منذ نهاية الخلافة الراشدة ونشوء أنظمة الجور في التاريخ الإسلامي ولد معها خطان سلفيان سياسيان، فأهل السنة يتفقون في عامة أبواب الدين كأركان الإيمان وأصول التلقي والاستدلال وكليات الشريعة والأخلاق وجوامع السياسة الشرعية ونحوها، إلا أنهم يختلفون في أسلوب التعامل مع النظم السياسية الجائرة، أو بشكل أدق: يختلفون في أسلوب الإصلاح السياسي في النظم السياسية المتغلبة، فهناك في هذه الإشكالية خطان، وهما (خط المداراة)، والثاني (خط الاستقلال). خط المداراة يسلك مسلك الإصلاح من داخل النظام، وخط الاستقلال يسلك مسلك الإصلاح بالنقد الخارجي.
فأما خط المداراة فمن نماذجه في التراث السلفي الإمام ابويوسف الذي تقلد أكبر منصب قضائي في الدولة العباسية، وكان الخليفة هارون الرشيد يجله ويقربه، وكان ابويوسف في المطاف الأخير جزءاً من النظام.
وأما خط الاستقلال فأشهر نموذج له سفيان الثوري، بل لا أعرف أشهر من هذا النموذج لهذا الخط؛ حيث كان يتهرب من الخليفة ويرفض التعاون معه، روى ابونعيم في الحلية أن (الخليفة المهدي بعث إلى سفيان الثوري، فلما دخل خلع الخليفة خاتمه فرمى به إليه، وقال يا أبا عبدالله هذا خاتمي فاعمل في هذه الامة بالكتاب والسنة، فأخذ سفيان الخاتم بيده وقال: تأذن في الكلام يا أمير المؤمنين على أني آمن؟ قال المهدي: نعم. قال سفيان: "لا تبعث إلي حتى آتيك، ولا تعطني شيئا حتى أسألك". فغضب المهدي من ذلك، وهم به، فقال له كاتبه :أليس قد أمّنته يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى. فلما خرج الثوري حف به أصحابه فقالوا ما منعك ياأبا عبد الله وقد أمرك أن تعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة؟ قال: فاستصغر الثوري عقولهم، ثم خرج هاربا الى البصرة)[الحلية، ابونعيم].
وروى ابونعيم أيضاً خبراً عن عصام بن يزيد يكشف وجهة نظر الثوري بشكل أدق، حيث يقول عصام بن يزيد (قلت لسفيان: لأي شيء تهرب من الرجل –أي المهدي- والرجل يقول لو جاء لخرجت معه إلى السوق فأمرنا ونهينا؟ فقال الثوري: ياناعس! حتى يعمل بما يعلم، فاذا عمل بما يعلم، لم يسعنا إلا أن نذهب فنعلمه ما لا يعلم)[الحلية، ابونعيم].
والحقيقة أن الأخبار العجيبة التي تعب في جمعها ابونعيم بالأسانيد وساقها في ترجمة سفيان الثوري في الحلية؛ مليئة بهذه المواقف التي تعكس خط الاستقلال في الإصلاح.
بل حتى إشكالية قبول الأعطيات والهبات من السلطان اختلف السلف فيها، فثمة من منعها وتحفظ فيها، ومنهم إمام أهل السنة الإمام أحمد، تغمده الله برضوانه، وثمة من قبلها وأجاز قبولها، وقد جمع أقوال المجيزين الإمام ابن أبي شيبة في كتابه المصنف في باب بعنوان (باب من رخص في جوائز الأمراء والعمال)، وروى فيه (21) أثراً، وممن ذكر أنهم قبلوا جوائز الأمراء الحسن والحسين وابن عمر وابن عباس وعائشة وعكرمة وابراهيم النخعي وغيرهم.
والمراد من ذلك أنه في باب التعامل مع ولاة الجور والنظم السياسية المتغلبة نجد عند السلف خطين سياسيين، خط المداراة، وخط الاستقلال.
حسناً.. دعنا ننتقل من التراث إلى واقعنا المحلي، الحقيقة أننا في واقعنا المحلي نجد المدرسة السلفية تشكل فيها هذا الخطان أيضاً، فيتفق السلفيون على أصول الدين في التوحيد والشرك، والسنة والبدعة، وأصول التلقي والاستدلال، والفضيلة، ووجوب العدل وحفظ حقوق الناس، الخ لكنهم يختلفون في أسلوب التعاطي مع الولاة، فهناك (خط المداراة)، وممن سلكه الإمام ابن باز وابن عثيمين وصالح الفوزان ونحوهم. ونجد هناك (خط الاستقلال)، وممن سلكه الشيخ عبدالرحمن الدوسري وحمود التويجري وابن قعود وحمود العقلا وعبدالرحمن البراك وسفر الحوالي ونحوهم.
حسناً.. هل هناك مشكلة في هذا الاختلاف؟ لا، طبعاً، فهذه مسألة اجتهادية، ولا يجوز أن يشنع أصحاب مسلكٍ على أصحاب المسلك الآخر، الواجب فقط هو الاتفاق على (مقاصد الإصلاح) وهي الإيمان وأصول السنة والفضيلة وكليات الشريعة وحفظ حقوق الناس الخ، هذه المقاصد هي التي فيها الولاء والبراء، أما (وسائل الإصلاح) فيجب أن نكون في غاية الرحابة والتفهم والإعذار فيها.
الاختلاف في (مقاصد الإصلاح) هو "اختلاف تضاد" غير محمود، أما الاختلاف في (وسائل الإصلاح) فهو "اختلاف تنوع" محمود، ويثري الساحة الدعوية، ويملأ كافة الفراغات التي لو لم تملأ بالحق لملأها الباطل.
ومن المؤلم أنك تجد بعض الإخوة الكرام المتحمسين للتغيير السياسي يتشنج في (وسائل الإصلاح) فيتهم أصحاب مسلك المداراة بالتهم الخطيرة ويخوض في أعراضهم ولايتورع عن إطلاق أي عبارة سوقية عليهم، ومع أن هذا مؤلم إلا أنه لايعد شيئاً بالنسبة إلى شريحة أخرى من الشباب –هداهم الله- قلبوا الأمر رأساً على عقب، فتراهم في (مقاصد الإصلاح) التي هي معقد الولاء والبراء في غاية التميع فيهونون من قضايا تناقض أصول الشريعة، ولكنهم في (وسائل الإصلاح) تجدهم في غاية التوتر والانفعال وضيق العطن ورفض الاختلاف، وكم نتمنى من هؤلاء الإخوة أن يقلبوا الوضع فيكونوا حازمين في مقاصد الإصلاح، متسامحين في وسائل الإصلاح.
دعنا على ضوء التصور السابق نقرأ فتوى هيئة كبار العلماء الأخيرة في المظاهرات والبيانات، فنحن نعرف أن الهيئة أصدرت بياناً في 1ربيع الثاني (6مارس) تحرم فيه المظاهرات والبيانات التي فيها تهويل، هذه الفتوى قوبلت في حلبة الصحافة السعودية (الموالية) بترحيب حار، وقوبلت في حلبة الإعلام الاجتماعي (المعارض) بتهجم قاسي.
الإخوة الكرام الذين تهجموا على فتوى هيئة كبار العلماء لاحظت أنهم يبدون اندهاشاً، ويعبرون بتعابير وكأنهم مستغربين مما جرى، وأن هذه سابقة ستؤدي إلى إسقاط الهيئة سقوطاً نهائياً، ونحو هذه التعابير.
حسناً .. ما تفسير هذا التصور ياترى؟ يبدو لي أن هؤلاء الإخوة لم يستوعبوا التاريخ السياسي السلفي، أو بمعنى آخر لم يتصوروا بشكل كافٍ وجود خطين قديمين في الفقه السلفي حيال التعامل مع النظم السياسية المتغلبة، خط المداراة وخط الاستقلال.
لنقترب أكثر من مكونات الفتوى، الفتوى تحمل أمران جوهريان (المظاهرات، والبيانات)، وموقف الهيئة من هاتين المسألتين لا جديد فيهما بتاتاً.
فأما تحريمهم للمظاهرات، فقد سبق أن حرمت الهيئة المظاهرات على عهد ابن باز وابن عثيمين ونحوهم، ومن ذلك مثلاً (فتوى اللجنة رقم 19936). بل إن ابن باز نفسه نص على تحريم المظاهرات في غير موضع من كتبه، انظر مثلاً (فتاوى ابن باز 6/418، 7/344، 8/245، وغيرها)
وأما تحريم الهيئة للبيانات المتزامن مع صدور بيان (دولة الحقوق والمؤسسات) الذي قام بإعداده جمع من أهل العلم والدعوة، ثم وقعته كافة شرائح المجتمع، فهذا عين ما وقع حينما أصدر عدد من الدعاة أيام أزمة الخليج (مذكرة النصيحة)، فأصدرت هيئة كبار العلماء برئاسة الإمام ابن باز –رحمه الله- بياناً في (ربيع الأول/1413هـ) يردون فيه على المذكرة وينتقدون مثل هذه البيانات.
بل إنني لاحظت عدداً من المراقبين علق على العبارة التي جاءت في بيان هيئة كبار العلماء الأخير (1/4/1432هـ) حين قالت الهيئة (كما تحذر من الارتباطات الفكرية والحزبية المنحرفة) وافترضوا لها دلالات واعتبارات بعيدة، والحقيقة أن هذه العبارة هي مجرد نقل من بيان الهيئة القديم الذي كان على رأسه ابن باز عن مذكرة النصيحة حيث جاء فيه أيضاً (كما يحذر من انواع الارتباطات الفكريه المنحرفه)[ربيع الآخر، 1413هـ]
وماذكره بيان الهيئة الأخير عن منهج النصيحة الشرعية، هو عين ماذكره بيان الهيئة القديم برئاسة ابن باز حين قال (والمجلس إذ يستنكر هذا العمل المتمثل في إعداد هذه المذكرة المسماة "مذكرة النصيحة"، ونشرها؛ يؤكد أن هذا العمل عمل مخالف لمنهج النصيحة الشرعية)[ربيع الآخر، 1413هـ]
ما الغرض من هذه المقارنات التاريخية؟ الغرض هو توضيح الصورة الكلية، وعدم الاستغراق في حادثة فتوى الهيئة بمنع المظاهرات والبيانات، دون استيعاب للمسار التاريخي للعلماء الذين يتبنون خط المداراة، أريد فقط أن أضع الفتوى الأخيرة في الرف الصحيح داخل مكتبة خط المداراة.
حسناً.. ماهي نتيجة هذا التصور؟ هذا التصور الكلي لموقف هيئة كبار العلماء من المظاهرات والبيانات يقودنا إلى التصرف الصحيح حيال هذه الفتوى، كان المفترض في الإخوة المعنيين بالتغيير السياسي أن لا يبذروا طاقاتهم النضالية في مهاجمة الهيئة، بل كان المفترض أن يقال: علماؤنا على العين والرأس، وهذا اجتهادهم، وهناك علماء آخرون لهم اجتهاد مختلف، والأهم أن تبقى قضيتنا التي نعمل من أجلها، وهي التنمية السياسية.
أعتقد أننا لو سلكنا مثل هذا المسلك لحافظنا على التركيز في المطالب الإصلاحية، ولم ننجرف إلى معارك جانبية تصطنع المزيد من الخصومات الداخلية، ويتفرق الجمع وتذهب الريح، وما وقع يؤكد ذلك، فقد انجفل كثير من الشباب السلفي يذب عن العلماء، ودخل الجميع في معركة جديدة، ونقص التركيز على المطالب الإصلاحية.
وثمة أمرٌ آخر في غاية الخطورة، وهو أن بعض الإخوة الكرام المعنيين بالتغيير السياسي في الإعلام الاجتماعي أطلقوا عبارات "قذف" في الذمة والأمانة تجاه هيئة كبار العلماء مجتمعين، وفي هؤلاء علماء أطبق كل من عاملهم على تقواهم وزهدهم وورعهم وصدقهم مثل الشيخ عبدالكريم الخضير والشيخ محمد المختار الشنقيطي والشيخ صالح الفوزان والشيخ صالح الحصين والشيخ يعقوب الباحسين والشيخ عبدالله المطلق ونحوهم من إخوانهم.
فهذا الأخ الذي طعن في ذمة هؤلاء وأمانتهم هل يعلم أنه سيأتي يوم القيامة وفي رقبته دين لأمثال الخضير والشنقيطي والحصين الخ يا أخي الكريم ضع بين عينيك قوله تعالى (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)[الصافات، 24].
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)[البخاري، 13] ووالله يا أخي الكريم أنني أحب لك أن تنجوا في ذلك اليوم، كما أحب لنفسي ذلك..
فأما خط المداراة فمن نماذجه في التراث السلفي الإمام ابويوسف الذي تقلد أكبر منصب قضائي في الدولة العباسية، وكان الخليفة هارون الرشيد يجله ويقربه، وكان ابويوسف في المطاف الأخير جزءاً من النظام.
وأما خط الاستقلال فأشهر نموذج له سفيان الثوري، بل لا أعرف أشهر من هذا النموذج لهذا الخط؛ حيث كان يتهرب من الخليفة ويرفض التعاون معه، روى ابونعيم في الحلية أن (الخليفة المهدي بعث إلى سفيان الثوري، فلما دخل خلع الخليفة خاتمه فرمى به إليه، وقال يا أبا عبدالله هذا خاتمي فاعمل في هذه الامة بالكتاب والسنة، فأخذ سفيان الخاتم بيده وقال: تأذن في الكلام يا أمير المؤمنين على أني آمن؟ قال المهدي: نعم. قال سفيان: "لا تبعث إلي حتى آتيك، ولا تعطني شيئا حتى أسألك". فغضب المهدي من ذلك، وهم به، فقال له كاتبه :أليس قد أمّنته يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى. فلما خرج الثوري حف به أصحابه فقالوا ما منعك ياأبا عبد الله وقد أمرك أن تعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة؟ قال: فاستصغر الثوري عقولهم، ثم خرج هاربا الى البصرة)[الحلية، ابونعيم].
وروى ابونعيم أيضاً خبراً عن عصام بن يزيد يكشف وجهة نظر الثوري بشكل أدق، حيث يقول عصام بن يزيد (قلت لسفيان: لأي شيء تهرب من الرجل –أي المهدي- والرجل يقول لو جاء لخرجت معه إلى السوق فأمرنا ونهينا؟ فقال الثوري: ياناعس! حتى يعمل بما يعلم، فاذا عمل بما يعلم، لم يسعنا إلا أن نذهب فنعلمه ما لا يعلم)[الحلية، ابونعيم].
والحقيقة أن الأخبار العجيبة التي تعب في جمعها ابونعيم بالأسانيد وساقها في ترجمة سفيان الثوري في الحلية؛ مليئة بهذه المواقف التي تعكس خط الاستقلال في الإصلاح.
بل حتى إشكالية قبول الأعطيات والهبات من السلطان اختلف السلف فيها، فثمة من منعها وتحفظ فيها، ومنهم إمام أهل السنة الإمام أحمد، تغمده الله برضوانه، وثمة من قبلها وأجاز قبولها، وقد جمع أقوال المجيزين الإمام ابن أبي شيبة في كتابه المصنف في باب بعنوان (باب من رخص في جوائز الأمراء والعمال)، وروى فيه (21) أثراً، وممن ذكر أنهم قبلوا جوائز الأمراء الحسن والحسين وابن عمر وابن عباس وعائشة وعكرمة وابراهيم النخعي وغيرهم.
والمراد من ذلك أنه في باب التعامل مع ولاة الجور والنظم السياسية المتغلبة نجد عند السلف خطين سياسيين، خط المداراة، وخط الاستقلال.
حسناً.. دعنا ننتقل من التراث إلى واقعنا المحلي، الحقيقة أننا في واقعنا المحلي نجد المدرسة السلفية تشكل فيها هذا الخطان أيضاً، فيتفق السلفيون على أصول الدين في التوحيد والشرك، والسنة والبدعة، وأصول التلقي والاستدلال، والفضيلة، ووجوب العدل وحفظ حقوق الناس، الخ لكنهم يختلفون في أسلوب التعاطي مع الولاة، فهناك (خط المداراة)، وممن سلكه الإمام ابن باز وابن عثيمين وصالح الفوزان ونحوهم. ونجد هناك (خط الاستقلال)، وممن سلكه الشيخ عبدالرحمن الدوسري وحمود التويجري وابن قعود وحمود العقلا وعبدالرحمن البراك وسفر الحوالي ونحوهم.
حسناً.. هل هناك مشكلة في هذا الاختلاف؟ لا، طبعاً، فهذه مسألة اجتهادية، ولا يجوز أن يشنع أصحاب مسلكٍ على أصحاب المسلك الآخر، الواجب فقط هو الاتفاق على (مقاصد الإصلاح) وهي الإيمان وأصول السنة والفضيلة وكليات الشريعة وحفظ حقوق الناس الخ، هذه المقاصد هي التي فيها الولاء والبراء، أما (وسائل الإصلاح) فيجب أن نكون في غاية الرحابة والتفهم والإعذار فيها.
الاختلاف في (مقاصد الإصلاح) هو "اختلاف تضاد" غير محمود، أما الاختلاف في (وسائل الإصلاح) فهو "اختلاف تنوع" محمود، ويثري الساحة الدعوية، ويملأ كافة الفراغات التي لو لم تملأ بالحق لملأها الباطل.
ومن المؤلم أنك تجد بعض الإخوة الكرام المتحمسين للتغيير السياسي يتشنج في (وسائل الإصلاح) فيتهم أصحاب مسلك المداراة بالتهم الخطيرة ويخوض في أعراضهم ولايتورع عن إطلاق أي عبارة سوقية عليهم، ومع أن هذا مؤلم إلا أنه لايعد شيئاً بالنسبة إلى شريحة أخرى من الشباب –هداهم الله- قلبوا الأمر رأساً على عقب، فتراهم في (مقاصد الإصلاح) التي هي معقد الولاء والبراء في غاية التميع فيهونون من قضايا تناقض أصول الشريعة، ولكنهم في (وسائل الإصلاح) تجدهم في غاية التوتر والانفعال وضيق العطن ورفض الاختلاف، وكم نتمنى من هؤلاء الإخوة أن يقلبوا الوضع فيكونوا حازمين في مقاصد الإصلاح، متسامحين في وسائل الإصلاح.
دعنا على ضوء التصور السابق نقرأ فتوى هيئة كبار العلماء الأخيرة في المظاهرات والبيانات، فنحن نعرف أن الهيئة أصدرت بياناً في 1ربيع الثاني (6مارس) تحرم فيه المظاهرات والبيانات التي فيها تهويل، هذه الفتوى قوبلت في حلبة الصحافة السعودية (الموالية) بترحيب حار، وقوبلت في حلبة الإعلام الاجتماعي (المعارض) بتهجم قاسي.
الإخوة الكرام الذين تهجموا على فتوى هيئة كبار العلماء لاحظت أنهم يبدون اندهاشاً، ويعبرون بتعابير وكأنهم مستغربين مما جرى، وأن هذه سابقة ستؤدي إلى إسقاط الهيئة سقوطاً نهائياً، ونحو هذه التعابير.
حسناً .. ما تفسير هذا التصور ياترى؟ يبدو لي أن هؤلاء الإخوة لم يستوعبوا التاريخ السياسي السلفي، أو بمعنى آخر لم يتصوروا بشكل كافٍ وجود خطين قديمين في الفقه السلفي حيال التعامل مع النظم السياسية المتغلبة، خط المداراة وخط الاستقلال.
لنقترب أكثر من مكونات الفتوى، الفتوى تحمل أمران جوهريان (المظاهرات، والبيانات)، وموقف الهيئة من هاتين المسألتين لا جديد فيهما بتاتاً.
فأما تحريمهم للمظاهرات، فقد سبق أن حرمت الهيئة المظاهرات على عهد ابن باز وابن عثيمين ونحوهم، ومن ذلك مثلاً (فتوى اللجنة رقم 19936). بل إن ابن باز نفسه نص على تحريم المظاهرات في غير موضع من كتبه، انظر مثلاً (فتاوى ابن باز 6/418، 7/344، 8/245، وغيرها)
وأما تحريم الهيئة للبيانات المتزامن مع صدور بيان (دولة الحقوق والمؤسسات) الذي قام بإعداده جمع من أهل العلم والدعوة، ثم وقعته كافة شرائح المجتمع، فهذا عين ما وقع حينما أصدر عدد من الدعاة أيام أزمة الخليج (مذكرة النصيحة)، فأصدرت هيئة كبار العلماء برئاسة الإمام ابن باز –رحمه الله- بياناً في (ربيع الأول/1413هـ) يردون فيه على المذكرة وينتقدون مثل هذه البيانات.
بل إنني لاحظت عدداً من المراقبين علق على العبارة التي جاءت في بيان هيئة كبار العلماء الأخير (1/4/1432هـ) حين قالت الهيئة (كما تحذر من الارتباطات الفكرية والحزبية المنحرفة) وافترضوا لها دلالات واعتبارات بعيدة، والحقيقة أن هذه العبارة هي مجرد نقل من بيان الهيئة القديم الذي كان على رأسه ابن باز عن مذكرة النصيحة حيث جاء فيه أيضاً (كما يحذر من انواع الارتباطات الفكريه المنحرفه)[ربيع الآخر، 1413هـ]
وماذكره بيان الهيئة الأخير عن منهج النصيحة الشرعية، هو عين ماذكره بيان الهيئة القديم برئاسة ابن باز حين قال (والمجلس إذ يستنكر هذا العمل المتمثل في إعداد هذه المذكرة المسماة "مذكرة النصيحة"، ونشرها؛ يؤكد أن هذا العمل عمل مخالف لمنهج النصيحة الشرعية)[ربيع الآخر، 1413هـ]
ما الغرض من هذه المقارنات التاريخية؟ الغرض هو توضيح الصورة الكلية، وعدم الاستغراق في حادثة فتوى الهيئة بمنع المظاهرات والبيانات، دون استيعاب للمسار التاريخي للعلماء الذين يتبنون خط المداراة، أريد فقط أن أضع الفتوى الأخيرة في الرف الصحيح داخل مكتبة خط المداراة.
حسناً.. ماهي نتيجة هذا التصور؟ هذا التصور الكلي لموقف هيئة كبار العلماء من المظاهرات والبيانات يقودنا إلى التصرف الصحيح حيال هذه الفتوى، كان المفترض في الإخوة المعنيين بالتغيير السياسي أن لا يبذروا طاقاتهم النضالية في مهاجمة الهيئة، بل كان المفترض أن يقال: علماؤنا على العين والرأس، وهذا اجتهادهم، وهناك علماء آخرون لهم اجتهاد مختلف، والأهم أن تبقى قضيتنا التي نعمل من أجلها، وهي التنمية السياسية.
أعتقد أننا لو سلكنا مثل هذا المسلك لحافظنا على التركيز في المطالب الإصلاحية، ولم ننجرف إلى معارك جانبية تصطنع المزيد من الخصومات الداخلية، ويتفرق الجمع وتذهب الريح، وما وقع يؤكد ذلك، فقد انجفل كثير من الشباب السلفي يذب عن العلماء، ودخل الجميع في معركة جديدة، ونقص التركيز على المطالب الإصلاحية.
وثمة أمرٌ آخر في غاية الخطورة، وهو أن بعض الإخوة الكرام المعنيين بالتغيير السياسي في الإعلام الاجتماعي أطلقوا عبارات "قذف" في الذمة والأمانة تجاه هيئة كبار العلماء مجتمعين، وفي هؤلاء علماء أطبق كل من عاملهم على تقواهم وزهدهم وورعهم وصدقهم مثل الشيخ عبدالكريم الخضير والشيخ محمد المختار الشنقيطي والشيخ صالح الفوزان والشيخ صالح الحصين والشيخ يعقوب الباحسين والشيخ عبدالله المطلق ونحوهم من إخوانهم.
فهذا الأخ الذي طعن في ذمة هؤلاء وأمانتهم هل يعلم أنه سيأتي يوم القيامة وفي رقبته دين لأمثال الخضير والشنقيطي والحصين الخ يا أخي الكريم ضع بين عينيك قوله تعالى (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)[الصافات، 24].
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)[البخاري، 13] ووالله يا أخي الكريم أنني أحب لك أن تنجوا في ذلك اليوم، كما أحب لنفسي ذلك..
تعليق