أرني عدالة الله

ما هي العدالة الإلهية ابتداءً من وجهة نظر كلّ فرد منّا حتى نضع المسطرة التي نقيس بها عدالة الأقدار الإلهية؟ هل العدالة هي مقدار الأموال التي يجنيها الفرد؟ هل العدالة هي التوفيق بالزواج وتكوين أسرة؟ هل العدالة هي الرتبة الأكاديمة الرفيعة؟ هل العدالة هي الشهرة والنجومية والمكانة الاجتماعية؟ هل العدالة هي الصحة والبنية الجسدية الممتازة والجمال الباهر والذكاء المتوقّد؟ في غالب الأمر ستكون العدالة في نظر كلّ فرد هي الأمر الموافق لرغباته وطموحاته ومعتقداته، وعلى وجه الخصوص الموافق لأمنياته المستقبليّة، فالمشكلة الرئيسية التي تواجه سؤال أين عدالة الله؟ هي تأطير السؤال ذاته في مربع حاجاتنا الشخصية ومقارنة نواقصنا المادية أو حتى المعنوية بظاهر ما نراه عند الآخرين من اكتمال تلك النواقص فنصنّفها عدالة إلهية في حقّهم وظلماً في حقّنا، وقد يكون الغريب في الأمر أنّ مَنْ نراهم يتنعمون في العدالة القدرية من وجهة نظرنا في حالات كثيرة هم أنفسهم يتساءلون أين عدالة الله؟ فعلى الدوام هناك أمرٌ واحدٌ على الأقلّ ينقص كل إنسان ويشغلُ همّه وهذا الأمر هو الثقب المجهريّ الذي تُقاس به عدالة الله، وعدالة الله تقف في مفهومنا البشريّ بين حدّي المنع و المنح، فالمنع ظلم والمنح عدالة.

وحينها يبدأ الشكّ في حكمة الله بأخذ مساره وصولاً إلى القدح في عدالة الله، و هذا الاعتقاد بعدم عدالة الله لايقود إلى الإلحاد بقدر ما يقود إلى حالة من الألم والإحباط بسبب الشعور بالسخط النّفسي وعدم الرضا الذاتي، و يرتفع مستوى الألم بازدياد تجارب خيبات الأمل وتتحطّم الثقة بالله كلما انحرف سير الخطة الذهنية للحياة التي نبتغيها لأنفسنا، يلتبسنا الغضب من واقعنا ومن حالنا لنصبّه على اتهام الأقدار، هذه الفئة تائهة بين الحزن والخوف والجهل فأمّا الحزن فعلى كلّ ما فات ولم يتحقق والخوف من القادم الذي ربما هو كذلك لن يتحقق والجهل بحقيقة التدبير وقيمة الدنيا.

تأمّلتُ مرّات عدّة في الجواب الذي قد يريح تلك النّفس السائلة وتأنسُ به الروح خارج منطق تغطية الجرح فمهما نزف يجب ألّا يلوث الدّمُ طُهر الظاهر من ثيابنا، فكيف سيحكمُ النّاس علينا لو شكّكنا في عدالة الله! نتذلّلُ بين يدي الله تعالى نسجدُ بتسبيحه وفي نفوسنا شيء أو بعض شيء من قسمة الله بين العالمين تجيء الخواطر بذلك وتروح لكنّها لا تختفي.

ربما تفكيك هذه المعضلة يكمنُ في محاولة الاستقرار على أرضية المعنى القرآنيّ "فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ"، قوله تعالى: (وما كنّا غائبين) هو أول الطريق فالله لم يغبْ عن كل أمنية ورغبة وحاجة وهذا اليقين يورث الاطمئنان بأنّ الحاجات قد وصلت إلى مرتقاها إلى قاضي الحاجات، مع الإدراك العقليّ بأنّ الله مُدبّر ليس فقط بمستقبل أو بمنفذ للرغبات حاشاه عزّ وعلا، والتدبير هو "النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود". وحتى يكتمل الاطمئنان النّفسي لهذا التدبير لابدّ من تسليم القلب لتدبير الله باعتباره الخيرية المطلقة والصواب الذي لايشوبه الخطأ، وحتى تضح الصورة أكثر فعلى سبيل المثال، عِلمُنا القاصر يقودنا إلى أنّ مِن ضرورات عدالة التقسيم الإلهي أن يرزقنا الله الشيء الفلانيّ بعينه وحرماننا منه يعني ظلم الله لنا، إلّا أنّ علم الله السابق والكاشف لعواقب الحصول على ذلك الشيء يُفضي إلى تدبير الله بمنعه، لكنّ الأمر لا يقف عند حدّ المنع فحسب، فالسعادة التي كنّا نرجوها والراحة التي كنّا نستجديها من طلبنا لتحقيق ذلك الأمر، الله سيحققهما لنا لكن ضمن تدبير آخر على وجه اليقين، وها هنا تهدأ النّفس وتهذّب زفراتها وتكبح جماح سخطها.
وبعد أنْ تستقرّ تلك القاعدة القرآنية على أرضية مستوية راسخة، نُتبعها بقوله تعالى: "أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ".وهذه الآية البديعة هي مناط الرضا بجميع أقدار الله ومرتكز الاستدلال على عدالة الله، فسبحانه وتعالى وصف ما يقسمه بين النّاس وللنّاس بالرحمة، والمفسرون ذكروا أنّ المعنى المخصوص هو النبوّة وتشمل كذلك ماهو أعمّ منها في كل ما يقسمه ربُنا.
إذاً هي قسمة رحمة وأمّا الخاصيّة الثانية لهذه القسمة بأنّها متفاوتة بين النّاس وفيها مفاضلة دقيقة ليست عشوائية، القرآن الكريم يقرُّ بأنّ القسمة المعيشية في الحياة الدنيا بين النّاس ليست متساوية، بل قسمة رحمة بحكمة مطلقة. "لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً" تحقيقاً لمعنى التساند والتعاضد البشريّ لتمضي عجلة الحياة في البناء الذي يعمّ بالخير على الجميع، وعندما يقود هذا التفاضل في الدرجات إلى ارتكاب النّاس جرائم الاستعلاء في حق النّفوس البشرية فهو عائد إلى فشل المجتمعات في فهم مغزى هذا التفاضل أو الإعراض عن تطبيقه ولا يعود الخلل إلى أصل القاعدة.

وتُختم الآية بالحقيقة الدامغة للقيمة التي يجدرُ بنا منحها للقسمة المعيشية في الحياة الدنيا "وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ". على ظاهر قول جموع من المفسرين بأنّ "رَحْمَتُ" بفتح التاء في هذا الموضع قُصد بها (الجنّة)، وهذا لا يمنع كما في قول بعض المفسرين بأنّ رحمة الله في عمومها خيرٌ ممّا يُجمع أهل الأرض في الحياة الدنيا مِن مالها ونعيمها وجميع مواردها، وقد سبق ووقفنا على حقيقة أنّ قسمة الله المعيشية هي رحمة وبالتالي هي الخيار الأكثر أماناً ممّا ترسو عليه خياراتنا.
بيد أنّ السؤال لا يزالُ قائماً بين علاقة هذه الحقيقة بمقايسينا لعدالة الله؟ والجواب يتأتّى بتعويد النّفس على أنّ عدالة الله تسير مع الحياة بدورتيها في الدنيا والآخرة، والوصف الملازم لليوم الآخر هو يوم الحساب والجزاء والقضاء والحكم "فَظ±للَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ظ±لْقِيَامَةِ"، وهنا يبرز عامل الإيمان باليوم الآخر بدوره الأكبر في إثبات العدالة لله، فالحياة لم تنتهِ بعد فهناك اليوم الآخر، وحينها سوف ترضى النّفس عن أقدار الله جميعها لِعلمها بأنّها متصلّة بعاقبة معلّقة بالآخرة، والمشهد الأخير من فصول حياتنا لم يُعرض بعد وما زال في الحكاية بقية، ولم تُرفع المحاكمات ولم تُغلق القضايا ولن ينصرف الظالم دون عقاب، وحالة الرضا الداخلي عن الله هي أقصى ما يطمح به المؤمن فهي دليل مرضاة الله عن عبده "رَّضِيَ ظ±للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ". عندها سوف نتقبل ذواتنا وننسجم مع مطبّات الحياة ولن تذوب نفوسنا كمداً على ماهو في يد غيرنا، وسنحيط أكثر بما هو بين أيدينا لو استثمرناه على الوجه الصحيح لن نلتفت إلى ما لانملكه.