قرائن، تزيد إخفاء تعمّد الجريمة؛ فسقوط غلام في جبٍّ لا يتبادر إلى الذهن أنه بفعل فاعل، وفيه أنّ من شدِّة الظلم المسارعةَ بإخفاء معالم الجريمة، فلو أُلْقِيَ في جبّ ليس على طريق السَّيَّارة، لربما يتأخّر التقاطه، فيموت، فيوجد، ولو بعد حين، أو ينكشف الأمر باستغاثته، إن كان حيًّا، لكن إذا كان الجبّ على طريق السَّيارة، فسيُلتقَط في أسرع وقت، ويذهب مع من التقطه، ويُطوَى الأمر ولا يروى.
﴿ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾: فيه أنّ من أسباب دفع الفاعل إلى الجريمة ظُلْمَه، وتخفيفُ ظُلْمِه مخاطبته بتوقُّع الفعل لا بتحقُّقه.
﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾ [يوسف: 11]
﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا ﴾: فيه أنّ مجيء العُصْبَةِ مرَّةً واحدة يحقِّق مصلحتين:1- القوة والتماسك في تنفيذ الأمر فيما بينهم.2- رضوخ أو ضعف المقاومة - في ظنِّهم - من الطرف الآخر.
﴿ لا تَأْمَنَّا ﴾: فيه عظيم مكرهم، وبيان ذلك: أنّ عدم وصف الرَّجل بالأمانة دليلٌ على تُهمته؛ ولذا أحرجوا أباهم بأنه يتّهمهم بعدم الأمانة.
﴿ عَلَى يُوسُفَ ﴾: فيه أنّ يوسف عليه السلام تعرَّض لأشدّ أنواع الحسد؛ إذ لو كان الحسد من واحد من إخوته أو اثنين، لكان أهونَ من حسد ثلاثة، فكيف إذا حسده جميعهم؟ وهم عشرة، ولم يبق إلّا شقيقه.
﴿ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾: فيه أنّ النصح من أنفع الأشياء للصغار؛ ولذلك ذكروه لأبيهم حتى يثق بهم، فيرسله معهم، وفيه أنّ الناصح أمين؛ ولذا لمّا ذكروا عدم ثقة أبيهم بأمانتهم، أعقبوا ذلك بأنهم سيكونون ناصحين ليوسف.
﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [يوسف: 12]
﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا ﴾: فيه عناية يعقوب بيوسف وحرصه عليه، وليس في هذا ظلم للآخَرين؛ لعلمه بسوء قصد إخوته، ولذا علموا أنهم لن يتمكنوا من أخذه إلّا بإذن والدهم، فطلبوا من أبيهم إرساله معهم.
﴿ يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ﴾: فيه الترويح عن النفوس.
﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾: فيه أنّ من شدّة المكر التظاهرَ والحرص على نقيض قصدهم، بل والحرص على ذِكر ما يريده الطرف الآخَر؛ لإزالة خوفه، بل وإدخال الأمن إلى قلبه؛ ولذا أجمعوا القول لأبيهم بتحقيق المصلحة القولية ليوسف: ﴿ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾، وبتحقيق المصلحة الفعلية له أيضًا: ﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾.
وفيه: عدم الثقة بكل من أظهر الصلاح، وبخاصة إذا احتفت به القرائن المريبة.
﴿ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ [يوسف: 13]
﴿ لَيَحْزُنُنِي ﴾: فيه أنّ ذِكر توقّع المحذور - ﴿ لَيَحْزُنُنِي ﴾ - يزيد المؤتَمن حرصًا على الأمانة.
﴿ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾: فيه عظيم أدب يعقوب والتماس العذر مُقدّمًا، وفيه أنّ اتِّخاذ الأسباب لا يقدح في الإيمان؛ ولذا أرشد يعقوب أولاده إلى اتخاذ الأسباب لحفظ يوسف، وفيه أنّ من تمام مسؤولية الآباء عن الأبناء مراعاةَ أحوالهم بحسب أعمارهم وغيرها؛ فلصغر سنّ يوسف بيَّن لهم يعقوب سبب خوفه عليه، وفيه عناية يعقوب بمسؤولية أولاده رغم كثرتهم، وهذا من عظيم عناية الأنبياء عليهم السلام بأمر بيوتهم، وفيه الرَّد على من زعم أنّ كثرة الأولاد تتنافى مع القيام بالمسؤولية.
وفيه: أنّ من كمال تربية الأولاد الجمعَ بين إصلاح قلوبهم، والترويح عن أبدانهم، وهذا مسلك الأنبياء عليهم السلام فيعقوب عليه السلام مع سَعْيِه في تربية أولاده على لزوم سبيل الحق - لم يغفل عن جانب الترويح عن أولاده، بل كان يأذن لهم، ومن ذلك إذنه بذهابهم لما استأذنوه: ﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ﴾.
وفيه: تحذير الأب لأولاده ممّا يخشى ضرره، عند ترويحهم عن أنفسهم؛ فيعقوب عليه السلام حذّر أولاده من الذئب، فعلى الوالد أن يُحذِّر أولاده ممّا قد يضرُّهم عند بُعدهم عنه.
﴿ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾ [يوسف: 14]فيه أنّ إعطاء الضمانات للمؤتمِن يزيده طمأنينة، على حفظ أمانته من جهة المؤتمَن، لو كان المؤتمَن صادقًا، وأبناء يعقوب عليه السلام هنا؛ لعظيم كيدهم، وقوة عزمهم على تنفيذ جريمتهم - أعطوا أباهم ضماناتٍ كثيرةً مؤكدة، منها:أولاً: أنّ كلمة الجميع كانت واحدة؛ ﴿ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ ﴾، فلو قال بعضهم فقد يبقى الشك في الآخرين.ثانيًا: خصُّوا الذئب بالذِّكر؛ لأنّ أباهم يعقوب ذكره دون غيره.ثالثًا: ذكَّروا أباهم بأنهم جماعة عُصْبة فلو غفل واحد لم يغفل الباقون، ولو غفل كثيرٌ منهم، سيبقى آخرون متيقِّظون.رابعًا: شهادتهم على أنفسهم بالخسارة، ومن المعلوم: أنّ المؤتمَن إذا انتقص نفسه في حال ضياع الأمانة، فإن ذلك مما يزيد المؤتمِن ثقةً فيه؛ لأنّ المرء لا يرضى لنفسه بالدون لو كان واحدًا، فكيف إذا كانوا جماعة؟ وفيه أنّ الاجتماع من أسباب القوة.
﴿ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [يوسف: 15]
فيه أنّ واو الجماعة في: ﴿ ذَهَبُوا ﴾، ﴿ وَأَجْمَعُوا ﴾، ﴿ يَجْعَلُوهُ ﴾ - تدُلّ على أنّ الرَّاضي كالفاعل؛ إذ من المعلوم: أنّ الذي بَاشَرَ جَعْلَه في غَيابة الجبّ بعضُهم دون كلّهم، وممّا يؤكد أنّ الجميع سواءٌ هو بقية الضمائر في: ﴿ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ ﴾، ﴿ بِأَمْرِهِمْ ﴾، ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾.
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ ﴾: فيه أنّ الإخبار بالمصاب قبل حدوثه يعين على الثبات، والتحمُّل، والصبر.وقد يقال: فيه الرَّدّ على من قال: إنّ النبوَّة لا تكون إلّا بعد الأربعين من العُمر.
﴿ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ﴾ [يوسف: 16]﴿ وَجَاءُوا ﴾: فيه تأكيدٌ لما سبق من اتفاق كلمتهم، ومكرهم، وكيدهم؛ بجعل التهمة ضعيفةً في حق أحد دون الآخر.
﴿ عِشَاءً ﴾: فيه أنّ الليل ليس وقتًا للترويح، بل هو سكن ولباس؛ ولذا كان ذهابهم للرَّتع واللعب نهارًا.
﴿ يَبْكُونَ ﴾: فيه أنّ التأثر الفعلي ـ ولو تصنّعًا ـ من المتكلِّم أبلغُ في التأثير على المخاطَب.
﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف: 17]
فيه التماس أقوى القرائن الفعلية لإبعاد التهمة؛ ولذا نصُّوا على ذِكر الذئب دون غيره؛ لأنّ أباهم حذّرهم ذلك، ومن مرادفات تلك القرينة قولهم: ﴿ ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ ﴾.
﴿ عِنْدَ مَتَاعِنَا ﴾: فيه اتِّخاذ الأسباب عند الخروج من البلد، والرَّد على من زعم أنّ اتخاذ الأسباب في السَّفر أو غيره ينافي التوكّل.
﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾: فيه أنّ من معاني الإيمان التصديقَ واليقين. وفيه التماس أقوى القرائن القولية لإبعاد التهمة؛ فقد أقرُّوا بأنّ أباهم لن يصدِّقهم، وهذا مع سابقه - من القرائن الفعلية - يدلّ على قوة ذكائهم وضعف زكائهم - في أثناء خداعهم لأبيهم.
﴿ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]
﴿ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾: فيه أنّ الظالم المخادع يتظاهر بالصدق، وقد يفضح نفسه بمخادعته؛ ذلك أنّ إخوة يوسف أحضروا قميصه ملطخًا بالدم دون أثر التمزّق!
﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ﴾: فيه ذكاء يعقوب عليه السلام وفراسته، وإشعاره لهم بأنّ عملهم مقصود.
﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾: فيه عظيم أخلاق الأنبياء عليهم السلام وأنّ صبرهم أكمل الصبر باطنًا وظاهرًا.
﴿ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ﴾: فيه عظيم إيمان الأنبياء عليهم السلام وتفويض أمورهم إلى الله عز وجل وأنّ أحوج ما يكون إليه العبد عونُ الله تعالى.
﴿ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾: فيه عظيم وَرَعِ الأنبياء عليهم السلام ذلك أنّ يعقوب عليه السلام وَكَلَ سرائرهم إلى الله - تعالى - مع علمه بسوء صنيعهم، من خلال قرائن أحوالهم.
الحمد لله ربِّ العالَمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فهذه فوائدُ ظهرت لي من خلال قراءة سورة يوسف، كنتُ أُلْقِيها شفويًّا في بعض المجالس، فرأيتُ أنّ كتابتَها ونشرها أنفعُ لي ولغيري، فرُبَّ خطأ وقعتُ فيه، فأستفيد تصويبًا، ولن أُحرم - إن شاء الله تعالى - من دعاءِ مَن صوَّب وقرأ وسمع، وسأستمرّ في تقييد ما يفتح الله عليَّ إلى آخر السورة:
﴿ آلر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾ [يوسف: 1]
فيه: أنّ القرآن واضح لا غموض فيه، وأنّ (الكتاب) من أسماء القرآن، وفيه إشارة إلى علوّ ورفعة هذا القرآن.
﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2]
﴿ إِنَّا ﴾ [يوسف: 2]: فيه أنّ من أساليب العرب إيرادَ خطاب الجَمْع للواحد، وهذا من باب عظمة المخاطِب، والله تعالى أعظم العظماء.
﴿ أَنْزَلْنَاهُ ﴾ [يوسف: 2]: فيه دليل من أدلة كثيرة على أنّ القرآن مُنَزَّلٌ من عند الله تعالى.
﴿ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا ﴾ [يوسف: 2]: فيه عظيم حكمة الله تعالى في إرسال الرُّسل بلسان أقوامهم؛ ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ﴾ [إبراهيم: 4]، وفيه عظيم رحمة الله تعالى ولطفه؛ حيث جعل القرآن مفهومًا واضحًا لا غامضًا.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2]: فيه أنّ بلوغ الحجَّة بفهمها، لا بمجرَّد سماعها، وفي المسألة تفصيل، وفيه أنّ فَهْم الحجَّة قد ينفع من خُوطِبوا وقد لا ينفع، وممّا يوضح ذلك آياتٌ كثيرة؛ منها قوله تعالى: ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ﴾ [الأعلى: 10، 11].
وفيه: عظيم الأثر على من عَقِلَ المراد من الآيات؛ قال بعض السلف: كلما قرأتُ مثلًا في القرآن ولم أَعْقِلْه، بكيتُ على نفسي؛ لأنّ الله تعالى يقول: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43]، وفيه مدحُ أهل العلم والعقل ببصيرة.
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3]
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾: فيه تضمين العلم في القصص، وفيه أنّ القصص فيها الحسن والسيِّئ، وفيه أنّ قصص القرآن أحسن القصص[1].
﴿ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3]: فيه أنّ القرآن من عند الله، وهو قد تكلم به حقيقةً، وفيه أنّ أخبار المُغيَّبات تؤخذ من الوحي، وفيه ضلال وكذب أولئك الزَّاعمين أنهم يعلمون المغيَّبات، من سحرة وكهنة، وعرَّافين وقرَّاء الكفّ والفناجيل.
﴿ إذ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4]
﴿ يَا أَبَتِ ﴾ [يوسف: 4]: فيه أنّ الأنبياء عليهم السلام أبرُّ الناس بوالديهم، ومن البرّ التلطف في النداء.
﴿ إِنِّي رَأَيْتُ ﴾ [يوسف: 4]: فيه فطنة يوسف عليه السلام في اهتمامه بشأن تلك الرُّؤيا، وفيه أهمية الرُّؤَى وتأثيرها في حال الناس، وفيه صدق يوسف عليه السلام في قصِّه للرُّؤيا بلا تزيُّد، وفيه: طلب المشورة وعرض ما قد يشكل على أهل العقل والعلم.
﴿ أَحَدَ عَشَرَ ﴾ [يوسف: 4]: فيه أنّ العدد في الرُّؤيا ممَّا يُعِين على تفسيرها.
﴿ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾ [يوسف: 4]: فيه أنّ تمييز النوع: (كَوْكَبًا)، والحجم: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) يُعين على تفسير الرُّؤيا.
﴿ سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4]: فيه أنّ شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا، وفي المسألة تفصيل.
﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [يوسف: 5 - 6]
فيه عناية الأنبياء عليهم السلام بأبنائهم أتمَّ عناية، ومن ذلك التلطف في مناداتهم، وفيه فراسة يعقوب عليه السلام في عظيم شأن رؤيا يوسف، وفيه فطنة يعقوب عليه السلام في نهي يوسف عن قصِّ رُؤياه على إخوته؛ جاء في الحديث: ((إذا رأى أحدُكم الرُّؤيا يحبُّها، فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها، وليُحدِّث بها، وإذا رأى غيرَ ذلك ممَّا يكره، فإنما هي من الشيطان، فليستعذ بالله من شرِّها، ولا يَذكُرْها لأحَد؛ فإنها لا تضرُّه))[2].
وفيه إدراك يعقوب عليه السلام لحال أولاده، وعِلْمِه التامّ بحسدهم ليوسف، وفيه حرص يعقوب عليه السلام على عدم حدوث أيّ أمر يؤثّر على اجتماع أهل بيته، وفيه أنّ الحسد يكون بين الأقارب كما يكون بين الأباعد، وفيه أنّ عداء الأقارب أشدُّ وأنكى من عداء الأباعد:وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً ♦♦♦ عَلَى الحُرِّ مِنْ وَقْع الحُسامِ المُهنَّدِ
وفيه أنّ الحسد يكون في الأمور المعنوية، كما يكون في الأمور الحسِّية، وفيه أنّ الحاسد يزيد كيدُه وحسدُه كلّما حصل للمحسود نعمة، وفيه أنّ الأنبياء عليهم السلام أعظم الناس نصحًا.
ومثال ذلك في هذه الآية من وجوه:• أنّ يوسف قصَّ الرُّؤيا على أبيه، فتضمَّن نصحُ أبيه له رحمةً ومحاذير وبشائر:• أمَّا الرَّحمة، فتحبُّبه ورحمته ليوسف بقوله: يا بُنيّ، و نهيه يوسف عن قصِّ رؤياه على إخوته.• وأمَّا المحاذير، فتحذيره أنّ قصَّها سوف يجلبُ كيدًا عليه، وتحذيره وتذكيره بعداوة الشيطان للإنسان، وتحذيره من الكيد الأصغر وهو كيد إخوته، ومن الكيد الأكبر وهو كيد الشيطان.• وأما البشائر، فاجتباء الله تعالى له، وتعليمه من تأويل الأحاديث، وإتمام نعمة الله تعالى عليه، وإتمام نعمة الله تعالى على آل يعقوب.
وجماع القول في هذا: أنّ من كمال النصيحة ترهيبُ المنصوح ممَّا يحصل له من النِّقَم، إن وقع في المحذور، وترغيبه فيما يحصل له من النِّعم إن هو تجنَّب المحذور، وهذا كلّه قد اجتمع في نصيحة يعقوب ليوسف عليه السلام.
﴿ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ﴾: فيه مباعدة كلّ سبب يزيد صاحب الشرِّ شرًّا.
﴿ فَيَكِيدُوا لَكَ ﴾: فيه أنّ إبهام أمر الضرر يزيد المنصوح عنايةً بشأن النصيحة ولزومها.
﴿ كَيْدًا ﴾: فيه أنّ تأكيد الضرر يزيد تأكيد الناصح على نصيحته، ويزيد المنصوح حذرًا ممَّا حُذِّر منه.
﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾: فيه أنّ التحذير من العدوّ الأصغر إِخْوَتِكَ مهما بلغ في كيده وشرِّه لا يُغفل ذلك، ولا يهمل أمر العدوّ الأكبر.
﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾، وفيه: إرجاع الفروع كيد الإخوة إلى الأصول الشيطان ليُعلم أصل الشيء، فينسب له الشرّ إن كان شرًّا.
﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾، وينسب له الخير إن كان خيرًا: ﴿ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾[النمل: 40].
﴿ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾: فيه أنّ معرفة أهل الشرّ وصفاتهم يعين على معرفة من يمشي في ركابهم.
﴿ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ﴾: فيه أنّ صلاح الآباء قد يُدْرِكُ صلاح الأبناء، وفيه تذكير الشخص بصلاح آبائه، إذا كان من باب ذِكر نعمه عليهم وسلوك مسلكهم؛ فهذا محمود، وهو خلُق الأنبياء عليهم السلام وأمَّا ذِكر الآباء من باب التفاخر والتكبُّر، فهذا مذموم.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾: فيه أنّ الله تعالى يُعطي من يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بعدله، ولا يظلم ربُّك أحدًا.
﴿ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ﴾ [يوسف: 7]
فيه: شغف النفوس بسماع القصص عن الماضين، وفيه أنّ قصص القرآن ليس المرادُ منه التسلِّي، وقطع الأوقات بسماعه، بل العبرة من تلك القصص: الاعتبار والاتعاظ بما جاء فيها من الآيات والعبر؛ ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120].
﴿ وَإِخْوَتِهِ ﴾: فيه أنّ كثرة الذرية من أعمال الأنبياء عليهم السلام وفيه الرَّد على دعاة تحديد النسل.
﴿ لِلسَّائِلِينَ ﴾: فيه أنّ جواب السؤال بحسب المصلحة للسَّائل.
وفيه أنّ إجابات الأسئلة المذكورة في القرآن متنوِّعة:تارةً يأتي الجواب على قدر السُّؤال؛ مثلُ: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ ﴾ [الأنفال: 1]، ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾ [البقرة: 217]، ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ﴾ [البقرة: 220]، وتارةً يكون الجواب بالنهي عن السؤال: ﴿ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: 101]، ومن فقه المسؤول من أهل العلم أن يُراعي المصلحة الشرعية في جواب السائل، وفيه أنّ السُّؤال من أعظم أسباب حصول العلم، وفيه بسط الجواب عن السؤال إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك.
﴿ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [يوسف: 8]فيه: أنّ ضرر الحسد يتعدى غير المحسود.
﴿ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾، وفيه أنّ كيد الحاسد وشرَّه يزيد، إذا كان له قوة.
﴿ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾، وفيه أنّ العقوق يكون بالفعل، بتعمُّد إيذاء يوسف، وفي ذلك أذيَّة ليعقوب عليه السلام ويكون بالقول: ﴿ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾.
﴿ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴾ [يوسف: 9]
فيه: أنّ عداوة الحاسد لا تنتهي إلّا بموت المحسود أو غيابه، إلّا أن يمُنّ اللهُ تعالى على الحاسد بالتوبة، الإقلاع عن حسده، وفيه تلبيس الشيطان على الحاسد، بتزيين سوء عمله لتبرير جريمته.
﴿ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴾، وفيه تحريم الإقدام على المعصية بقصد التوصُّل إلى طاعة، وفي ذلك تفصيل.
وفيه: أنّ إيراد النتائج: ﴿ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴾ - يُقَوِّي قبول المقدمات: ﴿ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا ﴾، وهذا في أمور الشرّ من أعظم تلبيس إبليس.
﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [يوسف: 10]
فيه: عدم تسمية القائل؛ لأنّ المراد القول؛ ولذا ذمَّ بعض أهل العلم فضول القول، والبحث في أمور لا طائل تحتها، ولا فائدة وراءها، كبحث بعضهم عن أسماء الناس في مثل قوله تعالى: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ﴾ [يس: 20]، ﴿ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ ﴾ [القصص: 15]، ﴿ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ ﴾ [النمل: 48]؛ وذمُّ العلماء للبحث في هذا العمل، من أدلته: تشدد بني إسرائيل في طلب أوصاف البقرة.
وفيه: أنّ من تزيين الشيطان لسوء العمل الانتقالَ بأصحابه من سوء أكبر إلى سوء أصغر؛ خشيةَ أن يترك العمل بالكلِّية، وفيه أصلٌ لارتكاب أخفّ الضررين؛ فالضرر الأثقل القتل، والضرر الأخف الإلقاء في الجبّ؛ وفيه أنّ إيراد النتائج - شناعة القتل؛ ﴿ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ﴾ - يقوِّي قبول المقدِّمات - ﴿ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ﴾، وتقدّمت الإشارة إلى ذلك آنفًا.
﴿ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ﴾: فيه أنّ من أسباب إبعاد التهمة أن تذكر قرائن، تزيد إخفاء تعمّد الجريمة؛ فسقوط غلام في جبٍّ لا يتبادر إلى الذهن أنه بفعل فاعل، وفيه أنّ من شدِّة الظلم المسارعةَ بإخفاء معالم الجريمة، فلو أُلْقِيَ في جبّ ليس على طريق السَّيَّارة، لربما يتأخّر التقاطه، فيموت، فيوجد، ولو بعد حين، أو ينكشف الأمر باستغاثته، إن كان حيًّا، لكن إذا كان الجبّ على طريق السَّيارة، فسيُلتقَط في أسرع وقت، ويذهب مع من التقطه، ويُطوَى الأمر ولا يروى.
﴿ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾: فيه أنّ من أسباب دفع الفاعل إلى الجريمة ظُلْمَه، وتخفيفُ ظُلْمِه مخاطبته بتوقُّع الفعل لا بتحقُّقه.
﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾ [يوسف: 11]
﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا ﴾: فيه أنّ مجيء العُصْبَةِ مرَّةً واحدة يحقِّق مصلحتين:1- القوة والتماسك في تنفيذ الأمر فيما بينهم.2- رضوخ أو ضعف المقاومة - في ظنِّهم - من الطرف الآخر.
﴿ لا تَأْمَنَّا ﴾: فيه عظيم مكرهم، وبيان ذلك: أنّ عدم وصف الرَّجل بالأمانة دليلٌ على تُهمته؛ ولذا أحرجوا أباهم بأنه يتّهمهم بعدم الأمانة.
﴿ عَلَى يُوسُفَ ﴾: فيه أنّ يوسف عليه السلام تعرَّض لأشدّ أنواع الحسد؛ إذ لو كان الحسد من واحد من إخوته أو اثنين، لكان أهونَ من حسد ثلاثة، فكيف إذا حسده جميعهم؟ وهم عشرة، ولم يبق إلّا شقيقه.
﴿ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾: فيه أنّ النصح من أنفع الأشياء للصغار؛ ولذلك ذكروه لأبيهم حتى يثق بهم، فيرسله معهم، وفيه أنّ الناصح أمين؛ ولذا لمّا ذكروا عدم ثقة أبيهم بأمانتهم، أعقبوا ذلك بأنهم سيكونون ناصحين ليوسف.
﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [يوسف: 12]
﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا ﴾: فيه عناية يعقوب بيوسف وحرصه عليه، وليس في هذا ظلم للآخَرين؛ لعلمه بسوء قصد إخوته، ولذا علموا أنهم لن يتمكنوا من أخذه إلّا بإذن والدهم، فطلبوا من أبيهم إرساله معهم.
﴿ يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ﴾: فيه الترويح عن النفوس.
﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾: فيه أنّ من شدّة المكر التظاهرَ والحرص على نقيض قصدهم، بل والحرص على ذِكر ما يريده الطرف الآخَر؛ لإزالة خوفه، بل وإدخال الأمن إلى قلبه؛ ولذا أجمعوا القول لأبيهم بتحقيق المصلحة القولية ليوسف: ﴿ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾، وبتحقيق المصلحة الفعلية له أيضًا: ﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾.
وفيه: عدم الثقة بكل من أظهر الصلاح، وبخاصة إذا احتفت به القرائن المريبة.
﴿ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ [يوسف: 13]
﴿ لَيَحْزُنُنِي ﴾: فيه أنّ ذِكر توقّع المحذور - ﴿ لَيَحْزُنُنِي ﴾ - يزيد المؤتَمن حرصًا على الأمانة.
﴿ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾: فيه عظيم أدب يعقوب والتماس العذر مُقدّمًا، وفيه أنّ اتِّخاذ الأسباب لا يقدح في الإيمان؛ ولذا أرشد يعقوب أولاده إلى اتخاذ الأسباب لحفظ يوسف، وفيه أنّ من تمام مسؤولية الآباء عن الأبناء مراعاةَ أحوالهم بحسب أعمارهم وغيرها؛ فلصغر سنّ يوسف بيَّن لهم يعقوب سبب خوفه عليه، وفيه عناية يعقوب بمسؤولية أولاده رغم كثرتهم، وهذا من عظيم عناية الأنبياء عليهم السلام بأمر بيوتهم، وفيه الرَّد على من زعم أنّ كثرة الأولاد تتنافى مع القيام بالمسؤولية.
وفيه: أنّ من كمال تربية الأولاد الجمعَ بين إصلاح قلوبهم، والترويح عن أبدانهم، وهذا مسلك الأنبياء عليهم السلام فيعقوب عليه السلام مع سَعْيِه في تربية أولاده على لزوم سبيل الحق - لم يغفل عن جانب الترويح عن أولاده، بل كان يأذن لهم، ومن ذلك إذنه بذهابهم لما استأذنوه: ﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ﴾.
وفيه: تحذير الأب لأولاده ممّا يخشى ضرره، عند ترويحهم عن أنفسهم؛ فيعقوب عليه السلام حذّر أولاده من الذئب، فعلى الوالد أن يُحذِّر أولاده ممّا قد يضرُّهم عند بُعدهم عنه.
﴿ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾ [يوسف: 14]فيه أنّ إعطاء الضمانات للمؤتمِن يزيده طمأنينة، على حفظ أمانته من جهة المؤتمَن، لو كان المؤتمَن صادقًا، وأبناء يعقوب عليه السلام هنا؛ لعظيم كيدهم، وقوة عزمهم على تنفيذ جريمتهم - أعطوا أباهم ضماناتٍ كثيرةً مؤكدة، منها:أولاً: أنّ كلمة الجميع كانت واحدة؛ ﴿ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ ﴾، فلو قال بعضهم فقد يبقى الشك في الآخرين.ثانيًا: خصُّوا الذئب بالذِّكر؛ لأنّ أباهم يعقوب ذكره دون غيره.ثالثًا: ذكَّروا أباهم بأنهم جماعة عُصْبة فلو غفل واحد لم يغفل الباقون، ولو غفل كثيرٌ منهم، سيبقى آخرون متيقِّظون.رابعًا: شهادتهم على أنفسهم بالخسارة، ومن المعلوم: أنّ المؤتمَن إذا انتقص نفسه في حال ضياع الأمانة، فإن ذلك مما يزيد المؤتمِن ثقةً فيه؛ لأنّ المرء لا يرضى لنفسه بالدون لو كان واحدًا، فكيف إذا كانوا جماعة؟ وفيه أنّ الاجتماع من أسباب القوة.
﴿ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [يوسف: 15]
فيه أنّ واو الجماعة في: ﴿ ذَهَبُوا ﴾، ﴿ وَأَجْمَعُوا ﴾، ﴿ يَجْعَلُوهُ ﴾ - تدُلّ على أنّ الرَّاضي كالفاعل؛ إذ من المعلوم: أنّ الذي بَاشَرَ جَعْلَه في غَيابة الجبّ بعضُهم دون كلّهم، وممّا يؤكد أنّ الجميع سواءٌ هو بقية الضمائر في: ﴿ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ ﴾، ﴿ بِأَمْرِهِمْ ﴾، ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾.
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ ﴾: فيه أنّ الإخبار بالمصاب قبل حدوثه يعين على الثبات، والتحمُّل، والصبر.وقد يقال: فيه الرَّدّ على من قال: إنّ النبوَّة لا تكون إلّا بعد الأربعين من العُمر.
﴿ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ﴾ [يوسف: 16]﴿ وَجَاءُوا ﴾: فيه تأكيدٌ لما سبق من اتفاق كلمتهم، ومكرهم، وكيدهم؛ بجعل التهمة ضعيفةً في حق أحد دون الآخر.
﴿ عِشَاءً ﴾: فيه أنّ الليل ليس وقتًا للترويح، بل هو سكن ولباس؛ ولذا كان ذهابهم للرَّتع واللعب نهارًا.
﴿ يَبْكُونَ ﴾: فيه أنّ التأثر الفعلي ـ ولو تصنّعًا ـ من المتكلِّم أبلغُ في التأثير على المخاطَب.
﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف: 17]
فيه التماس أقوى القرائن الفعلية لإبعاد التهمة؛ ولذا نصُّوا على ذِكر الذئب دون غيره؛ لأنّ أباهم حذّرهم ذلك، ومن مرادفات تلك القرينة قولهم: ﴿ ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ ﴾.
﴿ عِنْدَ مَتَاعِنَا ﴾: فيه اتِّخاذ الأسباب عند الخروج من البلد، والرَّد على من زعم أنّ اتخاذ الأسباب في السَّفر أو غيره ينافي التوكّل.
﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾: فيه أنّ من معاني الإيمان التصديقَ واليقين. وفيه التماس أقوى القرائن القولية لإبعاد التهمة؛ فقد أقرُّوا بأنّ أباهم لن يصدِّقهم، وهذا مع سابقه - من القرائن الفعلية - يدلّ على قوة ذكائهم وضعف زكائهم - في أثناء خداعهم لأبيهم.
﴿ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]
﴿ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾: فيه أنّ الظالم المخادع يتظاهر بالصدق، وقد يفضح نفسه بمخادعته؛ ذلك أنّ إخوة يوسف أحضروا قميصه ملطخًا بالدم دون أثر التمزّق!
﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ﴾: فيه ذكاء يعقوب عليه السلام وفراسته، وإشعاره لهم بأنّ عملهم مقصود.
﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾: فيه عظيم أخلاق الأنبياء عليهم السلام وأنّ صبرهم أكمل الصبر باطنًا وظاهرًا.
﴿ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ﴾: فيه عظيم إيمان الأنبياء عليهم السلام وتفويض أمورهم إلى الله عز وجل وأنّ أحوج ما يكون إليه العبد عونُ الله تعالى.
﴿ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾: فيه عظيم وَرَعِ الأنبياء عليهم السلام ذلك أنّ يعقوب عليه السلام وَكَلَ سرائرهم إلى الله - تعالى - مع علمه بسوء صنيعهم، من خلال قرائن أحوالهم.
[1] لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلامٌ نفيس، بيَّن فيه خطأ من ظنّ أنّ قصة يوسف عليه السلام هي أحسن القصص، وبيَّن رحمه الله أنّها داخلة في أحسن القصص الذي هو قصص القرآن، وأنّ قصة يوسف عليه السلام هي أحسن قصة في موضوعها، كما أنّ قصة ذي القرنين أحسن قصص الملوك، ثمَّ بيَّن أنّ قصة موسى عليه السلام أحسن من قصة يوسف عليه السلام لأنّ الله تعالى ذكرها كثيرًا، فهي أعظم قصص الأنبياء عليهم السلام. إلى آخر كلامه الذي ملأه دُررًا ونفائس.
ولعلّ أحد القرَّاء ينزله كاملًا في هذا الموقع. انظره في كتاب: "جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول ربِّ الرحمن من أنّ ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1] تعدل ثلث القرآن". من (ص12) إلى (ص25).
[2] أخرجه البخاري (6638) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
الشيخ الدكتور عبدالعزيز بن محمد السدحان
شبكة الالوكة