اتشرف بأن أقدم لكم هذه الدراسة الموجزة عن سورة القصص ، وهي عند مطالعتها كأنك تقرأ الواقع المصري بتفاصيله وأحداثه ومواقف القوى الفاعلة فيه ، وتقدم لنا أسلوب المواجهة ، وتبشر بقرب النصر بإذن الله
سورة القصص والواقع المصري
سورة القصص سورة مكية ، نزلت قبيل الهجرة وأثناءها. والمحور العام للسورة هو الحديث عن الاستبداد ، لذا فقد شغلت قصة موسى عليه السلام مع فرعون حيزا كبيرا منها للتشابه الكبير بين استبداد فرعون وقريش ، فكلاهما قام على أساس ديني ، وكلاهما استخدم كافة الأسلحة ضد المؤمنين. وتؤكد السورة على حتمية انتصار الحق وزهوق الباطل ، فهي:
· رسالة قوية لكل ضعيف انقطعت به السبل أمام الطغيان أن عليه مقاومته حتى ولو كان كل ما يملكه هو هتاف ينطق به أو كلمة حق يقولها متيقنا "أن الله تعالى كتب ألا يفلح ظلوم ، وألا يموت ظلوم حتى ينتقم للمظلوم منه ، ويريه فيه عاقبة ظلمه"[1].
· رسالة قوية لكل طاغية ( استكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يُرجعون ) [القصص:39] أنه لا بقاء لمستبد ولا دوام لاستبداد.
هذه الرسالة أكدتها السورة الكريمة في مواضع متعددة ، وجاء مطلعها وختامها يؤكدان ذلك بأقوى صيغ التأكيد تأكيدا ، قال تعالى في صدرها: ( ونريد أن نمُن على الذين اُستضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الأرض ونُري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) [القصص:6،5] ، وقال تعالى في ختامها: ( إن الذي فرض عليك القرآن لرآدّك إلى معاد ) [القصص:85] أي سيعيدك إلى مكة فاتحا منتصرا. وهنا يستوقفنا كثرة عرض القرآن لقصة موسى وفرعون في سور كثيرة:
· معظم ورود القصة في القرآن المكي في فترة فيها الدعوة مطاردة ومستضعفة.
· موسى عليه السلام هو أكثر الأنبياء ذكرا في القرآن ، فقد ذُكر 136 مرة ، منها 112 مرة بالقرآن المكي[2].
· فرعون هو أكثر أعداء الله ذكرا في القرآن: 74 مرة ، منها 66 مرة بالقرآن المكي. وهو أكثر ورودا من إبليس الذي ذكر 11 مرة فقط ، منها 10 مرات بالقرآن المكي.
· ذكرت مصر 4 مرات ، فهي أكثر بلد ذكره القرآن تصريحا بدون إضافة الأهل إليه.
· أكثر عاصمة ذكرا في القرآن هي عاصمة مصر التي وردت 5 مرات ، وأشار إليها القرآن بلفظ المدينة[3].
· وردت مشتقات كلمة فسد 32 مرة في كتاب الله ، منها 7 مرات متعلقة بفرعون وقومه ورجال حاشيته ، وتكررت مشتقاتها 4 مرات في سورة القصص.
· ذُكر هامان وزير فرعون 6 مرات ، نصفها في سورة القصص.
· ذُكر جنود[4] فرعون أو فرعون وهامان 8 مرات في القرآن كله ، نصفها في سورة القصص.
· جاء الحديث عن ملأ فرعون في القرآن 11 مرة ، منهم 3 في سورة القصص[5].
· قارون هو رجل الأعمال الوحيد المذكور في القرآن ، فقد ورد اسمه 4 مرات نصفها في القصص.
هذه الملاحظات تعني أن هذا القصص لم يكن للتسرية عن قلب النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة فحسب ، ولا لترهيب المشركين ؛ وإنما جاء حاملا دلالات ورسائل متعددة:
1- أهمية الإيمان في مواجهة الطغيان
نزلت السورة من أجل المؤمنين لينتفعوا بدروسها ، ويتدبروا معانيها ، ويصدقوا بموعودها: ( طسم. تلك آيات الكتاب المبين. نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ) [القصص:1-3] ، لذا فقد أكدت السورة أن انتصار المستضعفين لا يتوقف على العدد والعدة ؛ وإنما على الإيمان الوثيق بالله تعالى مع عدم إهمال الأسباب الأرضية المتاحة:
· فبالإيمان يدرك الإنسان كرامته وقيمة وجوده ووجوب أن يعيش عزيزا.
· وبالإيمان يثق المسلم أن الدنيا كلها لو اجتمع كل طغاتها ومستبديها على أن يضروه بشئ ، لن يضروه إلا بشئ قد كتبه الله عليه ، رُفعت الأقلام وجفت الصحف.
· وبالإيمان يتحقق الأنس بالله والأمن به.
وبالإيمان يصبح سجن المؤمن خلوة ، ونفيه سياحة ، وقتله شهادة.
· وبالإيمان يحدد المرء ولاءه في الأوقات الفاصلة التي لا يجوز فيها تذبذب المواقف وإمساك العصا من المنتصف أو الجلوس في مقاعد المتفرجين: ( رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيرا للمجرمين ) [القصص:17] فمظاهرة المجرمين تكون بالفعل الإيجابي المساند للمستبدين ، وتكون أيضا بالصمت على أفعالهم وأعمالهم وعدم التصدي لهم.
بهذا الإيمان يشهد المؤمن يد الله تعالى الفاعلة في الكون ، ويدرك يقينا أن النصر هو إرادة إلهية ومنحة ربانية: ( ونريد أن نمن على الذين اُستضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) [القصص:5] ، ( إن الذي فرض عليك القرآن لرآدّك إلى معاد ) [القصص:85]. وترسيخ هذا المعنى ضروري لاستمرار المقاومة ، فلا يستبطئ أحد النصر ، ولا يستجعل الخطى ، ولا يتسرب إلى نفسه اليأس مع سطوة الباطل وعلوه وضعف الحق وقلة حيلته.
وقد أفردت سورة القصص لهذا المعنى مساحة كبيرة ، نقتطف منها هذه الآيات التي تسجد لجلالها القلوب ، وتخشع الأبدان ، وترق الجوارح: ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ، ما كان لهم الخيرة ، سبحان الله وتعالى عما يشركون. وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون. وهو الله لا إله إلا هو ، له الحمد في الأولى والآخرة ، وله الحكم وإليه تُرجعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة مَن إله غير الله يأتيكم بضياء ، أفلا تسمعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة مَن إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه ، أفلا تبصرون. ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون. ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون ) [القصص:68-75].
هذا الإيمان يعني أيضا أن الوحي المنزل هو سبيل المؤمنين لتحقيق النصر ، قال تعالى مخاطبا موسى وهارون عليهما السلام: ( بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ) [القصص:35].
2- بناء الدولة وإقامة الأمة
لقد جاءت قصة موسى عليه السلام وفرعون لتحقيق هدف مستقبلي وهو: تأسيس أمة وإقامة أركان دولة تكون نموذجا ومنارة هادية للبشرية جمعاء. فكان لا بد من الاستفادة من التراث الإنساني وتجارب الأمم السابقة ، قال تعالى: ( نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ) [القصص:3] ، فالسورة من أولها إلى آخرها تبين أن الاستبداد بكافة صوره: الديني والسياسي والاقتصادي واستبداد الجهل والهوى ، وكذلك تفشي المظالم وانتهاكات حقوق الإنسان كلها عوامل تؤدي إلى سقوط الدول وأفول الحضارات. كما تؤكد السورة أيضا على أن إصلاح الدنيا بالدين هي الوظيفة الأساسية للأمة: ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ، والعاقبة للمتقين ) [القصص:83].
3- أهمية مصر في مسيرة الدعوة ومستقبل البشرية
تكرار القصة فيه إشارة إلى دور محوري لمصر في مستقبل هذا الدين ، وقيادة العالم الإسلامي وصناعة مستقبله وصياغة مصيره:
· فقد أطلقت السورة وصف الأرض عليها: قال تعالى: ( إن فرعون علا في الأرض ) [القصص:4] "أي أرض مصر ، وإطلاقها يدل على تعظيمها وأنها كجميع الأرض لاشتمالها على ما قلّ أن يشتمل عليه غيرها"[6] ، ويدل أيضا إطلاق وصف الأرض عليها على عمق تأثيرها وتأثير ما يجري فيها من أحداث على غيرها من الأرض.
· وخصت السورة أهلها بأنهم ( أئمة ) ، وهو وصف لم يرد على وجه التخصيص لشعب من الشعوب إلا لشعبها ، قال تعالى في صالحي أهلها: ( ونريد أن نمن على الذين اُستضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) [القصص:5]: أي "قادة يُقتدى بهم في الخير أو دعاة إلى الخير أو ولاة وملوكا"[7]. وقال تعالى في فرعون وجنوده: ( وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ) [القصص:41] أي "قادة في الكفر"[8].
4- ركائز الاستبداد
الاستبداد والذي يمثله نموذج فرعون وأجهزة أمنه وقمعه وجحافل جنوده وكهنته وسحرته أخطر من إبليس ذاته على عقائد الناس وقدرتهم على إقامة دينهم وتنفيذ أحكامه. لذا ، فقد تكررت القصة لتحذير الأمة من السكوت على الموبقات السياسية والاجتماعية ، ولتحذيرها أيضا من نموذج الدولة الفرعونية التي هي أخطر ما تواجهه الدعوة في مستقبل الأيام. لذلك كله ، فقد بينت سورة القصص الركائز التي اعتمد عليها فرعون في بناء نظامه الاستبدادي ومنع بها أي خروج عليه حتى تجتنبها الأمة وتنأى بنفسها عنها:
· تأليه الحاكم: ( إن فرعون علا في الأرض ) [القصص:4] ، ( ما علمت لكم من إله غيري ) [القصص:38]: يؤله الفرعون ذاته ليؤبد حكمه ويحصن قراراته ويمنع أي خروج عليه. تأليه يسخر له أبواق دعايته ، فكل شئ يجري بحكمته التي لولاها لضاعت البلاد والعباد ، وهو منزه عن الخطأ فلا يُسئل عما يفعلون وهم يُسئلون.
·سلطة غاشمة مستبدة: ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ، إنه كان من المفسدين ) [القصص:4] ، يقسم فرعون شعبه شيعا وطوائف تبعا لنظرية "نحن شعب وانتوا شعب" ، فيقرب طائفة ويقصي آخرين عملا بسياسة فرق تسد.
· دولة بوليسية قمعية: كون فرعون من خلال وزيره هامان نظاما بوليسيا قمعيا ، ووظف شرطته واستخباراته وحتى الأجهزة الخدمية في التجسس على الشعب ، وتنفيذ أوامر القتل خارج إطار القانون ، وانتهاك أبسط حقوق الإنسان وهي حقه في الحياة ، وجعل أفراد الشعب مرشدين ومخبرين على بعضهم البعض مثلما حدث في قصة قتل مواليد بني إسرائيل الذكور ، قال تعالى: ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ، فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني ، إنا رآدّوه إليك وجاعلوه من المرسلين. فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ، إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ) [القصص:8،7].
· عسكرة النظام: لكي يضمن بعض الفراعنة السيطرة الكاملة على مصر ، فقد عسكروا الحياة فيها ، وأغدقوا على الجيش الميزات والمنح حتى إن "الجنود المصرية كانت تمتلك ثلث أراضي مصر الزراعية"[9] ، و"من الامتيازات التي كان يتمتع بها الجندي المصري أيضا ألا يودع السجن إذا لم يدفع دينا في عنقه ، ولا يتولى القبض عليه رجال السلطة المدنية ، بل كانت جُل شؤونه يهيمن عليها العسكريون"[10] ، "ونتيجة للحروب الطويلة في ذلك العصر ، أخذت مصر مظهر الدولة العسكرية"[11].
· ملأ فاسد: قامت الحاشية ودوائر صنع القرار وأركان الدولة والنخب اللصيقة بفرعون وكهنته وسحرته بتزيين أعماله ، وشاركوه في صنع قراراته ، وصمتوا على جرائمه ، ولذلك أرسل الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون وملئه: ( فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه ، إنهم كانوا قوما فاسقين ) [القصص: 32].
· شعب مغيب مستضعف: يترعرع الاستبداد في بيئة تمزقها الصراعات الطائفية والعرقية ، وفي مناخ القمع وكبت الحريات وإغراق الشعب في الانحطاط الأخلاقي وسعار الشهوات ، وهذا ما فعله فرعون بشعبه: ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يُذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ، إنه كان من المفسدين ) [القصص:4] ، كما سعى فرعون لإفقار شعبه وإلهائه في اللهاث خلف لقمة العيش بتركيزه الثروة في أيدي قلة قليلة كقارون وحرمان الشعب من موارد البلاد.
7- الثمار المرة للاستبداد
عرضت سورة القصص الثمار المرة للاستبداد التي حاقت بمصر نتيجة طغيان فرعون واستبداده ، والدولة البوليسية القمعية التي حكم بها الناس ، وما قام به من عسكرة للنظام:
أ- تقلص مساحة ومكانة مصر:
استطاع المصريون "أن يكونوا إمبراطورية عالمية"[12] ، و"ارتفعت طيبة مقر البيت المالك إلى مرتبة العاصمة للعالم القديم"[13] ؛ إلا أن فرعون باستبداده تقلصت على يديه مصر ، واستولى بنو إسرائيل على ممتلكاتها في الشام وفلسطين ، قال تعالى: ( ونريد أن نمُن على الذين اُستضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) [القصص:5].
ب- القضاء على القوة العسكرية المصرية:
بلغت القوة العسكرية المصرية شأوا عظيما في عهد الفراعنة الذين "جعل ملوكها من مصر قوة حربية عالمية للمرة الأولى في التاريخ"[14] ؛ لكن استبداد فرعون قضى على هذه القوة ، قال تعالى: ( واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يُرجعون. فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) [القصص:40،39].
ج- سمعة سيئة في مجال الحقوق والحريات:
كانت مصر قبل فرعون منارة للحقوق والحريات وسيادة القانون ، فالحاكم "لم يكن يستطيع أن يقوم بأي عمل عام أو يُدين شخصا أو يعاقب آخر لمجرد نزعة شخصية ، أو بقصد التشفي والانتقام ، أو لأي دافع آخر لا يتفق وروح العدالة ؛ ولكنه كان مقيد التصرف في كل حالة وفق ما تنص عليه القوانين. ومن أجل ذلك رأينا الملوك وقد راعوا العدالة والمساواة في المعاملة بين رعاياهم فاكتسبوا من محبتهم ما يزيد كثيرا على ما يكنونه لأهلهم من حب"[15] ؛ لكن فرعون أطاح بهذا التراث الرفيع ، وجعل لمصر سمعة سيئة في مجال الحقوق والحريات ، وجعلها إيضا إماما لكل طاغية ومستبد ، قال تعالى: ( وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ، ويوم القيامة لا يُنصرون. وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ، ويوم القيامة هم من المقبوحين ) [القصص:42،41].
د- التراجع الحضاري:
المصريون كانوا أئمة العالم القديم فهم "أول من أقام حكومة منظمة نشرت لواء السلام والأمن في البلاد ، وأنهم أول من أنشأ نظام البريد والتعداد والتعليم الابتدائي والثانوي ، بل إنهم أول من أوجد نظام التعليم الفني لإعداد الموظفين ورجال الإدارة. وهم الذين ارتقوا بالكتابة ، ونهضوا بالآداب والعلوم والطب. والمصريون على ما نعرف أول من وضع دستورا واضحا للضمير الفردي والضمير العام ، وهم أول من نادى بالعدالة الاجتماعية ، وبالاقتصار على زوجة واحدة ، وأول من دعا إلى التوحيد في الدين ، وأول من كتب الفلسفة ، وأول من نهض بفن العمارة والنحت وارتقى بالفنون الصغرى إلى درجة الإتقان والقوة لم يصل إليها فيما نعرف أحد من قبلهم ، وقلما باراهم فيها من جاء بعدهم"[16]. لكن هذا التراث العظيم حوله الاستبداد إلى جهل عميق ، يقول رالف لنتون: "يدرك كل من يدرس الحضارة المصرية بأن المصريين كانوا شعبا على حظ كبير من المهارة والعبقرية ، وأنه لم يعق تقدمهم سوى ما وصلت إليه نظم الحكومة من مركزية عنيفة لم يكد العالم يشهد لها مثيلا. كان هناك اتحاد كامل بين الدين والدولة ، وقد ترتبت على ذلك السيطرة الكاملة على أجساد الرعايا وعقولهم. وليس أمام مثل هذه النظم من فرصة للبقاء"[17].
8- وجوب مقاومة الطغاة والمستبدين
قال تعالى: ( رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيرا للمجرمين ) [القصص:17] ، تؤكد الآية على وجوب مقاومة الطغاة المستبدين ، مقاومة تقتضي أن ينشأ داخل النفس كراهية المستبدين وأعوانهم ، وأن تنشأ الإرادة الجازمة لمقاومتهم ، مقاومة تعني: التصدي للاستبداد ، وفضح أساليبه ، وتحذير الناس منه ، وخلق ونشر ثقافة المقاومة السلمية له ، ووجوب مقاطعة المستبدين ، وعدم التعاون معهم أو الركون إليهم.
هذه المقاومة هي أفضل أنواع الجهاد لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"[18] ، والشهادة فيها أعظم أنواع الشهادة: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قائم إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله"[19] ؛ أما القعود عنها فمؤذن بالزوال والخسران: "إذا رأيت أمتي تهاب فلا تقول للظالم يا ظالم ، فقد تودع منهم"[20].
9- استراتيجية المواجهة
تؤكد القصة أن الاستراتيجية المثلى للمقاومة هي استراتيجية المقاومة اللاعنفية أو المقاومة السلمية. سلمية هي أقوى من الرصاص وأمضى من الطائرات والدبابات ، وهي السلاح الأعظم تأثيرا في زلزلة أركان المستبد وإزالة نظامه. فلقد نجح موسى عليه السلام في تقويض الأسس التي قام عليها استبداد فرعون وطغيانه بانتهاج هذه السلمية ، وبصدقه وثباته ، وصدعه بالحق ، وقوة حجته:
· زلزلة نظرية الملك الإله: ( بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون. فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين. وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار ، إنه لا يفلح الظالمون. وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين ) [القصص:35-38] ، ولم يجرؤ فرعون أن يجزم بكذب موسى ولجأ إلى سلاح التشهير فقال: ( وإني لأظنه من الكاذبين ).
· إحداث شرخ كبير في ملأ فرعون ، مما أدى إلى إجهاض قرار خطير لفرعون بقتل موسى ومن آمن معه واستحياء نسائهم ، فقد ظهر مؤمن آل فرعون من داخل حاشية فرعون ودائرته المقربة في صنع القرار ، فدافع عن موسى عليه السلام دفاعا مستميتا ، وفند حجج فرعون.
· تحويل فرعون إلى أكبر جهاز دعاية لموسى عليه السلام ، عندما جعله يحشد الناس في عاصمة ملكه في يوم عيدهم وفي وضح النهار لحضور المناظرة الفاصلة مع السحرة ، إذ قال موسى عليه السلام: ( موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى. فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى ) [طه:60،59].
· توجيه ضربة قاصمة لجهاز السحرة عندما أبطل موسى عليه السلام سحرهم أمام أعين الناس الذين استرهبوهم وجاءوا بسحر مبين: ( وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ، إنما صنعوا كيد ساحر ، ولا يفلح الساحر حيث أتى ) [طه:69].
· ثبات السحرة بعد إيمانهم: ( آمنتم له قبل أن آذن لكم ، إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ، فلأُقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأُصلبنّكم في جذوع النخل ولتعلمن أيّنُا أشد عذابا وأبقى ) [طه:71] ، وكان ردهم ( لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ، فاقض ما أنت قاض ، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا. إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر ، والله خير وأبقى ) [طه:73،72].
10- جدوى السلمية
هذه السلمية التي انتهجها موسى عليه السلام – وانتهجها أيضا النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية - كانت سبيل المستضعفين للتحرر من ربقة الاستعمار والاستبداد في العصر الحديث ، فلقد "اُستخدمت استراتيجيات اللاعنف بفعالية ضد بعض أكثر الأنظمة وحشية للتغلب على القهر ومكافحة القمع. إلا أن هذه الاستراتيجيات كثيرا ما يساء فهمها على أنها سلبية أو رد فعل أو اعتمادها على الاحتجاجات فقط.
أحد الأفكار الأساسية لمنظري اللاعنف هو أن الحكومات تعتمد على روتين الطاعة والتعاون من شعبها. عندما تُقنع الحركات اللاعنفية الناس بسحب هذه الموافقة على نطاق واسع بما فيه الكفاية ، فإن جهود النظام للحفاظ على السلطة تصبح صعبة جدا. ومن خلال غل يد الأنظمة الظالمة - عبر تقويض قوات الأمن التابعة لها ، وإظهار عدم قدرة النظام على الحكم بطريقة شرعية – فإن حركات اللاعنف كثيرا ما هزمت الحكام الذين كانوا يُظن أنهم لا يُقهرون"[21].
وقامت كلا من الباحثتين ماريا جاي ستيفان وإريكا شينويت بتقييم مدى الفعالية الاستراتيجية للعنف واللاعنف في 323 صراعا من عام 1900 إلى عام 2006 ، فخلصتا إلى أن "الحملات الرئيسية غير العنفية حققت نجاحا في 53% من الحالات مقارنة ب 26% من حالات المقاومة العنيفة"[22]. وعللت الباحثتان هذه النتائج بما يلي:
· "الأول: التزام الحملة للوسائل غير العنيفة يعزز شرعيتها المحلية والدولية ، ويشجع على مشاركة أكثر وأوسع نطاقا في المقاومة ، والتي تترجَم إلى زيادة الضغوط التي تمارَس على الهدف. يمكن أن يترجَم الاعتراف بالمظالم الواقعة على المجموعة المتحدية إلى: دعم داخلي وخارجي أكبر لهذه المجموعة ، وعزلة للنظام المستهدف ، مما يقوض المصادر الأساسية لقوة النظام السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية.
· الثاني: في حين أن الحكومات تستطيع أن تبرر بسهولة الهجمات المرتدة العنيفة ضد المتمردين المسلحين ، فإنه من المرجح أكثر أن عنف النظام ضد الحركات السلمية يأتي بنتائج عكسية ضد النظام"[23].
11- عوامل النجاح
لقد تحقق النصر والتمكين ، ونال فرعون وجنوده ما يستحقون ، فما هي العوامل التي ساعدت على تحقيق ذلك ؟ لقد ذكرنا بعضها من قبل ، ولكننا نركز هنا على العوامل التالية:
· قضية عادلة: وعدالة القضية تنفي أي اتهام قد يوجه إلى موسى عليه السلام بأنه يسعى وراء مصالح شخصية أو يلهث وراء سلطة ومغانم دنيوية ، وهو اتهام يلصقه المستبد دائما بمعارضيه تبريرا لقمعهم وقتلهم.
· قيادة عالمة عاملة: يلتف حولها الناس ، قيادة تجمع بين العلم والعمل: علم يضبط عملها ، وعمل هو زكاة وتطبيق لعلمها. وليس المراد العلم الديني وحده ، بل علوم الدنيا أيضا حتى تكون هناك قراءة صحيحة للواقع ورؤية صائبة للمستقبل: ( رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين) [القصص:17] أي بما أنعمت عليّ من علم.
· الاهتمام بالعمل العام والسعي الدائم للإصلاح: فذلك يجذب الأنصار حتى من داخل الدائرة المحيطة بالمستبد ، قال تعالى: ( وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ) [القصص:20]. وقد حرص موسى عليه السلام على العمل العام حتى في أحرج اللحظات ، قال تعالى: ( ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس ووجد من دونهم امرأتين تذودان ، قال ما خطبكما ، قالتا لا نسقى حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير. فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير ) [القصص:24،23] ، وبفضل ذلك تحقق لموسى عليه السلام سد حاجته من الطعام والمأوى الآمن والزوجة المؤمنة. أمر آخر يؤكده هذا العامل أن الأخلاق الاجتماعية والعمل على تخفيف معاناة الناس أمور ضرورية للتغيير السياسي ومقاومة الاستبداد.
· الإخلاص والتجرد: فموسى عليه السلام قد جرّد قلبه من مصالحه الشخصية عندما هاله ما رآه من ظلم فرعون ، فناجى ربه: ( رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيرا للمجرمين ) [القصص:17] ، وأردف ذلك عمليا بنصرة من استغاث به. كما تجرد أيضا من عصبية الطائفة ، فلم يكن رفعه للظلم عن الإسرائيلي بسبب أنه من شيعته ، وإنما لمجرد أن هذا مظلوم استغاث به ، ولذلك توقف عن البطش بالقبطي عندما قال: ( يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ) [القصص:19].
· التقييم المستمر والاستفادة من الأخطاء: تعلم موسى عليه السلام من قتله القبطي خطأ ضرورة ضبط قوته وانفعاله ، فقال: ( هذا من عمل الشيطان ، إنه عدو مُضل مبين. قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له ، إنه هو الغفور الرحيم ) [القصص:16،15]. كما استفاد أيضا ثلاثة أشياء مهمة: مفاصلة أهل الباطل ، والحيطة والحذر ، والقراءة الجيدة للواقع: ( فأصبح في المدينة خائفا يترقب ) [القصص:18] إذ علم أن الصدام مع فرعون آت لا محالة. ونلاحظ هنا أن تقييم موسى عليه السلام لأفعاله ونتائجها يتسم بثلاث سمات مهمة: تقييم فوري ، تقييم ذاتي نابع من نفسه ، تقييم داخلي لأن التقييم العلني قد يدخل في إطار جلد الذات وقد يترتب عليه عواقب سيئة أقلها علم فرعون بما حدث.
· استعداد تام للتضحية: عندما تصدى موسى عليه السلام لرفع الظلم عن الناس قبل تكليفه بالرسالة ، كان يعلم أنه يدخل في مواجهة مع فرعون وأجهزة بطشه وقمعه ، مواجهة قد يترتب عليها محاكمات ظالمة والتنكيل به وتشريده بل وقتله أيضا.
· حكمة في المواجهة: حكمة لا تعني الضعف أو الاستسلام أو المهادنة ، فموسى عليه السلام لم يذهب بمفرده ، وإنما سعى لحشد ما يستطعيه من قوة ولو كان فردا واحدا: ( قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون. وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يُصدقني ، إني أخاف أن يكذبون ) [القصص:34،33]. كما أنه بالرغم من سوء رد فرعون وملئه إذ ( قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ) [القصص:36] ، فلم تخرجه سفاهة الرد عن حِلمه ، ولم ينتصر لنفسه ، ولم يستطع فرعون أن يجره إلى ما يؤخذ عليه أو يُستغل ضده ؛ بل كان خطابه خير عنوان لدعوته ، قال تعالى: ( وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عِنده ومن تكون له عاقبة الدار ، إنه لا يفلح الظالمون ) [القصص:37].
12- اهتمام القرآن بمقاومة الفساد والمفسدين
ربطت سورة القصص بين الاستبداد السياسي وبين الفساد واكتناز الثروات والزواج الحرام بين المال والسلطة ، وهي أمراض تدمر النسيج الاجتماعي والوطني وتنتهك حقوق الإنسان ، قال تعالى: ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم ، إن كان من المفسدين ) [القصص:4] ، وفي قصة قارون الذي بغى على قومه: ( وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، وأحسن كما أحسن الله إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض ، إن الله لا يحب المفسدين ) [القصص:77] ، وجعلت السورة مقاومة الفساد أعظم موجبات دخول الجنة: ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ، والعاقبة للمتقين ) [القصص:83].
13- خطورة المتلونين والمنافقين
يمثل قارون هذا الصنف المتلون المنافق ، الذي غرته زهرة الحياة الدنيا ، وأعمى بصره وبصيرته بريق المال والسلطان ، فنكص على عقبيه ، وصار ظهيرا للمجرمين والكافرين ، قال تعالى: ( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ، وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح ، إن الله لا يحب الفرحين. وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، وأحسن كما أحسن الله إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض ، إن الله لا يحب المفسدين. قال إنما أوتيته على علم عندي ، أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ، ولا يُسئل عن ذنوبهم المجرمون. فخرج على قومه في زينته ، قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ) [القصص:76-79].
كان قارون قريبا لموسى عليه السلام ، فكان "ابن عمته"[24] في قول أكثر المفسرين ، "وكان من السبعين الذين اختارهم موسى للمناجاة فسمع كلام الله"[25] ، "وكان يُسمى لحسن صورته المُنوَّر ، ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة منه ، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري"[26] ، وبغى على بني إسرائيل ، "وذكروا من أنواع بغيه: الكفر ، والكبر ، وحسده لموسى على النبوة ولهارون على الذبح والقربان ، وظلمه لبني إسرائيل حين ملكه فرعون عليهم ، ودسه بغِيّا تكذب على موسى أنه تعرض لها وتفضحه بذلك في ملأ من بني إسرائيل"[27] ، "وقال القفال: طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده"[28] ، كما أنه شق صف بني إسرائيل "إذ اعتزل قارون باتباعه وكان كثير المال والتَبَع من بني إسرائيل ، فما كان يأتي موسى ولا يجالسه"[29].
14- تحديد الخطاب الدعوي في الأزمات والمحن
سورة القصص كما هو ظاهر من موضوعها نزلت مباشرة قبل الهجرة وأثناءها والمسلمون مقدمون على مرحلة جديدة من حياتهم ، مرحلة تتميز بترك الديار والأموال وفراق البيت الحرام بما له من مكانة في القلوب وأي مكانة ، مرحلة تتميز بالعيش في مجتمع جديد يختلف في تكوينه وأنشطته الاقتصادية عن مكة ، مرحلة هم مقدمون فيها على بناء دولة وإقامة مجتمع على أسس جديدة ، ومقدمون أيضا على جهاد دائم ومواجهة مستمرة ليس مع قريش وحدها أو الوثنية العربية وحدها ؛ بل مع مستوطنات اليهود في المدينة وقوى العالم القديم من روم وفرس والقبائل العربية المتحالفة معها.
في هذا الجو العاصف ، ناسب ذكر قصة موسى عليه السلام وخروجه فرارا من مصر ، ثم عودته إليها ، وتمكين الله تعالى له وللمستضعفين ، وإهلاك من ساموهم سوء العذاب. لذلك جاء صدر السورة وختامها يحملان أعظم البشريات للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ، فقال تعالى في صدر السورة: ( ونريد أن نمُن على الذين اُستضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) [القصص:6،5]. وقال تعالى في ختامها: ( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) [القصص:85]. إذن ، ففي الأزمات والمحن وفي المواقف الفاصلة في حياة الأمة وفي المواجهات الحاسمة مع الطغاة والمستبدين يجب أن يكون الخطاب الدعوي:
· مرتبطا بكتاب الله تعالى لا منفصلا عنه.
· مواكبا للمرحلة ؛ وليس غائبا أو مغيبا عنها.
· مبشرا لا منفرا ، ميسرا لا معسرا ، مؤملا لا مؤيسا.
· مستهلما دروس التاريخ ، ومستفيدا من التراث الإنساني ،
· منفتحا على الآخرين ؛ وليس منغلقا على ذاته.
· مدركا لحقيقة الصراع ، يحسن قراءة الواقع ، ويستشرف المستقبل.
· مرتبا لأولوياته ؛ فلا يجوز في وقت الأزمات تغييب عقل الأمة أو صرف اهتماماتها إلى أمور ليس ذلك وقتها أو ليس وقت إثارتها.
· مقويا للعزائم ، وموحدا للصف ، وشاحذا للهمم.
من أجل هذه المعاني جميعها أيضا ، ناسب أن يكون اسم السورة سورة القصص ، رغم أن لفظ القصص لم تختص به السورة وحدها ، وإنما ورد في ثلاثة مواضع أخرى في سور: آل عمران والأعراف ويوسف. وهذه إشارة إلى أنه هذا هو القصص الذي يجب أن يقرأه المسلمون ويتدبروا معانيه ويستفيدوا من دروسه في مواجهتهم للاستبداد والطغيان ، وفي إقامتهم لدولتهم وبنائهم لمجتمعهم ، وفي المواقف الفاصلة في حياة الأمة.
15- الاستبداد الديني والسياسي شيطانان لا يفترقان
تربط سورة القصص بين الاستبدادين الديني والسياسي ، فهما شيطانان لا يفترقان ، إذا حل أحدهما بأمة جلب الآخر معه. ففرعون أوصله استبداده وخنوع الناس له أن ادعى الألوهية: ( ما علمت لكم من إله غيري ) [القصص:38] ، وكانت المؤسسة الدينية آنذاك عاملا مهما في ترسيخ استبداده ، إذ شكل الكهنة جزءا مهما من ملأ فرعون وبلاطه ، وأغدق عليهم الأموال والمزايا ليشتري ضمائرهم وفتاويهم.
وكذلك ، كان استبداد قريش ورفضها للحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم واتباعها للهوى ، رغم أن ما جاء به النبي صلى الله عليهم هو الحق الذي لا مراء فيه ، قال تعالى: ( وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين. ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العُمُر ، وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين. وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون. ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين. فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أُوتي مثل ما أوتي موسى ، أو لم يكفروا بما أُوتي موسى من قبل ، قالوا سِحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون. قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين. فإن لم يستجيبوا لك فأعلم أنما يتبعون أهواءهم ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين. ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ) [القصص:44-51].
والله تعالى من فضله وكرمه يرسل المبشرات التي يثبت بها أفئدة عباده ، فجاء وفد نصارى نجران: ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به مؤمنون. وإذا يُتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين. أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون. وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ) [القصص:52-55].
ويبقى الدرس الذي يجب أن يعيه كل مسلم ، أنه أداة للتغيير وليس صانعا له: ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ، وهو أعلم بالمهتدين ) [القصص:56].
16- الاستبداد الاقتصادي وكيفية مقاومته
يبين نموذج قارون أن الاستبداد الاقتصادي هو أحد الثمار المرة للاستبداد السياسي. فكما يتصرف المستبد في رقاب الناس وإرادتهم وفق هواه وإرادته ، فإن الاستبداد الاقتصادي هو تصرف الحاكم وأعوانه في موارد البلاد وثرواتها بما يحقق أهواءهم ومصالحهم آمنين من المسائلة والمحاسبة تاركين الشعب يلهث خلف لقمة العيش جراء هذا التفاوت الفاحش في الدخول. وتبين سورة القصص سبل مقاومة هذا الاستبداد الاقتصادي:
· المستوى الشخصي: ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، وأحسن كما أحسن الله إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض ، إن الله لا يحب المفسدين ) [القصص:77].
· المستوى المجتمعي: ( إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين. وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، وأحسن كما أحسن الله إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض ، إن الله لا يحب المفسدين ) [القصص:77،76]. وبنصح من يتأثرون به: ( فخرج على قومه في زينته ، قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم. وقال الذين أوُتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ، ولا يلقاها إلا الصابرون ) [القصص:80،79].
· المستوى التشريعي: قوله تعالى: ( ولا تبغ الفساد في الأرض ، إن الله لا يحب المفسدين ) [القصص:77] له في الشرع وفي السياسة الشرعية وفي فقه الأموال تطبيقات متعددة مثل منع الممارسات الاقتصادية الضارة بالمجتمع ، تحريم الربا ، منع الغني من التصرف في ماله إذا كان سفيها ، التسعير عند الضرورة ، إلزام الأغنياء بما يحتاجه المجتمع خصوصا في أوقات الأزمات والكوارث ، منع دفع الزكاة للحكام الظلمة وأهل الجور والفساد..
17- جزاء المقاومة وثواب المقاومين
تبين سورة القصص في ختامها الكثير من المنن والبشريات لمن يقاوم الاستبداد ويتصدى للقمع والطغيان:
· الفوز بالجنة: ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ، والعاقبة للمتقين ) [القصص:83] ، فكأن الله تعالى لم يجعل الجنة إلا لهم.
· إرشادهم إلى المنهج السوي في الحكم والحياة: منهج يقوم على تكريم وحفز المحسن ، والعدل مع المسئ: ( من جاء بالحسنة فله خير منها ، ومن جاء بالسيئة فلا يُجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ) [القصص:84].
· النصر والتمكين: ( إن الذي فرض عليك القرآن لرآدّك إلى معاد ) [القصص:85]: سيردك الله تعالى إلى مكة فاتحا منتصرا بعد أن أخرجك أهلها منها.
· دفاع الحق تبارك وتعالى عنهم وإرشادهم إلى خطاب إعلامي متوازن وحكيم: ( قل ربي أعلم بمن جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين ) [القصص:85].
18- لوازم الطريق
طريق مقاومة الاستبداد يحتاج إلى معينات تشد من أزر المقاومين ، وتمدهم بزاد لا ينضب معينه من الصبر والصمود. ولا بد لهم فيه من بوصلة تضبط أداءهم وتنظم حركتهم ، فالدعاة إلى جهنم ومزينو الحلول الاستسلامية والرضا بالواقع المر ما أكثرهم:
· استشعار فضله تعالى: ( وما كنت ترجو أن يُلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ) [القصص:86] ، فالله تعالى يصطفي من عباده شهداء ومجاهدين وعاملين لدينه ، يرفع درجاتهم ، ويعلي قدرهم ، ويجعلهم سادة وأئمة للعالمين.
· مقاطعة الكافرين والمجرمين: ( فلا تكونن ظهيرا للكافرين ) [القصص:86] ، "المظاهرة: المعاونة ، وهي مراتب ، أعلاها: النصرة ، وأدناها: المصانعة والتسامح ، لأن في المصانعة على المرغوب إعانة لراغبه"[30].
· التمسك بالقرآن: ( ولا يصُدُّنّك عن آيات الله بعد إذ أُنزلت إليك ) [القصص:87].
· الدعوة الكاملة غير المنقوصة: ( وادع إلى ربك ): دعوة لا تعزل الناس عن واقع حياتهم ، ولا تفصل الدين عن الدولة ، ولا تشغلهم في قضايا هامشية أو معارك جانبية ، وتعرض الإسلام بشموله وكماله ووسطيتهوسِعة أحكامه وصلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان.
· استقلال الهوية وتميزها: ( ولا تكونن من المشكرين ) [القصص:87].
· التوحيد الكامل لله رب العالمين: ( ولا تدع مع الله إلها آخر ، لا إله إلا هو ) [القصص:88].
· التجرد والعمل للآخرة: ( كل شئ هالك إلا وجهه ، له الحكم وإليه تُرجعون ) [القصص:88].
لماذا يخاف المستبدون والأعداء من الإسلام ؟
في ضوء ما سبق نستطيع أن نجيب على أسئلة مهمة ترتبط بتقييمنا للأحداث ، ووضع استراتيجية المواجهة ، وبناء توقعات المستقبل: لماذا يخاف المستبدون من الإسلام الصحيح كدين ودولة وعقيدة وجهاد ومصحف وسيف ؟ ولماذا يسعون ما وسعهم الجهد لإقصائه ؟ ولماذا تلتقي مصالح الفرقاء فكرا وتوجها على حرب هذا الدين وحرب دعاته ؟ ولماذا يتحالف الداخل مع الخارج على وأد أي تقدم نحو الإصلاح مثلما تحالف اليهود مع قريش لحرب النبي صلى الله عليه وسلم وإمدادهم بما يجادلونه ويحاربونه به وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: ( فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وإنا بكل كافرون ) [القصص:48].
[1]- محمد متولي الشعراوي ، خواطري حول القرآن الكريم ، دار أخبار اليوم ، مصر ، 1991 ، 10876:17.
[2] - معدل ذكر الأنبياء: آدم 25 مرة ، ونوح 33 مرة ، وإبراهيم 69 مرة ، وعيسى 4 مرات ، وداود 16 مرة ، وسليمان 17 مرة. أما النبي صلى الله عليه وسلم فنادرا ما كان يذكر أو ينادى باسمه ؛ وإنما معظم الخطاب له: يا أيها النبي ويا أيها الرسول تكريما وتشريفا له.
[3]- وردت لفظة المدينة 14 مرة ، منها خمس مرات لعاصمة مصر.
[4]- تكررت كلمة جنود – سواء معرفة أو منكرة أو مضافة في القرآن الكريم 21 مرة.
[5]- وردت كلمة ملأ – سواء معرفة بالأف واللام أو مضافة إلى ضمير الغائب – 25 مرة ، والمضاف منها جاء كله لفرعون مما يدل على شدة سطوته وسيطرته على دوائر صنع القرار المحيطة به.
[6]- الخطيب الشربيني ، السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض كلام ربنا العليم الخبير ، مطبعة بولاق ، مصر ، 1285 ه – 1881 م ، 80:3.
[7]- النسفي ، مدارك التنزيل وحقائق التأويل ، تحقيق يوسف علي بديوي ، دار الكلم الطيب ، الطبعة الأولى ، بيروت ، 1419 ه – 1998 م ، 628:2.
[8]- الرسعني ، رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز ، تحقيق عبد الملك عبد الله دهيش ، مكتبة الأسدي ، الطبعة الأولى ، مكة المكرمة ، 1429 ه – 2008 م ، 543:5.
[9]- د. عبد الرحمن حسن ، الجيش في مصر القديمة ، القاهرة ، 1967 م ، ص:6.
[10]- المصدر السابق ، ص:6.
[11]- د. أحمد قدري ، العسكرية المصرية في عصر الإمبراطورية ، ترجمة مختار السويفي ومحمد العزب موسى ، هيئة الآثار ، القاهرة ، 1985 ، ص:297.
[12]- آلن شورتر ، الحياة اليومية في مصر القديمة ، ترجمة د. نجيب ميخائيل إبراهيم ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1997 م ، ص:18.
[13]- المصدر السابق ، ص:18.
[14]- رالف لنتون ، شجرة الحضارة ، ترجمة د. أحمد فخري ، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر ، القاهرة – نيويورك ، 1961 م ، 46:3.
[15]- فلندرز بيتري ، الحياة الاجتماعية في مصر القديمة ، ترجمة حسن محمد جوهر وعبد المنعم عبد الحليم ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1975 م ، ص:94،93.
[16]- ول ديورانت ، قصة الحضارة ، ترجمة محمد بدران ، مكتبة الأسرة ، القاهرة ، 2001 م ، 186،185:2.
[17]- رالف لنتون ، مصدر سابق ، 60:3.
[18]- حديث صحيح: الألباني ، صحيح الجامع الصغير ، حديث رقم:1100 ، المكتب الإسلامي ، الطبعة الثالثة ، بيروت ، 1408 ه – 1988 م ، 248:1.
[19]- حديث حسن: المصدر السابق ، حديث رقم:3676 ، 685:1.
[20]- الحاكم ، المستدرك على الصحيحين ، كتاب الأحكام ، حديث رقم:7036 ، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الثانية ، بيروت ، 1422 ه – 200 م ، 108:4 ، وقال حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
[21]- John T. Crist, Harriet Hentges, Daniel Serwer, Strategic Nonviolent Conflict, United States Institute Of Peace, Special Report 87, Washington, May, 2002.
[22]- Maria J. Stephan, Erica Chenoweth, Why Civil Resistance Works, International Security, vol.33, No.1, 2008, U.S.A, p:8.
[23]- Ibid, p:8,9.
[24]- الثعلبي ، الكشف والبيان ، تحقيق الإمام أبي محمد بن عاشور ، دار إحياء التراث العربي ، الطبعة الأولى ، بيروت ، 1422 ه – 2002 م ، 259:7.
[25]- صديق حسن القنوجي ، فتح البيان في مقاصد القرآن ، المكتبة العصرية ، بيروت ، 1412 ه – 1992 م ، 147:10.
[26]- الثعلبي ، مصدر سابق ، 259:7.
[27]- أبو حيان الأندلسي ، تفسير البحر المحيط ، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وآخرون ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ، بيروت ، 1413 ه – 1993 م ، 126:7.
[28]- ابن عادل ، اللباب في علوم الكتاب ، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وآخرين ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ، بيروت ، 1419 ه – 1998 م ، 287:15.
[29]- المصدر السابق ، 287:15.
[30]- محمد الطاهر بن عاشور ، التحرير والتنوير ، الدار التونسية للنشر ، تونس ، 1984 م ، 195:20.
سورة القصص والواقع المصري
سورة القصص سورة مكية ، نزلت قبيل الهجرة وأثناءها. والمحور العام للسورة هو الحديث عن الاستبداد ، لذا فقد شغلت قصة موسى عليه السلام مع فرعون حيزا كبيرا منها للتشابه الكبير بين استبداد فرعون وقريش ، فكلاهما قام على أساس ديني ، وكلاهما استخدم كافة الأسلحة ضد المؤمنين. وتؤكد السورة على حتمية انتصار الحق وزهوق الباطل ، فهي:
· رسالة قوية لكل ضعيف انقطعت به السبل أمام الطغيان أن عليه مقاومته حتى ولو كان كل ما يملكه هو هتاف ينطق به أو كلمة حق يقولها متيقنا "أن الله تعالى كتب ألا يفلح ظلوم ، وألا يموت ظلوم حتى ينتقم للمظلوم منه ، ويريه فيه عاقبة ظلمه"[1].
· رسالة قوية لكل طاغية ( استكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يُرجعون ) [القصص:39] أنه لا بقاء لمستبد ولا دوام لاستبداد.
هذه الرسالة أكدتها السورة الكريمة في مواضع متعددة ، وجاء مطلعها وختامها يؤكدان ذلك بأقوى صيغ التأكيد تأكيدا ، قال تعالى في صدرها: ( ونريد أن نمُن على الذين اُستضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الأرض ونُري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) [القصص:6،5] ، وقال تعالى في ختامها: ( إن الذي فرض عليك القرآن لرآدّك إلى معاد ) [القصص:85] أي سيعيدك إلى مكة فاتحا منتصرا. وهنا يستوقفنا كثرة عرض القرآن لقصة موسى وفرعون في سور كثيرة:
· معظم ورود القصة في القرآن المكي في فترة فيها الدعوة مطاردة ومستضعفة.
· موسى عليه السلام هو أكثر الأنبياء ذكرا في القرآن ، فقد ذُكر 136 مرة ، منها 112 مرة بالقرآن المكي[2].
· فرعون هو أكثر أعداء الله ذكرا في القرآن: 74 مرة ، منها 66 مرة بالقرآن المكي. وهو أكثر ورودا من إبليس الذي ذكر 11 مرة فقط ، منها 10 مرات بالقرآن المكي.
· ذكرت مصر 4 مرات ، فهي أكثر بلد ذكره القرآن تصريحا بدون إضافة الأهل إليه.
· أكثر عاصمة ذكرا في القرآن هي عاصمة مصر التي وردت 5 مرات ، وأشار إليها القرآن بلفظ المدينة[3].
· وردت مشتقات كلمة فسد 32 مرة في كتاب الله ، منها 7 مرات متعلقة بفرعون وقومه ورجال حاشيته ، وتكررت مشتقاتها 4 مرات في سورة القصص.
· ذُكر هامان وزير فرعون 6 مرات ، نصفها في سورة القصص.
· ذُكر جنود[4] فرعون أو فرعون وهامان 8 مرات في القرآن كله ، نصفها في سورة القصص.
· جاء الحديث عن ملأ فرعون في القرآن 11 مرة ، منهم 3 في سورة القصص[5].
· قارون هو رجل الأعمال الوحيد المذكور في القرآن ، فقد ورد اسمه 4 مرات نصفها في القصص.
هذه الملاحظات تعني أن هذا القصص لم يكن للتسرية عن قلب النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة فحسب ، ولا لترهيب المشركين ؛ وإنما جاء حاملا دلالات ورسائل متعددة:
1- أهمية الإيمان في مواجهة الطغيان
نزلت السورة من أجل المؤمنين لينتفعوا بدروسها ، ويتدبروا معانيها ، ويصدقوا بموعودها: ( طسم. تلك آيات الكتاب المبين. نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ) [القصص:1-3] ، لذا فقد أكدت السورة أن انتصار المستضعفين لا يتوقف على العدد والعدة ؛ وإنما على الإيمان الوثيق بالله تعالى مع عدم إهمال الأسباب الأرضية المتاحة:
· فبالإيمان يدرك الإنسان كرامته وقيمة وجوده ووجوب أن يعيش عزيزا.
· وبالإيمان يثق المسلم أن الدنيا كلها لو اجتمع كل طغاتها ومستبديها على أن يضروه بشئ ، لن يضروه إلا بشئ قد كتبه الله عليه ، رُفعت الأقلام وجفت الصحف.
· وبالإيمان يتحقق الأنس بالله والأمن به.
وبالإيمان يصبح سجن المؤمن خلوة ، ونفيه سياحة ، وقتله شهادة.
· وبالإيمان يحدد المرء ولاءه في الأوقات الفاصلة التي لا يجوز فيها تذبذب المواقف وإمساك العصا من المنتصف أو الجلوس في مقاعد المتفرجين: ( رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيرا للمجرمين ) [القصص:17] فمظاهرة المجرمين تكون بالفعل الإيجابي المساند للمستبدين ، وتكون أيضا بالصمت على أفعالهم وأعمالهم وعدم التصدي لهم.
بهذا الإيمان يشهد المؤمن يد الله تعالى الفاعلة في الكون ، ويدرك يقينا أن النصر هو إرادة إلهية ومنحة ربانية: ( ونريد أن نمن على الذين اُستضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) [القصص:5] ، ( إن الذي فرض عليك القرآن لرآدّك إلى معاد ) [القصص:85]. وترسيخ هذا المعنى ضروري لاستمرار المقاومة ، فلا يستبطئ أحد النصر ، ولا يستجعل الخطى ، ولا يتسرب إلى نفسه اليأس مع سطوة الباطل وعلوه وضعف الحق وقلة حيلته.
وقد أفردت سورة القصص لهذا المعنى مساحة كبيرة ، نقتطف منها هذه الآيات التي تسجد لجلالها القلوب ، وتخشع الأبدان ، وترق الجوارح: ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ، ما كان لهم الخيرة ، سبحان الله وتعالى عما يشركون. وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون. وهو الله لا إله إلا هو ، له الحمد في الأولى والآخرة ، وله الحكم وإليه تُرجعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة مَن إله غير الله يأتيكم بضياء ، أفلا تسمعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة مَن إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه ، أفلا تبصرون. ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون. ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون ) [القصص:68-75].
هذا الإيمان يعني أيضا أن الوحي المنزل هو سبيل المؤمنين لتحقيق النصر ، قال تعالى مخاطبا موسى وهارون عليهما السلام: ( بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ) [القصص:35].
2- بناء الدولة وإقامة الأمة
لقد جاءت قصة موسى عليه السلام وفرعون لتحقيق هدف مستقبلي وهو: تأسيس أمة وإقامة أركان دولة تكون نموذجا ومنارة هادية للبشرية جمعاء. فكان لا بد من الاستفادة من التراث الإنساني وتجارب الأمم السابقة ، قال تعالى: ( نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ) [القصص:3] ، فالسورة من أولها إلى آخرها تبين أن الاستبداد بكافة صوره: الديني والسياسي والاقتصادي واستبداد الجهل والهوى ، وكذلك تفشي المظالم وانتهاكات حقوق الإنسان كلها عوامل تؤدي إلى سقوط الدول وأفول الحضارات. كما تؤكد السورة أيضا على أن إصلاح الدنيا بالدين هي الوظيفة الأساسية للأمة: ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ، والعاقبة للمتقين ) [القصص:83].
3- أهمية مصر في مسيرة الدعوة ومستقبل البشرية
تكرار القصة فيه إشارة إلى دور محوري لمصر في مستقبل هذا الدين ، وقيادة العالم الإسلامي وصناعة مستقبله وصياغة مصيره:
· فقد أطلقت السورة وصف الأرض عليها: قال تعالى: ( إن فرعون علا في الأرض ) [القصص:4] "أي أرض مصر ، وإطلاقها يدل على تعظيمها وأنها كجميع الأرض لاشتمالها على ما قلّ أن يشتمل عليه غيرها"[6] ، ويدل أيضا إطلاق وصف الأرض عليها على عمق تأثيرها وتأثير ما يجري فيها من أحداث على غيرها من الأرض.
· وخصت السورة أهلها بأنهم ( أئمة ) ، وهو وصف لم يرد على وجه التخصيص لشعب من الشعوب إلا لشعبها ، قال تعالى في صالحي أهلها: ( ونريد أن نمن على الذين اُستضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) [القصص:5]: أي "قادة يُقتدى بهم في الخير أو دعاة إلى الخير أو ولاة وملوكا"[7]. وقال تعالى في فرعون وجنوده: ( وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ) [القصص:41] أي "قادة في الكفر"[8].
4- ركائز الاستبداد
الاستبداد والذي يمثله نموذج فرعون وأجهزة أمنه وقمعه وجحافل جنوده وكهنته وسحرته أخطر من إبليس ذاته على عقائد الناس وقدرتهم على إقامة دينهم وتنفيذ أحكامه. لذا ، فقد تكررت القصة لتحذير الأمة من السكوت على الموبقات السياسية والاجتماعية ، ولتحذيرها أيضا من نموذج الدولة الفرعونية التي هي أخطر ما تواجهه الدعوة في مستقبل الأيام. لذلك كله ، فقد بينت سورة القصص الركائز التي اعتمد عليها فرعون في بناء نظامه الاستبدادي ومنع بها أي خروج عليه حتى تجتنبها الأمة وتنأى بنفسها عنها:
· تأليه الحاكم: ( إن فرعون علا في الأرض ) [القصص:4] ، ( ما علمت لكم من إله غيري ) [القصص:38]: يؤله الفرعون ذاته ليؤبد حكمه ويحصن قراراته ويمنع أي خروج عليه. تأليه يسخر له أبواق دعايته ، فكل شئ يجري بحكمته التي لولاها لضاعت البلاد والعباد ، وهو منزه عن الخطأ فلا يُسئل عما يفعلون وهم يُسئلون.
·سلطة غاشمة مستبدة: ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ، إنه كان من المفسدين ) [القصص:4] ، يقسم فرعون شعبه شيعا وطوائف تبعا لنظرية "نحن شعب وانتوا شعب" ، فيقرب طائفة ويقصي آخرين عملا بسياسة فرق تسد.
· دولة بوليسية قمعية: كون فرعون من خلال وزيره هامان نظاما بوليسيا قمعيا ، ووظف شرطته واستخباراته وحتى الأجهزة الخدمية في التجسس على الشعب ، وتنفيذ أوامر القتل خارج إطار القانون ، وانتهاك أبسط حقوق الإنسان وهي حقه في الحياة ، وجعل أفراد الشعب مرشدين ومخبرين على بعضهم البعض مثلما حدث في قصة قتل مواليد بني إسرائيل الذكور ، قال تعالى: ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ، فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني ، إنا رآدّوه إليك وجاعلوه من المرسلين. فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ، إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ) [القصص:8،7].
· عسكرة النظام: لكي يضمن بعض الفراعنة السيطرة الكاملة على مصر ، فقد عسكروا الحياة فيها ، وأغدقوا على الجيش الميزات والمنح حتى إن "الجنود المصرية كانت تمتلك ثلث أراضي مصر الزراعية"[9] ، و"من الامتيازات التي كان يتمتع بها الجندي المصري أيضا ألا يودع السجن إذا لم يدفع دينا في عنقه ، ولا يتولى القبض عليه رجال السلطة المدنية ، بل كانت جُل شؤونه يهيمن عليها العسكريون"[10] ، "ونتيجة للحروب الطويلة في ذلك العصر ، أخذت مصر مظهر الدولة العسكرية"[11].
· ملأ فاسد: قامت الحاشية ودوائر صنع القرار وأركان الدولة والنخب اللصيقة بفرعون وكهنته وسحرته بتزيين أعماله ، وشاركوه في صنع قراراته ، وصمتوا على جرائمه ، ولذلك أرسل الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون وملئه: ( فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه ، إنهم كانوا قوما فاسقين ) [القصص: 32].
· شعب مغيب مستضعف: يترعرع الاستبداد في بيئة تمزقها الصراعات الطائفية والعرقية ، وفي مناخ القمع وكبت الحريات وإغراق الشعب في الانحطاط الأخلاقي وسعار الشهوات ، وهذا ما فعله فرعون بشعبه: ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يُذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ، إنه كان من المفسدين ) [القصص:4] ، كما سعى فرعون لإفقار شعبه وإلهائه في اللهاث خلف لقمة العيش بتركيزه الثروة في أيدي قلة قليلة كقارون وحرمان الشعب من موارد البلاد.
7- الثمار المرة للاستبداد
عرضت سورة القصص الثمار المرة للاستبداد التي حاقت بمصر نتيجة طغيان فرعون واستبداده ، والدولة البوليسية القمعية التي حكم بها الناس ، وما قام به من عسكرة للنظام:
أ- تقلص مساحة ومكانة مصر:
استطاع المصريون "أن يكونوا إمبراطورية عالمية"[12] ، و"ارتفعت طيبة مقر البيت المالك إلى مرتبة العاصمة للعالم القديم"[13] ؛ إلا أن فرعون باستبداده تقلصت على يديه مصر ، واستولى بنو إسرائيل على ممتلكاتها في الشام وفلسطين ، قال تعالى: ( ونريد أن نمُن على الذين اُستضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) [القصص:5].
ب- القضاء على القوة العسكرية المصرية:
بلغت القوة العسكرية المصرية شأوا عظيما في عهد الفراعنة الذين "جعل ملوكها من مصر قوة حربية عالمية للمرة الأولى في التاريخ"[14] ؛ لكن استبداد فرعون قضى على هذه القوة ، قال تعالى: ( واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يُرجعون. فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) [القصص:40،39].
ج- سمعة سيئة في مجال الحقوق والحريات:
كانت مصر قبل فرعون منارة للحقوق والحريات وسيادة القانون ، فالحاكم "لم يكن يستطيع أن يقوم بأي عمل عام أو يُدين شخصا أو يعاقب آخر لمجرد نزعة شخصية ، أو بقصد التشفي والانتقام ، أو لأي دافع آخر لا يتفق وروح العدالة ؛ ولكنه كان مقيد التصرف في كل حالة وفق ما تنص عليه القوانين. ومن أجل ذلك رأينا الملوك وقد راعوا العدالة والمساواة في المعاملة بين رعاياهم فاكتسبوا من محبتهم ما يزيد كثيرا على ما يكنونه لأهلهم من حب"[15] ؛ لكن فرعون أطاح بهذا التراث الرفيع ، وجعل لمصر سمعة سيئة في مجال الحقوق والحريات ، وجعلها إيضا إماما لكل طاغية ومستبد ، قال تعالى: ( وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ، ويوم القيامة لا يُنصرون. وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ، ويوم القيامة هم من المقبوحين ) [القصص:42،41].
د- التراجع الحضاري:
المصريون كانوا أئمة العالم القديم فهم "أول من أقام حكومة منظمة نشرت لواء السلام والأمن في البلاد ، وأنهم أول من أنشأ نظام البريد والتعداد والتعليم الابتدائي والثانوي ، بل إنهم أول من أوجد نظام التعليم الفني لإعداد الموظفين ورجال الإدارة. وهم الذين ارتقوا بالكتابة ، ونهضوا بالآداب والعلوم والطب. والمصريون على ما نعرف أول من وضع دستورا واضحا للضمير الفردي والضمير العام ، وهم أول من نادى بالعدالة الاجتماعية ، وبالاقتصار على زوجة واحدة ، وأول من دعا إلى التوحيد في الدين ، وأول من كتب الفلسفة ، وأول من نهض بفن العمارة والنحت وارتقى بالفنون الصغرى إلى درجة الإتقان والقوة لم يصل إليها فيما نعرف أحد من قبلهم ، وقلما باراهم فيها من جاء بعدهم"[16]. لكن هذا التراث العظيم حوله الاستبداد إلى جهل عميق ، يقول رالف لنتون: "يدرك كل من يدرس الحضارة المصرية بأن المصريين كانوا شعبا على حظ كبير من المهارة والعبقرية ، وأنه لم يعق تقدمهم سوى ما وصلت إليه نظم الحكومة من مركزية عنيفة لم يكد العالم يشهد لها مثيلا. كان هناك اتحاد كامل بين الدين والدولة ، وقد ترتبت على ذلك السيطرة الكاملة على أجساد الرعايا وعقولهم. وليس أمام مثل هذه النظم من فرصة للبقاء"[17].
8- وجوب مقاومة الطغاة والمستبدين
قال تعالى: ( رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيرا للمجرمين ) [القصص:17] ، تؤكد الآية على وجوب مقاومة الطغاة المستبدين ، مقاومة تقتضي أن ينشأ داخل النفس كراهية المستبدين وأعوانهم ، وأن تنشأ الإرادة الجازمة لمقاومتهم ، مقاومة تعني: التصدي للاستبداد ، وفضح أساليبه ، وتحذير الناس منه ، وخلق ونشر ثقافة المقاومة السلمية له ، ووجوب مقاطعة المستبدين ، وعدم التعاون معهم أو الركون إليهم.
هذه المقاومة هي أفضل أنواع الجهاد لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"[18] ، والشهادة فيها أعظم أنواع الشهادة: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قائم إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله"[19] ؛ أما القعود عنها فمؤذن بالزوال والخسران: "إذا رأيت أمتي تهاب فلا تقول للظالم يا ظالم ، فقد تودع منهم"[20].
9- استراتيجية المواجهة
تؤكد القصة أن الاستراتيجية المثلى للمقاومة هي استراتيجية المقاومة اللاعنفية أو المقاومة السلمية. سلمية هي أقوى من الرصاص وأمضى من الطائرات والدبابات ، وهي السلاح الأعظم تأثيرا في زلزلة أركان المستبد وإزالة نظامه. فلقد نجح موسى عليه السلام في تقويض الأسس التي قام عليها استبداد فرعون وطغيانه بانتهاج هذه السلمية ، وبصدقه وثباته ، وصدعه بالحق ، وقوة حجته:
· زلزلة نظرية الملك الإله: ( بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون. فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين. وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار ، إنه لا يفلح الظالمون. وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين ) [القصص:35-38] ، ولم يجرؤ فرعون أن يجزم بكذب موسى ولجأ إلى سلاح التشهير فقال: ( وإني لأظنه من الكاذبين ).
· إحداث شرخ كبير في ملأ فرعون ، مما أدى إلى إجهاض قرار خطير لفرعون بقتل موسى ومن آمن معه واستحياء نسائهم ، فقد ظهر مؤمن آل فرعون من داخل حاشية فرعون ودائرته المقربة في صنع القرار ، فدافع عن موسى عليه السلام دفاعا مستميتا ، وفند حجج فرعون.
· تحويل فرعون إلى أكبر جهاز دعاية لموسى عليه السلام ، عندما جعله يحشد الناس في عاصمة ملكه في يوم عيدهم وفي وضح النهار لحضور المناظرة الفاصلة مع السحرة ، إذ قال موسى عليه السلام: ( موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى. فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى ) [طه:60،59].
· توجيه ضربة قاصمة لجهاز السحرة عندما أبطل موسى عليه السلام سحرهم أمام أعين الناس الذين استرهبوهم وجاءوا بسحر مبين: ( وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ، إنما صنعوا كيد ساحر ، ولا يفلح الساحر حيث أتى ) [طه:69].
· ثبات السحرة بعد إيمانهم: ( آمنتم له قبل أن آذن لكم ، إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ، فلأُقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأُصلبنّكم في جذوع النخل ولتعلمن أيّنُا أشد عذابا وأبقى ) [طه:71] ، وكان ردهم ( لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ، فاقض ما أنت قاض ، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا. إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر ، والله خير وأبقى ) [طه:73،72].
10- جدوى السلمية
هذه السلمية التي انتهجها موسى عليه السلام – وانتهجها أيضا النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية - كانت سبيل المستضعفين للتحرر من ربقة الاستعمار والاستبداد في العصر الحديث ، فلقد "اُستخدمت استراتيجيات اللاعنف بفعالية ضد بعض أكثر الأنظمة وحشية للتغلب على القهر ومكافحة القمع. إلا أن هذه الاستراتيجيات كثيرا ما يساء فهمها على أنها سلبية أو رد فعل أو اعتمادها على الاحتجاجات فقط.
أحد الأفكار الأساسية لمنظري اللاعنف هو أن الحكومات تعتمد على روتين الطاعة والتعاون من شعبها. عندما تُقنع الحركات اللاعنفية الناس بسحب هذه الموافقة على نطاق واسع بما فيه الكفاية ، فإن جهود النظام للحفاظ على السلطة تصبح صعبة جدا. ومن خلال غل يد الأنظمة الظالمة - عبر تقويض قوات الأمن التابعة لها ، وإظهار عدم قدرة النظام على الحكم بطريقة شرعية – فإن حركات اللاعنف كثيرا ما هزمت الحكام الذين كانوا يُظن أنهم لا يُقهرون"[21].
وقامت كلا من الباحثتين ماريا جاي ستيفان وإريكا شينويت بتقييم مدى الفعالية الاستراتيجية للعنف واللاعنف في 323 صراعا من عام 1900 إلى عام 2006 ، فخلصتا إلى أن "الحملات الرئيسية غير العنفية حققت نجاحا في 53% من الحالات مقارنة ب 26% من حالات المقاومة العنيفة"[22]. وعللت الباحثتان هذه النتائج بما يلي:
· "الأول: التزام الحملة للوسائل غير العنيفة يعزز شرعيتها المحلية والدولية ، ويشجع على مشاركة أكثر وأوسع نطاقا في المقاومة ، والتي تترجَم إلى زيادة الضغوط التي تمارَس على الهدف. يمكن أن يترجَم الاعتراف بالمظالم الواقعة على المجموعة المتحدية إلى: دعم داخلي وخارجي أكبر لهذه المجموعة ، وعزلة للنظام المستهدف ، مما يقوض المصادر الأساسية لقوة النظام السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية.
· الثاني: في حين أن الحكومات تستطيع أن تبرر بسهولة الهجمات المرتدة العنيفة ضد المتمردين المسلحين ، فإنه من المرجح أكثر أن عنف النظام ضد الحركات السلمية يأتي بنتائج عكسية ضد النظام"[23].
11- عوامل النجاح
لقد تحقق النصر والتمكين ، ونال فرعون وجنوده ما يستحقون ، فما هي العوامل التي ساعدت على تحقيق ذلك ؟ لقد ذكرنا بعضها من قبل ، ولكننا نركز هنا على العوامل التالية:
· قضية عادلة: وعدالة القضية تنفي أي اتهام قد يوجه إلى موسى عليه السلام بأنه يسعى وراء مصالح شخصية أو يلهث وراء سلطة ومغانم دنيوية ، وهو اتهام يلصقه المستبد دائما بمعارضيه تبريرا لقمعهم وقتلهم.
· قيادة عالمة عاملة: يلتف حولها الناس ، قيادة تجمع بين العلم والعمل: علم يضبط عملها ، وعمل هو زكاة وتطبيق لعلمها. وليس المراد العلم الديني وحده ، بل علوم الدنيا أيضا حتى تكون هناك قراءة صحيحة للواقع ورؤية صائبة للمستقبل: ( رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين) [القصص:17] أي بما أنعمت عليّ من علم.
· الاهتمام بالعمل العام والسعي الدائم للإصلاح: فذلك يجذب الأنصار حتى من داخل الدائرة المحيطة بالمستبد ، قال تعالى: ( وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ) [القصص:20]. وقد حرص موسى عليه السلام على العمل العام حتى في أحرج اللحظات ، قال تعالى: ( ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس ووجد من دونهم امرأتين تذودان ، قال ما خطبكما ، قالتا لا نسقى حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير. فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير ) [القصص:24،23] ، وبفضل ذلك تحقق لموسى عليه السلام سد حاجته من الطعام والمأوى الآمن والزوجة المؤمنة. أمر آخر يؤكده هذا العامل أن الأخلاق الاجتماعية والعمل على تخفيف معاناة الناس أمور ضرورية للتغيير السياسي ومقاومة الاستبداد.
· الإخلاص والتجرد: فموسى عليه السلام قد جرّد قلبه من مصالحه الشخصية عندما هاله ما رآه من ظلم فرعون ، فناجى ربه: ( رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيرا للمجرمين ) [القصص:17] ، وأردف ذلك عمليا بنصرة من استغاث به. كما تجرد أيضا من عصبية الطائفة ، فلم يكن رفعه للظلم عن الإسرائيلي بسبب أنه من شيعته ، وإنما لمجرد أن هذا مظلوم استغاث به ، ولذلك توقف عن البطش بالقبطي عندما قال: ( يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ) [القصص:19].
· التقييم المستمر والاستفادة من الأخطاء: تعلم موسى عليه السلام من قتله القبطي خطأ ضرورة ضبط قوته وانفعاله ، فقال: ( هذا من عمل الشيطان ، إنه عدو مُضل مبين. قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له ، إنه هو الغفور الرحيم ) [القصص:16،15]. كما استفاد أيضا ثلاثة أشياء مهمة: مفاصلة أهل الباطل ، والحيطة والحذر ، والقراءة الجيدة للواقع: ( فأصبح في المدينة خائفا يترقب ) [القصص:18] إذ علم أن الصدام مع فرعون آت لا محالة. ونلاحظ هنا أن تقييم موسى عليه السلام لأفعاله ونتائجها يتسم بثلاث سمات مهمة: تقييم فوري ، تقييم ذاتي نابع من نفسه ، تقييم داخلي لأن التقييم العلني قد يدخل في إطار جلد الذات وقد يترتب عليه عواقب سيئة أقلها علم فرعون بما حدث.
· استعداد تام للتضحية: عندما تصدى موسى عليه السلام لرفع الظلم عن الناس قبل تكليفه بالرسالة ، كان يعلم أنه يدخل في مواجهة مع فرعون وأجهزة بطشه وقمعه ، مواجهة قد يترتب عليها محاكمات ظالمة والتنكيل به وتشريده بل وقتله أيضا.
· حكمة في المواجهة: حكمة لا تعني الضعف أو الاستسلام أو المهادنة ، فموسى عليه السلام لم يذهب بمفرده ، وإنما سعى لحشد ما يستطعيه من قوة ولو كان فردا واحدا: ( قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون. وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يُصدقني ، إني أخاف أن يكذبون ) [القصص:34،33]. كما أنه بالرغم من سوء رد فرعون وملئه إذ ( قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ) [القصص:36] ، فلم تخرجه سفاهة الرد عن حِلمه ، ولم ينتصر لنفسه ، ولم يستطع فرعون أن يجره إلى ما يؤخذ عليه أو يُستغل ضده ؛ بل كان خطابه خير عنوان لدعوته ، قال تعالى: ( وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عِنده ومن تكون له عاقبة الدار ، إنه لا يفلح الظالمون ) [القصص:37].
12- اهتمام القرآن بمقاومة الفساد والمفسدين
ربطت سورة القصص بين الاستبداد السياسي وبين الفساد واكتناز الثروات والزواج الحرام بين المال والسلطة ، وهي أمراض تدمر النسيج الاجتماعي والوطني وتنتهك حقوق الإنسان ، قال تعالى: ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم ، إن كان من المفسدين ) [القصص:4] ، وفي قصة قارون الذي بغى على قومه: ( وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، وأحسن كما أحسن الله إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض ، إن الله لا يحب المفسدين ) [القصص:77] ، وجعلت السورة مقاومة الفساد أعظم موجبات دخول الجنة: ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ، والعاقبة للمتقين ) [القصص:83].
13- خطورة المتلونين والمنافقين
يمثل قارون هذا الصنف المتلون المنافق ، الذي غرته زهرة الحياة الدنيا ، وأعمى بصره وبصيرته بريق المال والسلطان ، فنكص على عقبيه ، وصار ظهيرا للمجرمين والكافرين ، قال تعالى: ( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ، وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح ، إن الله لا يحب الفرحين. وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، وأحسن كما أحسن الله إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض ، إن الله لا يحب المفسدين. قال إنما أوتيته على علم عندي ، أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ، ولا يُسئل عن ذنوبهم المجرمون. فخرج على قومه في زينته ، قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ) [القصص:76-79].
كان قارون قريبا لموسى عليه السلام ، فكان "ابن عمته"[24] في قول أكثر المفسرين ، "وكان من السبعين الذين اختارهم موسى للمناجاة فسمع كلام الله"[25] ، "وكان يُسمى لحسن صورته المُنوَّر ، ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة منه ، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري"[26] ، وبغى على بني إسرائيل ، "وذكروا من أنواع بغيه: الكفر ، والكبر ، وحسده لموسى على النبوة ولهارون على الذبح والقربان ، وظلمه لبني إسرائيل حين ملكه فرعون عليهم ، ودسه بغِيّا تكذب على موسى أنه تعرض لها وتفضحه بذلك في ملأ من بني إسرائيل"[27] ، "وقال القفال: طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده"[28] ، كما أنه شق صف بني إسرائيل "إذ اعتزل قارون باتباعه وكان كثير المال والتَبَع من بني إسرائيل ، فما كان يأتي موسى ولا يجالسه"[29].
14- تحديد الخطاب الدعوي في الأزمات والمحن
سورة القصص كما هو ظاهر من موضوعها نزلت مباشرة قبل الهجرة وأثناءها والمسلمون مقدمون على مرحلة جديدة من حياتهم ، مرحلة تتميز بترك الديار والأموال وفراق البيت الحرام بما له من مكانة في القلوب وأي مكانة ، مرحلة تتميز بالعيش في مجتمع جديد يختلف في تكوينه وأنشطته الاقتصادية عن مكة ، مرحلة هم مقدمون فيها على بناء دولة وإقامة مجتمع على أسس جديدة ، ومقدمون أيضا على جهاد دائم ومواجهة مستمرة ليس مع قريش وحدها أو الوثنية العربية وحدها ؛ بل مع مستوطنات اليهود في المدينة وقوى العالم القديم من روم وفرس والقبائل العربية المتحالفة معها.
في هذا الجو العاصف ، ناسب ذكر قصة موسى عليه السلام وخروجه فرارا من مصر ، ثم عودته إليها ، وتمكين الله تعالى له وللمستضعفين ، وإهلاك من ساموهم سوء العذاب. لذلك جاء صدر السورة وختامها يحملان أعظم البشريات للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ، فقال تعالى في صدر السورة: ( ونريد أن نمُن على الذين اُستضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) [القصص:6،5]. وقال تعالى في ختامها: ( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) [القصص:85]. إذن ، ففي الأزمات والمحن وفي المواقف الفاصلة في حياة الأمة وفي المواجهات الحاسمة مع الطغاة والمستبدين يجب أن يكون الخطاب الدعوي:
· مرتبطا بكتاب الله تعالى لا منفصلا عنه.
· مواكبا للمرحلة ؛ وليس غائبا أو مغيبا عنها.
· مبشرا لا منفرا ، ميسرا لا معسرا ، مؤملا لا مؤيسا.
· مستهلما دروس التاريخ ، ومستفيدا من التراث الإنساني ،
· منفتحا على الآخرين ؛ وليس منغلقا على ذاته.
· مدركا لحقيقة الصراع ، يحسن قراءة الواقع ، ويستشرف المستقبل.
· مرتبا لأولوياته ؛ فلا يجوز في وقت الأزمات تغييب عقل الأمة أو صرف اهتماماتها إلى أمور ليس ذلك وقتها أو ليس وقت إثارتها.
· مقويا للعزائم ، وموحدا للصف ، وشاحذا للهمم.
من أجل هذه المعاني جميعها أيضا ، ناسب أن يكون اسم السورة سورة القصص ، رغم أن لفظ القصص لم تختص به السورة وحدها ، وإنما ورد في ثلاثة مواضع أخرى في سور: آل عمران والأعراف ويوسف. وهذه إشارة إلى أنه هذا هو القصص الذي يجب أن يقرأه المسلمون ويتدبروا معانيه ويستفيدوا من دروسه في مواجهتهم للاستبداد والطغيان ، وفي إقامتهم لدولتهم وبنائهم لمجتمعهم ، وفي المواقف الفاصلة في حياة الأمة.
15- الاستبداد الديني والسياسي شيطانان لا يفترقان
تربط سورة القصص بين الاستبدادين الديني والسياسي ، فهما شيطانان لا يفترقان ، إذا حل أحدهما بأمة جلب الآخر معه. ففرعون أوصله استبداده وخنوع الناس له أن ادعى الألوهية: ( ما علمت لكم من إله غيري ) [القصص:38] ، وكانت المؤسسة الدينية آنذاك عاملا مهما في ترسيخ استبداده ، إذ شكل الكهنة جزءا مهما من ملأ فرعون وبلاطه ، وأغدق عليهم الأموال والمزايا ليشتري ضمائرهم وفتاويهم.
وكذلك ، كان استبداد قريش ورفضها للحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم واتباعها للهوى ، رغم أن ما جاء به النبي صلى الله عليهم هو الحق الذي لا مراء فيه ، قال تعالى: ( وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين. ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العُمُر ، وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين. وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون. ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين. فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أُوتي مثل ما أوتي موسى ، أو لم يكفروا بما أُوتي موسى من قبل ، قالوا سِحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون. قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين. فإن لم يستجيبوا لك فأعلم أنما يتبعون أهواءهم ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين. ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ) [القصص:44-51].
والله تعالى من فضله وكرمه يرسل المبشرات التي يثبت بها أفئدة عباده ، فجاء وفد نصارى نجران: ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به مؤمنون. وإذا يُتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين. أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون. وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ) [القصص:52-55].
ويبقى الدرس الذي يجب أن يعيه كل مسلم ، أنه أداة للتغيير وليس صانعا له: ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ، وهو أعلم بالمهتدين ) [القصص:56].
16- الاستبداد الاقتصادي وكيفية مقاومته
يبين نموذج قارون أن الاستبداد الاقتصادي هو أحد الثمار المرة للاستبداد السياسي. فكما يتصرف المستبد في رقاب الناس وإرادتهم وفق هواه وإرادته ، فإن الاستبداد الاقتصادي هو تصرف الحاكم وأعوانه في موارد البلاد وثرواتها بما يحقق أهواءهم ومصالحهم آمنين من المسائلة والمحاسبة تاركين الشعب يلهث خلف لقمة العيش جراء هذا التفاوت الفاحش في الدخول. وتبين سورة القصص سبل مقاومة هذا الاستبداد الاقتصادي:
· المستوى الشخصي: ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، وأحسن كما أحسن الله إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض ، إن الله لا يحب المفسدين ) [القصص:77].
· المستوى المجتمعي: ( إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين. وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، وأحسن كما أحسن الله إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض ، إن الله لا يحب المفسدين ) [القصص:77،76]. وبنصح من يتأثرون به: ( فخرج على قومه في زينته ، قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم. وقال الذين أوُتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ، ولا يلقاها إلا الصابرون ) [القصص:80،79].
· المستوى التشريعي: قوله تعالى: ( ولا تبغ الفساد في الأرض ، إن الله لا يحب المفسدين ) [القصص:77] له في الشرع وفي السياسة الشرعية وفي فقه الأموال تطبيقات متعددة مثل منع الممارسات الاقتصادية الضارة بالمجتمع ، تحريم الربا ، منع الغني من التصرف في ماله إذا كان سفيها ، التسعير عند الضرورة ، إلزام الأغنياء بما يحتاجه المجتمع خصوصا في أوقات الأزمات والكوارث ، منع دفع الزكاة للحكام الظلمة وأهل الجور والفساد..
17- جزاء المقاومة وثواب المقاومين
تبين سورة القصص في ختامها الكثير من المنن والبشريات لمن يقاوم الاستبداد ويتصدى للقمع والطغيان:
· الفوز بالجنة: ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ، والعاقبة للمتقين ) [القصص:83] ، فكأن الله تعالى لم يجعل الجنة إلا لهم.
· إرشادهم إلى المنهج السوي في الحكم والحياة: منهج يقوم على تكريم وحفز المحسن ، والعدل مع المسئ: ( من جاء بالحسنة فله خير منها ، ومن جاء بالسيئة فلا يُجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ) [القصص:84].
· النصر والتمكين: ( إن الذي فرض عليك القرآن لرآدّك إلى معاد ) [القصص:85]: سيردك الله تعالى إلى مكة فاتحا منتصرا بعد أن أخرجك أهلها منها.
· دفاع الحق تبارك وتعالى عنهم وإرشادهم إلى خطاب إعلامي متوازن وحكيم: ( قل ربي أعلم بمن جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين ) [القصص:85].
18- لوازم الطريق
طريق مقاومة الاستبداد يحتاج إلى معينات تشد من أزر المقاومين ، وتمدهم بزاد لا ينضب معينه من الصبر والصمود. ولا بد لهم فيه من بوصلة تضبط أداءهم وتنظم حركتهم ، فالدعاة إلى جهنم ومزينو الحلول الاستسلامية والرضا بالواقع المر ما أكثرهم:
· استشعار فضله تعالى: ( وما كنت ترجو أن يُلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ) [القصص:86] ، فالله تعالى يصطفي من عباده شهداء ومجاهدين وعاملين لدينه ، يرفع درجاتهم ، ويعلي قدرهم ، ويجعلهم سادة وأئمة للعالمين.
· مقاطعة الكافرين والمجرمين: ( فلا تكونن ظهيرا للكافرين ) [القصص:86] ، "المظاهرة: المعاونة ، وهي مراتب ، أعلاها: النصرة ، وأدناها: المصانعة والتسامح ، لأن في المصانعة على المرغوب إعانة لراغبه"[30].
· التمسك بالقرآن: ( ولا يصُدُّنّك عن آيات الله بعد إذ أُنزلت إليك ) [القصص:87].
· الدعوة الكاملة غير المنقوصة: ( وادع إلى ربك ): دعوة لا تعزل الناس عن واقع حياتهم ، ولا تفصل الدين عن الدولة ، ولا تشغلهم في قضايا هامشية أو معارك جانبية ، وتعرض الإسلام بشموله وكماله ووسطيتهوسِعة أحكامه وصلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان.
· استقلال الهوية وتميزها: ( ولا تكونن من المشكرين ) [القصص:87].
· التوحيد الكامل لله رب العالمين: ( ولا تدع مع الله إلها آخر ، لا إله إلا هو ) [القصص:88].
· التجرد والعمل للآخرة: ( كل شئ هالك إلا وجهه ، له الحكم وإليه تُرجعون ) [القصص:88].
لماذا يخاف المستبدون والأعداء من الإسلام ؟
في ضوء ما سبق نستطيع أن نجيب على أسئلة مهمة ترتبط بتقييمنا للأحداث ، ووضع استراتيجية المواجهة ، وبناء توقعات المستقبل: لماذا يخاف المستبدون من الإسلام الصحيح كدين ودولة وعقيدة وجهاد ومصحف وسيف ؟ ولماذا يسعون ما وسعهم الجهد لإقصائه ؟ ولماذا تلتقي مصالح الفرقاء فكرا وتوجها على حرب هذا الدين وحرب دعاته ؟ ولماذا يتحالف الداخل مع الخارج على وأد أي تقدم نحو الإصلاح مثلما تحالف اليهود مع قريش لحرب النبي صلى الله عليه وسلم وإمدادهم بما يجادلونه ويحاربونه به وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: ( فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وإنا بكل كافرون ) [القصص:48].
[1]- محمد متولي الشعراوي ، خواطري حول القرآن الكريم ، دار أخبار اليوم ، مصر ، 1991 ، 10876:17.
[2] - معدل ذكر الأنبياء: آدم 25 مرة ، ونوح 33 مرة ، وإبراهيم 69 مرة ، وعيسى 4 مرات ، وداود 16 مرة ، وسليمان 17 مرة. أما النبي صلى الله عليه وسلم فنادرا ما كان يذكر أو ينادى باسمه ؛ وإنما معظم الخطاب له: يا أيها النبي ويا أيها الرسول تكريما وتشريفا له.
[3]- وردت لفظة المدينة 14 مرة ، منها خمس مرات لعاصمة مصر.
[4]- تكررت كلمة جنود – سواء معرفة أو منكرة أو مضافة في القرآن الكريم 21 مرة.
[5]- وردت كلمة ملأ – سواء معرفة بالأف واللام أو مضافة إلى ضمير الغائب – 25 مرة ، والمضاف منها جاء كله لفرعون مما يدل على شدة سطوته وسيطرته على دوائر صنع القرار المحيطة به.
[6]- الخطيب الشربيني ، السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض كلام ربنا العليم الخبير ، مطبعة بولاق ، مصر ، 1285 ه – 1881 م ، 80:3.
[7]- النسفي ، مدارك التنزيل وحقائق التأويل ، تحقيق يوسف علي بديوي ، دار الكلم الطيب ، الطبعة الأولى ، بيروت ، 1419 ه – 1998 م ، 628:2.
[8]- الرسعني ، رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز ، تحقيق عبد الملك عبد الله دهيش ، مكتبة الأسدي ، الطبعة الأولى ، مكة المكرمة ، 1429 ه – 2008 م ، 543:5.
[9]- د. عبد الرحمن حسن ، الجيش في مصر القديمة ، القاهرة ، 1967 م ، ص:6.
[10]- المصدر السابق ، ص:6.
[11]- د. أحمد قدري ، العسكرية المصرية في عصر الإمبراطورية ، ترجمة مختار السويفي ومحمد العزب موسى ، هيئة الآثار ، القاهرة ، 1985 ، ص:297.
[12]- آلن شورتر ، الحياة اليومية في مصر القديمة ، ترجمة د. نجيب ميخائيل إبراهيم ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1997 م ، ص:18.
[13]- المصدر السابق ، ص:18.
[14]- رالف لنتون ، شجرة الحضارة ، ترجمة د. أحمد فخري ، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر ، القاهرة – نيويورك ، 1961 م ، 46:3.
[15]- فلندرز بيتري ، الحياة الاجتماعية في مصر القديمة ، ترجمة حسن محمد جوهر وعبد المنعم عبد الحليم ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1975 م ، ص:94،93.
[16]- ول ديورانت ، قصة الحضارة ، ترجمة محمد بدران ، مكتبة الأسرة ، القاهرة ، 2001 م ، 186،185:2.
[17]- رالف لنتون ، مصدر سابق ، 60:3.
[18]- حديث صحيح: الألباني ، صحيح الجامع الصغير ، حديث رقم:1100 ، المكتب الإسلامي ، الطبعة الثالثة ، بيروت ، 1408 ه – 1988 م ، 248:1.
[19]- حديث حسن: المصدر السابق ، حديث رقم:3676 ، 685:1.
[20]- الحاكم ، المستدرك على الصحيحين ، كتاب الأحكام ، حديث رقم:7036 ، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الثانية ، بيروت ، 1422 ه – 200 م ، 108:4 ، وقال حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
[21]- John T. Crist, Harriet Hentges, Daniel Serwer, Strategic Nonviolent Conflict, United States Institute Of Peace, Special Report 87, Washington, May, 2002.
[22]- Maria J. Stephan, Erica Chenoweth, Why Civil Resistance Works, International Security, vol.33, No.1, 2008, U.S.A, p:8.
[23]- Ibid, p:8,9.
[24]- الثعلبي ، الكشف والبيان ، تحقيق الإمام أبي محمد بن عاشور ، دار إحياء التراث العربي ، الطبعة الأولى ، بيروت ، 1422 ه – 2002 م ، 259:7.
[25]- صديق حسن القنوجي ، فتح البيان في مقاصد القرآن ، المكتبة العصرية ، بيروت ، 1412 ه – 1992 م ، 147:10.
[26]- الثعلبي ، مصدر سابق ، 259:7.
[27]- أبو حيان الأندلسي ، تفسير البحر المحيط ، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وآخرون ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ، بيروت ، 1413 ه – 1993 م ، 126:7.
[28]- ابن عادل ، اللباب في علوم الكتاب ، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وآخرين ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ، بيروت ، 1419 ه – 1998 م ، 287:15.
[29]- المصدر السابق ، 287:15.
[30]- محمد الطاهر بن عاشور ، التحرير والتنوير ، الدار التونسية للنشر ، تونس ، 1984 م ، 195:20.
تعليق