بقلم: سامح عسكر
أبو حيان التوحيدي المختلف عليه
هو من العلماء والمثقفين والأدباء المسلمين الذين عاشوا في القرن الرابع الهجري ...وهناك العديد من العلماء والمؤرخين والمحققين من يمدحونه وآخرون يذمونه، وفئة ثالثة يُترجمون له دون مدحٍ أو ذم على طريقة شيخ المتصوفة محي الدين ابن عربي، في النهاية يصعب القطع برأي أحدهم إلا قولنا رحمه الله فقد أفضى إلى ما قدم فيحيل علينا وغيرنا التثبت، وأنه ترك لنا علوماً شتى ينتفع بها المسلمون.....رغم أنني لم أقرأ لأبي حيان إلا قراءة سريعة في "البصائر والذخائر" إلا أنني أعتقد بأن للرجل عقلاً راجحا يشبه –في صياغته-طُرق بعض أدباء القرن العشرين في حبهم للحكمة والخوض في غمار النفس الإنسانية...وهؤلاء الرجال من محبي الحكمة هم العهد في تفصيل وفهم الدين وتبسيطه للناس دون تكلف وعسير.
طالعت مقال بعض الفقهاء والمؤرخين فيه فوجدت تبايناً ملحوظا-كما سلف، وقد اخترت أن أبحث أولاً عن ما شاع عن الرجل كطريقة أحبذها دوماً في التقاط الصورة الأولى والبحث في صحتها بتوكيدها أو نفيها أو تعديلها، وكعادة البحث في السير عن محققي وطلاب العصر رأيت أن هناك اتفاقاً بين الذهبي وابن حجر في ذمه حتى باستخدام أقسى العبارات التصنيفية والتكفيرية:
1-فيقول الذهبي:" الضال الملحد أبو حيان، علي بن محمد بن العباس، البغدادي الصوفي، صاحب التصانيف الأدبية والفلسفية، ويقال: كان من أعيان الشافعية... كان أبو حيان هذا كذابا قليل الدين والورع عن القذف والمجاهرة بالبهتان، تعرض لأمور جسام من القدح في الشريعة والقول بالتعطيل، ولقد وقف الوزير الصاحب كافي الكفاة على بعض ما كان يدغله ويخفيه من سوء الاعتقاد، فطلبه ليقتله، فهرب، والتجأ إلى أعدائه، ونفق عليهم تزخرفه وإفكه، ثم عثروا منه على قبيح دخلته وسوء عقيدته، وما يبطنه من الإلحاد، ويرومه في الإسلام من الفساد، وما يلصقه بأعلام الصحابة من القبائح، ويضيفه إلى السلف الصالح من الفضائح، فطلبه الوزير المهلبي، فاستتر منه، ومات في الاستتار، وأراح الله, ولم يؤثر عنه إلا مثلبة أو مخزية... وقال أبو الفرج بن الجوزي: زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري، وأشدهم على الإسلام أبو حيان، لأنهما صرحا وهو يُحجم ولم يصرح...." انتهى...سير أعلام النبلاء(ج17ص119)
2-أما ابن حجر فيقول:" بقي إلى حدود الأربع مائة ببلاد فارس وكان صاحب زندقة وانحلال، قال جعفر بن يحيى الحكاك قال لي أبو نصر السجزي إنه سمع أبا سعد الماليني يقول: قرأت الرسالة المنسوبة إلى أبي بكر وعمر مع أبي عبيدة إلى علي على أبي حيان فقال: هذه الرسالة عملتها رداً على الروافض؛ وسببها أنهم كانوا يحضرون مجلس بعض الوزراء -يعني بن العميد- فكانوا يغلون في حال علي فعملت هذه الرسالة؛ قلت: فقد اعترف بالوضع" انتهى...لسان الميزان(ج9ص55)
بينما كان لتقي الدين السُبكي وياقوت الحموي رأي آخر:
1-يقول السبكي:" شيخ الصوفية وصاحب كتاب البصائر وغيره من المصنفات في علم التصوف... وقد ذكره ابن خلكان في آخر ترجمة أبي الفصل ابن العميد فقال: كان فاضلاً مصنفاً... وقد ذكر ابن النجار أبا حيان وقال: له المصنفات الحسنة كالبصائر وغيرها، وكان فقيراً صابراً متديناً إلى أن قال: وكان صحيح العقيدة قال الذهبي: كذا قال، بل كان عدواً لله خبيثا, وهذه مبالغة عظيمة من الذهبي" انتهى....طبقات الشافعية(ج1ص59)
2-ويقول الحموي:" أبو حيان التوحيدي... صوفي السمت والهيئة، وكان يتأله والناس على ثقة من دينه... شيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام, ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء، وعمدة لبني ساسان، سخيف اللسان، قليل الرضا عند الإساءة إليه والإحسان، الذم شانه، والثلب دكانه، وهو مع ذلك فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ومكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، وكان مع ذلك محدوداً محارفاً يشتكي صرف زمانه، ويبكي في تصانيفه على حرمانه" انتهى...معجم الأدباء(ج2ص142)
قلت: وهكذا أنكر الإمام تقي الدين السبكي مقالة ووصف الذهبي عليه وصنع خلافاً حول الرجل، وأنصفه بقدر يكفي مبلغ ما وصل إليه.."كان صحيح العقيدة"..ورغم أنها منقولة عن ابن النجار إلا أن نقله لها-أي السبكي- كان في سياق التأكيد والتبني بقرينة استنكاره لتوصيف الذهبي....وأستغرب تباين الآراء فيه حتى وصلت من "ملحد صاحب زندقة" إلى "فاضلاً صحيح العقيدة"...في ثبوت لوجاهة رأي من قال أن "الاختلاف يولد التدافع".. وما خلاف هؤلاء إلا حماية وحصانة من جور المجتمع الشامل وتغول.... كي يظل الرأي الآخر حياً إلى أن يشاء الله بإظهاره وتمكينه في إطار مداولة ربانية يخبرها كل بصير ويعيها كل راشد.
وختاماً لعرض مذاهب القوم في أبي حيان نعرض رأي الفئة الثالثة التي ترجمت له دون جرح أو تعديل فمنهم الألوسي في "جلاء العينين" و كرنيليوس فانديك في "اكتفاء القنوع بما هو مطبوع"والصفدي في "الوافي بالوفيات"..والأخير جمع له مواقف وأقوال تحمل في مضمونها الموافقة والاستشهاد ، وقد أنصفه بجمع مذاهب القوم فيه من الذهبي إلى الحموي...وحقيقةً أنا لم أقوم ببحث كامل وشامل كي أعلم كافة الأقوال التي قيلت في الرجل وإلا لصارت كتاباً يُدرس... ولكن ما أوردناه يكفي –كإشارة-إلى أن خلاف البشر في التصنيف والحُكم مرده إلى الاعتقاد والنوازع، والبُعد عن التشخيص هو أزكي وأكثر رشدا، حيث وبنقل الفكرة تتغذى ضمائر الناس ولكن بتشخيصها تتأذى ضمائرهم ولا يأخذون إلى عن ميلٍ وهوى مما يعزز ذلك من واقع الفُرقة والتشتيت.
على جانبً آخر فقد خصصت الدكتورة آمنة نصير –أستاذة العقيدة والفلسفة الإسلامية بجامعة الأزهر- في مقالها الذي نشرته إحدى الصُحف جانباً مضيئاً لأبي حيان وكأنه تحدي لمنتقديه.
تقول الدكتورة آمنة نصير:
"كان أبو حيان جاحظي الأسلوب في طريقته الكتابية؛ حيث أولى المعنى غاية اهتمامه، فهجر السجع وغيره من المحسنات البديعية، ومال إلى الإطناب والتعليل والتقسيم، كما مال إلى أسلوب الكتابة الساخرة.
وتؤكد د. آمنة أن أبا حيان يعد أحد الشخصيات المثيرة للجدل حتى الآن، فما زال الناس فيه بين مادح وقادح، وتباين تلك المواقف يعود في جانب منه إلى طبيعة الرجل الشخصية والتي أثارت عليه حنق الكثيرين، كما يعود في جانب آخر إلى ما نسب إليه أو تبناه من آراء ومواقف.
وتوضح د. آمنة أن الإحباطات الدائمة، والإخفاقات المتواصلة التي صادفها أبو حيان التوحيدي على مدى حياته الطويلة انتهت به إلى غاية اليأس، فأحرق كتبه بعد أن تجاوز التسعين من العمر، وذلك بعد أن رأى أن كتبه لم تنفعه وضن بها على من لا يعرف قدرها،، فلم يسلم منها غير ما نقل قبل الإحراق، وقبل ذلك فّر من مواجهة ظروفه الصعبة إلى أحضان التصوف عساه يجد هنالك بعض العزاء فينعم بالسكينة والهدوء، ولعل السر في ما لاقاه أبو حيان في حياته من عناء وإهمال وفشل يعود إلى طباعه وسماته حيث كان مع ذكائه وعلمه وفصاحته واسع الطموح، شديد الاعتداد بالنفس، سوداوي المزاج إلى غير ذلك من صفات وضعت في طريقه المتاعب وحالت دون وصوله إلى ما يريد"..انتهى
أعتقد أنه وبعد سرد مقال الأئمة-بإيجاز-يتبين لنا أننا أمام خطين اثنين في التفسير والرؤية -بما فيها الرؤية التاريخية.. وليست فقط قاصرة على الجرح والتعديل ونبش السير..خطاً يقوده الإمامين الذهبي وابن حجر وفيه تعضيد لرؤية الأسلاف والطلاب ومنه خرجت أغلب الآراء التي تُدرّس إلى عصرنا هذا، وأكثر ما يعيب هذا الخط هو النقل والحفظ دون دراسة وتمحيص حتى تكيفت عقول "مناضليه" على التناقض كضريبة للتلقي وكبت السؤال،وخطاً آخر يقوم على الرأي والعقلانية وهؤلاء لهم مدارس شتى بين الفلسفة والكلام والتصوف والزهد ومنهم من وافق الخط الأول في جزئية الرواية ولكن ظلوا على منهجهم السامي في الفهم... وأكثرهم لهم خط عرفاني وعقلاني جعل من النص وسيلة للفهم ولم يكتفي بتقييد فهمه على النص...هذا ما يحدث في بلاد المسلمين إلى اليوم من تصارع"علمي " لفريقين أحدهما روائي والآخر روائي عقلاني، وكأنه تقنين لمقولة الإمام مالك للخليفة المنصور حين أراد حمل الناس على موطأه فرفض بذريعة اختلاف الناس إلى فريقين "رأي ورواية" وهما نفس الفريقين إلى يومنا هذا ولكن تتبدل الأزمان ويبقى الفعل والأثر.
أعتقد أيضاً أن مثال أبو حيان التوحيدي هو مثال حي للمشاهد التي نراها اليوم بالخلاف حول بعض من ظنوا أنهم مجددين كالشيخ "حسن بن فرحان" المالكي ذلك الشيخ السعودي الذي يلاقي الويلات والتهجم والإقصاء نتيجة لآرائه والثاني هو الشيخ "عدنان ابراهيم" ذلك الثائر المجتهد الذي صنع حراكاً علمياً جابت مسامعه أرجاء المعمورة، وأعتقد أن شهرة الشيخين المالكي وعدنان وإمكانية تبني آرائهم -ومن وافقهم- رسمياً تتوقف على طبيعة الحالة السياسية، فكثيراً منا يجهل طبيعة هذه الحالة بل أكثرهم لا يعدونها كمؤثر على الجرح والتعديل ، وهذه رؤية قاصرة ومقصّرة في ذات الوقت، إذ الثابت أن السياسة -وكما تشهد الأحداث التاريخية- كانت هي عامل الحسم في الحكم على بعض الفقهاء والعلماء حتى وصل بالحاكم حينها لاستحلال دماء العلماء باسم الدين.
ومهما يحدث في الخلاف حول الأشخاص فنحن أمام نصوص روائية أغلب ناقليها لم يتبينوا من صحتها، وإيمانهم بها لا يعدو كونه إيمان الواثق في شخص فلان وعلان رغم أن هذا لا يكفي لنسبية الثقة بين البشر.. في النهاية سنقف أمام نصوص ميتة لا حياة لأصحابها، فلو كان عدناناً يعيش في القرن الرابع الهجري-كما أبي حيان- لسمعنا أقوالاً عن الرجل تفوق ذم أبي حيان والجاحظ وغيرهم ، رغم أن الرجل كما يبدو أنه صحيح العقيدة وسني أصيل ومجاهد كبير في حقول العلم المختلفة من الفقه إلى الحديث إلى علوم اللغة "كالنحو والبلاغة والصرف" إلى الفلسفة إلى المنطق إلى سائر العلوم الطبيعية التي يعلم عنها ويلقنها لتلاميذه..فقط نحن بحاجة لخيال راشد لنفهم مسلك السلف وخلفهم في فهم وتأويل النصوص، والأعظم من ذلك أن نفهم معنى الحرية، فلا علم دون حرية ولا حرية دون فهم، وكأن الرابط الذي يصل بين العلم والفهم هو الحرية، فلنترك الناس لربهم هم أحرار لما يعتقدون ويكن منهاجنا هو التربية والتثقيف.
الثقافة هي الحل
هو من العلماء والمثقفين والأدباء المسلمين الذين عاشوا في القرن الرابع الهجري ...وهناك العديد من العلماء والمؤرخين والمحققين من يمدحونه وآخرون يذمونه، وفئة ثالثة يُترجمون له دون مدحٍ أو ذم على طريقة شيخ المتصوفة محي الدين ابن عربي، في النهاية يصعب القطع برأي أحدهم إلا قولنا رحمه الله فقد أفضى إلى ما قدم فيحيل علينا وغيرنا التثبت، وأنه ترك لنا علوماً شتى ينتفع بها المسلمون.....رغم أنني لم أقرأ لأبي حيان إلا قراءة سريعة في "البصائر والذخائر" إلا أنني أعتقد بأن للرجل عقلاً راجحا يشبه –في صياغته-طُرق بعض أدباء القرن العشرين في حبهم للحكمة والخوض في غمار النفس الإنسانية...وهؤلاء الرجال من محبي الحكمة هم العهد في تفصيل وفهم الدين وتبسيطه للناس دون تكلف وعسير.
طالعت مقال بعض الفقهاء والمؤرخين فيه فوجدت تبايناً ملحوظا-كما سلف، وقد اخترت أن أبحث أولاً عن ما شاع عن الرجل كطريقة أحبذها دوماً في التقاط الصورة الأولى والبحث في صحتها بتوكيدها أو نفيها أو تعديلها، وكعادة البحث في السير عن محققي وطلاب العصر رأيت أن هناك اتفاقاً بين الذهبي وابن حجر في ذمه حتى باستخدام أقسى العبارات التصنيفية والتكفيرية:
1-فيقول الذهبي:" الضال الملحد أبو حيان، علي بن محمد بن العباس، البغدادي الصوفي، صاحب التصانيف الأدبية والفلسفية، ويقال: كان من أعيان الشافعية... كان أبو حيان هذا كذابا قليل الدين والورع عن القذف والمجاهرة بالبهتان، تعرض لأمور جسام من القدح في الشريعة والقول بالتعطيل، ولقد وقف الوزير الصاحب كافي الكفاة على بعض ما كان يدغله ويخفيه من سوء الاعتقاد، فطلبه ليقتله، فهرب، والتجأ إلى أعدائه، ونفق عليهم تزخرفه وإفكه، ثم عثروا منه على قبيح دخلته وسوء عقيدته، وما يبطنه من الإلحاد، ويرومه في الإسلام من الفساد، وما يلصقه بأعلام الصحابة من القبائح، ويضيفه إلى السلف الصالح من الفضائح، فطلبه الوزير المهلبي، فاستتر منه، ومات في الاستتار، وأراح الله, ولم يؤثر عنه إلا مثلبة أو مخزية... وقال أبو الفرج بن الجوزي: زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري، وأشدهم على الإسلام أبو حيان، لأنهما صرحا وهو يُحجم ولم يصرح...." انتهى...سير أعلام النبلاء(ج17ص119)
2-أما ابن حجر فيقول:" بقي إلى حدود الأربع مائة ببلاد فارس وكان صاحب زندقة وانحلال، قال جعفر بن يحيى الحكاك قال لي أبو نصر السجزي إنه سمع أبا سعد الماليني يقول: قرأت الرسالة المنسوبة إلى أبي بكر وعمر مع أبي عبيدة إلى علي على أبي حيان فقال: هذه الرسالة عملتها رداً على الروافض؛ وسببها أنهم كانوا يحضرون مجلس بعض الوزراء -يعني بن العميد- فكانوا يغلون في حال علي فعملت هذه الرسالة؛ قلت: فقد اعترف بالوضع" انتهى...لسان الميزان(ج9ص55)
بينما كان لتقي الدين السُبكي وياقوت الحموي رأي آخر:
1-يقول السبكي:" شيخ الصوفية وصاحب كتاب البصائر وغيره من المصنفات في علم التصوف... وقد ذكره ابن خلكان في آخر ترجمة أبي الفصل ابن العميد فقال: كان فاضلاً مصنفاً... وقد ذكر ابن النجار أبا حيان وقال: له المصنفات الحسنة كالبصائر وغيرها، وكان فقيراً صابراً متديناً إلى أن قال: وكان صحيح العقيدة قال الذهبي: كذا قال، بل كان عدواً لله خبيثا, وهذه مبالغة عظيمة من الذهبي" انتهى....طبقات الشافعية(ج1ص59)
2-ويقول الحموي:" أبو حيان التوحيدي... صوفي السمت والهيئة، وكان يتأله والناس على ثقة من دينه... شيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام, ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء، وعمدة لبني ساسان، سخيف اللسان، قليل الرضا عند الإساءة إليه والإحسان، الذم شانه، والثلب دكانه، وهو مع ذلك فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ومكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، وكان مع ذلك محدوداً محارفاً يشتكي صرف زمانه، ويبكي في تصانيفه على حرمانه" انتهى...معجم الأدباء(ج2ص142)
قلت: وهكذا أنكر الإمام تقي الدين السبكي مقالة ووصف الذهبي عليه وصنع خلافاً حول الرجل، وأنصفه بقدر يكفي مبلغ ما وصل إليه.."كان صحيح العقيدة"..ورغم أنها منقولة عن ابن النجار إلا أن نقله لها-أي السبكي- كان في سياق التأكيد والتبني بقرينة استنكاره لتوصيف الذهبي....وأستغرب تباين الآراء فيه حتى وصلت من "ملحد صاحب زندقة" إلى "فاضلاً صحيح العقيدة"...في ثبوت لوجاهة رأي من قال أن "الاختلاف يولد التدافع".. وما خلاف هؤلاء إلا حماية وحصانة من جور المجتمع الشامل وتغول.... كي يظل الرأي الآخر حياً إلى أن يشاء الله بإظهاره وتمكينه في إطار مداولة ربانية يخبرها كل بصير ويعيها كل راشد.
وختاماً لعرض مذاهب القوم في أبي حيان نعرض رأي الفئة الثالثة التي ترجمت له دون جرح أو تعديل فمنهم الألوسي في "جلاء العينين" و كرنيليوس فانديك في "اكتفاء القنوع بما هو مطبوع"والصفدي في "الوافي بالوفيات"..والأخير جمع له مواقف وأقوال تحمل في مضمونها الموافقة والاستشهاد ، وقد أنصفه بجمع مذاهب القوم فيه من الذهبي إلى الحموي...وحقيقةً أنا لم أقوم ببحث كامل وشامل كي أعلم كافة الأقوال التي قيلت في الرجل وإلا لصارت كتاباً يُدرس... ولكن ما أوردناه يكفي –كإشارة-إلى أن خلاف البشر في التصنيف والحُكم مرده إلى الاعتقاد والنوازع، والبُعد عن التشخيص هو أزكي وأكثر رشدا، حيث وبنقل الفكرة تتغذى ضمائر الناس ولكن بتشخيصها تتأذى ضمائرهم ولا يأخذون إلى عن ميلٍ وهوى مما يعزز ذلك من واقع الفُرقة والتشتيت.
على جانبً آخر فقد خصصت الدكتورة آمنة نصير –أستاذة العقيدة والفلسفة الإسلامية بجامعة الأزهر- في مقالها الذي نشرته إحدى الصُحف جانباً مضيئاً لأبي حيان وكأنه تحدي لمنتقديه.
تقول الدكتورة آمنة نصير:
"كان أبو حيان جاحظي الأسلوب في طريقته الكتابية؛ حيث أولى المعنى غاية اهتمامه، فهجر السجع وغيره من المحسنات البديعية، ومال إلى الإطناب والتعليل والتقسيم، كما مال إلى أسلوب الكتابة الساخرة.
وتؤكد د. آمنة أن أبا حيان يعد أحد الشخصيات المثيرة للجدل حتى الآن، فما زال الناس فيه بين مادح وقادح، وتباين تلك المواقف يعود في جانب منه إلى طبيعة الرجل الشخصية والتي أثارت عليه حنق الكثيرين، كما يعود في جانب آخر إلى ما نسب إليه أو تبناه من آراء ومواقف.
وتوضح د. آمنة أن الإحباطات الدائمة، والإخفاقات المتواصلة التي صادفها أبو حيان التوحيدي على مدى حياته الطويلة انتهت به إلى غاية اليأس، فأحرق كتبه بعد أن تجاوز التسعين من العمر، وذلك بعد أن رأى أن كتبه لم تنفعه وضن بها على من لا يعرف قدرها،، فلم يسلم منها غير ما نقل قبل الإحراق، وقبل ذلك فّر من مواجهة ظروفه الصعبة إلى أحضان التصوف عساه يجد هنالك بعض العزاء فينعم بالسكينة والهدوء، ولعل السر في ما لاقاه أبو حيان في حياته من عناء وإهمال وفشل يعود إلى طباعه وسماته حيث كان مع ذكائه وعلمه وفصاحته واسع الطموح، شديد الاعتداد بالنفس، سوداوي المزاج إلى غير ذلك من صفات وضعت في طريقه المتاعب وحالت دون وصوله إلى ما يريد"..انتهى
أعتقد أنه وبعد سرد مقال الأئمة-بإيجاز-يتبين لنا أننا أمام خطين اثنين في التفسير والرؤية -بما فيها الرؤية التاريخية.. وليست فقط قاصرة على الجرح والتعديل ونبش السير..خطاً يقوده الإمامين الذهبي وابن حجر وفيه تعضيد لرؤية الأسلاف والطلاب ومنه خرجت أغلب الآراء التي تُدرّس إلى عصرنا هذا، وأكثر ما يعيب هذا الخط هو النقل والحفظ دون دراسة وتمحيص حتى تكيفت عقول "مناضليه" على التناقض كضريبة للتلقي وكبت السؤال،وخطاً آخر يقوم على الرأي والعقلانية وهؤلاء لهم مدارس شتى بين الفلسفة والكلام والتصوف والزهد ومنهم من وافق الخط الأول في جزئية الرواية ولكن ظلوا على منهجهم السامي في الفهم... وأكثرهم لهم خط عرفاني وعقلاني جعل من النص وسيلة للفهم ولم يكتفي بتقييد فهمه على النص...هذا ما يحدث في بلاد المسلمين إلى اليوم من تصارع"علمي " لفريقين أحدهما روائي والآخر روائي عقلاني، وكأنه تقنين لمقولة الإمام مالك للخليفة المنصور حين أراد حمل الناس على موطأه فرفض بذريعة اختلاف الناس إلى فريقين "رأي ورواية" وهما نفس الفريقين إلى يومنا هذا ولكن تتبدل الأزمان ويبقى الفعل والأثر.
أعتقد أيضاً أن مثال أبو حيان التوحيدي هو مثال حي للمشاهد التي نراها اليوم بالخلاف حول بعض من ظنوا أنهم مجددين كالشيخ "حسن بن فرحان" المالكي ذلك الشيخ السعودي الذي يلاقي الويلات والتهجم والإقصاء نتيجة لآرائه والثاني هو الشيخ "عدنان ابراهيم" ذلك الثائر المجتهد الذي صنع حراكاً علمياً جابت مسامعه أرجاء المعمورة، وأعتقد أن شهرة الشيخين المالكي وعدنان وإمكانية تبني آرائهم -ومن وافقهم- رسمياً تتوقف على طبيعة الحالة السياسية، فكثيراً منا يجهل طبيعة هذه الحالة بل أكثرهم لا يعدونها كمؤثر على الجرح والتعديل ، وهذه رؤية قاصرة ومقصّرة في ذات الوقت، إذ الثابت أن السياسة -وكما تشهد الأحداث التاريخية- كانت هي عامل الحسم في الحكم على بعض الفقهاء والعلماء حتى وصل بالحاكم حينها لاستحلال دماء العلماء باسم الدين.
ومهما يحدث في الخلاف حول الأشخاص فنحن أمام نصوص روائية أغلب ناقليها لم يتبينوا من صحتها، وإيمانهم بها لا يعدو كونه إيمان الواثق في شخص فلان وعلان رغم أن هذا لا يكفي لنسبية الثقة بين البشر.. في النهاية سنقف أمام نصوص ميتة لا حياة لأصحابها، فلو كان عدناناً يعيش في القرن الرابع الهجري-كما أبي حيان- لسمعنا أقوالاً عن الرجل تفوق ذم أبي حيان والجاحظ وغيرهم ، رغم أن الرجل كما يبدو أنه صحيح العقيدة وسني أصيل ومجاهد كبير في حقول العلم المختلفة من الفقه إلى الحديث إلى علوم اللغة "كالنحو والبلاغة والصرف" إلى الفلسفة إلى المنطق إلى سائر العلوم الطبيعية التي يعلم عنها ويلقنها لتلاميذه..فقط نحن بحاجة لخيال راشد لنفهم مسلك السلف وخلفهم في فهم وتأويل النصوص، والأعظم من ذلك أن نفهم معنى الحرية، فلا علم دون حرية ولا حرية دون فهم، وكأن الرابط الذي يصل بين العلم والفهم هو الحرية، فلنترك الناس لربهم هم أحرار لما يعتقدون ويكن منهاجنا هو التربية والتثقيف.
الثقافة هي الحل
تعليق