بسم الله الرحمن الرحيم
الداعية بين القول والعمل
الداعية بين القول والعمل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد ،،،
الداعية بين النظرية والممارسة ، الداعية بين النظرية والتطبيق ، الداعية بين القول والعمل ، الداعية بين الفهم والعمل ، عناوين ليست متقاربة فحسب بل هي ذات مضمون واحد وإنْ تباينت بعض العبارات .
والحقيقة أنَّ تلسيط الضوء على هذا الموضوع أمرٌ في غاية الأهمية من زوايا متعددة ، فمن زاوية الواقع الذي نعيش ، والذي يقل فيه انتصاب القدوات التي تُظْهِر انسجاماً بين القول والعمل فنحن بحاجة ماسّة للحديث عن هذا الموضوع ، ومن زاوية أخرى فإن الغفلة عن هذا الأمر من أي داعية لها تأثير بالغ على مسيرة الدعوة وتجاوب الناس معها وتأثرهم بها ، فالناس تراقب وتقيم وتوزن الدعاة وهذا الموضوع له حضور كبير حتى في ثقافة الناس الشعبية حتى عبروا عن ذلك بمثل شعبي يعكس مدى مراقبة الناس للدعاة وملاحظة حالة الفصام بين القول والعمل فقالوا " النص نص علما والفعل فعل شياطين " ، وعليه فإنه ليس من المقبول ما يقوله بعض الدعاة في حديثهم للناس : خذوا قولي ودعوا عملي ، فالناس إذا رأوا القول في واد والعمل في واد فمن المؤكد أنهم سيتأثرون لكنه تأثراً سلبياً باتجاه عدم الاقتناع بما يقوله الداعية .
وشريعتنا بل والشرائع السابقة كان لها اعتناء بهذا الأمر وبضرورة أنْ لا يَظْهَر في سلوك الداعية أي تناقض مع قوله لذا نجد القرآن الكريم نعى على طائفة من المؤمنين ممن خالف قولهم عملَهم قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " والمقت شدة البغض أي أنَّ الله يبغض هذا المسلك بغضاً شديداً ، والآية وإنْ كان لها سبب نزول خاص إلا أنَّ لفظها عام والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
كما نعى القرآن على اليهود كيف كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم فقال : " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون أفلا تعقلون " والتعقيب على مسلكهم هذا بقوله " أفلا تعقلون " كأنه يقول إنَّ من يسلك هذا المسلك فلا عقل له ، حتى قال المفسرون إنَّ في هذا التعقيب توبيخ عظيم .
كما أنَّ السنة النبوية أخبرتنا – عن مشهد من مشاهد جهنم في غاية الفظاعة - عمَّا أعده الله للذين يظهرون انفصاماً بين قولهم وعملهم فقال صلى الله عليه وسلم : يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَا لَكَ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ بَلَى قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ .
وأحسب أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم " إنَّ منكم لمنفرون " – وإنْ كان له سبب ورود خاص – إلا أنه يصلح في موضع الاستشهاد على خطورة مسلك الانفصام بين القول والعمل حيث إنّ من يمارس هذا الانفصام ينفر – من حيث لا يعلم – الناس عن دين الله .
ومما جاء عن عناية الشرائع السابقة بضرورة الانسجام بين القول والعمل أنَّ الله أوحى إلى عيسى بن مريم قائلاً : يا ابن مريم عظ نفسك أولاً فإنْ اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحِ مني .
ولقد حذر العارفون بالله من خطورة الانفصام بين القول والعمل ، وبينوا كيف أنَّ هذا الانفصام لن يجعل للقول أثراً على الناس ومما قالوه في ذلك : الكلام إنْ كان من اللسان فإلى النسيان ، ومما ينقل أيضاً في هذا السياق ما قاله مالك بن دينار حيث قال : العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا – أي الحجر الأملس - ، ومما ينقل عن سيدنا علي أنه قال : من نصب نفسه إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه ، ومن التركيز على أن تكون الموعظة بالفعل والعمل قبل القول ما قاله الإمام الشافعي : من وعظ أخاه بفعله كان هادياً .
هذا وإنَّ أول من أرسى واقعياً حالةَ الانسجام بين القول والعمل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لما سئلت أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خلقه قالت كانَ خلقه القرآن ، أي كان نموذجاً عملياً وانعكاساً لما ورد في القرآن من أوامر ونواهي .
وبالنظر إلى سيرته صلى الله عليه وسلم نجد عملياً وعلى أرض الواقع كيف كان صلى الله عليه وسلم نموذجاً يطبق ما يقول فإذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بأمر كان أولَ من ينفذ ويلتزم ، يأمر بالرحمة وهو الرحيم ، يأمر بالتواضع وهو المتواضع ، يأمر بالعمل فيكون أولهم نزلوا مرةً في سفر فوزع المهام وكانت مهمته أن يجمع الحطب ، يأمرهم بالصبر على شدائد الحصار فإذا به يربط على بطنه حجرين ، يأمر بترك الربا فيقول : ألا وإنَّ كل ربا في الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون غير ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله ، يأمر بترك الثأر للدماء فيقول : ألا وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع وأول دم وضع من دماء الجاهلية دم الحارث بن عبد المطلب ، يأمر أصحابه ببناء المسجد فيشاركهم بحمل الأحجار ، يأمر أصحابه بحفر الخندق فيكون أول من يحفر ، يأمر أصحابه بالجهاد فيُحْتَمَى به إذا اشتد وطيس الحرب .
إذاً مقام الدعوة له ضريبة على الداعية أن يدفعها ليس فقط بأن يكون قدوةً في ترك المحرمات وفعل المأمورات ، بل وأكثر من ذلك فقد يضطر الداعية لترك الشبهات والمكروهات بل أحياناً وترك المباحات والرخص إذا كان محلاً للنظر والمراقبة من الناس .
والانسجام بين القول العمل قانون نافع وهام في كثير من الميادين فهو لا غنى للداعية عنه في ميدان الدعوة فليس مقبولاً بالمرة من داعية يأمر الناس بالمحافظة على صلوات الجماعة ثم هو لا يُرى في المسجد إلا في المناسبات ، وليس مقبولاً من داعية أن يلقي خطبةً عصماء على الناس في التسامح ثم هو في أدنى خلاف وخصومة مع الناس يريد أن يستوفي حقه .
وهذا القانون نافع كذلك في ميدان التربية الأسرية فلا يعقل من أب أن يطلب من ابنه عدم الكذب ثم هو بعد ذلك يكذب أمام ولده ، عن عبد الله بن عامر أنه قال دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا فقالت ها تعال أعطيك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أردت أن تعطيه قالت أعطيه تمراً فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة .
وكذلك هذا القانون نافع في ميدان العمل فليس مقبولاً من مسئول في عمل ما أن يطلب موظفيه الحضور مبكراً ثم هو بعد ذلك من المتأخرين ، وكذلك لا يعقل أن يأمرهم بالالتزام بالانصراف في نهاية وقت الدوام ثم هو بعد ذلك أول المتفلتين .
ولتحقيق حالة الانسجام بين القول والعمل لا بدَّ أولاً من الفهم فالفهم المنطلق الأول ، على الداعية أن يعي خطورة الانفصام بين القول والعمل وأثر ذلك على مسيرة الدعوة ، على الداعية أن يفهم موقف الشرع من أولئك الذين يخالف عملهم قولهم .
وعلى الداعية بجانب تحقيق الانسجام بين القول والعمل ، أن يحقق الانسجام بين السر والعلن فتكون علانيته كسره لا أن يكون في السر شيئاً وفي العلن شيئاً يستخفي من الناس في العلن مظهراً أنه العابد الزاهد التقي الورع ، ولا يستخفي من الله في السر يقارف المعاصي ولا يستحي ممن يراه في السر والعلن قال تعالى : " يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله " .
وعلى الداعية مع ما ذكر من تحقيق الانسجام بين القول والعمل ، وبين السر والعلن ، أن يحقق الانسجام بين الظاهر والباطن فلا يجوز من داعية أن يظهر لإخوانه المسلمين حباً ، وقلبه في حقيقة الأمر تختلج فيه مشاعر البغض والكره لهم ، وكذلك لا يقبل من داعية أن يدعيَ حبَّ الخير للمسلمين ، وقلبه ملآن بالحسد لهم ، ولا يقبل من داعية أن يتكلف التواضع لإخوانه ، وهو في حقيقة الأمر يحمل بين أضلاع صدره قلب شيطان متكبر .
اللهم اجعلنا ممن يقولون القول فيعملون بأحسنه .....منقول
تعليق