4
د. يونس الاسطل
في رحاب آية
د. يونس الأسطل
( أضعف الإيمان أن نستمسك بالحد الأدنى من وظائف رمضان )
] فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [
الشرح (7، 8)بعد الفراغ من رمضان في أيِّ الأعمال نَنْصب، وبأيها إلى ربِّنا نرغب؟
إن الإجابة على هذا السؤال تتلخص في ضرورة المحافظة على وظائف رمضان فرضاً كما وجب، ونَفْلاً ولو في الحدِّ الأدنى؛ إذا هبطت بأحدنا الهمة، فَزَهِدَ في المستحبات، وكان من المقتصدين.
لقد ثبت أن أكثرنا قادر على صيام شهرٍ كامل متتابع، فلا أقلَّ بعد ذلك من ثلاثة أيام من كل شهر؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، فذلك ثواب شهرٍ كامل، ومَنْ حافظ عليها جاء يوم القيامة كما لو أمضى عمره كلَّه صائماً، فكان شبيه الملائكة الذين لا يأكلون، ولا ينكحون؛ بل يسبحون الليل والنهار لا يَفْتُرُون، ويُسْتحبُّ أن يختار الأيام الثلاثة الوسطى من الشهر التي يكتمل فيها البَدْر، فإذا فَرَّقها في الشهر فلا جُناحَ عليه، على أنه يستحب أن يخصَّ شهر شوال بستة أيام؛ حتى ينال ثواب سنة كاملة؛ فإن صوم رمضان بعشرة أشهر، ويبقى في السنة شهران، فإذا صام ستة أيام كانت عند الله بِسِتِّين، فذاك تمام السَّنة، ومَنْ داوم على ذلك جاء ربه بثواب صيام الدهر كله مادامت النية والعزم قائماً على دوام الصيام حتى لو امتدَّ به الأجل قروناً عديدة.
إن هذه الستة بمثابة السُّنة البعدية في الصلاة، أو الصدقة بعد الزكاة، أو حج النافلة بعد المرة الأولى، ولها مقاصد، منها أن تكون جابرة لما وقع من نقصٍ في الفريضة، بِغَضِّ النظر عن سبب ذلك النقص؛ فقد جاء في الحديث أن الله عز وجل – إذا كان خللٌ في الواجبات – يقول لملائكته: "انْظُروا هلْ لِعبدي مِنْ تَطَوُّع؟".
إن أنواع صيام النافلة كثيرة، والمطلوب هو الأخذ بما تطيقه النفس منها دون بُغْضٍ أو ملل، لكنَّ أضعف الإيمان هو يوم في كل عشرة أيام، أيْ ثلاثة أيام في الشهر متفرقة أو مجتمعة.
ثم إن أكثر الصائمين كان حريصاً على قيام الليل بشهود صلاة التراويح، وقد ثبت احتمالنا لثماني ركعات على مدار الشهر، فإذا دخل العشر فإن الكثير من القائمين والعاكفين يُتِمُّونها إلى عشرين بجزءٍ من القرآن غالباً، وإن النشطاء منكم يقرؤون فيها ثلاثة أجزاء؛ حتى يتموا القرآن جميعه في صلاة القيام.
إن مثل هذا النشاط لو كنتم قادرين على المُضِيِّ فيه طيلة العام لأصبحتم ملائكة يمشون على الأرض مطمئنين، ولكنَّ الله تعالى خَفَّفَ عنكم، وعلم أن فيكم ضعفاً، ونحن نطالب بما تطيقه النفس إيماناً واحتساباً، ونرفض الهجر بالكلية، وأضعف الإيمان صلاة ركعتين بعد سنُة العشاء، وقبل الوتر، فإذا أَنِسْنا من أنفسنا همة، فتركناها إلى ما بعد الهجوع، فوقعتْ في الثلث الأخير من الليل، أو حتى قبل الفجر بدقائق معدودات؛ فهو أولى؛ حتى نكون من المستغفرين بالأسحار، ونحن نرجو أن يزداد إيماننا حتى نَبيتَ لربِّنا سُجَّداً وقياماً، ونكون ممن كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، عسى أن يغفر لنا ربُّنا خطايانا أن كُنَّا أفضل القائمين، وهم الذين بَهُدى سيدنا داوود يقتدون، وعلى آثاره يُهْرَعون.
إن قيام الليل أمثلُ صراطٍ لصناعة رجالٍ أُولي بأسٍ شديد، يحملون ما ألقاه الله عليهم من القول الثقيل؛ حيث وجب علينا أن نُظْهِرَ هذا الدين على الدين كلِّه، ولو كره المشركون، وهذا لن يكون إلا بجيوشٍ من الدعاة، وزحوفٍ من الفاتحين، وإن إعداد هؤلاء وهؤلاء دونه جهود أجيال، واللُّبَدُ من الأموال، وقوائم من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نًحْبُه، ومنهم من ينتظر، وما بَدَّلوا تبديلاً.
إن الأكثر عوناً على قيام الليل أن نرصده ليومٍ طُولُه خمسون ألف سنة، يوم يقوم الناس لربِّ العالمين، وترى كل أمةٍ جاثية، حتى يتمنى الناس الاستراحة من هَوْل اليوم العبوس القمطرير الذي جعل الولدان شِيباً، ولو إلى جهنم، وما دَرَوْا أن مثلهم في ذلك مَثَلُ من يَفِرُّ من الرمضاء على النار.
إن قيام الليل نافلةٌ، وإن الأهم منه التشبت بصلاة الجماعة حيث يُنادي بالصلوات الخمس؛ فإنها تعدل سبعاً وعشرين صلاة، ومَنْ يطيق أن يكرر أيَّ صلاةٍ سبعاً وعشرين مرة، أو حتى سبع مرات؟!، وإن ذلك يستغرق الوقت كله؛ لنكون من الموقنين أن أصحاب صلاة الجماعة يجدون ثواب صلاتهم كما لو قطعوا العمر كلَّه سُجَّداً وقياماً، فيصبحون كالملائكة الذين يُسَبِّحون لله بالليل والنهار وهم لا يسأمون.
ومن الأعمال في رمضان أن أكثر الموسرين يحرصون على إخراج زكواتهم في رمضان، كما يَسْخَوْنَ بفضول أموالهم ما لا تندفع له نفوسهم في غير رمضان؛ ذلك أن النافلة فيه بفريضة، والفريضة بسبعين؛ فإذا كانت حسنةُ الإنفاق في سائر السنة بسبعمائة؛ فما بالكم لو ضُربت في سبعين لمن طاب مَطْعَمُهُ، وطاب بها نفساً؟!.
إن من يتصدق ولو بدرهمٍ واحدٍ في غير رمضان يكون أجره كمن تصدق بدرهم على مدار سبعمائة يوم؛ أيْ حولين كاملين، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم، فما بالكم بمن يُؤْتي ماله يتزكى، وما لأحدٍ عنده من نعمة تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى؟!.
إن من ينفق ماله ابتغاء مرضاة الله، وتثبيتاً من أنفسهم؛ مثل عمله كمثل جنةٍ بربوةٍ أصابها وَابلٌ، فآتتْ أُكلَها ضِعفين؛ فإنْ لم يُصِبها وابل فطَلٌّ، وقد أتى أبو بكر ذات مرة بماله كله صدقةً من فَرطِ يقينه بالله، بينما جاء عمر بنصف ماله، وتصدق عثمان بما غَفَرَ الله له به ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما عليه ما عمل بعد ذلك، فهو ممن اطَّلع عليهم ربهم، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم، بينما كان عليٌّ ممن يطعمون الطعام على حُبِّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، ولسان حاله يقول: إنما نطعمكم لوجه الله، لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً، وقد ذهب أهل الدُّثُور منهم بالأجور والدرجات العُلا، بينما كان الذين لا يجدون ما ينفقون يتصدقون بأعراضهم على المؤمنين، فيسامحون من أساء إليهم بظهر الغيب، فلا يَبِيتَ أحدهم وفي قبله غِلٌّ للمؤمنين.
وإننا لا نرجو أن نداني يقينهم وإنفاقهم، ولكننا ننصح أن نُخرج من أموالنا ربع العشر، مما قلَّ منه أو كَثُر، نصيباً مفروضاً، أو حقاً معلوماً للسائل والمحروم، ثم ندعو أن نتشبه بأهل الجنة الذين آمنوا أنه في أموالهم حق للسائل والمحروم بما يَسُدُّ حاجتهم زيادةً على الحق المعلوم، والزكاة المفروضة.
ومن فضائل رمضان كثرة التلاوة للقرآن التي نتزود منها للإيمان، لاسيما التلاوة المتقنة، أو الترتيل على وجه التنزيل، مع تدبر المعاني، والدلالات للألفاظ والتراكيب، ثم بالنظر في السياق وأسباب النزول، ومن بعد ذلك في التفسير الموضوعي لا الموضعي، وهو الذي يجمع أطراف الفكرة من مواضعها في القرآن كلِّه، والأهم منه فقه التنزيل لتلك المعاني من آفاق النصوص إلى الواقع الذي يُجَسِّدهُ على الأرض كالبنيان المرصوص، وحالئذٍ نشعر بأن القرآن كأنما تنزل علينا من فَوْرِه، ولم يَمْضِ عليه فوق أربعة عشر قرناً، ولسوف يكون له مذاق خاص، وسيكون أثره في الإقناع والخشوع ما يدعو إلى الخُرُورِ سُجَّداً وبُكِيّاً، وينشئ المسلمَ خلقاً آخر، كما يكون لنا به ذِكْرٌ بين الأمم، أو صدارة العالم، فنحن خير أمة أُخرجت للناس بهذا الدين، ونحن الأحقُّ بالسيادة والريادة والقيادة؛ لتكونوا شهداء على الناس.
إن ألوان الطاعة التي احتضنها رمضان أكبر من أن تُطوى في مقالٍ، وما ورد هنا ليس إلا أمثلة لأمهات العبادات التي رأيناها رأي العين في هذا العام، وإن المطلوب أن نَعَضَّ عليها بالنواجذ، ولو في الحدِّ الأدنى، حتى تبقى تلك النوافل قائمةً في حياتنا، فلا نُميتها بالهجر، أو نُمِيتُ أنفسنا بالاسترخاء والعجز والكسل؛ فقد نشط الآلاف للعمرة، وقد وسَّعتِ الجمعيات الخيرية من وجوه الإغاثة، وكانت حملة الجسد الواحد، وتفطير الصائمين، وكانت المساجد كخلايا النحل، وانطلق الدعاة في برامج الوعظ والإرشاد؛ فضلاً عن تزاور الأرحام والأصدقاء، وغير ذلك من الأنشطة التي تؤكد مفهوم إذا فرغت من عمل فانصب في غيره، حتى لا يكون وقت فراغٍ يضيع، فنندم عليه يوم القيامة، والمهم هو الإخلاص لله، والرَّغَبُ فيماُ عنده، والرَّهبُ من سخطه وبطشه.
والله المستعان
حصريا
المصدر هنا