اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)السجدة
الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
يقول سبحانه ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ).
بعد أن أثبت سبحانه صحة الرسالة، بيّن ما يجب على الرسول من الدعوة إلى توحيد لله، وإقامة الأدلة على ذلك.
( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ )، لذلك ينبغي أول وأهم ما يبدأ به الداعية ويركز عليه ويستحضره دائما، الدعوة إلى توحيد الله وتحقيق العبودية في المجتمعات.
قال عليه الصلاة والسلام: يا معاذُ ! تدري ما حقُّ اللهِ على العبادِ وما حقُّ العبادِ على اللهِ ؟ " قال قلت : اللهُ ورسولُه أعلمُ . قال : " فإن حقَّ اللهِ على العبادِ أن يعبدوا اللهَ ولا يشركوا به شيئًا . وحقُّ العبادِ على اللهِ عزَّ وجلَّ أن لا يعذبَ من لا يشركُ به شيئًا " قال قلت : يا رسولَ اللهِ ! أفلا أبشرُ الناسَ ؟ قال : " لا تُبشرْهم . فيتَّكلوا " .[ متفق عليه. ]
هنا يشرع سبحانه بالتعريف برب العالمين في الآية الثانية، استكمالا لما سبق وإن فصل بينهما فاصل لضرورة الكلام.
حينما أنزل القرآن كان لفظ ( رب العالمين )، من التربية والرحمة والعناية، لكن بعد أن قالوا( افتراه ) لابد من التهديد والتخويف، فقال ( الله الذي خلق .. )، دقة عجيبة في الألفاظ والسياق، فمراعاة هذه الأمور بهذه الدقة في كل القرآن لا تأتي إلا من إله حق عظيم.
الله: اسم علم على الله وحده لا شريك له، ولم يتسم بها أحد إلا الله.
الله يعني المعبود وحده والذي يستحق أن يعبد وحده هو الرب الذي خلق السموات والأرض فمقتضى ربوبيته أنه يخلق.
وفي هذا اللفظ والاسم إعجاز ودليل على أن الله هو الإله الحق الذي يستحق العبادة وحده، فلم يتسم بهذا أي كافر ممن ادعى الألوهية كفرعون والنمرود وذو نواس وغيرهم، قال فرعون ( ما علمت لكم من إله غيري )، لكن لفظ ( أنا الله ) لم يقلها إلا الله جل في علاه ( إنني أنا الله ).
ثم ذكرت السورة أعظم ما يجب على المسلم أن يوقن به وهو توحيد الله وعظمته، من خلال ذكر أعظم المخلوقات وتكرر هذا في سبع سور منها السجدة، هكذا تبعث اليقين لعظمة الله في قلب المسلم.
لما كان الركن الأعظم من أركان هدى الكتاب، هو إثبات الوحدانية للإله وإبطال الشرك عقب الثناء على الكتاب بإثبات هذا الركن.
الله سبحانه خلق مليارات من الكواكب والنجوم والشموس والأقمار، ولكن ذكرت الأرض لأن الإنسان يعيش عليها، فيرى آيات الله عز وجل فيها، من جماد ونبات وحيوان وإنسان وطير.
الله عز وجل قادر أن يخلق العوالم جميعا بلحظة، ولكن أراد أن يرينا حكمته وصبره وحلمه، كما أنه خلق آدم بمراحل ليرينا مقتضى أسماءه الحسنى وأنه الحليم الحكيم العليم الصبور سبحانه.
وتفصيل الخلق أن إيجاد الأرض كأرض في يومين، وإيجادها كأرض وتدبيرها في أربعة أيام، بما فيها الخلق من العدم والإيجاد، وجعل فيها رواسي وبارك فيها أقواتها.
الأرض هذا الكوكب الصغير، دبر أمره في أربعة أيام وكان قادرا أن يكون في لحظة، والسماوات التي هي أعظم بكثير من الأرض في يومين! ليعيش عليه الإنسان ليبتلى ثم بعدها إما إلى جنة أو إلى نار.
فخلق الله هذه كلها من كواكب وشموس وأقمار وسبع سموات كل سماء فيها أمرها وتدبيرها وإحكامها وهذا كله في السماء الدنيا وكلما خرجنا خارجها لاتسع الكون الثانية أوسع الثالثة أوسع وهكذا السابعة أوسع ثم سدرة المنتهى، فهذا كون عظيم .
الكون فيه مليارات المجرات، والأرض ضمن مجرة واحدة تسمى " درب التبانة"، فيها الشمس والقمر والنجوم والكواكب، والأرض بجوار السماوات كحلقة في فلاة!
الحكمة من خلق السموات والأرض في ستة أيام:
قال القرطبي: ولو أراد خلقها في لحظة لفعل؛ إذ هو القادر على أن يقول لها كوني فتكون، ولكنه أراد أن يعلم العباد الرفق والتثبت في الأمور، ولتظهر قدرته للملائكة شيئا بعد شيء.
وحكمة أخرى: خلقها في ستة أيام لأن لكل شيء عنده أجلا.
وبين بهذا ترك معاجلة العصاة بالعقاب، لأن لكل شيء عنده أجلا.
قال ابن الجوزي: أن ذلك الإمهال في خلق شيء بعد شيء، أبعد من أن يُظن أن ذلك وقع بالطبع أو بالاتفاق .
( ثم استوى على العرش ) العرش مخلوق، استواء يليق به من غير تشبيه ولا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تأويل ولا تعطيل نثبت له صفاته كما أثبتها لنفسه.
ما النتيجة قال(ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون ).
( ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع ) الله الذي خلق هذا كله يرينا كمال قدرته وعظيم قوته القوي العزيز، فكيف تلجأ إلى غيره وتطلب النصر من غيره، فلا يملك لكم أحد من دونه شيئا.
والولي: مشتق من الولاء، بمعنى: العهد والحلف والقرابة. ومن لوازم حقيقة الولاء النصر والدفاع عن المولى. وأريد بالولي: المشارك في الربوبية.
والشفيع: الوسيط في قضاء الحوائج من دفع ضر أو جلب نفع. والمشركون زعموا أن الأصنام آلهة شركاء لله في الإلهية ثم قالوا: ( هؤلاء شفعاؤنا عند الله )، وقالوا: ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى )
والخلاصة: فإياه فاتخذوه وليّا، وبه وبطاعته فاستعينوا على أموركم، فإنه يمنعكم ممن أرادكم بسوء، ولا يقدر أحد على دفع السوء عنكم، إذا هو أراد وقوعه بكم، لأنه لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب.[ تفسير المراغي. ]
لم يقل ( تذكرون ) قال ( تتذكرون ) توكيدا لترسيخ اليقين في القلوب!
هكذا يتيقن المسلم بربه جل وعلا أنه الخالق المدبر المستحق للعبادة وحده.
فالذي يشرك بالله ليس عنده يقين، ويطلب من القبور ويسألهم الحاجات ليس عنده يقين.
كما قال موسى لفرعون ( قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ).
كيف توقن أن الله هو الخالق الرازق ثم تعبد غيره؟!!
وهكذا الإنسان إذا تعلق قلبه بأسباب مادية، بطبيب أو دواء بوظيفة، وإذا فصل قال انقطع رزقي وجزع وتسخط!! هذا ليس عنده يقين لأن الأمر لله ( ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع ).
فلا ينبغي أن يتعلق قلبه لا بمسؤول ولا واسطة ولا شيء.
من تيقن بعظمة الله وعرف الله بأسماءه وصفاته أقبل على عبادته وذكره.
كما قال بعض السلف: من عرف ربه أحبه.
يقول بعض السلف: ثلاثة من أعلام اليقين:
النظر إلى الله في كل شيء.
والرجوع إليه في كل أمر.
والاستعانة به في كل حال.
( أفلا تتذكرون ) التذكر عكس النسيان ويأتي بمعنى التدبر والعظة، فهلا اتعظتم بذلك أن كل إنسان خلق وأتى إلى الكون وحده ويموت وحده ويبعث يوم القيامة وحده ويحاسب وحده ويقف وحده أمام الله وفي قبره وحده ويجيب وحده عندما يأتيه الملكان، فهلا اتعظتم بذلك وتذكرتم وعبدتم الله وأخلصتم له دينكم.
اليقين القوي الراسخ الثابت في عظيم خلق الله؛ يدفعنا للتأمل والتفكر ثم يظهر أثر ذلك من الخضوع بطاعة الله وذكره وسؤاله الجنة والنجاة من النار، قال سبحانه ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ )[6].
اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)السجدة
في هذه الآية بين لنا الأمر وتدبير السماوات والأرض، بعد أن بين خلقها، والله سبحانه بين أن له الخلق والأمر ( ألا له الخلق والأمر ).
فالله خلق وبيده الأمر، فهو الذي يصدر الأمر فلا أمر لسواه سبحانه، فهو خلق وأمره كائن في خلقه قضاء في الخير وقدرا في الشر، والسماوات قامت بأمره والأرض قامت بأمره والبشر قاموا بأمره والملائكة والدنيا والآخرة.
( يدبر الأمر ) أي أمر الخلق وهو سبحانه قيوم عليه، وأمر الدنيا وشأنها وحالها، والأمور التي تقع فيها، وهو تمثيل لإظهار عظمته، كما يصدر الملك أوامره، ثم يتلقى من أعوانه ما يدل على تنفيذها.
الأمر ينزل من الله أوامر، ثم يعرج بالنتائج، ماذا فعل البشر بأوامر الله القضائية والقدرية.
( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ) الأمر الشرعي والقدري، فيقدر ما يشاء ويشرع ما يشاء، بحكمته ورحمته ولطفه.
لو أرسل لك صديق رسالة من مكان بعيد، لاشك يكون لها وقع وشأن وعظمة في قلبك، كيف إذا استشعرت أن هذه الأوامر من السماء إلى الأرض! هذا مما يبعث اليقين والتعظيم لأمر الله، وإذا تفكرت بمخلوقات الله وأوامره تزداد يقينا بعظمته جل وعلا وأسماءه وصفاته.
يقول عليه الصلاة والسلام: ( يتعاقبونَ فيكم، ملائكةٌ بالليلِ، وملائكَةُ النهارِ، ويجتمعونَ في صلاةِ الفجْرِ والعْصرِ، ثُمَّ يعْرُجُ الذين باتوا فيكم، فيسألُهم وهُوَ أعلَمُ بِهم: كيفَ تَرَكْتُمْ عبادي؟ فيقولونَ: تركناهم وهم يصلُّونَ، وأتيْناهم وهم يصلُّونَ ).[ صحيح الجامع برقم 8019. ]
هنا لابد من وقفة تأمل، وينبغي لكل إنسان أن يسأل نفسه، ما هي الحال التي ستخبر بها الملائكة ربها من أعمالك؟!!
فيأتي هذا الأمر من السماء، فينزل به الملك أو جبريل أو إسرافيل في يوم واحد، ولا نقدر إدراكها ولا في ألف سنة بما آتاكم الله من آلات وقدرات ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ) يعني بأمر الله، فلا تقدرون أن تتجاوزوا قدركم ولا ما آتاكم الله من أشياء.
( من السماء ) أي جهة العلو، والله مستو على عرشه ومن علياءه يدبر الأمر.
من هداية الآية وفوائدها:
أن الله سبحانه عليم حكيم خبير، يدبر شؤون الخلق بعلم وحكمة وقدرة واسعة، مع أنه الغني عن إرسال الملائكة بالأمر ثم العروج بأثر تلك الأوامر.
نستفيد من ذلك أن رئيس الدولة والخليفة والوزير والمسؤول والمدير، وكل من له منصب وتحته رعية، ينبغي أن يدير ويدبر أمور الناس بعلم ودراية، من خلال خلطتهم ومعرفة ما يصلحهم عن قرب.
كان عليه الصلاة والسلام يتفقد أحوال المسلمين ويخالطهم، ويتحمل معهم هم الحياة والأعباء، كما قال تعالى ( عزيز عليه ما عنتم بالمؤمنين رؤوف رحيم )، فكان يؤمهم بالصلاة، ويدخل بيوتهم ويأكل معهم، وينصحهم بما يحتاج إلى تعديل وتغيير.
عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أتى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في بيتِنا وأنا صبيٌّ قال: فذهبتُ أخرجُ لألعبَ فقالت أمي: يا عبدَ اللهِ تعالَ أُعطيكَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: وما أردتِ أن تُعطيه؟ قالت: أُعطيه تمرًا قال: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أما إنك لو لم تُعطِه شيئًا كُتبتْ عليكِ كَذِبةٌ.[ السلسلة الصحيحة. ]
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: إنْ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليُخالِطُنا،حتى يقولَ لأخٍ لي صغيرٍ: يا أبا عُمَيْرٍ، ما فعل النُّغَيْرُ؟[ متفق عليه. ]
فالله سبحانه رغم علوه في السماء، إلا أنه يراهم ويشرّع لهم ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ).
ألف سنة هو منتهى العدد عند العرب، وأحيانا يطلق ولا يراد معناه بل كناية عن الكثرة، ويستعمل أحيانا هذا الأسلوب عندما تقول لشخص: أنا قلت لك ألف مرة لا تعمل كذا وكذا! فيعبر عن الكثرة وإن لم يقصد به حقيقة العدد.
فالمقصود بالمسافة هنا، هي ألف سنة أو ما يزيد عن الألف، بمعنى أنها مسافة طويلة جدا جدا.
وكان سليمان عليه السلام يتفقد الرعية كما قال تعالى ( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ )
وقول عمر رضي الله عنه: لَوْ أَنَّ سَخْلَةً بِشَاطِئِ الْفُرَاتِ أَخَذَهَا الذِّئْبُ لَيُسْأَلُ عَنْهَا عُمَرُ.
أن التدبير الحكيم الناجح لشؤون الرعية، الذي يكون عن علم وخبرة ودراية بأحوالهم، وهذا لا يحصل إلا بالخلطة والقرب منهم ومعرفة أمورهم.
اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.
أيمن الشعبان
صيد الفوائد
صيد الفوائد