وقفات مع القاعدة القرآنية:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾
المقدمة:
بسم الله، والحمد لله، أما بعد:فهذه قاعدة عظمية من قواعد القرآن الكريم، وهي تحمل معانيَ كبيرة وفوائد غزيرة، ولو أخذ بها أفراد الناس وجماعاتهم، لكان لهم الربح والنجاة في الدنيا والآخرة.
الوقفة الأولى:
في دلالة الآية على أن الناس إذا تغير حالهم من المعصية إلى الطاعة غيَّر الله حالهم من الشقاء إلى السعادة.
قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية:
"إذا غيَّر العباد ما بأنفسهم من المعصية، فانتقلوا إلى طاعة الله، غيَّر الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء إلى الخير والسرور، والغبطة والرحمة"؛ [انتهى].ويُروَى في الأثر: ((قال الرب عز وجل: وعزتي وجلالي، وارتفاعي فوق عرشي، ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهت من معصيتي، ثم تحوَّلوا عنها إلى ما أحببتُ من طاعتي، إلا تحوَّلت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي))؛ [العلو، للذهبي، (ص: ٦٣)].
الوقفة الثانية:
في دلالة الآية على أن العباد إذا انتقلوا من الإيمان إلى الكفر ومن الطاعة إلى المعصية، فإن الله يغيِّر حالهم ويسلبهم النِّعَمَ التي كانت عليهم.قال الإمام الطبري في تفسيره على هذه الآية: "يقول تعالى ذكره: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ ﴾ [الرعد: 11]، من عافية ونعمة، فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم، ﴿ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، من ذلك بظلم بعضهم بعضًا، واعتداء بعضهم على بعض، فتحل بهم حينئذٍ عقوبته وتغييره".
الوقفة الثالثة:
في دلالة الآية على أن الله هو المُغَيِّرُ وبيده كل شيء، فعلى العباد أن يستعينوا به ويتوكلوا عليه في الهداية وطلبها، وفي الاستعاذة من الغواية وتركها.قال تعالى في نفس الآية: ﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11].وجاء في التفسير الميسر على هذه الآية: "وليس لهم مِن دون الله مِن والٍ يتولى أمورهم، فيجلب لهم المحبوب، ويدفع عنهم المكروه".
الوقفة الرابعة:
في دلالة الآية على الطريقة الصحيحة والواجبة في سبيل النهوض بالأمة الإسلامية.
وللدلالة على هذا المعنى أنقل هذه الأقوال:
يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "فالواجب على المسلمين أن يعدُّوا ما استطاعوا من قوة؛ وأولها: الإيمان والتقوى، ثم يلي قوة الإيمان والتقوى، أن يتسلح المسلمون ويتعلموا كما تعلم غيرهم، لكن المسلمين لم يقوموا بما عليهم"؛ [مجموع الفتاوى (٣١٠/ ١٥)].وقال العلامة الإمام ابن باز رحمه الله: "من أسباب ضعف المسلمين رضاهم بالعلوم الدنيوية التي تؤهل للوظائف فقط، غير العلوم التي توجب الاستغناء عن الأعداء.والأمر الثاني عدم القيام بأمر الله والبعد عن مساخطه سبحانه"؛ [بتصرف مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (١٠١/ ٥)].قال العلامة الأديب علي الطنطاوي رحمه الله تعالى: "ﻟﻴﻌﻤﺪ ﻛﻞ ﻭﺍﺣﺪ ﻣﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﺃﺳﺮﺗﻪ ﻓﻴﺤﺎﻭﻝ ﺇﺻﻼﺣﻬﺎ، ﻓﺈﻥ ﺍﻷﻣﺔ ﻫﻲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ أُﺳَﺮٍ، ﻓﺈﺫﺍ ﺻﻠﺤﺖ ﺍﻷﺳﺮ ﺻﻠﺤﺖ ﺍﻷﻣﺔ"؛ [ذكريات (٥/ ٦)].وقيل: ﺳﺮ ﺍﻧﺘﻈﺎﻡ ﺻﻔﻮﻑ ﺍﻟﻤﺼﻠﻴﻦ ﺑﺴﺮﻋﺔ ﺩﻭﻥ ﻓﻮﺿﻰ ﻫﻮ ﺃﻥ ﻛﻞ ﻓﺮﺩ ﻳﺒﺪﺃ ﺑﻨﻔﺴﻪ، ﺍﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﺗﻐﻴﻴﺮ ﻫﺎﺋﻞ ﺧﻼﻝ ﻟﺤﻈﺎﺕ ﻟﻮ ﻃﺒﻘﻨﺎ ﻗﺎﻋﺪﺓ: ﺍﺑﺪﺃ ﺑﻨﻔﺴﻚ، ﺳﻴﺘﻐﻴﺮ ﻭﺍﻗﻌﻨﺎ حتمًا.وقيل أيضًا:ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ:ﺃﻳﻦ ﺻﻼﺡ ﺍﻟﺪﻳﻦ؟!
ﻭﺃﻧﺎ ﺃﻗﻮﻝ:
ﺃﻳﻦ ﺻﻼﺡ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﺑﺎﻟﺪِّﻳﻦ؟!ﻳﺮﻳﺪﻭﻥ ﺍﻟﺼﻼﺓ ﻓﻲ ﺍﻷﻗﺼﻰ!وركعة ﻓﻲ ﻣﺴﺠﺪ ﻗﺮﺏ ﺑﻴﺘﻬﻢ ﻫﻲ ﻋﻠﻴﻬﻢ أقصى!وقال أبو العتاهية:ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبسِ
الوقفة الخامسة:
وفي الآية الرد على مَن يسلك غير هذا السبيل في التغيير، ويسلك الطرق المخترعة التي لا تقيم الدين وأهله.
وفي الدلالة على هذا المعنى أنقل بعض الأقوال:
ذكر الإمام القرطبي في تفسيره على قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأنعام: 129].قال ابن عباس رضي الله عنه: "إذا رضيَ الله عن قوم ولَّى أمرهم خيارهم، إذا سخط الله على قوم ولى أمرهم شرارهم"؛ [الجامع لأحكام القرآن (٨٥/ ٧)].• يقول العلامة الرازي رحمه الله تعالى: "الرعية متى كانوا ظالمين، فالله تعالى يسلط عليهم ظالمًا مثلهم، فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم، فليتركوا الظلم"؛ [التفسير الكبير (١٥٠/ ١٣)].قال العلامة ابن مفلح رحمه الله تعالى: "من عجيب ما نقدتُ من أحوال الناس كثرةُ ما ناحوا على خراب الديار، وموت الأقارب والأسلاف، والتحسر على الأرزاق بذمِّ الزمان وأهله، وذِكْر نكدِ العيش فيه، وقد رأوا من انهدام الإسلام، وشعث الأديان، وموت السنن، وظهور البدع، وارتكاب المعاصي، وتقضِّي العمر في الفارغ الذي لا يُجدي، والقبيح الذي يوبق ويؤذي، فلا أجد منهم من ناح على دينه، ولا بكى على فارط عمره، ولا آسى على فائت دهره، وما أرى لذلك سببًا إلا قلة مبالاتهم بالأديان، وعظم الدنيا في عيونهم ضد ما كان عليه السلف الصالح، يرضَون بالبلاغ وينوحون على الدين"؛ [الآداب الشرعية لابن مفلح (٣٤٥/ ٢)].
الوقفة السادسة:
في دلالة الآية على أن دوام النعم بالطاعة، وزوال النعم بالمعصية.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
"وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته؛ فإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه، ولا يغيرها عنه، حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11]، ومن تأمل ما قصَّ الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نِعَمَه عنهم، وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره وما أزال الله عنهم من نعمه، وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب؛ كما قيل:إذا كنت في نعمة فارْعَها *** فإن المعاصي تزيل النِّعَم
فما حُفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته، ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه، فإنها نار النعم التي تعمل فيها، كما تعمل النار في الحطب اليابس"؛ [بدائع الفوائد (٤٣٢/ ٢)].
الوقفة السابعة:
في دلالة الآية على أن العباد لا بد أن يغيروا ما بأنفسهم من أجل أن يغير الله حالهم، وذلك بأخذهم بالأسباب الشرعية والأسباب الكونية.ومن أمثلة الأسباب الكونية التي أمر الله عز وجل بها في كتابه قوله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60].
قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية:
"أي: ﴿ وَأَعِدُّوا ﴾ لأعدائكم الكفار الساعين في هلاككم وإبطال دينكم ﴿ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾؛ أي: كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية، وأنواع الأسلحة، ونحو ذلك مما يعين على قتالهم، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع والرشاشات والبنادق، والطيارات الجوية، والمراكب البرية والبحرية، والحصون والقلاع والخنادق، وآلات الدفاع، والرأْي والسياسة التي بها يتقدم المسلمون، ويندفع عنهم به شر أعدائهم، وتَعَلُّم الرَّمْيِ، والشجاعة والتدبير؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن القوة الرَّمْيُ))، ومن ذلك: الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال.
ولهذا قال تعالى: ﴿ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾، وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان، وهي إرهاب الأعداء، والحكم يدور مع علته، فإذا كان شيء موجود أكثرَ إرهابًا منها، كالسيارات البرية والهوائية المعدة للقتال التي تكون النكاية فيها أشد، كانت مأمورًا بالاستعداد بها، والسعي لتحصيلها، حتى إنها إذا لم توجد إلا بتعلُّم الصناعة، وجب ذلك؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب وقوله: ﴿ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ ممن تعلمون أنهم أعداؤكم، ﴿ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ ﴾ ممن سيقاتلونكم بعد هذا الوقت الذي يخاطبهم الله به، ﴿ اللَّهُ يَعْلَمُهُم ﴾؛ فلذلك أمرهم بالاستعداد لهم، ومن أعظم ما يعين على قتالهم بذلك النفقات المالية في جهاد الكفار؛ ولهذا قال تعالى مرغبًا في ذلك: ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ قليلًا كان أو كثيرًا، ﴿ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾ أجره يوم القيامة مضاعفًا أضعافًا كثيرة، حتى إن النفقة في سبيل الله، تضاعف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ﴿ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾؛ أي: لا تنقصون من أجرها وثوابها شيئًا"؛ [انتهى].
الوقفة الثامنة:
ولا شك أنه وقع ما أخبر الله عز وجل عنه في الآية، وأنه بدَّل حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من حال إلى حال، من حال الكفر إلى حال الإيمان، ومن حال المعصية إلى حال الطاعة، ومن حال الذل إلى حال العزِّ والنصر، وهم أكمل الناس في ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم.وكل ذلك كان بالإيمان والعمل الصالح؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].
قال العلامة السعدي في تفسيره على هذه الآية:
"فقام صدر هذه الأمة من الإيمان والعمل الصالح بما يفوقون على غيرهم، فمكَّنهم من البلاد والعباد، وفُتحت مشارق الأرض ومغاربها، وحصل الأمن التام والتمكين التام، فهذا من آيات الله العجيبة الباهرة، ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة، مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح، فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله، وإنما يسلط عليهم الكفار والمنافقين، ويديلهم في بعض الأحيان؛ بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح"؛ [انتهى].
الخاتمة:
وفي الختام لا بد من الأخذ بالأسباب الشرعية والكونية حتى يتغير الحال من حال إلى حال، وهذا وعد من الله حق، ولا يستخفنَّك الذين لا يوقنون.ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
شبكة الالوكة
اترك تعليق: