انتشرت حالات الإنتحار خلال السنوات الأخيرة انتشارًا كبيرًا في كل من مصر والأردن ولبنان والعراق، لدرجة وصلت حالات الإنتحار في الأردن على سبيل المثال إلى حالة إنتحار كل ثلاثة أيام. وتتنوع أسباب الإنتحار بين الفقر والإضطراب النفسي، ولكن القاسم المشترك في جميع حالات الإنتحار في البلاد العربية هو اليأس من رحمة الله تعالى، قال تعالى: (مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ)، الحج: ١٥. والمعنى: من كان يظن أن الله لا يرزقه فليقتل نفسه [فليمدد بسبب إلى السماء أي فليمدد بحبل إلى سقف البيت]، إذ لا خير في حياة تخلو من عون الله كما قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير الإمام القرطبي رحمه الله. ولذلك يأمرنا الله عز وجل بعدم اليأس من رحمته لقوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ)، الزمر: ٥٣. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل المنتحر كافر أم عاصي؟
في البداية، يُشير الله عز وجل بوضوح في القرآن الكريم بان المنتحر سيدخل النار لقوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا*وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا)، النساء: ٢٩-٣٠. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنْه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدا فِيهَا أَبَدا. وَمَنْ شَرِبَ سَمّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدا مُخَلَّدا فِيهَا أَبَدا. وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدا مُخَلَّدا فِيهَا أَبَدا»، رواه مسلم والبخاري. وبالتأمل في النصوص أعلاه تجد أن قتل المسلم لنفسه لا يُخرجه عن كونه آثمًا بفعله، ويستحق الوعيد بالنار. ولكن فعله هذا ليس من نواقض الإسلام عند أحدٍ من علماء الإسلام من أهل السنَّة والجماعة، ولذا فلن يخلد في النار لمجرد فعله هذا كخلود فرعون وأبي لهب والنصارى واليهود، لان الخلود في النار خلودان: خلود مؤبَّد توعَّد الله تعالى به أهل الكفر والشرك والنفاق، وخلود مقيد بأمد ينقضي، توعَّد الله تعالى به أهل الكبائر من المسلمين، كما ان تحريم دخول الجنة تحريمان: تحريم مؤبَّد وهو تحريم الجنة على الكفار والمشركين والمنفقين فلا يدخلونها البتة، وتحريم مؤقت، وهو تحريمها على العصاة من المؤمنين مع أول الداخلين، فهو تحريم لفترة من الوقت ثم يدخلونها وتكون مستقرًا لهم، ومما يدل على ذلك أمور، منها:
اولًا: النصوص المحكمة في أن المسلم إذا لقي الله تعالى بكل ذنب خلا الشرك الأكبر فإن ذنوبه قابلة للعفو عنها ومحو أثر بفضل الله تعالى ورحمته، مهما بلغت هذه الذنوب كثرة وعظمة، وقد نصَّ الله تعالى على ذلك بقوله: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)، النساء: ٤٨. ولا شك أن قتل المسلم لنفسه داخل فيما يمكن أن يغفره الله تعالى، وليس هو من الشرك عند أحدٍ من أئمة الإسلام.
ثانيًا: الواقع العملي لقاتل نفسه في الشرع المطهَّر: أنه يغسَّل ويصلَّى عليه، ويُدفن في مقابر المسلمين، ويورَّث، ولو كان بفعله ذاك كافرَا فإنه لا تجري عليه أحكام الإسلام السابقة. وقد صرح علماء الإٍسلام في أكثر من موضع بأن المنتحر لا يخرج عن الإسلام، ولهذا قالوا بغسله والصلاة عليه، والكافر لا يصلى عليه إجماعًا، فعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ الله عنْه قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ [سهم] فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ»، رواه مسلم والترمذي. والمعنى من الحديث الشريف ان الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على المنتحر، ولكنه لم يمنع الناس من الصلاة عليه، لأن هذا الترك ليس لأنه كافر خارج من ملة الإسلام بل هو لبيان تغليظ فعله وعدم الإقتداء بفعله، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (لا يصلي الإمامُ على قاتل نفسه ولا على غالٍّ، ويصلِّي الناس عليه)، وقال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: (المقتول في القوَد يصلِّي عليه أهله، غير أن الإمام لا يصلِّي عليه)، وكذا قال الإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة وجماهير العلماء رضي الله عنهم أجمعين: (يصلَّى عليه، وأجابوا عن هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يصلِّ عليه بنفسه زجرًا للناس عن مثل فعله وصلَّت عليه الصحابة)، كما روى الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم.
والخلاصة، يُعدّ المنتحر المُسلم عاصيًا وليس كافرًا، ويصلى عليه الناس بإستثناء الإمام، ويدفن بمقابر المسلمين، ويُخلد في النار تخليدًا مقيدًا بأمد ينقضي، وليس تخليدًا مؤبدًا لانه ليس من أهل الكفر والشرك والنفاق.