إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تطريز رياض الصالحين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #31
    رد: تطريز رياض الصالحين

    ( باب فضل الرجاء )

    قال الله تعالى إخبارا عن العبد الصالح: {وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا} [غافر (44، 45) ] .

    ----------------
    يخبر تعالى عن مؤمن آل فرعون حين دعاهم إلى التوحيد، وتصديق موسى، ونهاهم عن الشرك، فتوعدوه أنه قال: {فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله} [غافر (44) ] . أي: وأتوكل عليه، وأستعين، فيعصمني عن كل سوء، {إن اله بصير بالعباد} ، فيهدي من يستحق الهداية ويضل من يستحق الإضلال، وله الحجة البالغة، والحكمة التامة، {فوقاه الله سيئات ما مكروا} ، ما أرادوا به من الشر. قال قتادة: نجا مع موسى وكان قبطيا.



    عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: «قال الله - عز وجل -: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني، والله، لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة، ومن تقرب إلي شبرا، تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا، تقربت إليه باعا، وإذا أقبل إلي يمشي أقبلت إليه أهرول» متفق عليه

    ----------------
    وهذا لفظ إحدى روايات مسلم. وتقدم شرحه في الباب قبله. وروي في الصحيحين: «وأنا معه حين يذكرني» بالنون، وفي هذه الرواية «حيث» بالثاء وكلاهما صحيح. قوله عز وجل: «أنا عند ظن عبدي بي» ، أي في الرجاء، وأمل العفو، «وأنا معه» ، أي: بالرحمة، والتوفيق، والإعانة، والنصر، ... «حيث ذكرني في نفسه أو في الملأ» . وفي الحديث: لطف الله بعباده، وفرحه بتوبتهم، وأن من تقرب إليه بطاعته، تقرب إليه بإحسانه، وفضله، وجزائه المضاعف.




    عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاثة أيام، يقول: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله - عز وجل -» . رواه مسلم.
    ----------------
    في هذا الحديث: الحث على حسن الظن بالله تعالى، والتحذير من القنوط خصوصا عند الخاتمة، قال الله تعالى: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران (102) ] ، وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - في مرض موته: ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي ... ?? ... جعلت الرجاء مني لعفوك سلما ... ??? تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... ? ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما ... ??




    عن أنس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن) .
    ----------------
    «عنان السماء» بفتح العين، قيل: هو ما عن لك منها، أي: ظهر إذا رفعت رأسك، وقيل: هو السحاب. و «قراب الأرض» بضم القاف، وقيل: بكسرها، والضم أصح وأشهر، وهو: ما يقارب ملأها، والله أعلم. في هذا الحديث: بشارة عظيمة، وحلم، وكرم عظيم. قال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وأسواقكم، ومجالسكم، وأينما كنتم، فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة. وقال قتادة: إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار. قال بعضهم: أستغفر الله مما يعلم الله ... ?? ... إن الشقي لمن لا يرحم الله ... ??? ما أحلم الله عمن لا يراقبه ... ?? ... كل مسيء ولكن يحلم الله ... ?? فاستغفر الله مما كان من زلل ... ?? ... طوبى لمن كف عما يكره الله ... ??? طوبى لمن حسنت منه سريرته ... ?? ... طوبى لمن ينتهي عما نهى الله ... ??

    الكلم الطيب

    تعليق


    • #32
      رد: تطريز رياض الصالحين

      (باب الجمع بين الخوف والرجاء)
      قال الله تعالى: {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} [الأعراف (99) ] . ***

      قال تعالى:
      {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف (87) ] .
      ----------------
      الخوف يزجر العبد عن المعاصي، والرجاء يبعثه على الطاعات فلا يأمن العقوبة، ولا يقنط من الرحمة.



      قال تعالى:
      {يوم تبيض وجوه} [آل عمران (106) ] .
      ----------------
      أي: تبيض وجوه المؤمنين يوم القيامة، وتسود وجوه الكافرين. وقال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة.



      قال تعالى:
      {إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} [الأنعام (165) ] .
      ----------------
      في هذا ترهيب وترغيب، وكل ما هو آت قريب.



      قال تعالى:
      {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم}[الانفطار (13، 14) ] .
      ----------------
      الأبرار: الذين بروا وصدقوا في إيمانهم بأداء فرائض الله، واجتناب معاصيه، والفجار بضد ذلك.



      قال تعالى:
      {فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية} [القارعة (6، 9) ] .
      ----------------
      أي: من رجحت حسناته على سيئاته فهو من أهل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته فهو من أهل النار.



      (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد} [الزمر (23) ] . ***


      عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من جنته أحد» . رواه مسلم.
      ----------------
      يشهد لهذا الحديث: قوله تعالى: {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم} ، وقوله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف (156) ] الآية.



      عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا وضعت الجنازة واحتملها الناس أو الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة، قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة، قالت: يا ويلها! أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه صعق» . رواه البخاري.
      ----------------
      قولها: «قدموني قدموني» ، هو اشتياق إلى ما أعده الله للمؤمن من نعيم القبر وما بعده، وقول الآخر: (يا ويلها، أين يذهبون بها» ، هو جزع وتحسر من الفاجر، ورهبة مما أعد له من عذاب القبر وما بعده.



      عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك» . رواه البخاري.
      ----------------
      فيه: أن الطاعة موصلة إلى الجنة، وأن المعصية مقربة إلى النار. وفي الحديث الآخر: «إن الرجل يتكلم بالكلمة ما يظن أن يبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وأن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله يهوي بها في النار» . فينبغي للمؤمن أن لا يزهد في القليل من الخير بالفعل والقول، وأن يجتنب الشر قليله وكثيره

      تعليق


      • #33
        رد: تطريز رياض الصالحين

        (باب فضل البكاء من خشية الله تعالى وشوقا إليه)

        قال الله تعالى: {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} [الإسراء (109) ] .
        ----------------
        أي: يزيدهم سماع القرآن إيمانا وخضوعا لله عز وجل




        قال تعالى: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} [مريم (58) ] .
        ----------------
        وفي الحديث: «حرمت النار على ثلاثة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله» .




        قال تعالى: {أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون} [النجم (59، 60) ] .
        ----------------
        يخبر تعالى عن المشركين أنهم ينكرون القرآن، ويستهزؤون به، ولا يبكون، بخلاف المؤمنين، فإنهم إذا سمعوا القرآن زادهم إيمانا واقشعرت جلودهم، ولانت قلوبهم، وبكوا لما فيه من الوعد والوعيد.




        عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اقرأ علي القرآن» قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك، وعليك أنزل؟! قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري» . فقرأت عليه سورة النساء، حتى جئت إلى هذه الآية: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} [النساء (41) ] قال: «حسبك الآن» . فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. متفق عليه.
        ----------------
        قال البخاري: باب البكاء عند القرآن، وأورد الحديث. قال النووي: البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين، وشعار الصالحين. قال الحافظ: بكى - صلى الله عليه وسلم - رحمة لأمته، لأنه علم أنه لا بد أن يشهد عليهم بعملهم، وعملهم قد لا يكون مستقيما فقد يفضي إلى تعذيبهم، والله أعلم. وفي الحديث: استحباب عرض القرآن على الغير، وجواز الأمر بقطع القرآن للمصلحة.




        عن أنس - رضي الله عنه - قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة ما سمعت مثلها قط، فقال: «لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» قال: فغطى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوههم، ولهم خنين. متفق عليه.
        ----------------
        وسبق بيانه في باب الخوف. في هذا الحديث: بيان أن من كان بالله أعرف كان منه أخوف قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر (28) ] .





        عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح) .
        ----------------
        في هذا الحديث: فضل البكاء من خشية الله تعالى، لأن الخشية تحمله على امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، فلا يدخلها بوعده الصادق إلا تحلة القسم.




        عن أبي هريرة - رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» . متفق عليه. ***




        عن عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه - قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء. حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي في الشمائل بإسناد صحيح.
        ----------------
        في هذا الحديث: دليل على كمال خوفه - صلى الله عليه وسلم -، وخشيته لربه، وذلك ناشئ عن عظيم الرهبة والإجلال لله سبحانه وتعالى.





        عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بن كعب - رضي الله عنه - «إن الله - عز وجل - أمرني أن أقرأ عليك: {لم يكن الذين كفروا ... } قال: وسماني لك؟ قال: «نعم» فبكى أبي. متفق عليه.
        ----------------
        وفي رواية: فجعل أبي يبكي. بكاء أبي رضي الله عنه فرحا، وخشوعا، وخوفا من التقصير، واستحقارا لنفسه، قيل: الحكمة في تخصيصها بالذكر لأن فيها {يتلو صحفا مطهرة} ، وفي تخصيص أبي التنويه به في أنه أقرأ الصحابة. وقال ابن كثير: قرأها عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قراءة إبلاغ، وتثبيت، وإنذار، لا قراءة تعلم واستذكار، كما قرأ على عمر بن الخطاب سورة الفتح يوم الحديبية.



        عن أنس - رضي الله عنه قال: قال أبو بكر لعمر، رضي الله عنهما، بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها، فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله تعالى خير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -! قالت: إني لا أبكي أني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء؛ فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها. رواه مسلم
        ----------------
        وقد سبق في باب زيارة أهل الخير. أم أيمن مولاة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي أم أسامة بن زيد. وفي الحديث: جواز البكاء حزنا على فراق الصالحين، وفقد العلم.




        عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: لما اشتد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه، قيل له في الصلاة، فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» . فقالت عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ القرآن غلبه البكاء، فقال: «مروه فليصل» . وفي رواية عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قلت: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء. متفق عليه.
        ----------------
        فيه: دليل على استحباب البكاء عند قراءة القرآن، قال الله تعالى: ... {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون} [الأنفال (2) ] .





        عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: أن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أتي بطعام وكان صائما، فقال: قتل مصعب بن عمير - رضي الله عنه - وهو خير مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة إن غطي بها رأسه بدت رجلاه؛ وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط - أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا - قد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام. رواه البخاري.
        ----------------
        هذا البكاء من مزيد خوفه من الله تعالى، وشدة خشيته، وعدم نظره إلى عمله.




        عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس شيء أحب إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين: قطرة دموع من خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله. وأما الأثران: فأثر في ... سبيل الله تعالى، وأثر في فريضة من فرائض الله تعالى» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن) .
        ----------------
        في هذا الحديث: فضل البكاء من خشية الله، والجهاد في سبيل الله، وكثرة الخطا إلى المساجد.




        عن أبي نجيح العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة» . رواه أبو داود والترمذي، وقال: «حديث حسن صحيح» .
        ----------------
        «النواجذ» بالذال المعجمة: الأنياب، وقيل: الأضراس.



        تعليق


        • #34
          رد: تطريز رياض الصالحين

          باب فضل الزهد في الدنيا




          قال الله تعالى: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون} [يونس (24) ] .
          ----------------
          أصل الزهد الرضا عن الله عز وجل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بم أتاه» . وسئل الزهري عن الزاهد، فقال: من لم يغلب الحرام صبره، ومن لم يشغل الحلال شكره. وهذه الآية مثل ضربه الله تعالى لزينة الدنيا، وسرعة زوالها، وفنائها.








          قال تعالى: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} [الكهف (45، 46) ] .
          ----------------
          قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: المال والبنون حرث الدنيا، والأعمال الصالحات حرث الآخرة، وقد يجمعها الله لأقوام.










          قال تعالى: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} [الحديد (20) ] .
          ----------------
          الكفار أشد إعجابا بزهرة الدنيا، وأما المؤمن فإذا رأى معجبا انتقل فكره إلى قدره الله، وعلم أنه زائل، وقال: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} .










          قال تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} [آل عمران (185) ]
          ----------------
          أي: كمتاع يدلس به على المستام فيغر ويشتريه، فمن اغتر بها وآثرها فهو مغرور.










          قال تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} [آل عمران (14) ]
          ----------------
          في هذه الآية تزهيد في الدنيا، وترغيب في الآخرة.










          قال تعالى: {يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} [فاطر (5) ] .
          ----------------
          أي: لا يذهلكم التمتع بالدنيا عن طلب الآخرة، والسعي لها، ولا يغرنكم الشيطان بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية.









          قال الله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا} [الأعراف (169) . ***








          قال تعالى: {ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون * كلا لو تعلمون علم اليقين} [التكاثر (1: 5) ] .
          ----------------
          أي: لو تعلمون علما يقينا لما ألهاكم شيء عن طلب الآخرة، حتى صرتم إلى المقابر.









          قال تعالى: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} [العنكبوت (64) ] .
          ----------------
          أي: لو كانوا يعلمون لم يؤثروا الدنيا على الآخرة، التي هي الحياة الحقيقة الدائمة، فإن الدنيا سريعة الزوال، ونعيمها لهو ولعب، كما يبتهج به الصبيان ساعة، ثم يتفرقون عنه لاغيين متعبين.







          عن عمرو بن عوف الأنصاري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، انصرف، فتعرضوا له، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآهم، ثم قال: «أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟» فقالوا: أجل، يا رسول الله، فقال: «أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم» . متفق عليه.
          ----------------
          بلاد البحرين: بين البصرة وهجر، وسميت (البحرين) ، لاجتماع البحر العذب والملح فيها، فإن الماء العذب تحت البحر، فإذا حفر الحاجز بينهما نبع العذب وارتفع. قوله: فتنافسوها كما تنافسوها. التنافس أول درجات الحسد. وفي رواية عند مسلم: «تنافسون ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون» . قال ابن بطال: فيه: أن زهرة الدنيا ينبغي لمن فتحت عليه أن يحذر من سوء عاقبتها وشر فتنتها.










          عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: «إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها» . متفق عليه.
          ----------------
          زهرة الدنيا: زينتها وبهجتها. قال تعالى: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} [طه (131) ] .









          عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله تعالى مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء» . رواه مسلم.
          ----------------
          قوله: «خضرة حلوة» ، أي: جامعة بين الوصفين المحبوبين للبصر والذوق، كالفاكهة. وفي الحديث: التحذير من فتنة المال، وفتنة النساء.









          عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة» . متفق عليه.
          ----------------
          هذا الكلام قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في أشد أحواله، لما رأى تعب أصحابه في حفر الخندق، وقاله في أسر الأحوال أيضا لما رأى كثرة المؤمنين في يوم عرفة، لبيك إن العيش عيش الآخر، أي الحياة الدائمة التي لا حزن فيها ولا تعب.









          عن أنس - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله: فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد: يرجع أهله وماله ويبقى ... عمله» . متفق عليه.
          ----------------
          الغالب أن المرء إذا مات تبعه أهله، وما احتيج إليه من ماله في تجهيزه، وإذا دفن رجعوا ودخل عمله معه في قبره، كما في حديث البراء. «ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح» . الحديث.









          عن أنس - رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط» . رواه مسلم.
          ----------------
          فيه: أن عذاب الآخرة ينسي نعيم الدنيا، وأن نعيم الآخرة ينسي شدة الدنيا. قال الله تعالى: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون} [المؤمنون (112: 114) ] . وقال تعالى: {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب} [فاطر (34، 35) ]









          عن المستورد بن شداد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع!» . رواه مسلم.
          ----------------
          مثل - صلى الله عليه وسلم - زمان الدنيا في جانب زمان الآخرة، ونعيمها بنسبة الماء الملاصق بالأصبع إلى البحر، قال الله تعالى: {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} [التوبة (38) ] .










          عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بالسوق والناس كنفتيه، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: «أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟» فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ ثم قال: «أتحبون أنه لكم؟» قالوا: والله لو كان حيا كان عيبا، أنه أسك فكيف وهو ميت! فقال: «فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم» . رواه مسلم.
          ----------------
          قوله: «كنفتيه» أي: عن جانبيه. و «الأسك» : الصغير الأذن. فيه: أن الدنيا عند الله أذل وأحقر من التيس الصغير الأصمع الميت عند الناس، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله، وما والاه وعالما ومتعلما» .










          عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حرة ... بالمدينة فاستقبلنا أحد، فقال: «يا أبا ذر» قلت: لبيك يا رسول الله. فقال: «ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا تمضي علي ثلاثة أيام وعندي منه دينار، إلا شيء أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا» عن يمينه وعن شماله وعن خلفه، ثم سار، فقال: «إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا» عن يمينه وعن شماله ومن خلفه «وقليل ما هم» . ثم قال لي: «مكانك لا تبرح حتى آتيك» ثم انطلق في سواد الليل حتى توارى، فسمعت صوتا، قد ارتفع، فتخوفت أن يكون أحد عرض للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فأردت أن آتيه فذكرت قوله: «لا تبرح حتى آتيك» فلم أبرح حتى أتاني، فقلت: لقد سمعت صوتا تخوفت منه، فذكرت له، فقال: «وهل سمعته؟» قلت: نعم، قال: «ذاك جبريل أتاني. فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة» ، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق» . متفق عليه، وهذا لفظ البخاري.
          ----------------
          اشتمل هذا الحديث: على فوائد كثيرة، وقواعد عظيمة. وفيه: البشارة بعدم خلود المسلم في النار وإن عمل الكبائر، فإن تاب منها في الدنيا لم يدخل النار إلا تحلة القسم، وإن لم يتب فأمره إلى الله إن شاء غفر له وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه. قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا} [النساء (116) ] .




          عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو كان لي مثل أحد ذهبا، لسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين» . متفق عليه. ***








          عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» . متفق عليه
          ----------------
          وهذا لفظ مسلم. وفي رواية البخاري: «إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه» . هذا الحديث: جامع لمعاني الخير. وفيه: دواء كل داء من الحسد وغيره. وفي الحديث الآخر: «رحم الله عبدا نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله وشكره، وفي دينه إلى من هو فوقه، فجد واجتهد» . وعن عمرو بن شعيب مرفوعا: «خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرا صابرا: من نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به، ومن نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، وأما من نظر في دنياه إلى من هو فوقه وآسف على ما فاته، فإنه لا يكتب شاكرا ولا صابرا» . قال بعض السلف: صاحبت الأغنياء فكنت لا أزال في حزن، فصحبت الفقراء فاسترحت. وفي حديث مرفوع: «أقلوا الدخول على الأغنياء، فإنه أحرى أن لا تزدروا نعمة الله» .










          عن أبي هريرة - رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض» . رواه البخاري.
          ----------------
          في هذا الحديث: ذم الحرص على الدنيا، حتى يكون عبدا لها، رضاه وسخطه لأجلها.






          عن أبي هريرة - رضي الله عنه قال: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة، ما منهم رجل عليه رداء: إما إزار، وإما كساء، قد ربطوها في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. رواه البخاري.
          ----------------
          في هذا الحديث: أن الدنيا لو كانت مكرمة عند الله، لخص أصفياءه بها، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب.







          عن أبي هريرة - رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر» . رواه مسلم.
          ----------------
          معنى ذلك: أن الدنيا سجن المؤمن بالنسبة إلى ما أعد له من النعيم، وجنة الكافر بالنسبة إلى ما أعد له من العذاب وأيضا فإن المؤمن ممنوع من الشهوات المحرمة، والكافر منهمك فيها، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» . وعن أبي سهل الصعلوكي الفقيه، وكان ممن جمع رياسة الدين والدنيا، أنه كان في بعض مواكبه إذ خرج عليه يهودي، بثياب دنسة، فقال: ألستم تزعمون أن نبيكم قال: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» . وأنا كافر وترى حالي، وأنت مؤمن وترى حالك، فقال له: إذا صرت غدا إلى عذاب الله كانت هذه جنتك، وإذا صرت أنا إلى النعيم، ورضوان الله صار هذا سجني، فعجب الناس من فهمه وسرعة جوابه.









          عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي، فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل» . وكان ابن عمر رضي الله عنهما، يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. رواه البخاري.
          ----------------
          قالوا في شرح هذا الحديث معناه: لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنا، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله، وبالله التوفيق. في هذا الحديث: الحض على تقصير الأمل، والمبادرة إلى العمل، وترك التراخي والكسل. في الحديث الآخر: «اغتنم خمسا فبل خمس شبابك قبل هرمك، وفراغك قبل شغلك وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك.









          عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس» . حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة.
          ----------------
          اشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين فإذا عمل بهما أحبه الله وأحبه الناس. والزهد: هو القناعة بما أعطاك الله، والتعفف عن أموال الناس، وكان عمر يقول على المنبر: إن الطمع فقر وإن اليأس غنى. وقال أيوب السختياني: لا يقبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان، العفة عما في أي الناس، والتجاوز عما يكون منهم. وفي الحديث المرفوع: «حب الدنيا رأس كل خطيئة» . وقال الشافعي رحمه الله تعالى: وما هي إلا جيفة مستحيلة ... ?? ... عليها كلاب همهن اجتذابها ... ??? فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها ... ?? ... وإن تجتذبها نازعتك كلابها ... ??







          عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: ذكر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه. رواه مسلم.
          ----------------
          «الدقل» بفتح الدال المهملة والقاف: رديء التمر. فيه: زهده - صلى الله عليه وسلم - وصبره، وحقارة الدنيا عنده، فإن الله تعالى خيره في أن يكون ملكا نبيا أو عبدا نبيا فاختار أن يكون عبدا، وقال: «يا رب، أجوع يوما وأشبع يوما، فإذا جعت سألتك، وإذا شبعت شكرتك» .









          عن عائشة رضي الله عنها، قالت: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه حتى طال علي، فكلته ففني. متفق عليه.
          ----------------
          قولها: «شطر شعير» أي: شيء من شعير،، كذا فسره الترمذي. في هذا الحديث: إعراضه - صلى الله عليه وسلم - عن الدنيا، وعدم النظر إليها. وفيه: استحباب عدم كيل القوت توكلا على الله، وثقة به فإن تكثير الطعام القليل من أسرار الله الخفية، ولا يخالف هذا الحديث: «كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه» . قال الحافظ: الكيل عند المبايعة محبوب من أجل تعلق حق المتبايعين وأما الكيل عند الإنفاق فالباعث عليه الشح؛ فلذا كره.









          عن عمرو بن الحارث أخي جويرية بنت الحارث أم المؤمنين، رضي الله عنهما، قال: ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا أمة، ولا شيئا إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه، وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة. رواه البخاري.
          ----------------
          فيه: أن الإماء والعبيد الذين ملكهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته لم يبقوا على ملكه بعد وفاته، فمنهم من أعتقه، ومنهم من مات قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - وقد قال ... النبي - صلى الله عليه وسلم - «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» .









          عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: هاجرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نلتمس وجه الله تعالى، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئا، منهم: مصعب بن عمير - رضي الله عنه -، قتل يوم أحد، وترك نمرة، فكنا إذا غطينا بها رأسه، بدت رجلاه، وإذا غطينا بها رجليه، بدا رأسه ، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه شيئا من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهدبها. متفق عليه.
          ----------------
          «النمرة» : كساء ملون من صوف. وقوله: «أينعت» أي: نضجت وأدركت. وقوله: «يهدبها» هو بفتح الياء وضم الدال وكسرها لغتان: أي: يقطفها ويجتنيها، وهذه استعارة لما فتح الله تعالى عليهم من الدنيا وتمكنوا فيها. في هذا الحديث: ما كان عليه السلف من الصدق في وصف أحوالهم. وفيه: أن الصبر على مكابدة الفقر وصعوبته من منازل الأبرار. وفيه: أن الكفن يكون ساترا لجميع البدن.









          عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرا منها شربة ماء» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح) .
          ----------------
          فيه: حقارة الدنيا عند الله تعالى، ولهذا ملكها تعالى في الغالب للكفار والفساق لهوانهم عليه، وحمى منها في الغالب الأنبياء والصالحين لئلا تدنسهم.







          عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله تعالى، وما والاه، وعالما ومتعلما» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن) .
          ----------------
          فيه: ذم ما أشغل من الدنيا عن ذكر الله وطاعته، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} [المنافقون (9) ] ، وأما ما أعان على طاعة الله من الدنيا فليس بمذموم، قال تعالى: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} [النور (37) ] ، وفي حديث مرفوع: «لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر» .









          عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن) .
          ----------------
          الضيعة: العقار الذي يحتاج إلى عمل، والمراد لا تتوغلوا في ذلك فترغبوا عن صلاح آخرتكم وتشتغلوا في طلب الدنيا فلا تشبعوا منها







          عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: مر علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نعالج خصا لنا، فقال: «ما هذا؟» فقلنا: قد وهى، فنحن نصلحه، فقال: «ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك» . رواه أبو داود والترمذي بإسناد البخاري ومسلم، وقال الترمذي: ... (حديث حسن صحيح) .
          ----------------
          الخص: بيت يعمل من القصب ونحوه. وفيه: شاهد لحديث ابن عمر: «إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح» .









          عن كعب بن عياض - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي: المال» . رواه الترمذي، وقال: ... (حديث حسن صحيح) .
          ----------------
          قوله: «فتنة» ، أي: ابتلاء واختبار. قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء (35) ] ، وقال تعالى: {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم} [الأنفال (28) ] .

          أ









          عن عبد الله بن الشخير - بكسر الشين والخاء المشددة المعجمتين - رضي الله عنه -، أنه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يقرأ: {ألهاكم التكاثر} قال: «يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» ؟! . رواه مسلم.
          ----------------
          أي ليس لك من مالك إلا ما انتفعت به في دنياك، بأكل أو لبس أو ادخرته لآخرتك، وما سوى ذلك فهو لورثتك. قال بعض السلف: اجعل ما عندك ذخيرة لك عند الله، واجعل الله ذخيرة لأولادك.







          عن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، والله إني لأحبك، فقال له: «انظر ماذا تقول؟» قال: والله إني لأحبك، ثلاث مرات، فقال: «إن كنت تحبني فأعد للفقر تجفافا، فإن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن) .
          ----------------
          «التجفاف» بكسر التاء المثناة فوق وإسكان الجيم وبالفاء المكررة: وهو شيء يلبسه الفرس، ليتقى به الأذى، وقد يلبسه الإنسان. لما كان - صلى الله عليه وسلم - أزهد الناس في الدنيا، كان المحب التابع له متصف بذلك لقوة الرغبة، وصدق المحبة فالمرء مع من أحب، ومولى قوم منهم في العسر واليسر فمن أحب أن يكون معهم في نعيم الآخرة فليصبر كما صبروا في الدنيا. قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} [آل عمران (142) ] .









          عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح) .
          ----------------
          فيه: الحذر من الحرص على المال والشرف، فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة، ورزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها» .









          عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء. فقال: «ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح) .
          ----------------
          فيه: الإرشاد إلى ترك الاهتمام بعمارة الدنيا، والحث على الاعتناء بعمارة منازل الآخرة، وأن الدنيا دار عبور إلى دار الحبور.









          عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمئة عام» . رواه الترمذي، وقال: «حديث صحيح» .
          ----------------
          فيه: فضل الفقير الصابر على الغني الشاكر، لأن الأغنياء يحبسون للحساب.









          عن ابن عباس وعمران بن الحصين - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ... «اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء» . متفق عليه من رواية ابن عباس
          ----------------
          ، ورواه البخاري أيضا من رواية عمران بن الحصين. فيه: التحريض على ترك التوسع في الدنيا. وفيه: التحريض للنساء على المحافظة على أمر الدين ليسلمن من النار.








          عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار» . متفق عليه.
          ----------------
          و «الجد» : الحظ والغنى. وقد سبق بيان هذا الحديث في باب فضل الضعفة. أصحاب النار هنا: هم الخالدون فيها، وهم الكفار، قال الله تعالى: {لا يصلاها إلا الأشقى} [الليل (15) ] ، وقال تعالى: {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها} [الزمر (71) ] ، وقال تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام} [الرحمن (55) ] .









          عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل» . متفق عليه.
          ----------------
          يشهد لهذا البيت قوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص (88) ] ، كان لبيد من فحول شعراء الجاهلية، وهو من هوازان، وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، وحسن إسلامه، وكان من المعمرين، عاش فوق مئة سنة، وكان شريفا في الجاهلية والإسلام، ولم يقل شعرا بعد إسلامه، وكان يقول: أبدلني الله به القرآن إلا بيتا واحدا: ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... ?? ... والمرء يصلحه القرين الصالح ... ??? قال الشافعي: ولولا الشعر بالعلماء يزري ... ?? ... لكنت اليوم أشعر من لبيد ... ???






          تعليق


          • #35
            رد: تطريز رياض الصالحين

            باب فضل الجوع وخشونة العيش



            قال الله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا * إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا} [مريم (59، 60) ] .
            ----------------
            أي: خلف من بعد الذين أثنى الله عليهم من الأنبياء والصالحين، خلف سوء، أضاعوا الصلاة بتركها أو تأخيرها عن وقتها: {واتبعوا الشهوات} مالوا إلى زخارف الدنيا {فسوف يلقون غيا} شرا وخسرانا.




            قال تعالى: {فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا} [القصص (79: 80) ] .
            ----------------
            قيل: إن قارون خرج على بغلة شهباء عليه الأرجوان، وعليها سرج من ذهب، ومعه أربعة آلاف على زيه؟




            قال تعالى: {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} [التكاثر (8) ] .
            ----------------
            أي: إذا ألهاكم عن الشكر. وعن زيد بن أسلم مرفوعا: {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} يعني: شبع البطون، وبارد الشراب، وظلال المساكن، واعتدال الخلق، ولذة النوم.



            وقال تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا} [الإسراء (18) ]
            ----------------
            أي: من كانت همته مقصورة على الدنيا عجلنا له فيها ما نشاء من البسط، والتقتير، لمن يريد أن نفعل به ذلك، ثم جعلنا له في الآخرة جهنم يصلاها مذموما، مدحورا، مطرودا، مبعدا. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له» . رواه أحمد.



            قال تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} [الشورى (20) ] ***



            قال تعالى: {وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون} [القصص (60) ] ***



            عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض. متفق عليه.
            ----------------
            وفي رواية: ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعا حتى قبض. فيه: إعراضه - صلى الله عليه وسلم - عن الدنيا، وزهده فيها. وفيه: تحريض لأمته على الزهد فيها، والإعراض عما زاد على الحاجة منها، ولا منافاة فيه وبين حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - يدخر لأهله قوت سنة، لأنه كان يفعل ذلك في آخر حياته، فيخرجه في الحوائج تعرض عليه.



            عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت تقول: والله، يا ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال: ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نار قط. قلت: يا خالة، فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح وكانوا يرسلون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ألبانها فيسقينا. متفق عليه.
            ----------------
            قال الحافظ: وفي هذا الحديث ما كان فيه الصحابة من التقلل من الدنيا في أول الأمر. وفيه: فضل الزهد، وإيثار الواجد للمعدوم، والاشتراك فيما في الأيدي. وفيه: جواز ذكر المرء ما كان فيه من الضيق بعد أن يوسع الله عليه، تذكيرا بنعمته وليتأس به غيره.



            عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية، فدعوه فأبى أن يأكل. وقال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير. رواه البخاري.
            ----------------
            «مصلية» بفتح الميم: أي مشوية. فيه: أن من شأن المحب أن يتبع آثار محبوبه، ويأتم بها.


            عن أنس - رضي الله عنه - قال: لم يأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - على خوان حتى مات، وما أكل خبزا مرققا حتى مات. رواه البخاري.
            ----------------
            وفي رواية له: ولا رأى شاة سميطا بعينه قط. الخوان: ما يؤكل عليه الطعام بدون أن يخفض الآكل رأسه، وهو بدعة جائزة. والخبز المرقق: هو الأرغفة الواسعة الرقيقة. والسميط: ما أزيل شعره وشوي بجلده. وقط: ظرف لما مضى من الزمان مبني على الضم.



            عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: لقد رأيت نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه. رواه مسلم.
            ----------------
            «الدقل» : تمر رديء. قوله: (لقد رأيت نبيكم) ، فيه: حث المخاطبين على الاقتداء به، والإعراض عن الدنيا مهما أمكن.



            عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: ما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النقي من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه الله تعالى. فقيل له: هل كان لكم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مناخل؟ قال: ما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منخلا من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه الله تعالى، فقيل له: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قال: كنا نطحنه وننفخه، فيطير ما طار، وما بقي ثريناه. رواه البخاري.
            ----------------
            قوله: «النقي» هو بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء: وهو الخبز الحوارى، وهو: الدرمك. قوله: «ثريناه» هو بثاء مثلثة، ثم راء مشددة، ثم ياء مثناة من تحت ثم نون، أي: بللناه وعجناه. قال في القاموس: والحواري بضم الحاء وتشديد الواو، وفتح الراء: الدقيق الأبيض، وهو لباب الدقيق، وكل ما حور، أي: بيض من طعام.



            عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم أو ... ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: «ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟» قالا: الجوع يا رسول الله. قال: «وأنا، والذي نفسي بيده، لأخرجني الذي أخرجكما، قوما» فقاما معه، فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة، قالت: مرحبا وأهلا. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أين فلان؟» قالت: ذهب يستعذب لنا الماء. إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني، فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا، وأخذ المدية، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إياك والحلوب» فذبح لهم، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا. فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: «والذي نفسي بيده، لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم» . رواه مسلم.
            ----------------
            قولها: «يستعذب» أي: يطلب الماء العذب، وهو الطيب. و «العذق» بكسر العين وإسكان الذال المعجمة: وهو الكباسة، وهي الغصن. و «المدية» بضم الميم وكسرها: هي السكين. و «الحلوب» : ذات اللبن. والسؤال عن هذا النعيم سؤال تعديد النعم لا سؤال توبيخ وتعذيب، والله أعلم. وهذا الأنصاري الذي أتوه هو، أبو الهيثم بن التيهان، كذا جاء مبينا في رواية الترمذي وغيره. في هذا الحديث: فوائد كثيرة منها: جواز الضيافة للمقيم إذا احتاج إليها، وجواز ترحيب المرأة بالضيفان، وإنزال الناس منازلهم، واستحباب ترك ذبح الحلوب إذا وجد غيرها، والنهي عن ذبحها نهي إرشاد لا كراهة فيه. وعن ابن عباس مرفوعا: «إذا أصبتم مثل هذا، فضربتم بأيديكم فقولوا: بسم الله وببركة الله، وإذا شبعتم فقولوا: الحمد لله الذي أشبعنا، وأروانا، وأنعم علينا، وأفضل، فإن هذا كفاف هذا. قال ابن القيم: كل أحد يسأل عن تنعمه الذي كان فيه، هل ناله من حل أو لا؟ وإذا خلص من ذلك يسأل هل قام بواجب الشكر فاستعان به على الطاعة أو لا؟



            عن خالد بن عمير العدوي، قال: خطبنا عتبة بن غزوان، وكان أميرا على البصرة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاما، لا يدرك لها قعرا، والله لتملأن أفعجبتم؟! ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاما، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام، ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميرا على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما، وعند الله صغيرا. رواه مسلم.
            ----------------
            قوله: «آذنت» هو بمد الألف وذال معجمة غير مشددة، أي: أعلمت. وقوله: «بصرم» هو بضم الصاد، أي: بانقطاعها وفنائها. ... وقوله: «وولت حذاء» هو بحاء مهملة مفتوحة، ثم ذال معجمة مشددة، ثم ألف ممدودة، أي: سريعة. و «الصبابة» بضم الصاد المهملة وهي: البقية اليسيرة. وقوله: «يتصابها» هو بتشديد الباء قبل الهاء، أي: يجمعها. و «الكظيظ» : الكثير الممتلىء. وقوله: «قرحت» هو بفتح القاف وكسر الراء، أي صار فيها قروح. في هذا الحديث: فوائد كثيرة، من الترغيب والترهيب، والوعظ والتذكير، وعمق النار، وسعة الجنة وغير ذلك.



            عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: أخرجت لنا عائشة رضي الله عنها كساء وإزارا غليظا، قالت: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذين. متفق عليه.
            ----------------
            فيه: إعراضه - صلى الله عليه وسلم - عن الدنيا، واكتفاؤه بما تيسر من اللباس. وفيه: تهييج للمتبعين سبيله على ذلك.



            عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: إني لأول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لنا طعام إلا ورق الحبلة، وهذا السمر، حتى إن كان أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط. متفق عليه.
            ----------------
            «الحبلة» بضم الحاء المهملة وإسكان الباء الموحدة: وهي والسمر، نوعان معروفان من شجر البادية. قوله: «إلا ورق الحبلة وهذا السمر» في رواية للبخاري: «إلا الحبلة وورق السمر» : وهذه الغزوة تسمى غزوة الخبط. وفيه: ما كان الصحابة عليه من الضيق في أول الإسلام امتحانا ليظهر صدقهم، قال الله تعالى: {آلم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} [العنكبوت (1: 3) ] . قال الشاعر: لولا اشتعال النار في جزل الفضاء ... ?? ... ما كان يعرف طيب نشر العود ... ???



            عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا» . متفق عليه.
            ----------------
            قال أهل اللغة والغريب: معنى «قوتا» أي: ما يسد الرمق. معنى الحديث: طلب الكفاف، فإن القوت ما يقوت البدن، ويكف عن الحاجة، وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر.



            عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: والله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع. ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر بي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتبسم حين رآني، وعرف ما في وجهي وما في نفسي، ثم قال: «أبا هر» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «الحق» ومضى فاتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي فدخل، فوجد لبنا في قدح، فقال: «من أين هذا اللبن؟» قالوا: أهداه لك فلان - أو فلانة - قال: «أبا هر» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي» قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، وكان إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم، وأصاب منها، وأشركهم فيها. فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة! كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاءوا وأمرني فكنت أنا أعطيهم؛ وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن. ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بد، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا واستأذنوا، فأذن ... لهم وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: «أبا هر» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «خذ فأعطهم» قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم، فقال: «أبا هر» . قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «بقيت أنا وأنت» قلت: صدقت يا رسول الله، قال: «اقعد فاشرب» فقعدت فشربت، فقال «اشرب» فشربت، فما زال يقول: «اشرب» حتى قلت: لا، والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا! قال: «فأرني» فأعطيته القدح، فحمد الله، وسمى وشرب الفضلة. رواه البخاري.
            ----------------
            في هذا الحديث من الفوائد: استحباب الشرب من قعود. وفيه: معجزة عظيمة من علامات النبوة. وفيه: جواز الشبع. وفيه: أن كتمان الحاجة والتلويح بها أولى من إظهارها. وفيه: كرم النبي - صلى الله عليه وسلم - وإيثاره على نفسه، وأن ساقي القوم آخرهم شربا. وفيه: استحباب الحمد على النعم والتسمية عند الشرب.


            عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حجرة عائشة رضي الله عنها مغشيا علي، فيجيء الجائي، فيضع رجله على عنقي، ويرى أني مجنون وما بي من جنون، ما بي إلا الجوع. رواه البخاري.
            ----------------
            في هذا الحديث: صبر الصحابة رضي الله عنهم على الفقر والجوع تتميما لهجرتهم إلى الله ورسوله. وفيه: ثباتهم على دينهم بخلاف من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه.



            عن عائشة رضي الله عنها، قالت: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير. متفق عليه.
            ----------------
            قال العلماء: الحكمة في عدوله - صلى الله عليه وسلم - عن معاملة مياسير الصحابة إلى معاملة اليهود، إما لبيان الجواز، أو لأنهم لم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل عن حاجتهم، أو خشي أنهم لا يأخذون ثمنا فلم يرد التضييق عليهم. وذكر ابن الطلاع: أن أبا بكر إفتك الدرع بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -.


            عن أنس - رضي الله عنه - قال: رهن النبي - صلى الله عليه وسلم - درعه بشعير، ومشيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبز شعير وإهالة سنخة، ولقد سمعته يقول: «ما أصبح لآل محمد صاع ولا أمسى» وإنهم لتسعة أبيات. رواه البخاري.
            ----------------
            «الإهالة» بكسر الهمزة: الشحم الذائب. و «السنخة» بالنون والخاء المعجمة: وهي المتغيرة. فيه: إعراضه - صلى الله عليه وسلم - عن المشتهيات، واجتزاؤه بما يسد الحاجة من القوت. وفيه: تسلية لذوي الفقر والحاجة من أمته. قوله: وإنهم لتسعة أبيات. قال الحافظ: ومناسبة ذكر أنس لهذا القدر مع ما قبله، الإشارة إلى سبب قوله - صلى الله عليه وسلم - هذا، وأنه لم يقله متضجرا، ولا شاكيا، وإنما قاله معتذرا عن إجابة دعوى اليهودي، ولرهنه درعه. وفي الحديث: جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين المتعامل فيه، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم. واستنبط منه جواز معاملة من أكثر ماله حرام. وفيه: جواز بيع السلاح، ورهنه، وإجازته، وغير ذلك من الكافر ما لم يكن حربيا. وفيه: ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من التواضع، والزهد في الدنيا، والتقلل منها مع قدرته عليها، والكرم الذي أفضى به إلى عدم الادخار، والصبر على ضيق العيش. وفيه: فضيلة لأزواجه وصبرهن معه على ذلك.


            عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم منها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. رواه البخاري.
            ----------------
            فيه: فضيلة الصحابة رضي الله عنهم، وصبرهم على الفقر، وضيق الحال، والاجتزاء من اللباس على ما يستر العورة، وقد أثابهم الله على ذلك فاستخلفهم في الأرض، ومكن لهم دينهم وبدلهم من بعد فقرهم غنى، ومن بعد خوفهم أمنا مع ما أعد الله لهم في الآخرة من الثواب في الجنة.



            عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أدم حشوه من ليف. رواه البخاري.
            ----------------
            فيه: عدم مبالاته - صلى الله عليه وسلم - بمستلذات الدنيا، كما قال: «ما لي وللدنيا، إنما مثلي في الدنيا كراكب قال في ظل دوحة، ثم راح، وتركها» .



            عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كنا جلوسا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء رجل من الأنصار، فسلم عليه، ثم أدبر الأنصاري، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أخا الأنصار، كيف أخي سعد بن عبادة؟» فقال: صالح، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يعوده منكم؟» فقام وقمنا معه، ونحن بضعة عشر، ما علينا نعال، ولا خفاف، ولا قلانس، ولا قمص، نمشي في تلك السباخ، حتى جئناه، فاستأخر قومه من حوله حتى دنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين معه. رواه مسلم.
            ----------------
            فيه: تواضعه - صلى الله عليه وسلم - واستحباب السؤال عن المريض وعيادته. وفيه: دلالة على الاقتصار على قليل الملبوس. وفيه: إكرام الوفد، وإنزال الناس منازلهم.



            عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» قال عمران: فما أدري قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين أو ثلاثا «ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن» . متفق عليه.
            ----------------
            القرن: أهل زمان واحد متقارب، وقرنه - صلى الله عليه وسلم - هم أصحابه، ثم قرن التابعين، ثم أتباع التابعين، ثم فشت البدع، وامتحن أهل العلم، ورفعت الفلاسفة رؤوسها، وكثرة شهادة الزور، والخيانة، واتباع الشهوات، ولا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه.

            تعليق


            • #36
              رد: تطريز رياض الصالحين

              باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق


              قال الله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} [هود (6) ] .
              ----------------
              أي: هو المتكفل بأرزاق المخلوقات في البر والبحر. قال مجاهد: ما جاءها من رزق فمن الله عز وجل.





              قال تعالى: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا} [البقرة (273) ] .
              ----------------
              أي: الأولى بالصدقات الفقراء المقيمون على طاعة الله، المتعففون عن السؤال. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.





              قال تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} [الفرقان (67) ] .
              ----------------
              أي: الإنفاق بين الإسراف والإقتار هو القوام الذي تقوم به معيشة الإنسان بحسب حاله، وخير الأمور أوساطها.





              قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} [الذاريات (56، 57) ] .
              ----------------
              أي: ما خلق الله الجن والإنس إلا لأجل عبادته وحده، لا شريك له، وليس محتاجا إليهم كما يحتاج السادة إلى عبيدهم، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله تعالى: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل، ملأت صدرك شغلا، ولم أسد فقرك» . رواه أحمد. وفي بعض الكتب الإلهية: ابن آدم خلقتك لعبادتي، فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل خير، وإن فتك فاتك كل خير، وأنا أحب إليك من كل شيء» .





              عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» . متفق عليه.
              ----------------
              «العرض» بفتح العين والراء: هو المال. أي: ليس حقيقة الغنى كثرة المال مع الحرص، وإنما الغني من استغنى بما آتاه الله، وقنع به، وإنما كان الممدوح غنى النفس، لأنها حينئذ تكف عن بث المطامع فتعز. وقال الشاعر: ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... ?? ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر ... ??? وقال بعض العارفين: رضينا بقسمة الجبار فينا ... ?? ... لنا علم وللجهل مال ... ???? فإن المال يفنى عن قريب ... ??? ... وإن العلم كنز لا يزال ... ??





              عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه» . رواه مسلم.
              ----------------
              الكفاف: ما كف عن السؤال مع القناعة. وفي الحديث: شرف هذه الحال على الفقر المسهي، والغنى المطغي.





              عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: «يا حكيم، إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى» . قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر - رضي الله عنه - يدعو حكيما ليعطيه العطاء، فيأبى أن يقبل منه شيئا، ثم إن عمر - رضي الله عنه - دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله. فقال: يا معشر المسلمين، أشهدكم على حكيم أني أعرض عليه حقه الذي قسمه الله له في هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى توفي. متفق عليه.
              ----------------
              «يرزأ» براء ثم زاي ثم همزة؛ أي: لم يأخذ من أحد شيئا، وأصل الرزء: النقصان، أي: لم ينقص أحدا شيئا بالأخذ منه، و «إشراف النفس» : تطلعها وطمعها بالشيء. و «سخاوة النفس» : هي عدم الإشراف إلى الشيء، والطمع فيه، والمبالاة به والشره. قال الحافظ: إنما امتنع حكيم من أخذ العطاء، مع أنه حقه، لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئا، فيعتاد الأخذ فيتجاوز به إلى ما لا يريده ففطمها عن ذلك وترك ما لا يريبه خوف ما يريبه.




              عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا ونقبت قدمي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق، قال أبو بردة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث، ثم كره ذلك، وقال: ما كنت أصنع بأن أذكره! قال: كأنه كره أن يكون شيئا من عمله أفشاه. متفق عليه.
              ----------------
              في هذا الحديث: ما كان فيه الصحابة رضي الله عنهم من الشدة والضيق، فصبروا حتى كانت العقبى الطيبة لهم في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا ... يوقنون} [السجدة (24) ] . وفيه: كراهية إفشاء العمل الصالح إلا إذا ترتب على ذلك مصلحة.




              عن عمرو بن تغلب - بفتح التاء المثناة فوق وإسكان الغين المعجمة وكسر اللام - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بمال أو سبي فقسمه، فأعطى رجالا، وترك رجالا، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله، ثم أثنى عليه، ثم قال: «أما بعد، فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني إنما أعطي أقواما لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب» قال عمرو بن تغلب: فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمر النعم. رواه البخاري.
              ----------------
              «الهلع» : هو أشد الجزع، وقيل: الضجر. في هذا الحديث: ائتلاف من يخشى جزعه، أو يرجى بسبب إعطائه طاعة من يتبعه. وفيه: أن الرزق في الدنيا ليس على قدر درجة المرزوق في الآخرة. وفيه: أن الناس جبلوا على حب العطاء، وبغض المنع، والإسراع إلى إنكار ذلك قبل الفكرة في عاقبته، إلا من شاء الله. وفيه: أن المنع قد يكون خيرا للمنوع، كما قال تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم} [البقرة (216) ] . وفيه: الاعتذار إلى من ظن ظنا والأمر بخلافه.





              عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله» . متفق عليه. وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم أخصر.
              ----------------
              اليد العليا: المنفقة؛ والسفلى: السائلة، ومعنى: خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» ، أي: أفضلها ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال، ومن يستعفف عن سؤال الناس «يعفه الله» ، أي: يرزقه العفة، ومن يستغن ولا يسأل الناس يغنه الله.





              عن أبي عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا، فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا له كاره، فيبارك له فيما أعطيته» . رواه مسلم.
              ----------------
              فيه: النهي عن الإلحاح في السؤال، وأنه لا يبارك له فيما أعطي، وقد قال الله تعالى مادحا أقواما لتعففهم: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا} [البقرة (273) ] .





              عن أبي عبد الرحمن عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: «ألا تبايعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» وكنا حديثي عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: «ألا تبايعون رسول الله» فبسطنا أيدينا، وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك؟ قال: «على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس وتطيعوا الله» وأسر كلمة خفيفة «ولا تسألوا الناس شيئا» . فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه. رواه مسلم.
              ----------------
              فيه: الحث على مكارم الأخلاق، والترفع عن تحمل منن الخلق، وتعظيم الصبر على مضض الحاجات، والاستغناء عن الناس، وعزة النفس. وفيه: التمسك بالعموم لأنهم نهوا عن سؤال الناس أموالهم، فحملوه على عمومه. وفيه: التنزه عن جميع ما يسمى سؤالا وإن كان حقيرا.




              عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم» . متفق عليه.
              ----------------
              «المزعة» بضم الميم وإسكان الزاي وبالعين المهملة: القطعة. فيه: النهي عن السؤال من غير ضرورة، وأنه يحشر يوم القيامة ووجهه عظم لا لحم عليه.





              عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو على المنبر، وذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: «اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة» . متفق عليه.
              ----------------
              قال الحافظ: وللطبراني بإسناد صحيح عن حكيم بن حزام مرفوعا: «يد الله فوق يد المعطي، ويد المعطي فوق يد المعطى، ويد المعطى أسفل الأيدي» .





              عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا؛ فليستقل أو ليستكثر» . رواه مسلم.
              ----------------
              فيه: تحريم السؤال من غير حاجة ظاهرة، وأنه كلما كثر سؤاله كثر عذابه.





              عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر لا بد منه» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح) .
              ----------------
              «الكد» : الخدش ونحوه. فيه: قبح السؤال، ورخص في سؤال السلطان، لأن للسائل في بيت المال حق وكذلك السؤال للضرورة.





              عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» . رواه أبو داود والترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح غريب) .
              ----------------
              «يوشك» بكسر الشين: أي يسرع. قال وهب بن منبه لرجل يأتي الملوك: ويحك، تأتي من يغلق عنك بابه، وتدع من يفتح لك بابه.





              عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا، وأتكفل له بالجنة؟» فقلت: أنا، فكان لا يسأل أحدا شيئا. رواه أبو داود بإسناد صحيح.
              ----------------






              عن أبي بشر قبيصة بن المخارق - رضي الله عنه - قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» ثم قال: «يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو قال: سدادا من عيش - ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة. فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، أو قال: سدادا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت، يأكلها صاحبها سحتا» . رواه مسلم.
              ----------------
              «الحمالة» بفتح الحاء: أن يقع قتال ونحوه بين فريقين، فيصلح إنسان بينهم على مال يتحمله ويلتزمه على نفسه. و «الجائحة» الآفة تصيب مال الإنسان. و «القوام» بكسر القاف وفتحها: هو ما يقوم به أمر الإنسان من مال ونحوه. و «السداد» بكسر السين: ما يسد حاجة المعوز ويكفيه، و «الفاقة» : الفقر. و «الحجى» : العقل. في هذا الحديث: تحريم السؤال إلا في غرم، أو جائحة، أو فاقة.




              عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس» . متفق عليه.
              ----------------
              أي: ليس المسكين الكامل المسكنة الممدوح هذا الطواف، ولك المسكين المتعفف الذي لا يجد غني يغنيه عن المسألة، ولا يفطن له، لكتم حاله، فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس، ولا يستطيع ضربا في الأرض، {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا} .




              الكلم الطيب

              تعليق


              • #37
                رد: تطريز رياض الصالحين

                باب جواز الأخذ من غير مسألة ولا تطلع إليه



                عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر عن عمر - رضي الله عنهم - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العطاء، فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني. فقال: «خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل، فخذه فتموله، فإن شئت كله، وإن شئت تصدق به، وما لا، فلا تتبعه نفسك» قال سالم: فكان عبد الله لا يسأل أحدا شيئا، ولا يرد شيئا ... أعطيه. متفق عليه.
                ----------------
                (مشرف) : بالشين المعجمة: أي متطلع إليه. قال البخاري: باب من أعطاه الله شيئا من غير مسألة، ولا إشراف نفس {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} [الذاريات (19) ] . وذكر الحديث: قال الحافظ: وفي الحديث أن للإمام أن يعطي بعض رعيته إذا رأى لذلك وجها وإن كان غيره أحوج إليه منه، وإن رد عطية الإمام ليس من الأدب.



                باب الحث على الأكل من عمل يده



                قال الله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة (10) ] .
                ----------------
                هذا أمر إباحة بعد النهي عن البيع، وكان عراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد، فقال: اللهم إني أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين.


                عن أبي عبد الله الزبير بن العوام - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه» . رواه البخاري. ***

                عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره، خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه» . متفق عليه.
                ----------------
                فيه: الحض على التعفف عن المسألة، والتنزه عنها، ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق، وارتكب المشاق، لما يدخل على السائل من ذل السؤال، وعلى المسؤول من الحرج.

                عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان داود - عليه السلام - لا يأكل إلا من عمل يده» . رواه البخاري.

                ----------------
                كان داود عليه السلام ملكا نبيا، وكان ينسج الدروع ويبيعها، ولا يأكل إلا من ثمنها.


                عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان زكريا - عليه السلام - نجارا» . رواه مسلم.
                ----------------
                فيه: جواز الصنائع، وأن النجارة صناعة فاضلة وأنها لا تسقط المروءة.


                عن المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ال: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود - عليه السلام - كان يأكل من عمل يده» . رواه البخاري.

                ----------------
                الاكتساب لا ينافي التوكل، فقد كان للجنيد دكان في البزازين، وكان يرخي ستره عليه، فيصلي ما بين الظهر والعصر، وكان إبراهيم بن أدهم يكثر الكسب وينفق منه ضرورته، ويتصدق بباقيه، وكان أحب طرقه إليه حفظ البساتين وخدمتها، لأنه تتم له فيها الخلوة. وفي الحديث الآخر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الكسب أطيب؟ قال: «عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور» .




                تعليق


                • #38
                  رد: تطريز رياض الصالحين

                  قال الله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} [سبأ (39) ] .

                  أي: ما أنفقتم في رضا الله عز وجل فهز يخلفه في الدنيا بالمال، أو بالقناعة، وفي الآخرة بالجزاء المضاعف، قال الله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة} [البقرة (245) ] .



                  قال تعالى: {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} [البقرة (272) ] .

                  أي: ما تنفقوا من خير فثوابه لأنفسكم، فلا تمنوا به، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله. قال عطاء: إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله. {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم} ثوابه. {وأنتم لا تظلمون} أي: لا تنقصون.



                  قال تعالى: {وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم} [البقرة (273) ] .

                  أي: فيجازيكم بقدره.



                  عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا، فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها ويعلمها» . متفق عليه.

                  ومعناه: ينبغي أن لا يغبط أحد إلا على إحدى هاتين الخصلتين. الحكمة: العلم. وضابطها ما منع الجهل، وزجر عن القبيح، والعلم النافع هو القرآن والسنة.



                  عن ابن مسعود - رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟» قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه. قال: ... «فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر» . رواه البخاري.

                  فيه: التحريض على ما يمكن تقديمه من المال في وجوه البر لينتفع به في الآخرة.



                  عن عدي بن حاتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» . متفق عليه.

                  فيه: أن الصدقة تقي من النار، ولو كانت قليلة، وفي الحديث الآخر: «والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» .



                  عن جابر - رضي الله عنه - قال: ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا قط، فقال: لا. متفق عليه.

                  كان - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق بالرد فإن كان عنده المسؤول، وساغ الإعطاء أعطى وإلا وعد كما قال تعالى: وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا} [الإسراء (28) ] .



                  عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» . متفق عليه.

                  فيه: الحض على الإنفاق ورجاء قبول دعوة الملك.



                  عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تعالى: أنفق يا ابن آدم ينفق عليك» . متفق عليه.

                  الإنفاق الممدوح: ما كان في الطاعات، وعلى العيال والضيفان.



                  عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» . متفق عليه.

                  المراد: الإطعام على وجه الصدقة، والهدية، والضيافة، ونحو ذلك. وقوله: «وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» . المراد به: إفشاء السلام على من لقيت. وفيه: حض على ائتلاف القلوب واستجلاب مودتها.


                  عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أربعون خصلة: أعلاها منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها؛ رجاء ثوابها وتصديق موعودها، إلا أدخله الله تعالى بها الجنة» . رواه البخاري. وقد سبق بيان هذا الحديث في باب بيان كثرة طرق الخير.

                  في هذا الحديث: أن الإنسان ينبغي له أن يحرص على فعل الخير ولو كان قليلا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق» . قال ابن بطال: ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالما بالأربعين، وإنما لم يذكرها لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها، وذلك خشية أن يكون التعيين لها مزهدا في غيرها من أبواب البر.



                  عن أبي أمامة صدي بن عجلان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا ابن آدم، إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى» . رواه مسلم.

                  الفضل: ما زاد على ما تدعو إليه حاجة الإنسان لنفسه ولمن يمونه من زوجة، وعبد، ودابة، وقريب؛ فلا يلام على إمساك ما يكف به الحاجة لذلك



                  عن أنس - رضي الله عنه - قال: ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام شيئا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل، فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم، أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يلبث إلا يسيرا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها. رواه مسلم.

                  في هذا الحديث: جواز إعطاء المؤلفة قلوبهم ترغيبا في الإسلام. وفيه: كمال معرفته - صلى الله عليه وسلم - بدواء كل داء.



                  عن عمر - رضي الله عنه - قال: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسما، فقلت: يا رسول الله، لغير هؤلاء كانوا أحق به منهم؟ فقال: «إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش، أو يبخلوني، ولست بباخل» . رواه مسلم.

                  في هذا الحديث: ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من عظيم الخلق، والصبر، والحلم، والإعراض عن الجاهلين.



                  عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: بينما هو يسير مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مقفله من حنين، فعلقه الأعراب يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة، فخطفت رداءه، فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه نعما، لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا» . رواه البخاري.

                  «مقفله» أي: حال رجوعه. و «السمرة» : شجرة. و «العضاه» : شجر له شوك. في هذا الحديث: ذم البخل، والكذب، والجبن. وفيه: ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الحلم وحسن الخلق، والصبر على جفاة الأعراب، وجواز وصف المرء نفسه بالخصال الحميدة عند الحاجة.



                  عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله - عز وجل -» . رواه مسلم.

                  في هذا الحديث: أن الصدقة لا تنقص المال بل تزيده، لما تدفعه عنه الصدقة من الآفات، وتنزل بسبها البركات. وفيه: أن من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم في قلوب الناس، وأن من تواضع رفعه الله في الدنيا والآخرة.



                  عن أبي كبشة عمرو بن سعد الأنماري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثا فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر - أو كلمة نحوها - وأحدثكم حديثا فاحفظوه، قال: «إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل. وعبد رزقه الله علما، ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالا، ولم يرزقه علما، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل. وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح) .

                  قوله: «ما نقص مال عبد من صدقة» . يشهد له قوله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [سبأ (39) ] . قوله: «ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا» ، يشهد له قوله تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى (43) ] . قوله: «ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر» وهذا مشاهد بالحس ويشهد له قوله تعالى {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} [فاطر (15) ] . قوله: «إنما الدنيا لأربعة ... » إلخ فالأول علم وعمل صالحا. والثاني: علم وعزم على العمل الصالح لو قدر، فأجرهما سواء والثالث: لم يعلم ولم يعمل في ماله صالحا. والرابع: لم يعلم وعزم على العمل السيئ، لو قدر على مال فوزهما سواء. وقال بعض العارفين: أربعة تعجبت من شأنهم ... ?? ... فالعين في فكرتهم ساهرة ... ??? فواحد دنياه مبسوطة ... ?? ... قد أوتي الدنيا مع الآخرة ... ?? وآخر دنياه مقبوضة ... ???? ... وبعدها آخرة وافرة ... ????? وثالث دنياه مبسوطة ... ?? ... ليست له من بعده آخرة ... ??? ورابع أسقط من بينهم ... ?? ... ليست له دنيا ولا آخرة ... ??? قال الله تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} [الإسراء (21) ] .



                  عن عائشة رضي الله عنها: أنهم ذبحوا شاة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما بقي منها؟» قالت: ما بقي منها إلا كتفها. قال: «بقي كلها غير كتفها» . رواه الترمذي، وقال: «حديث صحيح» .

                  ومعناه: تصدقوا بها إلا كتفها. فقال: بقيت لنا في الآخرة إلا كتفها. فيه: تحريض على الصدقة والاهتمام بها، وألا يكثر المرء ما أنفقه فيها.



                  عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا توكي فيوكي الله عليك» . وفي رواية: «أنفقي أو انفحي، أو انضحي، ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك» . متفق عليه.

                  و «انفحي» بالحاء المهملة، وهو بمعنى «أنفقي» وكذلك «انضحي» . في هذا الحديث: أن الجزاء من جنس العمل، وأن من منع ما عنده من المال قطع الله عنه مادة الرزق، وهذا مفهوم قوله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [سبأ (39) ] . وفيه: الحث على الإنفاق في وجوهه ثقة بالله تعالى.



                  عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مثل البخيل والمنفق، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت - أو وفرت - على جلده حتى تخفي بنانه، وتعفو أثره، وأما البخيل، فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها فلا تتسع» . متفق عليه.

                  و «الجبة» : الدرع؛ ومعناه أن المنفق كلما أنفق سبغت، وطالت حتى تجر وراءه، وتخفي رجليه وأثر مشيه وخطواته. القبض والشح من جبلة الإنسان قال الله تعالى: {وكان الإنسان ... قتورا} [الإسراء (100) ] ، والنفقة تستوعب عيوبه. وفي الحديث: وعد للمنفق بالبركة والصيانة من البلاء والبخيل بضد ذلك. قال الله تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} ... [الحشر (9) ] .



                  عن أبي هريرة - رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» . متفق عليه.

                  «الفلو» بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو، ويقال أيضا: بكسر الفاء وإسكان اللام وتخفيف الواو: وهو المهر. فيه: أن الله لا يقبل الصدقة إلا من الكسب الطيب، وهو الحلال. وفي رواية: «ولا يصعد إلى الله إلا الطيب. قوله: «بيمينه» . قال الترمذي: قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: نؤمن بهذه الأحاديث، ولا نتوهم فيها تشبيها ولا نقول كيف، هكذا روي عن مالك، وابن عيينة، وابن المبارك، وغيرهم.



                  عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينما رجل يمشي بفلاة من الأرض، فسمع صوتا في سحابة، اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء، فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله، ما اسمك؟ قال: فلان للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله، لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه، يقول: اسق حديقة فلان لاسمك، فما تصنع فيها، فقال: أما إذ قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثا، وأرد فيها ثلثه» . رواه مسلم.


                  «الحرة» الأرض الملبسة حجارة سوداء. و «الشرجة» بفتح الشين المعجمة وإسكان الراء وبالجيم: هي مسيل الماء. في هذا الحديث: أن الصدقة تنتج البركة والمعونة من الله. وفي الحديث الآخر: «ما نقصت صدقة من مال بل تزيده، بل تزيده»




                  تطريز رياض الصالحين
                  موقع الكلم الطيب


                  تعليق


                  • #39
                    رد: تطريز رياض الصالحين

                    باب النهي عن البخل والشح

                    قال الله تعالى: {وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى * وما يغني عنه ماله إذا تردى} [الليل (8: 11) ] .

                    ----------------
                    البخل: معروف، والشح أبلغ من البخل؛ لأنه يبخل بما عنده، ويطلب ما ليس له. وقوله تعالى: {وأما من بخل} ، أي: بالإنفاق في الخيرات، {واستغنى} ، أي: بالدنيا عن الآخرة، {وكذب بالحسنى} ، أي: بالجزاء في الدار الآخرة، {فسنيسره} نهيئه {للعسرى} لطريق الشر، وهي الأعمال السيئة الموجبة للنار، {وما يغني عنه ماله} الذي يبخل به {إذا تردى} إذا مات، وهو في جهنم.





                    قال تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [التغابن (16) ] .
                    ----------------
                    أي: ومن سلم من الحرص الشديد الذي يحمله على ارتكاب المحارم، {فأولئك هم المفلحون} ، أي: الفائزون. قال ابن زيد وغيره: من لم يأخذ شيئا نهاه الله عنه، ولم يمنع الزكاة المفروضة فقد برئ من شح النفس. وقال ابن مسعود: شح النفس: أكل مال الناس بالباطل. أما منع الإنسان ماله فبخل، وهو قبيح. قال ابن عطية: شح النفس فقر لا يذهبه غنى المال بل يزيده.









                    عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة. واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» . رواه مسلم.
                    ----------------
                    أي: استحلوا ما حرم الله عليهم حرصا على المال، كما احتالوا على ما حرم الله عيهم من الشحوم، فأذابوها فباعوها واحتالوا لصيد السمك فحبلوا له يوم الجمعة وأخذوه يوم الأحد، وغير ذلك مما استحلوا به محارمهم وسفكوا به دماءهم.










                    باب الإيثار والمواساة



                    قال الله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر (9) ] .
                    ----------------
                    يعني: فاقة وحاجة، أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم.





                    قال تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا} ... [الدهر (8) ] . إلى آخر الآيات

                    ----------------
                    يعني: ويطعمون الطعام وهم يحبونه، ويشتهونه، مسكينا، ويتيما، وأسيرا، وإن كان كافرا، لوجه الله تعالى لا لحظ النفس، وخوفا من عذاب يوم القيامة، فوقاهم الله شر ذلك اليوم، ولقاهم نضرة في وجوههم، وسرورا في قلوبهم، وجزاهم بما صبروا على ترك الشهوات، وأداء الواجبات جنة وحريرا.









                    عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يضيف هذا الليلة؟» فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية قال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعلليهم بشيء وإذا أرادوا العشاء فنوميهم، وإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنا نأكل. فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين، فلما أصبح غدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة» . متفق عليه.
                    ----------------
                    هذا الحديث: أخرجه البخاري في التفسير، وفي فضائل الأنصار. وفيه: استحباب الإيثار على النفس ولو كان محتاجا، وكذلك على العيال إذا لم يضرهم.









                    عن أبي هريرة - رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة» . متفق عليه.
                    ----------------
                    وفي رواية لمسلم عن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية» . المراد بذلك: الحض على المكارم، والتقنع بالكفاية، وأنه ينبغي للاثنين إدخال ثالث لطعامهما، وإدخال رابع أيضا بحسب من يحضر. وعند الطبراني: «كلوا جميعا ولا تفرقوا فإن طعام الواحد يكفي الاثنين» . الحديث. فيؤخذ منه أن الكفاية تنشأ من بركة الاجتماع، وأن الجمع كلما زاد زادت البركة. وفيه: إشارة إلى أن المواساة إذا حصلت حصل معها البركة. وفيه: أنه ينبغي للمرء أن لا يستحقر ما عنده فيمتنع من تقديمه، فإن القليل قد يحصل به الاكتفاء.









                    عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: بينما نحن في سفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء رجل على راحلة له، فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له» . فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل. رواه مسلم.

                    ----------------
                    في هذا الحديث: الأمر بالمواساة من الفاضل، وهو كحديث: إنك يا ابن آدم إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول.









                    عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن أمرأة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببردة منسوجة، فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها، فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - محتاجا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فقال فلان: اكسنيها ما أحسنها! فقال: «نعم» فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه: فقال له القوم: ما أحسنت! لبسها النبي - صلى الله عليه وسلم - محتاجا إليها، ثم سألته وعلمت أنه لا يرد سائلا، فقال: إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني. قال سهل: فكانت كفنه. رواه البخاري.
                    ----------------

                    في هذا الحديث: جواز إعداد الشيء قبل الحاجة إليه. وفيه: حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وسعة جوده وقبول الهدية.









                    عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم» . متفق عليه.
                    ----------------
                    «أرملوا» : فرغ زادهم أو قارب الفراغ. في الحديث: فضيلة الأشعريين، وفضيلة الإيثار، والمواساة، وفضيلة خلط الأزواد عند الحاجة.



                    الكلم الطيب

                    تعليق

                    جاري التحميل ..
                    X