أخلاقنا وأخلاق بني إسرائيل
بقلم: ياسين عز الدين
تكثر قصص بني إسرائيل في القرآن الكريم، والتي تتناول الانحرافات المختلفة التي وقعوا بها، وإن كان الكثير من الناس يتعاملون معها على أنها قصص تشرح لنا حقيقة اليهود وتكشف لنا إنحرافهم في العقيدة والممارسة، وهذا صحيح لكن هل هذا فقط ما تريده منا الآيات القرآنية؟
وهل لجماعة دينية صغيرة مثل اليهود أن تحتل هذه المساحة الواسعة في القرآن الكريم؟ ولماذا لم يركز القرآن على انحرافات أصحاب العقائد الأخرى بنفس حجم التركيز على انحرافات اليهود؟
كان اليهود قبل الإسلام أهل كتاب وعرفوا بين الناس على أنهم يدعون لتوحيد الألوهية وعبادة الله وحده، بمعنى آخر كانوا حملة رسالة التوحيد، وكان من بينهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، إلا أنه وكما هو معلوم لدينا فقد وقعوا في انحرافات عديدة سواء من ناحية المعتقد أو من ناحية الممارسة أفقدتهم الميزة التي فضلهم بها الله على العالمين "يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (122)" سورة البقرة – أي أن جعل الأنبياء منهم، إلا أن الاصطفاء لا يكون لسلالة أو عرق وإنما للمتقين.
ولذلك عندما دعا إبراهيم عليه السلام ربه أن يجعل في ذريته الإمامة أجابه الله تعالى " لا ينال عهدي الظالمين (124)" سورة البقرة، فالله عز وجل اختار بني إسرائيل ليحملوا رسالة التوحيد، وليكونوا أئمة يدعون إلى الحق، لكن أكثرهم خان العهد، فما الذي فعله بنو إسرائيل ليصف المولى عز وجل أكثرهم بالفاسقين كما جاء في سورة آل عمران " ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110)"؟
هنا يأتي دور القرآن الكريم ليبين لنا الأخطاء التي وقع بها من قبلنا؛ لكي لا نكررها نحن المسلمين، فمنذ بعثة الحبيب محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم جاء القرآن مهيمناً على ما نزل قبله من كلام الله، وأصبح المسلمون هم حملة رسالة التوحيد والإسلام إلى الناس كافة، ولكي لا نكرر أخطاء من سبقنا فصّل القرآن الكريم في شرح أخطاء وانحرافات بنو إسرائيل.
ولو ألقينا نظرة على واقع وماضي المسلمين نجد الكثيرين قد وقعوا في ما وقع به بنوا إسرائيل وإن كان بدرجات مختلفة، صحيح أن أصل الدين محفوظ وأن القرآن محفوظ من التحريف والتبديل وأن السنة محفوظة وهنالك علم كامل للتدقيق فيها نصاً ومعنىً، لكن على صعيد الممارسة وأحياناً على صعيد التنظير نجد مثل هذه الهفوات والزلات، وسنحاول إلقاء الضوء على بعضها.
ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأمّيين من سبيل:
قالها أهل الكتاب ليحلوا ما حرم الله من الاعتداء على أموال وحرمات من ليسوا من أهل الكتاب (أي الأميين)، وهذا ناجم عن غرور يجعلهم يعتقدون أن اليهود عرق إنساني أرقى من غيره من البشر، وأن الأغيار خلقوا من أجل خدمة اليهود، وبالتالي لا حرج في سرقة مالهم أو انتهاك حرماتهم.
ومثل هذا التفكير نجد شبيهاً له عند بعض المسلمين من إباحة دم غير المسلمين بدون أي ضابط، تحت مسميات ومبررات عديدة، بل تجد قسم منهم يبيح سرقة غير المسلم أو انتهاك عرضه، والبعض يستنكر مساعدة غير المسلم وينظر إلى غير المسلم نظرة دونية، على أنه دون مرتبة البشر، مثلما ينظر اليهود للأغيار، بدلاً من أن تكون نظرة مشفق يحب لهم الهداية إلى دين الحق.
كيف سيؤمنون بالإسلام وأنت تبيح دمهم ومالهم وعرضهم؟ هل الإسلام حكر على المسلمين الحاليين أم هو دعوة للناس كافة؟ يجب أن نقف ونسأل أنفسنا بكل صدق، هل هذا طريق الإسلام أم انحراف عنه؟
أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض:
جاء قوله تعالى " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" في سياق كشف تلاعب بنو إسرائيل بما أنزله الله تعالى من تشريعات وأحكام، لكنها النفس البشرية نفسها الأمارة بالسوء، فنجد مثل هذه التصرفات عند جميع البشر.
فعندما يكون شرع الله أو القانون في صالح الشخص تجده أول المطالبين بتحكيمه، وعندما لا يكون في صالحه أو لا يكون على هواه ومزاجه يجد ألف طريقة وطريقة للتهرب من الالتزام به.
ويمكننا أن نجد مثل هذه التصرفات في حياة الكثير من المسلمين في أيامنا هذه، فترى البعض يؤيد تطبيق بعض جوانب شرع الله ويعارض جوانب أخرى، أو تراه يطلب الاحتكام إلى الشرع عندما يكون الحق له، وعندما يكون الحق عليه يطالب بالاحتكام للأعراف التي تتساهل مع المعتدين.
أصحاب السبت:
البعض يتلوا قصة أصحاب السبت بدون أن يتدبر معانيها، وكأنها نزلت فقط لترينا تلاعب اليهود بشرع الله وتحايلهم عليه، لكن هل ما حرم عليهم يصح لغيرهم؟ الكثير تجده يتتبع الحيل المختلفة ليلتف على الحكم الشرعي من أجل اتباع هواه ومصالحه الضيقة.
نصيب المرأة من الميراث جاء في القرآن الكريم بنصوص صريحة لا تقبل التأويل، والمحاكم الشرعية لا تقسم الميراث إلا بإعطاء النساء حقهن في الميراث، مع ذلك البعض وبنفس عقلية أصحاب السبت يجد الطريق ليلتف على حكم الشرع، فيأتي بابنة المتوفى أو أخته أو أمه وقد تنازلت عن حقها بالميراث، وقد يكون ذلك بالتخجيل أو حتى التهديد، صحيح توجد حالات تتنازل بها المرأة عن حقها بالميراث قناعة واقتناعاً، لكن الممارسات الاجتماعية الخاطئة موجودة ويجب الوقوف عندها.
ومن طرق الالتفاف على الشرع الزواج العرفي أو زواج المتعة وغيرها من أشكال الزواج، التي قد يتفق بعضها مع شكل الشرع الإسلامي لكن في جوهره يناقض كل المعاني السامية التي أتى بها الإسلام وحكمة الزواج.
أصحاب البقرة:
تروي لنا قصة أصحاب البقرة في سورة البقرة عن حب اليهود للجدل والمراء وكثرة السؤال بفائدة وغير فائدة، وقد حذر الرسول عليه الصلاة والسلام المسلمين من كثرة السؤال "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم" رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم.
وسواء كانت كثرة السؤال تنطعاً أو تهرباً من حكم الله فكليهما مذموم، والبعض في أيامنا هذه فنان في الجدل والمراء بما يتعلق بأحكام الشرع سواء كان ذلك تنطعاً وتشديداً على الناس وحملهم على الأخذ برأي فقهي معين وتسخير وقته وجهده لمحاربة الآراء الفقهية الأخرى، وفتح جبهات متعددة من أجل نقاش قضايا فرعية تساهل الشرع معها.
أو كان ذلك من أجل محاربة الدين وتكريه الناس فيه، وهو ما نجده في بعض صحف الإثارة الخليجية التي تقوم وبشكل ممنهج بإثارة جدل حول فتاوى غريبة وأحياناً تأتي بفتاوى عادية لكن تفسرها بطريقة مثيرة من أجل فتح نقاش وجدل مطول.
مثال ذلك العنوان الذي طالعتنا به إحدى الصحف من أن مفتي السعودية أباح لبضعة ملايين سعودي الإفطار في رمضان ليتبين أنه كان يتكلم عن جواز إفطار المصابين بالسكري وهو ينطلق من حكم شرعي ثابت: فمن لا يستطيع الصيام لمرض ألم به يجوز له الإفطار، لكن الصحيفة أصرت على أن تجعل منه قضية للنقاش وهل يجوز هذا أو لا يجوز!!
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله:
ذهب بعض أصحاب الفرق إلى تأليه مؤسسيهم مثلما فعل البهائية، كما أن أكثر الفرق الباطنية قد أحل رؤسائها الحرام وحرموا الحلال، بدعوى أن للدين باطن وظاهر، والظاهر ما جاء في القرآن، والباطن هو ما جاء به "حكمائهم" أو "مشايخهم"، واتباع الباطن أولى من اتباع الظاهر، ساء ما يزعمون.
هذا لا يختلف عن ما كان يفعله أهل الكتاب في زمن النبوة، كما جاء بالحديث الذي رواه الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال عندما أوضح له الرسول عليه الصلاة والسلام أن تحليل الأحبار والرهبان للحرام وتحريم الحلال واتباعهم في ذلك هو عبادة وشرك.
صحيح أن أكثر المسلمين بعيدين عن هذا الشكل من الشرك، لكن بعضهم يقترب منه، عندما يقدس مشايخه وعلماءه وينزههم عن الخطأ، ويرفض نسبة أي خلل أو نقص لهذا العالم أو ذاك، بل نجدهم يثقون ثقة عمياء بما يقوله العالم حتى لو كان الخطأ واضحاً بيناً. قد لا تصل الأمور في أغلب الحالات إلى تحليل الحرام أو تحريم الحلال، لكنها مزالق قد تؤدي لما هو أخطر منها وأكبر.
فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون:
كلنا يعلم قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل وكيف رفضوا دخول الأرض المقدسة وقولهم له "فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون (24)" المائدة، لكن كم منا سأل نفسه: هل أنا بعيد عن هذه المعصية أم أنني على درب الصحابة رضوان الله تعالى الذين قالوا للرسول (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون)؟
كم هو مؤلم أن يشبهنا أحد ما ببني إسرائيل، فكيف إذا كانت أفعالنا تشبهنا بهم؟ كم منا تخاذل عن نصرة إخوانه خوفاً وجبناً؟ أو قصَّر عن قول كلمة الحق مخافة أن يكتب فيه تقرير من الأجهزة الأمنية؟ أو انقطع عن المساجد كي لا تعتقله الأجهزة الأمنية؟ ما قولكم فيمن يعتبر أنه لا قبل بمحاربة أمريكا أو قول لا في وجهها؟ ويفضل أن نتبعها ونخضع لها حتى نتجنب شرها، ما الفرق بينه وبين من قالوا لموسى "فاذهب أنت وربك فقاتلا"؟
في الختام:
هذه دعوة لنقرأ القرآن بعقلية مختلفة عن ما قد اعتدناه، لنقرأ قصص بني إسرائيل ولنقارنها بحياتنا وتصرفاتنا ومواقفنا، ولنسأل أنفسنا هل نحن مثلهم؟ إذا كنا مثلهم أو قريبين من ذلك؛ فنحن بحاجة لتصحيح مسار حياتنا، حتى لا نكون من المغضوب عليهم.
فلنبحث عن الخطأ الذي وقع به بنو إسرائيل، ولنسأل أنفسنا كيف يمكننا أن نتجنب الوقوع بمثل هذه المعصية، القرآن مدرسة عظيمة فلنستفد من توجيهاته، ولنتحلى بأخلاق المسلمين أخلاق القرآن، لا بأخلاق بني إسرائيل.
تعليق