خواطر صيف (4)
وحال البشر إزاءه عجيب، فمنهم من يتسخَّط ويتذمَّر ويندب أيامه العاثرة، حتى أن أحدهم كتب شاكياً حاله: أفٍّ للصيف، وأفٍّ للشتاء.. أفٍّ للحر، وأفٍّ للبرد، ليت العام اقتصر على الربيع والخريف. ولو أعمَلَ فكره قليلاً لعلم أن الحياة لا تستقيم بدون صيف تنضج فيه الثمار وتطيب، وشتاء تهطل فيه السماء بماء فرات، وخلالهما يتكفل الحر الشديد بالقضاء على ما لا يتصوره عقل مما لا نبصره من جراثيم وميكروبات وهوام وجدت فرصتها للتكاثر والانتشار في الاعتدال الربيعي، فيما يقوم البرد الشديد بالقضاء على مثلها مما خلفه الاعتدال الخريفي.
منهم من يفتش عن مهرب له مما هو، فيه فيسيح في الأرض بحثاً عن بقعة ينخفض فيها مؤشر "الترمومتر" عشرين أو ثلاثين درجة عن مكان إقامته ولو كلفه ذلك "تحويشة" العام كله.
ومنهم من لا يزيده الحر إلا انسلاخاً من أخلاقه وبعده عن خالقه، ممن يتوهم أن التخفف من الملابس يرتبط بعلاقة عكسية مع درجة الحرارة حتى يصل في حالات منه إلى درجة التعرِّي الحيواني المقزز.
أما أولئك الذين يمشون على الأرض هوناً، ويربطون كل ما يمر بهم بما ينفعهم ديناً ودنيا وآخرة، فلا يمكن أن يمر عليهم الصيف اللافح دون أن يذكرهم بالذين تلفح وجوههم النار. إنهم الذين يجري التعوذ بالله من النار على ألسنتهم سهلاً سلساً يسيراً بدلاً من التأفف من الحر والرطوبة والغبار.
إنهم الذين لا يفكرون بذواتهم وأنفسهم، فتجدهم يسارعون إلى إغاثة المتضررين من هذا الحر بما يقدرون عليه. تؤرقهم مشاهد اللاجئين في الخيام الممزقة التي لا تقي حراً ولا قراً، ويسهدهم التفكير في أحوال المعتقلين في سجون العدو الصهيوني وسجون الطغاة المجرمين، فيسري منهم الدعاء حاراً صادقاً لهم، ولايزيدهم ارتفاع الحرارة إلا رفعاً للصوت نصرة لهم ولقضاياهم.
إنهم الذين ترق قلوبهم للعصافير الضعيفة فيوفروا لها الماء والحبّ والظلال، ويقتفوا آثار أبي هريرة رضي الله عنه بالإحسان إلى القطط ورعايتهم في هذا الجو القائظ.
إنهم الذين تصيبهم رعدة وقشعريرة كلما اشتدت الحرارة صيفاً والبرد شتاءً، لما يذكرهم ذلك بأنفاس جهنم التي أخبرنا عنها من لا ينطق عن الهوى في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اشتكت النار إلى ربها فقالت: يارب، أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير. وفي رواية: قالت النار رب أكل بعضي بعضا فأذن لي أتنفس، فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم وما وجدتم من حرأو حرور فمن نفس جهنم. رواه مسلم في صحيحه.
وإذا كانت إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا) قد كشفت بأن أشهر يوليو/تموز في السنوات الثلاث الأخيرة كانت الأدفأ على الإطلاق مما تم تسجيله منذ بدء حفظ السجلات عام 1880، وأنها قد تكون أيضا الأكثر دفئا مما مرّ على كوكبنا منذ 120 ألف عام تقريباً. فلنا أن نزداد رعباً من فكرة أن تكون جهنم تزداد تغيظاً وزفيراً.
لنا أن نستحضر ذلك المشهد الرهيب في الحديث النبوي الشريف: "إنَّ لجَهَنَّمَ يومَ القيامةِ لَزَفْرَةً ما مِن مَلَكٍ مُقَرَّبٍ ولا نبيٍّ مُرْسَلٍ إلَّا خَرَّ لرُكْبَتَيْهِ" (صحيح الترغيب).
لنا أن نستذكر آيات الله عنها وعيداً وتخويفاً: "وبرزت الجحيم لمن يرى"، "وجيء يومئذٍ بجهنم".
ذلك المجيء المخيف الذي جاء وصفه في صحيح مسلم: "يؤتَى بجَهنَّمَ يومئذٍ لَها سبعونَ ألفَ زمامٍ. معَ كلِّ زمامٍ سبعونَ ألفَ ملَكٍ يجرُّونَها". فما أحرانا في صيف كهذا أن نربط ذلك المشهد بما نحس به من نار قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نارُكم جزءٌ من سبعينَ جزءًا من نارِ جهنَّمَ. قيل: يا رسولَ اللهِ، إن كانتْ لكافيةً، قال: فُضِّلَتْ عليهنَّ بتسعةٍ وستينَ جزءًا، كلُّهنَّ مثلُ حَرِّها". صحيح البخاري
كلما ازداد حر الصيف كلما دقَّ ذلك ناقوس الذكرى لمن كان له قلب متصل بخالقه فيزداد معه منسوب خشيته وتقواه لخالق الكون المتصرف بأحواله ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاءً، ربيعاً وخريفاً، حراً وبرداً واعتدالاً وكل ما يريده هو وحده دون إملاء من أحد، ألم يقل لنا -عسانا نعقل ونتدبر ونرعوي ونخشع- أن "لله الأمر جميعاً"؟
أنفاس جهنّم !!
مخلص برزق
يحار المرء مع هذه الحرارة غير المعهودة التي أحالت الصيف جهنم حمراء كما يحلو للكثيرين تشبيهه بها. شمسٌ حارقة، ورطوبةٌ خانقة، وصهد وجفاف، ورياح سواف، وظلالٌ لا تقي حراً فكأنها من يحموم، لا بارد ولا كريم.وحال البشر إزاءه عجيب، فمنهم من يتسخَّط ويتذمَّر ويندب أيامه العاثرة، حتى أن أحدهم كتب شاكياً حاله: أفٍّ للصيف، وأفٍّ للشتاء.. أفٍّ للحر، وأفٍّ للبرد، ليت العام اقتصر على الربيع والخريف. ولو أعمَلَ فكره قليلاً لعلم أن الحياة لا تستقيم بدون صيف تنضج فيه الثمار وتطيب، وشتاء تهطل فيه السماء بماء فرات، وخلالهما يتكفل الحر الشديد بالقضاء على ما لا يتصوره عقل مما لا نبصره من جراثيم وميكروبات وهوام وجدت فرصتها للتكاثر والانتشار في الاعتدال الربيعي، فيما يقوم البرد الشديد بالقضاء على مثلها مما خلفه الاعتدال الخريفي.
منهم من يفتش عن مهرب له مما هو، فيه فيسيح في الأرض بحثاً عن بقعة ينخفض فيها مؤشر "الترمومتر" عشرين أو ثلاثين درجة عن مكان إقامته ولو كلفه ذلك "تحويشة" العام كله.
ومنهم من لا يزيده الحر إلا انسلاخاً من أخلاقه وبعده عن خالقه، ممن يتوهم أن التخفف من الملابس يرتبط بعلاقة عكسية مع درجة الحرارة حتى يصل في حالات منه إلى درجة التعرِّي الحيواني المقزز.
أما أولئك الذين يمشون على الأرض هوناً، ويربطون كل ما يمر بهم بما ينفعهم ديناً ودنيا وآخرة، فلا يمكن أن يمر عليهم الصيف اللافح دون أن يذكرهم بالذين تلفح وجوههم النار. إنهم الذين يجري التعوذ بالله من النار على ألسنتهم سهلاً سلساً يسيراً بدلاً من التأفف من الحر والرطوبة والغبار.
إنهم الذين لا يفكرون بذواتهم وأنفسهم، فتجدهم يسارعون إلى إغاثة المتضررين من هذا الحر بما يقدرون عليه. تؤرقهم مشاهد اللاجئين في الخيام الممزقة التي لا تقي حراً ولا قراً، ويسهدهم التفكير في أحوال المعتقلين في سجون العدو الصهيوني وسجون الطغاة المجرمين، فيسري منهم الدعاء حاراً صادقاً لهم، ولايزيدهم ارتفاع الحرارة إلا رفعاً للصوت نصرة لهم ولقضاياهم.
إنهم الذين ترق قلوبهم للعصافير الضعيفة فيوفروا لها الماء والحبّ والظلال، ويقتفوا آثار أبي هريرة رضي الله عنه بالإحسان إلى القطط ورعايتهم في هذا الجو القائظ.
إنهم الذين تصيبهم رعدة وقشعريرة كلما اشتدت الحرارة صيفاً والبرد شتاءً، لما يذكرهم ذلك بأنفاس جهنم التي أخبرنا عنها من لا ينطق عن الهوى في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اشتكت النار إلى ربها فقالت: يارب، أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير. وفي رواية: قالت النار رب أكل بعضي بعضا فأذن لي أتنفس، فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم وما وجدتم من حرأو حرور فمن نفس جهنم. رواه مسلم في صحيحه.
وإذا كانت إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا) قد كشفت بأن أشهر يوليو/تموز في السنوات الثلاث الأخيرة كانت الأدفأ على الإطلاق مما تم تسجيله منذ بدء حفظ السجلات عام 1880، وأنها قد تكون أيضا الأكثر دفئا مما مرّ على كوكبنا منذ 120 ألف عام تقريباً. فلنا أن نزداد رعباً من فكرة أن تكون جهنم تزداد تغيظاً وزفيراً.
لنا أن نستحضر ذلك المشهد الرهيب في الحديث النبوي الشريف: "إنَّ لجَهَنَّمَ يومَ القيامةِ لَزَفْرَةً ما مِن مَلَكٍ مُقَرَّبٍ ولا نبيٍّ مُرْسَلٍ إلَّا خَرَّ لرُكْبَتَيْهِ" (صحيح الترغيب).
لنا أن نستذكر آيات الله عنها وعيداً وتخويفاً: "وبرزت الجحيم لمن يرى"، "وجيء يومئذٍ بجهنم".
ذلك المجيء المخيف الذي جاء وصفه في صحيح مسلم: "يؤتَى بجَهنَّمَ يومئذٍ لَها سبعونَ ألفَ زمامٍ. معَ كلِّ زمامٍ سبعونَ ألفَ ملَكٍ يجرُّونَها". فما أحرانا في صيف كهذا أن نربط ذلك المشهد بما نحس به من نار قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نارُكم جزءٌ من سبعينَ جزءًا من نارِ جهنَّمَ. قيل: يا رسولَ اللهِ، إن كانتْ لكافيةً، قال: فُضِّلَتْ عليهنَّ بتسعةٍ وستينَ جزءًا، كلُّهنَّ مثلُ حَرِّها". صحيح البخاري
كلما ازداد حر الصيف كلما دقَّ ذلك ناقوس الذكرى لمن كان له قلب متصل بخالقه فيزداد معه منسوب خشيته وتقواه لخالق الكون المتصرف بأحواله ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاءً، ربيعاً وخريفاً، حراً وبرداً واعتدالاً وكل ما يريده هو وحده دون إملاء من أحد، ألم يقل لنا -عسانا نعقل ونتدبر ونرعوي ونخشع- أن "لله الأمر جميعاً"؟
تعليق