روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو في صَلاَتِهِ: "اللّهُمّ إنّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ... ا
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ"[متفق عليه: أخرجه البخاري (1379)، ومسلم (2866).].
قال العلماء: " هناك من يعيش الماضي، وهناك من يعيش الحاضر، لكن نُخبة البشر هم الذين يعيشون المستقبل " .
أخطر حدث في المستقبل هو الوفاة، وأخطر حدث بعد الولادة هو الموت، فالإنسان أمامه حدث خطير هو مغادرة الدنيا، بحسب الظاهر من كل شيء إلى لا شيء، إلى قبر، من بيتٍ فاخر إلى قبرٍ مظلم، ليس معك في القبر إلا عملك إن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، فهذا الشيء المُجدي، أما الماضي فما لي وللماضي ؟
ما مضى فات والمؤمَّل غيب ولك الساعة التي أنت فيهاالأولى أن يفكِّر الإنسان في مستقبله، والأولى أن يعُد عمره عداً تنازلياً لا عداً تصاعدياً، اركب مركبة واذهب إلى حمص تصلها بمئة وخمسين كيلو متر، وبعدها بمئة وأربعين، مئة وثلاثين، مئة وعشرين، مئة وعشرة، مئة، تسعين، ثمانين، سبعين، ستين، خمسين، أربعين، ثلاثين، عشرين، عشرة، خمسة، حمص ترحِّب بكم، نازلين . فلو أحصينا عمرنا بهذه الطريقة اختلف الأمر .
البطولة لا أن تبحث في عمل الآخرين بل أن تبحث في عملك أنت :الآن قضينا أربعين، فكم بقي يا ترى ؟على المستوى المتوسِّط بالستين، فمعترك المنايا بين الستين والسبعين، فإنسان يموت وعمره خمس وخمسون، أو أربع وأربعون، أو تسع وثلاثون، أما الأغلبيَّة فبين الستين والسبعين، فإذا مضى من عمر أحدنا أربعون سنة، كم بقي له على المتوسط ؟ نصف ما مضى، وصل إلى الخمسين فبقي عشر، ووصل إلى الخامسة والخمسين بقي خمس، وبعد هذا ينتظر الصباح والمساء، فإذا نام لا يستيقظ، وإذا استيقظ لا ينام، يخرج من بيته كل يوم قائماً، ومرَّة واحدة أفقياً، وكلَّما خرج عاد إلا مرَّة واحدة يخرج ولا يعود، والموت مصير كل حيّ، فلذلك:﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ (134) ﴾
مضت ونحن سنمضي، وبعد مئة عام في الأعم الأغلب لن يكون واحد منا في هذا المجلس على قيد الحياة، بل كلنا تحت الأرض بلا استثناء، وهؤلاء الذين في القبور كانوا أشخاصاً، ولهم هموم، ولهم مشكلات، وعندهم أعمال، وعندهم إنجازات، وسكنوا في بيوت جميلة، وأكلوا طعاماً طيباً، وتزوَّجوا النساء أين هم الآن ؟ أحياناً تجد جمجمة مثلاً بمتحف، أو بمخبر علمي طبيعي، فمن صاحب هذه الجمجمة ؟ ماذا كان يعمل ؟ لا نعرف، يوجد في أمريكا حفرة مثل الجب فيها كتلة تساوي خمسة طن كلها جماجم، وكان هناك اعتقاد واهم أن فيها كنوزاً فمئات وآلاف الأشخاص ألقوا بأنفسهم ليخرجوا الكنز، فماتوا ولم يجدوه وجماجمهم تشهد عليهم، وهذا هو الإنسان .
﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) هذه المقابر حول دمشق، هذا مات بالثمانين، وبالتسعين، وبالسادسة والثمانين، وبالخامسة والثمانين، وبالخامسة والتسعين، هذا عميد أسرته، وهذا الشاب، وهذا الطبيب، وهذا المهندس، فهذه المقبرة فيها كل الناس، وكل إنسان له عمله، فالبطولة لا أن تبحث في عمل الآخرين ـ دقِّق في هذا الكلام ـ البطولة أن تبحث في عملك أنت، لأن عملك أنت هو الذي تُسأل عنه بالضبط .
راتب النابلسى
موسوعة النابلسى للعلوم الاسلامية