إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

خواطر قرآنية وقفات تدبرية (22-23) " سورة السجدة" أيمن الشعبان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • خواطر قرآنية وقفات تدبرية (22-23) " سورة السجدة" أيمن الشعبان




    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 22 )

    وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)

    عطف على جملة "إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها" [السجدة: 15] إلى آخرها حيث اقتضت أن الذين قالوا: "أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد" [السجدة: 10] ليسوا كأولئك، فانتقل إلى الإخبار عنهم بأنهم أشد الناس ظلما لأنهم يذكرون بآيات الله حين يتلى عليهم القرآن فيعرضون عن تدبرها ويلغون فيها، فآيات الله مراد بها القرآن.[1]
    ومن للاستفهام الإنكاري، وكأن الله سبحانه يعرض علينا القضية في صورة السؤال التقريري.
    بعد أن بين ربنا سبحانه صنف الكفار وما يصيبهم من محن ولئواء وعذاب في الدنيا، مع ذلك يصرون على استكبارهم وعنادهم وعدم انتفاعهم من تلك المُخَوِّفات؛ أشار إلى أن هذا الصنف من أقبح الناس وأكثرهم جرما وظلما لعدم استجابتهم لآيات الله الكونية والشرعية.


    بيانٌ إجماليٌّ لحالِ مَنْ قابلَ آياتِ الله تعالى بالإعراضِ بعد بيانِ حالِ مَن قابلها بالسُّجودِ والتَّسبيحِ والتَّحميدِ.[2]
    ولما كان التقدير: يرجعون عن ظلمهم فإنهم ظالمون، عطف عليه قوله: {ومن أظلم} منهم هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف الذي صاروا أظلم فقال: {ممن ذكر} أي من أيّ مذكر كان وصرف القول إلى صفة الإحسان استعطافاً وتنبيهاً على وجوب الشكر فقال: {بآيات ربه} أي الذي لا نعمة عنده إلا منه.[3]



    أي: لا أحد أظلم، وأزيد تعديا، ممن ذكر بآيات ربه، التي أوصلها إليه ربه، الذي يريد تربيته، وتكميل نعمته على أيدي رسله، تأمره، وتذكره مصالحه الدينية والدنيوية، وتنهاه عن مضاره الدينية والدنيوية، التي تقتضي أن يقابلها بالإيمان والتسليم، والانقياد والشكر، فقابلها هذا الظالم بضد ما ينبغي، فلم يؤمن بها، ولا اتبعها، بل أعرض عنها وتركها وراء ظهره، فهذا من أكبر المجرمين، الذين يستحقون شديد النقمة، ولهذا قال: {إنا من المجرمين منتقمون}.[4]
    أَيْ: لَا أَظْلِمُ مِمَّنْ ذَكَّرَه اللَّهُ بِآيَاتِهِ وَبَيَّنَهَا لَهُ وَوَضَّحَهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَرَكَهَا وَجَحَدَهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا وَتَنَاسَاهَا، كَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهَا.[5]


    يقول تعالى ذكره: وأيّ الناس أظلم لنفسه ممن وعظه الله بحججه، وآي كتابه، ورسله، ثم أعرض عن ذلك كله، فلم يتعظ بمواعظه، ولكنه استكبر عنها.[6]
    ( وَمَنْ أَظْلَمُ ) على جهة التعجب، والتقدير أي لا أحد أظلم ممن هذه صفته، وهي بخلاف ما تقدم في صفة المؤمنين من أنهم إذا ذكروا بآيات الله خروا سجدا.[7]
    لَمَّا لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْعَذَابُ الْأَدْنَى فَأَنَا مُنْتَقِمٌ مِنْهُمْ بِالْعَذَابِ الْأَكْبَرِ.[8]
    وظلم الآيات بتعطيل نفعها في بعض من أريد انتفاعهم بها، وظلم الرسول عليه الصلاة والسلام بتكذيبه والإعراض عنه، وظلم حق ربه إذ لم يمتثل ما أراد منه.[9]


    وفي قوله تعالى: «ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ» إشارة إلى أن آيات الله التي يتلوها الرسول على الناس إنما هى لتذكرهم بما نسوه من الإيمان الذي كان في فطرتهم..
    فلما أهملوا فطرتهم، وأفسدوها بما ساقوا إليها من آفات الهوى والضلال، لم يعودوا يذكرون شيئا من هذا الإيمان، فكانت بعثة الرسول بآيات الله يتلوها عليهم تذكيرا لهم، بأصل فطرتهم، وإيقاظا لهم من غفلتهم.. ومن أجل هذا، فقد كانوا أظلم الظالمين، لأنهم ظلموا أنفسهم مرتين، ظلموها أولا بإطفاء جذوة الإيمان التي أودعها الله فطرتهم، وظلموا أنفسهم ثانيا، إذ أبوا أن يستجيبوا لمن يدعوهم إلى تعاطى الدواء الذي يشفى هذا الداء الذي مكنوه منهم، فأفسد فطرتهم..[10]


    إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ هذا وعيد لمن ذكّر بآيات ربه فأعرض عنها، وكان الأصل أن يقول: إنا منه منتقمون، ولكنه وضع المجرمين موضع المضمر ليصفهم بالإجرام، وقدّم المجرور في منتقمون للمبالغة.[11]
    «ثم» على بابها للتراخي، ليكون المعنى أن من وقع له التذكير بها في وقت ما، فأخذ يتأمل فيها ثم أعرض عنها بعد ذلك ولو بألف عام فهو أظلم الظالمين، ويدخل فيه ما دون ذلك عن باب الأولى لأنه أجدر بعدم النسيان، فهي أبلغ من التعبير بالفاء كما في سورة الكهف، ويكون عدل إلى الفاء هناك شرحاً لما يكون من حالهم، عند بيان سؤالهم، الذي جعلوا بأنه آية الصدق، والعجز عن آية الكذب.[12]


    وثم لاستبعاد الاعراض عنها مع غاية وضوحها وإرشادها الى سعادة الدارين كقولك لصاحبك دخلت المسجد ثم لم تصل فيه استبعادا لتركه الصلاة فيه.[13]
    وجيء في عطف جملة أعرض بحرف ثم لقصد الدلالة على تراخي رتبة الإعراض عن الآيات بعد التذكير بها تراخي استبعاد وتعجيب من حالهم.[14]


    ومن أشكال إعراضهم يحثون أتباعهم بعدم السماع أصلا لهذا القرآن الذي فيه هداية الناس جميعا، يقول سبحانه ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ )[15].
    فاذا نبه العبد بانواع الزجر وحرك فى تركه حدود الوفاق بصنوف من التأديب ثم لم يرتدع عن فعله واغتر بطول سلامته وأمن هواجم مكر الله وخفايا امره اخذه بغتة بحيث لا يجد فرجة من أخذته كما قال (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) اى المصرين على جرمهم (مُنْتَقِمُونَ) بخسارة الدارين.[16]


    و في شهر القرآن نكثر من تلاوته وتمر علينا آياته من القصص والعبر والمواعظ والحلال والحرام، فهل نتعظ ونتذكر؟!! أما أنها مرت دون أن تلقى حسن استماع وتدبر وتأمل ثم انتفاع وعمل!!


    قَالَ قَتَادَة إِيَّاكُمْ وَالْإِعْرَاض عَنْ ذِكْر اللَّه فَإِنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْره فَقَدْ اِغْتَرَّ أَكْبَر الْغِرَّة وَأَعْوَز أَشَدّ الْعَوَز وَعِظَم مِنْ أَعْظَم الذُّنُوب.[17]
    ( منتقمون ) بصيغة العظمة تنبيهاً على أن الذي يحصل لهم من العذاب لا يدخل تحت الوصف على جرد العداد في الظالمين، فكيف وقد كانوا أظلم الظالمين؟ والجملة الاسمية تدل على دوام ذلك عليهم في الدنيا إما باطناً بالاستدراج بالنعم، وإما ظاهراً بإحلال النقم، وفي الآخرة بدوام العذاب على مر الآباد.[18]
    ( إنا من المجرمين منتقمون ) أي: إنا من مقام قهرنا وقوتنا وجلالنا وعظمتنا وجبروتنا من المجرمين المصرين على كفرهم وظلمهم وجرائمهم وآثامهم؛ منتقمون منهم على أبلغ وجه وأشد الانتقام من عموم المجرمين الظالمين.
    بين الله سبحانه وتعالى في القرآن بعض أصناف وهيئات عذاب المجرمين والانتقام منهم منها:
    قال تعالى (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ . سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ )[19].
    وقوله سبحانه( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا )[20].
    وقوله سبحانه( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا )[21].
    قال تعالى( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ . لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ . وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ . وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ )[22].
    وقال عز وجل( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ. يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ )[23].
    وقال عز وجل( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ).[24]

    من هداية الآية:
    أن سماع آيات الله وقيام الحجة على الخلق، ثم عنادهم واستكبارهم من أعظم الظلم وجريمة ما بعدها جريمة.
    ينبغي لمن سمع التذكير والحجج والبراهين الاستجابة بسرعة أيا كان مصدر التذكير، بخلاف الكفار الذين قالوا تكبرا وهوى وعنادا ( لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ )[25].


    الآية فيها مبالغة في التخويف من قوله ( إنا من المجرمين منتقمون ) فالله سبحانه ينتقم من جميع المجرمين الظالمين، فكيف بمن هم أشد ظلما وجرما منهم؟!


    الله سبحانه وتعالى سمى تارك الصلاة مجرم فقال سبحانه(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ . إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ . فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ . عَنِ الْمُجْرِمِينَ . مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ . قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ )[26]، فلست أنا ولا الهيئة الفلانية أو المجمع الفقهي أو الإفتاء من أطلق هذا الوصف، بل غلام الغيوب، فهل من مدكر؟!


    فكل من ذكر بآيات ربه ثم أعرض مستكبرا ونسيها ولم يتدبرها أو يعمل بمقتضاها فهو مجرم بنص هذه الآية!
    الظلم من أقبح الأمور لذلك حرمه الله على نفسه وجعله بيننا محرما، فينبغي للعاقل أن يتذكر أحوال الظالمين ومآلهم ومصيرهم حتى يكون له مانع من اقترافه!


    ( ذكر بآيات ربه ) فالقرآن أعظم مُذكِّر فهو نور مبين وهداية للعالمين، قال تعالى ( فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ).
    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.








    خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 23 )

    وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)

    لما قرر الأصول الثلاثة:


    الرسالة، وبدء الخلق، والمعاد، عاد إلى الأصل الذي بدأ به، وهو الرسالة[1] التي ليست بدعا في الرسالة، إذ قد سبق قبلك رسل.[2] وذكر موسى عليه السلام، لقرب زمانه، وإلزاما لمن كان على دينه; ولم يذكر عيسى ؛ لأن معظم شريعته مستفاد من التوراة، ولأن أتباع موسى لا يوافقون على نبوته، وأتباع عيسى متفقون على نبوة موسى. [3]


    ولما كان مقصود السورة نفي الريب عن تنزيل هذا الكتاب المبين في أنه من عند رب العالمين، ودل على أن الإعراض عنه إنما هو ظلم وعناد بما ختمه بالتهديد على الإعراض عن الآيات بالانتقام، وكان قد انتقم سبحانه ممن استخف بموسى عليه السلام قبل إنزال الكتاب عليه وبعد إنزاله، وكان أول من أنزل عليه كتاب من بني إسرائيل بعد فترة كبيرة من الأنبياء بينه وبين يوسف عليهما السلام وآمن به جميعهم وألفهم الله به وأنقذهم من أسر القبط على يده، ذكر بحالة تسلية وتأسية لمن أقبل وتهديداً لمن أعرض، وبشارة بإيمان العرب كلهم وتأليفهم به وخلاص أهل اليمن منهم من أسر الفرس بسببه.[4]


    ذكر الله سبحانه في القرآن أنه أعطى موسى التوراة في عشرة مواضع، لكن في الآية التي معنا أسلوب مختلف يتطابق ويتناسق مع مادة وغرض سورة السجدة وهو اليقين، فقال سبحانه ( فلا تكن في مرية من لقاءه ).
    لما ذكر تعالى، آياته التي ذكر بها عباده، وهو: القرآن، الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، ذكر أنه ليس ببدع من الكتب، ولا من جاء به، بغريب من الرسل، فقد آتى الله موسى الكتاب الذي هو التوراة المصدقة للقرآن، التي قد صدقها القرآن، فتطابق حقهما، وثبت برهانهما.[5]


    {ولقد آتينا موسى الكتاب} أي التوراة عبَّر عنها باسمِ الجنسِ لتحقيقِ المجانسةِ بينها وبينَ الفرقان والتنبيه أنَّ إيتاءَه لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم كإبنائها لمُوسى عليهِ السَّلامُ.[6]
    والتوراة كتاب شريعة كالقرآن، لذلك كثيرا ما يقرن ربنا بين ذكر التوراة والقرآن، وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام.




    والفرق بين التوراة والإنجيل

    أن التوراة فيه شرائع وأحكام، أما الإنجيل فقد نزل متمما للتوراة وفيه مواعظ وحكم، والقرآن كتاب عظيم شامل جمع الله فيه الشريعة والمواعظ والحكم والقصص والأخبار، ونبأ ما بعدنا والنار والجنة والأحكام في الدنيا، فهو كتاب مفصل كما قال تعالى ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ).


    الآية تحتمل عدة معاني منها:
    لا تشك في لقاء موسى فقد لقيته ليلة الإسراء.
    لا تشك في لقاء موسى فستلقاه يوم القيامة.
    لا تشك من لقاء موسى للكتاب.
    لا تشك في لقاء موسى ربه.
    لا تشك في لقاء الأذى كما لقيه موسى.



    فيها إشارة أنك يا محمد عليه الصلاة والسلام كما أنزلنا الكتاب على موسى وتعرض للأذى فإنك ستتعرض للأذى الذي تعرض له لأننا أنزلنا عليك الكتاب، وفيها تنبيه وتوجيه وتثبيت وتسلية.
    لَمَّا جَرَى ذِكْرُ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ آيَاتُ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها، اسْتَطْرَدَ إِلَى تَسْلِيَةِ النَّبِيِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ هُوَ نَظِيرُ مَا لَقِيَهُ مُوسَى مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْلِيَةِ بِالتَّنْظِيرِ وَالتَّمْثِيلِ.[7]
    وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ كما آتيناك. فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ في شك. مِنْ لِقائِهِ من لقائك الكتاب كقوله: " وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ "[8] فإنا آتيناك من الكتاب مثل ما آتيناه منه فليس ذلك ببدع لم يكن قط حتى ترتاب فيه، أو من لقاء موسى الكتاب أو من لقائك موسى.[9]
    والمعنى: إنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب. ولقّيناه من الوحي مثل ما لقيناك. فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله.[10]
    وفى المفردات المرية التردد فى الأمر وهو أخص من الشك.[11]
    وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ وَارِدَةً لَا لِلتَّقْرِيرِ بَلْ لِتَسْلِيَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَتَى بِكُلِّ آيَةٍ وَذَكَّرَ بِهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا قَوْمُهُ حَزِنَ عَلَيْهِمْ، فَقِيلَ لَهُ تَذَكَّرْ حَالَ مُوسَى وَلَا تَحْزَنْ فَإِنَّهُ لَقِيَ مَا لَقِيتَ وَأُوذِيَ كَمَا أُوذِيتَ، وَعَلَى هَذَا فَاخْتِيَارُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِحِكْمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يُؤْذِهِ قَوْمُهُ إِلَّا الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ فَلَمْ يُخَالِفُوهُ غَيْرَ قَوْمِ مُوسَى فإن لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ آذَاهُ مِثْلُ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِ وَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْضًا آذَاهُ بِالْمُخَالَفَةِ وَطَلَبِ أَشْيَاءَ مِنْهُ مِثْلَ طَلَبِ رؤية الله جهرة ومثل قولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا.[12]


    قال قوم موسى إيذاء له كما قص الله علينا:
    ( أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ).
    ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ).
    ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ).
    ( سمعنا وعصينا ).
    لذلك لم يعدد الله ويذكر أسماء النبيين يقول سبحانه ( وكُذِّب موسى ) لأن موسى برهان من الله في حد ذاته، فتكذيبه تكذيب لبرهان من براهين الله .
    وَالضَّمِيرُ فِي" وَجَعَلْناهُ" فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَعَلْنَا مُوسَى، قَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّانِي- جَعَلْنَا الْكِتَابَ، قَالَهُ الْحَسَنُ.[13]
    وعن الحسن أنه قال في معناه: ولقد آتينا موسى الكتاب، فأوذي وكُذب فلا تكن في شك يا محمد من أنه سيلقاك مثل ما لقيه موسى من التكذيب والأذى.
    فالهاء عائدة على معنى محذوف كأنه قال: من لقاء ما لاقى، والمخاطبة على هذا للنبي عليه السلام خاصة.[14]
    {وَجَعَلْنَاهُ} أي: الكتاب الذي آتيناه موسى {هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} يهتدون به في أصول دينهم، وفروعه وشرائعه موافقة لذلك الزمان، في بني إسرائيل.
    وأما هذا القرآن الكريم، فجعله الله هداية للناس كلهم، لأنه هداية للخلق، في أمر دينهم ودنياهم، إلى يوم القيامة، وذلك لكماله وعلوه {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}.[15]


    عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما قسَمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قسمةَ حُنَيْنٍ، قال رجلٌ من الأنصارِ: ما أراد بها وجْهَ اللهِ، فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه، فتغيَّرَ وجهُه ثم قال: رحمةُ اللهِ على موسى، لقد أوذِيَ بأكثرَ من هذا فصبرَ .[16]
    وذلك أن إخباره بأنه آتى موسى الكتاب كأنه قال وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى هذا العبء الذي أنت بسبيله فلا تمتر أنك تلقى ما لقي هو من المحنة بالناس، وكأن الآية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقالت فرقة معناه فلا تكن في شك من لقائه في الآخرة.[17]
    يقول عليه الصلاة والسلام: رأيتُ ليلةَ أُسْرِيَ بي موسى، رجلًا آدمَ، طوالًا جَعْدًا، كأنه من رجالِ شَنُوءَةَ... الحديث.[18]
    والكتاب الذي أنزله الله على موسى هو التوراة، نزل في فترة تيه بني إسرائيل في الليلة السادسة من رمضان، كما في الحديث الحسن ( وأُنزلَت التوراةُ لستٍّ مَضَين من رمضانَ ).[19]
    ولما أشار إلى إعراضهم عنه وإعراض العرب عن كتابهم، ذكر أن الكل فعلوا بذلك الضلال ضد ما أنزل له الكتاب، فقال ممتناً على بني إسرائيل ومبشراً للعرب: {وجعلناه} أي كتاب موسى عليه السلام جعلاً يليق بعظمتنا {هدى} أي بياناً عظيماً.[20]


    ومما يدل على عظم مكانة التوراة ومنزلتها: أن الله عز وجل كتبها بيده سبحانه وتعالى، كما في حديث مُحاجَّة آدم موسى، "فقال آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده، أتلومني على أمر قدره علي قبل أن يَخْلُقني بأربعين سنة؟" رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.[21]
    الخلاصة:


    ولقد آتينا موسى أخاك الكتاب فأوذى وكذّب وناله ما ناله من ألوان العذاب والسخرية، فلا تكن في شك من أنه سيلقاك ما لقيه من التكذيب والأذى، إذ تلك سنة الكون ونظام الناس. لا بد من اصطراع أهل الحق مع أهل الباطل، وجعلنا الكتاب الذي أنزل على موسى هدى ونورا لبني إسرائيل.[22]
    إسرائيل: اسمه يعقوب ولقبه إسرائيل، وأبناء إسرائيل هم أبناء يعقوب، جعلنا الكتاب هدى لبني إسرائيل، وهي كلمة عبرية مركبة من كلمتين " إسرا" بمعنى عبد و" إيل " بمعنى الله"، فيكون المعنى عبد الله.




    من هداية الآية:
    أن طريق الدعوة إلى الله وهداية الناس محفوف بالمكاره والصعوبات والابتلاءات، فلابد من الصبر وتحمل المشاق وعدم اليأس والقنوط والتراجع.
    سأل رجل الشافعي فقال: يا أبا عبد الله! أيما أفضل للرجل أن يمكَّن أو يُبتلَى؟ فقال الشافعي: لا يمكن حتى يبتلى، فان الله ابتلى نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامُه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكَّنَهم، فلا يظن أحدٌ أن يخلص من الألم البتَّهَ.[23]


    أن الداعية إلى الله ومعلم الناس الخير، يعمل بوظيفة الأنبياء وهي من أفضل القربات سيما في وقت الفتن.


    عند تعرض المسلم عموما والداعية خصوصا إلى محنة وابتلاء، ينبغي عليه أن يستذكر ويتأمل بسير من قبله من الأنبياء والصحابة وأتباعهم، إذ فيها تسلية وتثبيت لتجاوز الصعوبات.


    لقاء القدوات من الرموز والعلماء والدعاة وطلاب العلم والقادة، مهم جدا سيما في أوقات الفتن والظروف العصيبة، ومما يبعث اليقين في النفس ويجدد العزيمة والنشاط، فقصة موسى مع بني إسرائيل من أكثر القصص ذكرا في القرآن، ومع ذلك ليست المسألة مجرد سماع أخباره بالقرآن، بل ستراه وتلقاه فيزداد اليقين!


    وفائدة لقاء القدوات، التناصح والتشاور وتثبيت بعضهم البعض وتذكيرهم بأحوال من قبلهم، وتحقيق الصبر والتسلية ورفع معنويات الجماهير، واختيار الأنفع والأفضل للأمة.
    يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: أولياءُ اللهِ تعالى، الذين إذا رُؤوا ذُكِرَ اللهُ تعالى.[24]
    قال جعفر: كنت إذا وجدت من قلبي قسوة نظرت إلى وجه محمد بن واسع نظرة، وكنت إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبت أن وجهه وجه ثكلى. [25]
    النبي أرسل للخلق جميعا بشيرا ونذيرا، بخلاف بقية الانبياء كل واحد منهم لقومه خاصة.

    اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.

    23- رمضان-1435هـ

    --------------------------------------------
    [1]وهي قوله تعالى( لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك ).
    [2]كما قال تعالى ( قل ما كنتُ بدعا من الرسل ).
    [3]البحر المحيط.
    [4]البقاعي.
    [5]السعدي.
    [6]تفسير أبي السعود.
    [7]ابن عاشور.
    [8]تمامها ( وإنك لتلقى القرآن من حكيم عليم ).
    [9]تفسير البيضاني.
    [10]تفسير القاسمي.
    [11]روح البيان.
    [12]مفاتيح الغيب.
    [13]القرطبي.
    [14]الهداية في بلوغ النهاية.
    [15]السعدي.
    [16]صحيح البخاري.
    [17]تفسير ابن عطية.
    [18]صحيح البخاري.
    [19]السلسلة الصحيحة برقم 1575.
    [20]البقاعي.
    [21]موقع إسلام ويب.
    [22]التفسير الواضح.
    [23]جامع المسائل لابن تيمية.
    [24]صحيح الجامع برقم
    [25]صفة الصفوة.
    صيد الفوائد



جاري التحميل ..
X