إسلاميون مشوهون فكرياً
كثير ما نسمع عن المشوهين عقلياً أو المشوهين خلقياً فيتعاطف الناس معهم إلا أن ما يميزهم أن خطرهم ليس كخطر المشوهين فكريا، ومن هنا لا مناص من تسليط أشعة النقد على هؤلاء المرضى، وكل فكر ملوث ومشوه، وكشف تناقضاته الفجة لإيقاف مفعول الشحنة السلبية التي تستهدف مجتمعنا الإسلامي، بل تستهدف العاملين في حقل الدعوة إلى الله من خلال تطويع الإسلام ليناسب المفاهيم الغربية وهي ثقافة الأقوياء السائدة هذه الأيام، باسم الإسلام الليبرالي أو العقلاني أو التنويري.
إن التشوه الفكري الذي حدث لهؤلاء هو نتاج للتدين السطحي والجهل المعرفي والهزيمة النفسية، ففتنوا بآرائهم واغتروا بعقولهم، فعاشوا مرحلة المراهقة الفكرية فلازمتهم نتيجة للعوامل السابقة التي ذكرتها، وهذا التشوه الفكري هو عبارة عن شبهات تخيلية ناتجة عن تقديس العقل لم يتم معالجتها بسؤال أهل الاختصاص من العلماء فتحولت من شبهة إلى قناعة أو مسلمة من المسلمات.
ومن هنا نقول: ليس من العقل تحكيم العقل؛ لأن العقول مضطربة ومتباينة، وليس ثمة ما يسمى بالعقل البشري كمدلول مطلق يكون مرجعاً يحتكم إلى معطياته، وعنصراً حاسماً يضع الأمور في نصابها، وإلا ما مصير الغيبيات عندنا في الإسلام.
لأن العقل لا يستطيع استيعاب ما الجنة وما النار إلا بما جاءت به النصوص من الكتاب والسنة قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3] فبدأ بالغيب قبل الصلاة والزكاة وهذا هو التسليم لله؛ لأن فهم الغيبيات أكبر من القدرة العقلية البشرية، إن الشارع حكم بإبطال النظر العقلي وصيانة الطاقة العقلية أن تتبدد وراء الغيبيات التي لا سبيل للعقل البشري أن يحكم فيها وإنما يخضع ويذعن.
وهنا يتضح أن هؤلاء المشوهين فكرياً أخطر من العلمانيين الذين يجاهرون بعلمانيتهم؛ ولأنهم يعيشون ظروف الهزيمة النفسية متأثرين بنظرية ولع المغلوب بتقليد الغالب، وباسم التجديد نحو منحى التغريب، فقد تنادوا بضرورة تقديم الإسلام بشكل عصري مقبول ومرن، وشاعت في أوساط هؤلاء عبارات ومصطلحات غريبة، فمثلاً تجدهم يكتبون ويتحدثون ويحللون وينظّرون بأسلوب ليس للإسلام فيه طعم ولا لون ولا ريح في أكثر مقولاتهم، وقد ذهبوا إلى مبدأ قياس الدين بالعقل فقدموا العقل على الدين وأخروا الدين إلى مرتبة أدنى فقرروا أن للعقل سلطاناً مبيناً، ويحل محل النص، وأن يقوم هوى الإنسان مقام هدى الرحمن جل في علاه، وأن تكون النظريات البشرية حاكمة على القطعيات الربانية.
ووظيفة التفكير عندهم تستطيع إيقافها متى تريد، وطرحوا إسلام الثوابت، وجاءوا بإسلام يقوم على التفكير العقلي والمصلحة النفعية، إسلاماً بلا محددات عبارة عن مجموعة من الهلاميات ليتحول إلى فلسفة من الفلسفات، إسلاماً يتفق مع العلمانية ومع العولمة، مع كل النظم والأفكار التي تطرحها أميركا.
هذا ليس من باب التجني فها هو عالم السياسية الأمريكية -لونا رد بيندر- قدم كتاب الليبرالية الإسلامية وقال فيه: إن تقديم تيار وسيادة الليبرالية الإسلامية يجب أن يكون هو الوسيلة الوحيدة لكي تنجح الليبرالية السياسية في الشرق الأوسط. وعالم السياسة وليم بيكر سنة 2003م كتب كتاباً عن الإسلاميين الليبراليين وقال: "إن هذا هو الإسلام الوحيد.. إسلام بلا خوف"، اتبعوا المذاهب الفلسفية الأجنبية، وخاضوا في الأمور الغيبية، واستهانوا بالأحكام الشرعية، والجرأة على إثارة الشبهات وتحويل الآراء الشاذة إلى مسلمات باسم التسامح الديني وحرية الفكر إنه فكر منفصل عن الواقع، طامح لأرذل الوقائع، نفوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لاختلافه مع العقل حسب زعمهم و(اعتزلوا) مع بعضهم ليفسدوا في الأرض باسم الخير والصلاح، ينطبق عليهم قوله الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11].
وإن حاورتهم لم تجد إلا خوار له صوت ينعق بكلمات الغرب وبقدرة العقل، وإن طلبت حجته أو برهانه ولى عنك هارباً ينعتك بالجمود الفكري الظلامي والتخلف الرجعي والتمسك بالقديم المتحول مقابل الجديد الثابت، ويتهموك بالخروج عن أدب الحوار وتمشياً مع قاعدتهم أن الزمن له أحكامه فلربما سمعت أن صلاة الظهر عندهم ثلاث ركعات تخفيفاً على الموظفين، وصيام رمضان يقلل الإنتاج فيجب توزيعه بين عدة أشهر، وصلاة الفجر مرهقة للجسم فلا داعي أن تكون بوقتها، والزكاة مضيعة للمال مشجعة للكسل فيجب منعها وهكذا.
فالعزاء كل العزاء للعقل! الذي نسبوا أنفسهم له، والكارثة كل الكارثة أنهم ينسبون أنفسهم إلى التيار الإسلامي، والسؤال الذي يطرح نفسه ما هو الفرق بين هؤلاء والعلمانيين؟ أليسوا جميعاً بعيدين عن العقل والنقل؟!
إن الحقيقة التي لا تقبل الجدل أنه ليس ثمة تعارض بين العقل الصريح الخالي من الشبهات والنقل الصحيح، بل التوافق بينهما هو الحقيقة الجلية التي لا تخطئها عين منصف، والشريعة لا تأتي بمحالات العقول بل بمحاراتها، وهؤلاء المشوهون فكريا أهل هوى وليسوا أهل عقل، يريدون من الإسلام ما يناسب هراهم ويشبع رغباتهم قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23]، أي بما استحسن من شيء ورآه حسنا في هوى نفسه كان دينه ومذهبه، فالقبيح ما استقبحه عقله والحسن ما استحسنه عقله كما قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا..} [فاطر:8] أي القبيح زينه له الشيطان وحسنه في عينه".. وإلى لقاء آخر إن شاء الله.
الشيخ محمد بن ناصر الحزمي
تعليق